«العلمانية المزيفة» لجون بوبيرو الحياد تجاه كل المظاهر

«العلمانية المزيفة» لجون بوبيرو

الحياد تجاه كل المظاهر

جون بوبيرو

تكمُن أهمية كتاب «العلمانية المزيفة» لجون بوبيرو (مركز نهوض للدراسات والنشر) في أن مؤلفه مؤرخ وسوسيولوجي، ومتخصص في موضوع العلمانية، وهو ما يعني أنه يحيط علمًا بتحولات مفهوم العلمانية، وبالإشكالات الفكرية والاجتماعية التي يطرحها. كما أن المترجِم أخرج هذا العمل بلسان عربي مبين يشهد بأنه على وعي بالبنية المفاهيمية للكتاب وبالإشكالات الفلسفية والفكرية التي يطرحها. وإذا كان عنوان الكتاب هو «العلمانية المزيفة»، فمعنى ذلك أن هناك علمانية حقيقية، وهو الأمر الذي يدعونا للتساؤل عن الفرق بينهما، وكيف انتقل من العلمانية الحقيقية إلى العلمانية المزيفة؟

يقُودنا الجواب عن هذا السؤال إلى قانون 1905م الذي يقضي أن تكون الدولة محايدة تجاه كل المظاهر الدينية؛ وهو ما يعني علمنة الدولة، وما يفترضه ذلك من ضمان الدولة لحرية الضمير، ما لم يؤدِّ ذلك إلى المساس بسيادتها؛ وهو ما يمكن عدّه أساس حقيقة العلمانية، بما هي تتويج لصراعات دينية، ولتوترات تاريخية بين الدولة والكنيسة. في حين أن العلمانية المزيفة هي حصيلة تأويلات مغرِضة من طرف اليمين المتطرف لمفهوم العلمانية المتوافق عليه تاريخيًّا في قانون 1905م، من أجل حصد أصوات الناخبين، والتأثير في الرأي العام، ومنازعة اليسار الذي شكَّلت العلمانية هويته السياسية. وبناءً على هذا التأويل المغرض لمفهوم العلمانية، صارت الصلاة في الشارع لا تُبرَّر بنقص في القدرة الاستيعابية للمساجد وللقاعات المخصصة للصلاة، بل بكونها احتلالًا للملك العمومي؛ والنقاب لا يدل على مظهر ديني يستحق الاحترام، بل على التطرف والإرهاب؛ والأذان ليس طقسًا دينيًّا يُعْلِم الناس بموعد قيام الصلاة، بل بربرية تقضُّ مضجع الناس، وزرع الهلع في نفوسهم، وإنذار بالانفجار والهلاك.

أصولية الخطاب العلماني

يتضح إذًا أن هناك انقلابًا على مفهوم العلمانية التاريخي، بما هي حياد تجاه كل مظاهر الدين على اختلافها، وجعل العلمانية مطرقة تدكُّ مظاهر الدين الإسلامي، الذي صار يشكِّل فوبيا في الأوساط الفرنسية، وذلك من خلال تسخير اليمين المتطرف لمؤسساته الإعلامية لإثارة نقاشات مغلوطة تسعى لتشكيل مخيال اجتماعي سمته الحقد على الإسلام وعلى الجالية المسلمة التي تضاعف عددها بفعل الهجرة من دول الجنوب نحو دول الشمال، وما يثيره ذلك من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية يحاول الحزب الحاكم التغطية عليها، وذلك بإثارة الانتباه إلى مسائل ترتبط بحرية الضمير. وكأن المشكل الرئيس هو حدود تطبيق العلمانية، وليس حدود الفاعل السياسي في تدبير الشأن العام، وما يستلزمه ذلك من ضمان حقوق الإنسان، ليس الدينية فحسب، بل حقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كذلك، لا التعامل مع المواطنين على أساس عنصري مقتضاه أن المعني بطرح نقاش العلمانية هو الإسلام لا غيره من الديانات، وهو المسلِم لا غيره من المواطنين. وهو الأمر الذي يجعل المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية ويضرب بالتالي جوهر قانون 1905م، الذي يتأسس على ثلاثة مبادئ: الفصل بين الدولة والكنائس، والمساواة في الحقوق، وحرية الضمير.

تستند أطروحة الكتاب على أحداث استأثرت بالاهتمام لدى الرأي العام الفرنسي وفي الصحافة الوطنية، وهي وقائع لا يسمح المقام بعرضها، إلا أنها تؤول في المحصِّلة إلى إثبات أن الخطاب العلماني هو خطاب حمّال أوجه؛ إذ مثلما يستعمله أهل اليسار، يستعمله كذلك أهل اليمين. لكن هذه المرَّة ليس من أجل حياد السلطة تجاه حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية الضمير، إنما من أجل دواعٍ عنصرية تستهدف بالدرجة الأولى المكوِّن الإسلامي الذي صار مشبوهًا، مستأثرًا باهتمام الشأن الوطني والدولي. والحال أن العلمانية، حسب جون بوبيرو، تؤكد «أن الدين ليس شأن الدولة، ولا مؤسسة عمومية أو سلطة يمكِنها أن تقمع أو تعاقِب، ولكل واحد أن يختار بنفسه ويرتبط بدين أو عقيدة كما يشاء. فالعلمانية هي الضامن للاختيار الإرادي والحر» (ص 126).

