«الأعمال الناجزة» لسيف الرحبي شعرية تلتقي فيها تراجيديا الكون وغنائية التفاصيل اليومية
تشكّل تجربة الشاعر العُماني سيف الرحبي، الممتدة إلى ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، إحدى أبرز تجارب قصيدة النثر العربية، ذات البعد الإنساني، فضلًا عن تجربة في كتابة المقالة الثقافية، خصوصًا زاوية الافتتاحية لمجلة «نزوى» التي يرأس تحريرها، إضافة إلى كتابات نثرية كثيرة موزّعة بين الرحلة والمشاهدات والمقامات، التي ضمّها بعض كتبه. هذا جميعه، شعرًا ونثرًا ومقالات، جمعها فيما يسمّيه «الأعمال الناجزة» صدرت مؤخرًا في (دار العائدون للنشر والتوزيع، عمّان- الأردن)، وجاءت في ثلاثة مجلدات، حجم كبير، وغلاف مقوى، وحوالي ألف صفحة، وصورة للغلاف من الفنانة بدور الريامي.
المجلدات الثلاثة لأعمال الرحبي، يمكنها تقديم ما يشبه سيرة ذاتية شعرية، للشاعر وعوالمه المتعددة والمشتّتة والمتباعدة، في الأزمنة والأمكنة. فقارئ هذه الأعمال، حتى لو كان مطلًّا على تجربة الشاعر في مجاميعه المفردة حين صدور كل منها، يستطيع، الآن وهنا، أن يطلّ على مساحات واسعة، وفضاءات فسيحة، عالمية وكونية ووجودية، وأسئلة وقلق وتوترات، في الوقت ذاته الذي يلتقي الشاعرَ في حالات الفرح والحب والجنون، في حالاته القُصوى. فنحن، مع سيف الرحبي، الشاعر والناثر والإنسان، في أحواله ومقاماته كلها، نغوص في عوالم من الواقعي، شديد الواقعية، والخيالي المغرق في الفانتازيا، حتى حدود السريالية غير الآبهة بمنطق العقل. عالم يجمع الغنائي بالملحمي، بروح واحدة.
قراءتنا هذه، ستحاول إلقاء أضواء على المجلدات الثلاثة في مجملها، مع أبرز معالمها وملامحها الأساسية، فهي؛ ومع اجتماع أعمال الشاعر فيها، تستحق كثيرًا من الدراسات والتحليل. ونبدأ بعرض محتويات هذه المجلدات، فهي فرصة لتعريف القارئ بهذا المُنجز من الأعمال «الناجزة» حتى الآن، بتصنيفاتها جميعًا تقريبًا، ومحطاتها الأساسية، ومراحلها المختلفة.
بداية، هنا وقفة مع محتويات المجلدات الثلاثة، التي تضم أعمال الشاعر «الناجزة» كما أسماها، بدءًا من انطلاقته حتى آخر أعماله. في المجلد الأول نلتقي أعمالًا وقصائدَ من مرحلته الأولى مثل: نورسة الجنون، وأجراس القطيعة، وقصائد لأميرة الخرائب ذات الأحداق الوثنية، ورأسُ المسافر، ومُدْيَةٌ واحدةٌ لا تكفي لذبحِ عُصفور، رجلٌ من الرُّبعِ الخالي، جبال، هذَيان الجِبال والسَّحَرة، يدٌ في آخِر العالَم، ومقتطفات من دراسات وكتابات عن الشاعر وأعماله هذه.
أما المجلد الثاني فيضم مجموعاته الشعرية وقصائده التالية لتلك المرحلة: مقبرة السُّلالة، الحِصان المربوط على نخلة بأطراف البَلْدة، الدّيَكةُ وحدَها تحاول إنقاذ المشهد وتعيد مياهًا بعيدةً في الذاكرة، قطارات بولاق الدّكرور، على حدِّ الصيف عن البراكين والموتى والحيوانات، نجمة البدو الرحّل… أو القاهرة، منازلُ وأصدقاء، الجندي الذي رأى الطائر في نومه، البحيرة المسحورة التي غرقتُ فيها أخيرًا، بعَصا الأعمى في ظلام الظهيرة، ومقتطفات من دراسات وكتابات عن الشاعر وهذه الأعمال.
