أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة

أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة

في أحد اللقاءات التلفزيونية الموجودة على «اليوتيوب» سأل الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي عميد الرواية العربية نجيب محفوظ: هل يزعجك أن توصف بـ«أم كلثوم الرواية العربية»؟ وبعد أقل من دقيقة صمت وتأمل أجاب محفوظ بابتسامة عريضة قائلًا: «بل يسعدني هذا»، ثم أضاف «سعيد لأن حياتي ارتبطت بأعظم صوت رجالي وهو محمد عبدالوهاب وأهم صوت نسائي وهي أم كلثوم».

والمتأمل في نصوص محفوظ وحواراته لا يمكن له أن يتجاهل شغفه البالغ بالغناء والموسيقيين؛ حتى إنه أكد في أكثر من حوار أنه كان يتمنى لو أصبح مغنيًا في حال فشله في احتراف الكتابة، كما أنه تناول في أدبه أحوال الموسيقا والغناء قاصدًا قضايا الهوية والعلاقة مع الزمن، فضلًا عن مسألة الصراع الحضاري(1). لكن علاقته بأم كلثوم تظل استثنائية بمعنى ما، فقد انطوت دائمًا على العديد من مظاهر التقدير التي نتوقف أمامها. وقبل ذلك يمكن التقاط مساحات من التشابه في مسيرة الكاتب العربي الأهم والمطربة العربية الأشهر، وهو تشابه يصعب حصره فقط في نقطة «الجماهيرية الواسعة».

أول ما يلفت النظر هو وجود كثير من مساحات التداخل بينهما، أولها: أنهما قد نجحا في تغيير الصورة النمطية للمهنة التي قررا احترافها، فقبل نجيب محفوظ كان من الصعب جماهيريًّا الوصول لتعريف جامع مانع لمهنة الروائي التي كانت تقع في دائرة التباس بين مهن عديدة منها ذات صلة بالكتابة، لكن محفوظ كرس جهده لفن الرواية، وأعطى لصفة الروائي الصورة التي نعرفها الآن. وتحول تدريجيًّا إلى «مؤسسة أدبية فنية مستقرة وشامخة لا تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فقط، وإنما من الاعتراف غير الرسمي كذلك؛ لأنها «مؤسسة شعبية» يتحدث عنها بسطاء الناس بمحض الاختيار في المقاهي والمنازل(2).

وكما غيّر محفوظ من صورة الكاتب فقد نجحت أم كلثوم في القيام بعمل مشابه تمامًا في الفن، وغيّرت من الصورة النمطية التي حاصرت المغنيات أو الفنانات إجمالًا حتى الربع الأول القرن العشرين، فقد كان عالم الفن إلى ذلك التاريخ عالما ذكوريا وكان ينظر إلى النساء العاملات فيه نظرة متدنية؛ لأن المهنة كانت مرادفة للفجور، والبغاء أحيانًا(3).

إلا أن تمسك ثومة بالقيم الدينية والاجتماعية التي حملتها من بيئتها التقليدية مكنها بعد سنوات قليلة من مقاومة هذا النوع من الغناء وتجاوزه بسرعة، بل راهنت على إنتاج نص غنائي مغاير، يرى الروائي فتحي غانم(4) أنه عبر عن حضور الطبقة الوسطى عقب ثورة 1919م. وبتعبيره «لا يمكن فهم الطابع الفني لأم كلثوم منذ جاءت للمدينة إلا بدراسة الطبقة الوسطى التي عاشت فيها وغنت لها» بحيث أصبح هذا الغناء انعكاسًا لطموح هذه الطبقة ورغباتها وتطلعاتها التي وصلت لذروتها مع ثورة الضباط الأحرار في عام ١٩٥٢م، وفيها «ارتفعت المغنية إلى ظاهرة قومية للأمة العربية وصوت رسمي للثورة العربية الشاملة»(5).

