«عشاءٌ وحيدٌ لروحي الوحيدة» لعبدالوهاب أبو زيد شعر يتقلب بين الأضداد
بعد أن كانت التأملات الشعرية في الشعر غرضًا عابرًا يمرُّ به الشعراء العرب في أشعارهم، أصبحت هذه التأملات في مرحلة متأخرة غرضًا مقصودًا لذاته تُنذَر له القصائد، في سياق ما أصبح يُعرف بـ«الشعر عن الشعر» أو «الميتا شعرية»؛ ومن هذه الجادة يأتي ديوان عبدالوهاب أبو زيد، «عشاءٌ وحيدٌ لروحي الوحيدة» (دار خطوط وظلال، الأردن)، الذي قد تستقرأ من عنوانه أن ما ينتظرك هو شعرٌ مستغرق في ذاتيته، حتى كأنه مأدبةٌ لا يدعو إليها الشاعر أحدًا سوى روحه.
ما الشعر إذن؟ وَمَنِ الشاعر حقًّا؟ ما الهدف الذي يسمو إليه؟ من أين يستمد إلهامه أو جنونه؟ ما طبيعة علاقته بالقصيدة؟ كيف يتخيَّر أغراضه وأفكاره وصوره ومفرداته؟ كيف السبيل إلى الأصالة في عالم الشعراء؟ هل يحصل الشاعر على ما يستحقه من التقدير؟ هذه الأسئلة وغيرها تستوقف ذهنك وأنت تقرأ الديوان، الذي تقارب نصوصه موضوعات الشعر من ألف زاوية وزاوية، كما يقلِّب الشاعر فيها روحه لينظر إليها من ألف وجه ووجه.
لا ينبغي لقارئ الديوان أن يتوقع منه إجابات حتمية عن الشعر، لكنك سواء أكنت شاعرًا أم لا، فستخرج منه وأنت أقرب إلى فهم الشعر؛ لا بمعنى فهم كنه حقيقته المنطقية، ولكن بمعنى يُشبه الاقتراب إليه من طريق العرفان بالقلب، فالشاعر يكشف الستار بلغة الشعور المصوَّرة بشتى صور الخيال عن حالة من الوعي الوجودي بالشعر تَفيض من غيابة لا وعيه بما يروي الظمأ.
إحدى الأفكار الرئيسة في الديوان هي الحرية في الشعر وللشعر، بل يمكن القول: إنها أشبه بحلم يطارده الشاعر في قصائده دون كلل: التحرُّر من الوزن، التحرُّر من الإيقاع الموسيقي، التحرُّر من حدود المفردات، التحرُّر من الإملاء والإغراء والإعجاب والنقد، التحرُّر من التأثر والمحاكاة. هذه المنازل من الحرية يُلبِسها الشاعر جلباب صوره الخاصة، وتارة تراها محور القصيدة كما في قصيدتيه «شيطان الموسيقا» و«سجن الإيقاع»، وأخرى تتناولها القصيدة على عجل فيما يشبه الإشارات الخاطفة. وأحيانًا يقدِّمها الشاعر بوصفها شرطًا لا يصلح الشعر من دونه، كالتحرُّر من ربقة المال إذ «أتعس الشعر ما يُشرى»، وأحيانًا بوصفها أمنية يصبو إليها الشاعر وهي بعيدة المنال.
التحرر من محاكاة الآخرين
ولعلَّ من أهم منازل التحرُّر هذه بالنسبة للشاعر هي التحرُّر من محاكاة الآخرين والاتكاء عليهم، إلى حد يمكن لنا وصفه بالهاجس الذي يلحُّ على خاطره، أو إلى حد يمكن لنا أن نعده الهدف الأسمى الذي ينصبه الشاعر لنفسه ولغيره من الشعراء؛ أن تضع بصمتك على صفحة الشعر البيضاء، أن تأتي برسالة جديدة لم يأت بها رسول شعر قبلك. هكذا تغدو الأصالة والتفرُّد غاية منشودة على الشاعر أن يشد الرحال إليها، حتى إن أدى به ذلك إلى أن يكتب «شعرًا لا يفهمه أحد» كما يخبرنا الشاعر في قصيدته «محاولة!».
فكرةٌ أخرى تطلُّ كثيرًا بين النصوص هي العلاقة بين الشاعر والقصيدة؛ وصاحب الديوان يرى هنا أن الشعر يجب أن يكتب الشاعر لا العكس. أو بتعبير آخر قريب أنه ينبغي أن يكون بينهما تماهٍ يصل إلى حد الاتحاد التام، بحيث لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر، أو على حد تعبيره أن «يتقمص» الشعرُ الشاعرَ «حتى تغيب ملامح وجهه»؛ إذ «كلُّ قصيدة ليست شعرًا حتى تكونها وتكونك»، في إشارة ربما إلى التلقائية والبعد من التصنع التي يجب أن تكون عليها، بحيث تفيض من الروح لتكون مرآة تُرى من خلالها. والشاعر حقًّا ليس هو المسيطر على الكلمات والأفكار، بل من تستحوذ عليه هي لتعبِّر به عن نفسها. على أن الشاعر لا يلتزم هذا الرأي بحذافيره في كلِّ ديوانه، فأحيانًا يعدُّ الشاعر «محض وسيط»، أو يصوِّره الرجل الذي تلاحقه القصيدة كظله، أو تراه يقول: إن «الكلمة مخلوقٌ أكبر من خالقها». وهي تعابير تتقاطع فيما بينها بعض التقاطع، ولكنها أيضًا قد تكشف عن حالة التذبذب الإنساني التي يعايشها الشاعر في علاقته مع الشعر.