أما المجلد الثالث فيضم المجموعات والقصائد الآتية: سأُلقي التحية على قراصنةٍ ينتظرون الإعصار، موسيقا اليمامة الهاربة من سطوةِ الهاجرة، كقطيع كباشٍ بيضاء أثخنها الهياج، من يوميات الأفق المفتوح، نصوص مفتوحة: رسائل في الشوق والفراغ، حولَ رجل ينهض من نومه ويتجه نحو الشرفة، من أيِّ جِـراحٍ ينفجرُ ذلك النداءُ الممزَّقُ للحيوانِ، كل لحظة جديدة، كل موت قديم (مشاهد آسيوية)، جدَل الأحذية والطُّرقات، وادي العيون، كرسي في مهبِّ المحيط، سناجب الشرق الأقصى الجزر الآسيوية، النسر يصطاد العاصفةَ، بجنون الحرية والهواء الطلْق، من الجبل الأخضر إلى نزوى، حين أشْرَق طفلٌ من روحه، حرب الأجنّة فـي الأرحام، غرفة في (باريس) تطل على القطب الجنوبي، ومقتطفات من دراسات وكتابات عن الشاعر وهذه الأعمال.
عن البدايات والوعي المُبْكِر
منذ بداية المجلد الأول، وفي مقدمة تشبه التقديم والبدايات الملتبسة بأقوال الصوفيين والسرياليين، يأخذنا الشاعر في رحلة بعنوان «الشعر ليس خيار العارف بالطريق»، يطل في مطلع هذه المقدمة على عوالمه الأولى حيث «العين التي شاهدت، أول ما شاهدت في إطلاق نظرتها الأولى إلى الوجود والأشياء، تلك الأرض الشاسعة التي تلتقي أطرافها الثلاثة، في سديم الصحراء والجبال والبحار المتلاطمة في الواقع والمخيلة». إنها «الأرض المترامية بحياة قليلة وسراب هائل، وصفها الرحالة «ويلفرد ثيسجر» وهو يقطع الرُّبع الخالي في ثلاثينيات القرن العشرين فيما يشبه عبور الأسطورة، بصحراء الصحاري».
هنا يستحضر الرحبي ذلك الغراب الذي يسمّيه «كائن القِدم، ومعلّم البشرية كيف تداري سوأتها»، ويمنحه الأحقية الأولى «في الانتماء إلى عصورها الجيولوجية السحيقة: أودية قاحلة تذكِّر بأنهار جفّت منذ عصور ضوئية. قوافل مترحِّلة في تخوم المغيب. بحار بلا نهاية ولا قرار. وكأنما العدم خرج للتوّ من كهوفها ليكتشف بؤس العالم. وكأنما الصانع -قبل أن تمتد إليها يد التحديث والتقدم- صنعها كتجربة أولى، مسوَّدة وجود لأرض البشر اللاحقة».
على مثل هذه الطبيعة العُمانية، والكونية والوجودية، تفتّح وعي الشاعر المبكر. إنها «الطبيعة المحتشدة بالهوام والذئاب وبنات آوى، أراجيح طفولتنا البعيدة، والمحتشدة بالحنين. هذه الطبيعة اليتيمة التي قُدَّت من براثن بركان، على صفحتها وُلدت وتفتحت أسئلتنا الأولى، دهشتنا وهواجسنا كمشروع وجود صعب وممكن. كانت الوحشة تفضي بالضرورة إلى مقاومتها بطرق مختلفة، منها التأمل والمعرفة والشعر.. هذا ما تفتّح عليه وعينا في تلك البلاد القصيّة في ذلك الزمان. فقد كان الجو المعرفي عبر تراثه وتراكمه التقليدي السلَفي، غنيًّا ومتنوعًا، شعرًا ومناحي كلامية وفقهية ولغوية. وكان لعُمان، التي تمتد أواصر حكمها إلى الشرق الإفريقي، شخصيتها المعرفية ذات الملامح الخاصة عبر الأزمنة، ليست هذه العجالة محل تبيانها».
ويكتب سيف عن البلاد التي كانت «غارقة في مياه الأسلاف، والنأي عن «العصر» ومصبّاته وعواصفه». ويكتب عن هذه المناخات التقليدية التي كتب فيها أولى قصائده. يقول: «كتبتُ أول قصيدة وفق هذا النظام المغلق في كهوف السلف ولغته، لأن أي خروج عنه مروق وإلحاد، وما زال أصحاب هذا الرأي الظلامي عند رأيهم حتى لحظتنا الراهنة، وبشكل أكثر عنفًا وتطرفًا ولا عقلانية». لكنه لم يلبث مطولًا في هذا العالم التقليدي، فسرعان ما أخذته الرياح بعيدًا حيث يقول: إن «ما ظل يطاردني لاحقًا، بجانب التكوين الشعري الكلاسيكي الذي لا أشك في الإفادة منه، هو تلك القصيدة العنيفة التي يكتبها المكان نفسه، بغموضه وموته، وكيف تنبجس الحياة الشحيحة من مخالب ذلك الموت القاسي ذي الحضور الكلي. كانت الجنازة اللامرئية في رأسي بحجم ذلك الفراغ الذي يتدفق فيه الزمن كثيفًا وحادًّا، محاطة بجوقات النادبات والمنشدين».