الراعي الرسمي

جدير بالانتباه أن أم كلثوم ونجيب محفوظ انطلقا من محطة واحدة وبرعاية رجل واحد؛ إذ تُجمع السير المرتبطة بحياة أم كلثوم على الدور الذي لعبه شيخ الأزهر الدكتور مصطفى عبدالرازق (1885-1947م) عالم الدين العصري ذو الثقافة الرفيعة، الذي جاء من عائلة أرستقراطية ودرس في باريس وكانت له نظرة جمالية شاملة، تنحاز إلى قيم الاستنارة الرصينة في مواجهة الانغلاق المدمر والتهتك الرخيص من جهة ثانية.

نجح الشيخ في تأمين أول شقة سكنتها أم كلثوم في شارع قولة بعابدين غير بعيد من منزله، بل عاملها معاملة واحدة من أفراد أسرته؛ إذ كانت صديقة مقربة من إحدى بناته التي تولت تعليمها اللغة الفرنسية وآداب الطعام بحكم خلفيتها الأرستقراطية(6).

ويشير إلياس سحاب في كتابه الموسوعي حول سيرة أم كلثوم إلى أن شيخ الأزهر وفر لأم كلثوم بيئة اجتماعية وفنية قاهرية بعثت الاطمئنان والسكينة في نفس الفتاة الصغيرة وعائلتها الريفية البسيطة، كما أنه ساعدها أيضًا على توجيهها إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن تسلكه غير الانغماس في الغناء الترفيهي الرخيص السائد وغير الانكفاء في دائرة الإنشاد الديني(7).

ووقف الشيخ كذلك في مواجهة أول حملة صحفية استهدفت أم كلثوم شنتها مجلة المسرح لحساب منيرة المهدية عام 1926م، وخصص شيخ الأزهر سلسلة مقالات في صحيفة السياسة دفاعًا عن أم كلثوم وصد الحملات التي قامت ضدها(8). وفي المرحلة التي تكرست فيها نجومية أم كلثوم وشهرتها تحول الشيخ من راعٍ رسميّ إلى مرشد أمين لثقافة المغنية، ويؤكد سحاب أن هذه العلاقة حفرت عميقًا في تكوينها في ثقافتنا المعاصرة.

ومن المثير كذلك أن الشيخ مصطفى عبدالرازق كان له دور مماثل مع نجيب محفوظ الذي كان تلميذًا له في قسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة، فبعد أن راحت على نجيب فرصته في السفر إلى أوربا، ضِمن منحة حكومية لدراسة الفلسفة، اقترح عليه الشيخ أن يعمل سكرتيرًا برلمانيًّا له ضمن أفراد مكتبه. ويؤكد محفوظ أن الشيخ أكثر أساتذته تأثيرًا في حياته الجامعية، فهو ذو عقلية علمية مستنيرة، هادئ الطباع واسع الثقافة.

واحتفظ محفوظ بالوظيفة نفسها بعد أن جاء الدكتور علي عبدالرازق، شقيق الشيخ مصطفى عبدالرازق، وتولى منصبه وزيرًا للأوقاف بدلًا منه(9). وظل نجيب يمارس عمله في وزارة الأوقاف لسنوات عدة، إلى أن نُدِبَ إلى وزارة الثقافة عند تأسيسها حيث عمل في مصلحة الفنون تحت رئاسة الكاتب يحيى حقي.

نسيج روحي

من خلال متابعة حضور أم كلثوم في نصوص نجيب محفوظ يمكن تأمل حالة الانتقال من صيغ المتابعة والرصد إلى عملية التخييل الأدبي ذاتها؛ بحيث باتت أغنيات أم كلثوم مرجعية لدى شخصياته الروائية؛ وهو ما يعني أن المغنية اكتسبت حضورًا مضاعفًا أكد تمكنها ليس فقط من مخيلة الكاتب، بل مخيلة شخوصه أيضًا، وبالتالي فإن رواياته يمكن أن تقرأ كمرصد يشمل خرائطَ ورسومًا بيانية نؤرخ عبرها لمسيرة أم كلثوم الغنائية من خلال إحداثيات وعلامات ما هي إلا رؤى الشخوص الروائية صعودًا وهبوطًا.