الهروب إلى الشعر
الإلهام الذي يدفع بالشاعر إلى كتابة الشعر هي فكرةٌ أخرى أخلص لها صاحب الديوان في نصوصه فتناولها من أكثر من جانب. هذه الدوافع وإن كانت تعبر عن كوامن شخصية خاصة به، إلا أنها في الوقت نفسه تمثِّل مجموعة من الأسباب المحتملة التي قد يشاركه فيها شعراء آخرون. وفي استعراضه لهذه الفكرة، يدفع الشاعر بعض الأسباب الواهية التي ينزِّه كتابة الشعر عنها، كالكتابة من أجل حفنة من المال، أو ضِغث من الثناء المُبتذَل.
أحد الأسباب التي يسوقها أبو زيد لكتابة الشعر هي الهروب إلى الشعر؛ الهروب من واقع الحياة الأليم إلى ملاذ مليء بالخيال والجمال، فالشعر «منجًى من القبح» على حد وصفه. والتوق إلى التعبير عن النفس سببٌ آخر تستشفه من النصوص، وإن شئتَ قلت تأويل النفس وكتابتها وإعادة ترتيبها؛ وفي سياق قريب من ذلك اتخاذ الشعر جسرًا إلى العثور على معنى في الوجود.
وربما كان السبب الأكثر إغراءً وإشراقًا هو التوق إلى الحياة؛ حياةٍ بزمن أطول فسحة مما يطمح إليه الإنسان في عمره المحدود بحساب الأيام. وفي استعراضه لهذه الفكرة، تجد الشاعر أحيانًا يجنح في أمله إلى الخلود عبر الشعر؛ كيف لا والكلمات هي «توأم الأبد» مثلما يُحب «أن يوهِم نفسه» في قصيدته «بيتٌ من صدى الكلمات». وفي تعابير أخرى، تجد أضواء هذه الآمال أخفت وأبهت، ومع ذلك فلا بأس بالشعر حتى إن كان «بيتًا من نسج العنكبوت» ما دام يُؤمَل به عدم الموت.
نمطٌ آخر يلمع في أشعار أبو زيد هو البوح بمشاعره الإنسانية كشاعر، التي تأتي غالبًا في سياق الوحدة والغربة؛ ولعل إلحاح هذه العاطفة على الشاعر في لا وعيه دعاه إلى اختيار عنوان الديوان منها. هذه الوحدة يعرضها أبو زيد أحيانًا في سياق محمود مألوف، بل يدعو إليها كلَّ الشعراء بوصفها وسيلة تؤدي إلى غاية التفرُّد المنشودة، كما في قصيدته «لا وصية». لكنه أيضًا يصورها تارة أخرى كقدر محتوم على الشاعر، أو كشكاية تنمُّ عن حالة من الشعور بعدم التقدير، كما في قصيدتيه «لمن سأغني؟» و«المكان الصحيح».
في صوره الشعرية، قد تلحظ أن الشاعر يلعب أحيانًا على وتر التقلُّب بين الأضداد والمتناقضات والمتقابلات والمتلازمات ليثير في نفسك شعور الدهشة، كما في القصيدتين «أنا آدم» و«بين الممالك والمهالك»، وكأنه أيضًا يفتِّش بينها عمَّا يُعرب به عن الشعر في حقيقته، وعن كنه ما يعايشه الشاعر من عاطفة إنسانية؛ فالشعر عند أبوزيد: ماءٌ ونار، ومهدٌ وقبر، وخطيئة وكفارة، وهو أيضًا جنة المأوى ونار الجحيم في آنٍ واحد.
أما في مفرداته، فتلحظ أن الشاعر كثير الاقتباس من اللفظ القرآني، سواءٌ أكان في صورة كلمات مفردة أم عبارات كاملة. وهذا الاقتباس أو التضمين يكسي مفرداته بهاءً خاصًّا، وربما كان كاشفًا عن أن تلك الألفاظ قريبة من ذهنه بحيث تتسلَّل منه عند الكتابة من دون تعمد. وربما كان اختياره لها في بعض الأحيان متعمَّدًا، ولعلَّه يحاول بذلك أن يُضفي على الشعر هالة القداسة التي يراه جديرًا بها.