وإلى التأثير الكبير للمكان على تجربة الشاعر، ثمّة تأثير للرحيل والتجوال على هذه التجربة، وكما يقول هو نفسه «حدثٌ ثانٍ، وجوهري، طبع حياتي ووسمها بقدره الخاص، هو انفصالي المبكر عن ذلك المكان الولادي، ورحيلي نحو القاهرة ومن ثم الشام، وبيروت. وقد بدأت في دمشق نشر الكتب الأولى والمقالات، لينفتح المشهد الحياتي لاحقًا إلى آخر مصاريعه ومتاهاته، وكأنما الأسلاف الرُّحَّل خلعوا عليّ لا شعورهم الجمعي، عبر نسيج من الاختيارات والصدف التي كانت تلفّ مناخات تلك المرحلة. وعلى الأرجح الصدف ووقائعها كانت هي الحاسمة في هذا السياق. لأول مرة أتماسّ مباشرةً بعد أصداء سماعية غامضة، مع معطيات مدنية وثقافية مختلفة».
التحوّلات تُلازم التجربة
إنّ من يقرأ تجربة الرحبي، كما تظهر في هذه المجلّدات الثلاثة، يكتشف أنّ ثمةّ قفزاتٍ وتحوّلاتٍ نوعية بائنة في هذه التجربة، من ديوان إلى آخر. وسيكتشف أيضًا قدرًا كبيرًا من التنوع، ولكن ضمن وحدة التجربة الواحدة المتتابعة العناصر والمكونات. نحن هنا حيال سيف الرحبي الشاعر المتعدد الأبعاد، ولكن بصوتِ عازف ومغنٍّ هو نفسه، ومع ذلك تتعدّد ألحانه ونغَماته، بل كلماته.
فمن جانب، هو كما يقول عن نفسه، جزء من جيل عربيّ يسمّى «جيل الهزائم»، لا الهزيمة الواحدة فقط. يقول سيف: «هكذا وجدت نفسي جزءًا من جيل عربي يقتسم سمات الكتابة والحياة والترحل. جيل غير مستقر بالطبع، هائم بين ثكنات الأفكار والشرطة والمدن، تلفحه رياح اليأس والنقض والتسكع. لقد فتح عينيه ذات صباح على هزائم وانهيارات لا تُحصى، وعلى ما هو أحقر وأبشع من الحروب الأهلية التي عرفها التاريخ. كان عليه أن يغامر في مواقع كثيرة اهتزَّ يقينها مفهومًا ولغة، كانت ذات يوم مثار عاطفة جيّاشة، وربما مشروعًا لا شك في نبل مراميه وأهدافه. كان عليه أن يبحث بين الأنقاض والجثث عن لغة تستطيع لمّ شمل هذا التشظي والانكسار الذي يلفّ الفرد والجماعة بآفاقه المدلهمّة».
ويتابع بما يتعلّق بالتحوّل الأساس بقوله: «في هذا السياق اندفعت قراءة الشعر والعالم، واندفعت العبارة الشعرية العربية إلى ذلك التغيير في طبيعة الشكل الذي وصل إلى حدّ النمط والترجيع. وصارت إعادة النظر حتى حدود الفوضى والخلط، في المنجز والمتحقق فكريًّا وثقافيًّا، في ضوء تغير المرجعيات والتأثير وطريقة استخدام اللغة. وصار ثمة ميل أكبر إلى قراءة التراث السردي العربي والمشرقي وتوسيع رقعة الاستفادة منه، بموازاة التغيّر في طبيعة الحوار الشعري مع «الآخر» والمرجعيات الغربية، فبرزت أسماء ومقترحات إبداعية لم تكن واضحة في المرحلة السابقة، شعراء هاويات ونزوع تدميري وشعراء حياة».
وإضافة إلى المؤثّرات البصرية والفلسفية، والقراءات في قديم الشعر وحديثه، فقد تشكّلت لدى سيف الشاعر قناعات راسخة تتعلق بماهية الشعر خصوصًا، والإبداع عمومًا، وما يتعلّق بمسألة «الأجيال». يقول في هذا الصدد: «ليس في ذهني وهم القطيعة التي يرتهن بها البعض، ولم أرَ يومًا أن قصيدة النثر حلّت محلّ سابقاتها، رغم انتشارها وتحولها إلى ما يشبه المتن الشعري، كذلك لا أرى ولا أستسيغ التفكير في أن هذا النمط التعبيري يحلّ محلّ آخر، ويقصيه من أرض الإبداع، فأشكال التعبير في تاريخها مفتوحة على المتغيّر والمتحول، ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل وتتصارع ضمن أراضٍ واحدة وزمن واحد أو أزمنة مختلفة. فواحدية التفكير هذه لا بد أن تصّب في ثكنة القمع لأيِّ تعددية ممكنة، ودعاة الشعرية العربية تبادلوا هذا الإقصاء في الكتابة كما في الحياة، كذلك فإن الجيل ليس بديلًا من جيل آخر، ومن السذاجة التفكير على هذا النحو التحقيبيّ المحدود».