في واقع الحال هناك العديد من المحاولات النقدية التي انشغلت بالفكرة، ومنها مقالات لافتة للراحل كمال النجمي والناقد مصطفى بيومي، والروائي الشاب علي قطب، إلا أن هذا المقال يسلك مسارًا مغايرًا من خلال مقاربة لا يقتصر فقط على نصوصه الروائية، وإنما تتوسل لتأكيد الفكرة بالإشارة لمقالات محفوظ ذاته وحواراته، وكذلك نصوصه الأخيرة، وأبرزها «أحلام فترة النقاهة» و«الأحلام الأخيرة» التي نُشرت بعد وفاته بعشر سنوات في عام ٢٠١٦م.

الست في مقام الزعيم

تأتي الإشارة الأولى لولع نجيب محفوظ بأم كلثوم عبر مقال نقله جمال الغيطاني من صحيفة اسمها الأيام يرجع تاريخه لـ(٢١ ديسمبر ١٩٤٣م) وفي هذا المقال كتب محفوظ: «وما من جمود مثل أن يقارن أيًّا من الأصوات المصرية بهذا الصوت المتعالي؛ فقل في غناء أسمهان وليلى مراد ونور الهدى ما تشاء إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم، فتضره من حيث أردت أن تنفعه وتهينه من حيث أردت أن تكرمه وتمرغه في التراب وقد أردت أن تسمو به السماء»(10). وقد أفرد كمال النجمي دراسة بالغة الطرافة تتبع فيها حضور المغنين والغناء في عالم نجيب محفوظ أوردها في كتابه «الغناء المصري، مطربون ومستمعون»، (دار الهلال، طبعة ١٩٨٣م) وهو حضور يمكن فهم أسبابه في كثير من الحوارات التي أجراها صاحب «أولاد حارتنا»(11).

ركز محفوظ على سيرة والده ووصفه لرجاء النقاش بـ«السميع» الذي كان يذهب لحضور الأفراح التي يغني فيها كبار المطربين ويصطحب ابنه (نجيب محفوظ) لنادي الموسيقا في عابدين، وحين امتلك جهاز الراديو كان لغرض الاستماع إلى حفلات موسيقية كما طلب من ابنه أن يدعو أصدقاءه للبيت لمشاركته هذا الطقس(12). ولم يكن الأب وحده هو المحب للغناء، فالأم أيضًا كانت تحب زيارة المتاحف وسماع الموسيقا فهي «مغرمة بسماع الأغاني» على حد وصفه(13).

ولد محفوظ وفي بيتهم كثير من أسطوانات الموسيقا لكبار مطربي مصر أوائل القرن العشرين، وفي بيتهم أيضًا أقيمت كثير من الحفلات الغنائية التي تجمع بين رقص العوالم في مكان خاص بالسيدات، والمطربين في مكان خاص بالرجال، وبما أنه كان طفلًا فقد أتيح له الانتقال السلس بين المكانين.

عازف القانون

وحين أصبح شابًّا تعلم نجيب محفوظ العزف على آلة القانون ودرسه بطريقة احترافية في عام 1933م، حيث التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقا (معهد الموسيقا العربية الآن) بالتزامن مع دراسته في كلية الآداب. وكان أستاذه في المعهد محمد العقاد العازف بفرقة أم كلثوم، وقد ذهب ليستمع لعزفه في حفلات كوكب الشرق في مسرح الماجستيك بشارع عماد الدين. ويروي محفوظ لرجاء النقاش كيف أنه واظب على حضور حفلاتها منذ أن كان طالبًا بالصف الأول الثانوي حتى الجامعة حيث انتقلت حفلات الست إلى مسرح حديقة الأزبكية(14).

ودفع ظهورُ الراديو محفوظًا للتوقف عن الذهاب لحفلات الست، والاكتفاء بالاستماع لها في المقهى بصحبة أكبر عدد من الأصدقاء، وبخاصة أن أسعار تذاكر الدخول أخذت ترتفع بمرور الوقت، بل تحول أمر الحصول على تذكرة لحفلاتها إلى أمر شاق، بحسب تعبيره. ويقر محفوظ بأن آخر حفلة حضرها لأم كلثوم كانت على مسرح الماجستيك، ورافقه فيها صديقه إبراهيم فهمي دعبس الضابط المهندس(15).