تجدر الإشارة إلى أن عدم الوعي بالتحول الجذري الذي طرأ على مفهوم العلمانية، أي الانتقال من الخطاب العلماني اليساري إلى الخطاب العلماني اليميني، قد يسقطنا في أصولية الخطاب العلماني. وتعني الأصولية حسب جون بوبيرو إضفاء طابع مغلق على مفهوم العلمانية، والنظر إليه بعيدًا من كل التحولات التي يشهدها الواقع الاجتماعي (ص 174).

يرى جون بوبيرو أنه لتفادي الانحراف الذي تتعرض له العلمانية، ينبغي أن تصبح «علمانية ذاتية» (ص 142). ويدِين بهذا المفهوم إلى المؤرخ كلود نيكولي، ومقتضاه أن العلمانية، حسب تعبيره، هي «تربية مستمرة»، و«مجاهدة فردية»، و«غزو الذات لذاتها»، و«صراع ضد الكسل والغباء»، و«تمرين روحي»، وهي جميعها -في نظر جون بوبيرو- عبارات تدل على فكر مقاوم للدكتاتورية الاجتماعية المرتبطة بثقافة التسلية السطحية. وهذا ما يتطلب من كل فرد من مجمل الشَّعب خوض معركة ديمقراطية جماعية وذات أولوية، ضد الهيمنات القومية للرأسمالية الفائقة (ص 143).

العلمانية المرنة

يصف جون بوبيرو العلمانية الذاتية بكونها «رياضة فكرية» (ص 144)، تقتضي نوعًا من اللاأدرية، بمعناها اللاأدرية المنهجية، من جهة؛ وتتمثل في الشك الدائم والجذري بوصفه أبا المعرفة على حد تعبير ماكس فيبر (ص 146)؛ ومن جهة أخرى اللاأدرية النسبية؛ وهي نسبية ضرورية لأنها ترتبط في نظر جون بوبيرو بالمسائل «التي لا يمكن أن يكون لنا رأي فيها» (ص 144)، أو أن اللاأدرية النسبية هي نوع من الحياد القيمي (ص 145)؛ من حيث هو حياد يعمل على تعليق الأحكام بخصوص القضايا التي لا عِلم لنا بها.

يُمْكِنُ كذلك وصف العلمانية الذاتية بالعلمانية المرنة، أو الهادئة كما يصطلح عليها أرستيد بريان، وهي في الواقع أكثر صلابة مما نتصور؛ لأن هذه العلمانية المرنة أو الهادئة لها حسب جون بوبير قدرة كبيرة على مواجهة العواصف، وهي قدرة تفوق قدرة العلمانية المتصلِّبة، التي تشكِّل صلابتها هاته نقطة ضعفها (ص 167)؛ لأنها لا تسمح لها بمواكبة التحولات المشهودة للعصر.

لا يخفي جون بوبيرو أن كتاب «العلمانية المزيَّفة» هو كتاب ذو رهان مزدوج: علمي؛ يتمثل في كون الكِتاب يتأسس على مقاربة «سوسيوتاريخية» (ص 198)، من أجل الكشف عن التزييف الذي طال الخطاب العلماني؛ ورهان نضالي؛ حيث إن الكِتاب يندرج ضمن الإسهام الملتزم لليسار في سعيه إلى الدفاع عن حقوق الإنسان وضد أشكال التسليع والاضطهاد والعنصرية (ص 198). وفي هذا الصدد لا يتردد جون بوبيرو في الدفاع عن الحريات الشخصية، ويكفي الإشارة إلى دفاعه عن الحق في لباس ما نشاء. وهو القائل: «فأن تلبس إحداهن زيًّا يغطي سائر الجسم، سواء تعلَّق الأمر براهبة كرملية أو بمسلمة، فإن هذا لا يعني أن نختزلها فيما ترتديه، وأن نذيب فرديتها في لباسها» (ص 165). ذلك أن أقوى مطالب العلمانية في نظر جون بوبيرو يتعلق بالجمهورية نفسها؛ إذ، في نظره، «ينبغي أن تكون مستقلة عن الأديان والقناعات الفلسفية الخاصة، وألا تضفي طابعًا رسميًّا على أي منها، وأن تضمن حرية الضمير والمساواة في ممارسة الشعائر» (ص 163).