وعلى الرغم من الانشغال بالكتابة الأدبية وشؤون الوظيفة العامة، فإن محفوظًا واصل شغفه بالمغنين، ولا سيما أم كلثوم وصناع الغناء، وقد روى كثيرًا عن الجلسات التي حضرها مع الشيخ زكريا أحمد، بل وصفه بأن رأسه كان مليئًا بالموسيقا(16). فقد كان الشيخ زكريا صديقًا لصديق مشترك بينهما هو صلاح زيان، وفي واحدة من هذه الجلسات استمع محفوظ للحن «حبيبي يسعد أوقاته» قبل أن تغنيه كوكب الشرق.

واللافت أن زكريا أحمد -الذي لم يكن يحب القراءة، بتعبير محفوظ- قرأ رواية «زقاق المدق» وأبدى إعجابه بها للدرجة التي جعلته «يعيد صياغتها ويحكيها أمامنا». ويبدي محفوظ اندهاشًا من تفرغ الشيخ زكريا لقراءة الرواية ويسأل: «لا أعرف من أين جاء بالوقت اللازم لقراءة الرواية فقد كان يسهر يوميًّا حتى الصباح وينشغل بألحانه». وقد تأثر محفوظ بشخصية الشيخ زكريا في قصة كتبها بعنوان: «الزعبلاوي».

اللقاء الوحيد

لم يلتقِ محفوظ أمَّ كلثوم وجهًا لوجه، ولم يعرفها معرفةً شخصيةً إلا مرة وحيدة، عندما تبنى الكاتب محمد حسنين هيكل مقترحًا من شلة الحرافيش للاحتفال بعيد ميلاد محفوظ الخمسين عام ١٩٦١م. فقد نقل الشاعر صلاح جاهين له رغبة الحرافيش في أن يستضيف الأهرام الاحتفال في إحدى قاعات المبنى الذي كان قد افتُتِحَ حديثًا. فاستحسن هيكل الفكرة، واتصل بمحفوظ لتهنئته وسأله ببساطة: «تحب نجيب لك هدية إيه؟» فرد محفوظ ساخرًا: «هاتوا لي أم كلثوم»، فما كان من هيكل إلا أن فعل واتصل بأم كلثوم، وعرض عليها حضور الحفل، فوافقت من دون تردد.

يصف محفوظ لحظة دخولها إلى القاعة قائلًا: «كانت مفاجأة لي؛ لأني لم أتوقع أن يكون لها اهتمامات بالقصة والرواية، وكنت أسمع كثيرًا عن ثقافتها واهتمامها بالشعر، ولم أتخيل أن توافق بهذه السهولة على المشاركة في احتفال أدبي خالص». وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي التقى فيها عميدُ الرواية العربية أمَّ كلثوم ودار بينهما حوار مباشر، في صحبة توفيق الحكيم الذي كان صديقًا لها أيضًا.

أم كلثوم على مقهى خان الخليلي

يشير الناقد مصطفى بيومي إلى أن أم كلثوم تكاد تكون من أهم الشخصيات في عالم محفوظ، وربما تحتل المكانة الثانية في هذا العالم بعد الزعيم سعد زغلول، بل إن الإعجاب بها بين أبطال رواياته يكاد أيضًا يكون كاسحًا، وهو إجماع يتجاوز صراعات الأجيال وخلافات السياسة وتباين الأفكار(17).

واستكمالًا للملاحظة ذاتها يعدد كمال النجمي مرات حضور «ثومة» في أعمال عميد الرواية العربية، ففي رواية «خان الخليلي» نعرف أن بطل الرواية «رشدي» يحب الغناء حبًّا خَيَّلَ إليه يومًا أنه خُلِقَ ليكون موسيقيًّا ولم يترك نجيب بطلَه حتى أوجب عليه أن يدخل السينما لسماع أم كلثوم ومشاهدتها في فِلْم «دنانير»، وفي مشهد آخر يجلس بطله في السينما، حتى غرد الصوت الإلهي بـ«طاب النسيم العليل». ووفقًا للنجمي الذي كان على صلة بنجيب محفوظ فإن عميد الرواية شخصيًّا كان شديد الولع بهذه الأغنية(18).

ويلحظ مصطفى بيومي أن نوال بطلة «خان الخليلي» تفكر، بعد عودتها من السينما، في حبيبها المنشغل عنها بجمال صوت أم كلثوم(19). وينقل من الرواية ذاتها حوارات كاملة جرت على المقهى تركز بالأساس على مواقف أبطالها من فن الغناء. وتحفل (الثلاثية) بمشاهد تظهر معرفة محفوظ الدقيقة بعالم المغنين والعوالم، وكما يشير النجمي فإن بطله أحمد عبدالجواد وهو يعيش آخر أيامه: «استمع في بيت محمد عفت إلى أسطوانات المطربة الجديدة أم كلثوم. تتكلم جليلة ويرد عليها عبدالجواد والحاضرون»: صوتها -والشهادة لله- جميل غير أنها كثيرًا ما تصطرع كالأطفال.

–  بعضٌ يقولون: إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول: إن صوتها أعذب من صوت منيرة نفسها.

–  كلام فارغ أين هذه الصرصعة من بحة منيرة.

–  في صوتها شيء يذكر بالمقرئين، كأنها مطربة بعمامة.

وفي ختام الحوار يعترف عبدالجواد: «لم أستطعمها، لكن ما أكثر الذين يهيمون بها».

وأعارها أحمد عبدالجواد أذنًا حذرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوقها على رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها (قصر الشوق ص ٤٣٣، طبعة مكتبة مصر).

وهكذا يتتبع محفوظ حضور صوت أم كلثوم وانقسام الجمهور في تقييمه، كما يقدم مسارًا لصعوده وتقدمه في النسيج العام، ونجاحه في الهيمنة على آذان المصريين، فبعد أن كانت «تصطرع» عند بطل «الثلاثية» ها هي تتحول في «السراب» وعلى لسان البطل الذي يصيح على الملأ: «أم كلثوم هي الشيء الوحيد الذي يستحق الإعجاب والتقدير في هذا البلد». أما بطل «خان الخليلي» فقد جلس يستمع «للصوت الإلهي». وفي «ميرامار»، الكاشفة لتناقضات مجتمع ما بعد ثورة ١٩٥٢م، يبلغ صوت أم كلثوم مداه؛ فليلة غنائها تجمع الطبقات والأفراد وصوتها علامة عصر بأكمله ويصبح خلفية لحوارات الأبطال، كما أنه هو ظاهرة تنعكس عليها مواقف الشخصيات الرواية، وهذه براعة كاتب له خبرة بعالم الطرب(20).

وفي رواية «المرايا» يعود أفراد الشلة لتذكر مطربة كانت يومها جديدة واسمها أم كلثوم، فيقول سرور عبدالباقي: «سمعتها تغني في فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية، فكبر علينا ذلك، وقال جعفر خليل: «صوت منيرة يعلو ولا يعلو عليه وانتهره خليل زكي عديم الاهتمام وقال بوقاحته المعهودة لا تردد آراء أمك بيننا».

ويمتد حضور ثومة في قصص محفوظ كذلك، ففي مجموعة «الفجر» يتوقف بيومي أمام قصة بعنوان: «الميدان والمقهى». وفي «الباقي من الزمن ساعة» هناك نبرة ساخرة من أداء عبدالناصر تستعير عنوان لأغنية كلثومية هي «أسيبك للزمن» لتصبح «هاسيبك لليمن». وفي «الحب فوق هضبة الهرم» هناك تماهٍ بين حالة البطل وأغنية «أهل الهوى يا ليل».

الأسلوب المتأخر

يعود محفوظ إلى أم كلثوم في نصوصه التي أعقبت محاولة الاغتيال الفاشلة والتي نشرت تحت عنوان «أحلام فترة النقاهة»(21) ففي الحلم رقم (١٨٨) كتب: «رأيتني أسير مع الشيخ زكريا أحمد نحو هضبة مغطاة بخمائل الأزهار، وتقف في مركزها أم كلثوم ووفد أهل الفن: الحامولي وعثمان والمنيلاوي وعبدالحي حلمي وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب ومنيرة المهدية وفتحية أحمد وليلى مراد، وغنت أم كلثوم قائلة: «سمعت صوتًا هاتفًا في السحر». وأخذت تكرره حتى ساد القلق بيننا، ثم أخذ صوتها ينخفض رويدًا رويدًا حتى تلاشى وغنت منيرة المهدية قائلة: «ليلة ما جه في المنتزه، يا دوب قعدنا والكأس في إيدنا، هف طلع النهار». وغنى سيد درويش «زوروني كل سنة مرة» وغنى الشيخ زكريا «يا عشرة الماضي الجميل، يا ريت تعودي»، أما أنا فتلوت الفاتحة.

وفي الحلم رقم ٣٥٨ ص ١١٢ يقول: «وجدتني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد وقد بلغ الطرب منتهاه عندما غنت وتميل عليه وتقول له: «ليه طاوعتني»، وعند انتهاء الحفلة خرجت مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية و«وتميل عليه وتقول له ليه» حتى وصلنا لحارة بيت القاضي حيث كان ينتظرنا طاجن كفتة وصينية بسبوسة». وفي الحلم رقم 394 هناك ذكر لواحدة من أغنياتها وهي «على بلد المحبوب ودّيني»(22).


هوامش:

(1) علي قطب: «الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ» (معجم ودراسة نقدية) مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية، القاهرة 2024م، ص35.

(2) جابر عصفور: «نجيب محفوظ الرمز والقيمة»، الدار المصرية اللبنانية 2010م، ص 14.

(3) رفاييل كورماك: «منتصف الليل في القاهرة» (نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة) ترجمة علاء الدين محمود، القاهرة، مكتبة كتب خان، طبعة 2024م، ص37.

(4) فتحي غانم: «الفن في حياتنا»، سلسلة الكتاب الذهبي، روز اليوسف، دون تاريخ، ص 33.

(5) فتحي غانم: «الفن في حياتنا»، سلسلة الكتاب الذهبي، روز اليوسف، دون تاريخ، ص 35.

(6) إلياس سحاب، «أم كلثوم، السيرة»، الناشر موسيقا الشرق، بيروت 2003م، ص 74، 75.

(7) إلياس سحاب، «أم كلثوم، السيرة»، الناشر موسيقا الشرق، بيروت 2003م، ص 80.

(8) إلياس سحاب، «أم كلثوم، السيرة»، الناشر موسيقا الشرق، بيروت 2003م، ص 79.

(9) رجاء النقاش: «نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأدبه»، طبعة دار الشروق 2011م، ص 45.

(10) «نجيب محفوظ يتذكر»، جمال الغيطاني، طبعة هيئة الكتاب ٢٠١٢م، ص ١٣٢.

(11) كمال النجمي: «الغناء المصري، مطربون ومستمعون»، دار الهلال 1983م، ص 5.

(12) رجاء النقاش: «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، طبعة دار الشروق، ٢٠١١م، ص ٢٣.

(13) رجاء النقاش: المرجع السابق، ص 17.

(14) رجاء النقاش: المرجع السابق، ص 17.

(15) رجاء النقاش: المرجع السابق، ص 96.

(16) رجاء النقاش: المرجع السابق، ص 96.

(17) مصطفى بيومي: «معجم أعلام نجيب محفوظ»، دار الأحمدي ١٩٩٧م، ص ٥٧.

(18) كمال النجمي: «الغناء المصري، مطربون ومستمعون»، دار الهلال، ص ١٩٨.

(19) مصطفى بيومي: «أم كلثوم في الأدب المصري»، دار الهدى، د ت، ص ١٢.

(20) علي قطب: المرجع السابق ـ ص 32.

(21) طبعة دار الشروق، القاهرة 2015م.

(22) «أحلام فترة النقاهة»، دار الشروق، ص 131.