ويقدّم سيف الرحبي «مجاميعه» الشعرية في هذه المجلدات، في هذا المجموع الذي يستطيع منح صورة عن تجربة لا تزال في طور التكوين والتحوّل ربّما، يقدّما كما كانت منذ البدء، بعفويّتها وتدفقها الأوليّ الذي جاء فيه، من دون تغيير ولا إضافات أو اختصارات أو حذف أو تعديل، متسائلًا عن صنيعه هذا «هل ثمة شيء ذو دلالة، لو أوضحتُ أن هذه الأعمال المقدَّمة، منذ مطلع الثمانينيات، قُدّمت كما هي منذ نشرها الأول، أي لم تجرِ إعادة نظر أو صياغة لأيّ جملة أو عبارة شعريّة أو سياق؟»، كأنّما ليقول لنا: إنّه لا يزال هو نفسه ذلك الشاعر، منذ البداية حتى اليوم، على الرغم من كل التحوّلات الجارية على تجربته، فهو يريد هذه التجربة في مسارها الحقيقي الذي جرت فيه؛ لأنه السياق الذي أراده لها، وأرادها أن تظل سائرة فيه.
علامات بين الملحمي والغنائي
يكتب الناقد التونسي الدكتور محمد لطفي اليوسفي عن نصّ سيف الرحبي بوصفه «عبارة عن سيرة ذاتية. لكن السيرة تكفّ عن كونها سيرة فرد، (كما أشرت)، وتصبح ضربًا من الاستحضار لثقافة تمضي قدمًا إلى خرابها، وتأريخًا لأرض كل ما فيها يتفسخ؛ لذلك تنعت صراحة بكونها «أرملة العصور/ ومستودع نفايات العالم». في النص تصريح بأن هذه الأرض مدائن صنعها النفط ليسرح فيها «السماسرة الذين أتوا من كل بلاد العالم لامتصاص ضرع الأرض وما خلفته عظام حيوانات بائدة» (جبال). إنها أرض طفولتها أمعنت في الرحيل. والنص يتكئ في بعض المواضيع على طابعة السردي ويخلق نوعًا من التوازي بين طفولة الراوي وطفولة المكان: هكذا يستل النص من مكوناته البانية لجسده. ما به يبتني فكرة الأفول الكوني الشامل. إنه يستدعي المحليّ (الصحراء/ مدائن النفط..) لكنه يفتحه من الداخل على الكونيّ المحجب فيه. ومن الذاتي ينفذ إلى البشري الشامل. فتنفتح السيرة الذاتية على محنة الكائن مطلقًا. وتصبح الكتابة إطلالة على الرعب المحتمي من المكان بأقاصيه وأصقاعه وكواه المعتمة؛ لذلك يصبح النص، بدوره بمثابة نشيد أسود يطفح قتامة ونياحة».
أما الشاعر والناقد الأكاديمي التونسي الدكتور محمد الغزّي، فيكتب عن بعض خصائص قصيدة الرحبي بأنها «استرفدت المكان، وتشربت أساطيره ورموزه، وسعت إلى كتابة تاريخه الروحي العميق… إنها قصيدة الأوابد تتعاوى في البراري، والنباتات التي لا أسماء لها، والجبال الرابضات كحيوانات أسطورية على مشارف الصحراء. لكأننا نشهد، في هذه القصيدة، ميلاد الكون، وانبثاق العناصر. لكأن الأرض، في شعره، تخرج للتوّ من العماء الأول، والجبال تنبثق من البحار، والسماء تتزيّن، للمرة الأولى، بالنجوم. لكن هذا لا يعني أن سيف الرحبي اكتفى بترديد أساطير جاهزة أو استحضار تاريخ منجز.. كلّا فالرحبي، مثل كل الشعراء الأساسيين، واضع أساطير، وخالق رموز… لهذا وجب التأنّي عند لغةِ قصائده بِوصفها موضوعًا يحتل منها مكان الصدارة. فاللغة فيها زجاج معشّق، يشدنا إلى زخارفه وألوانه قبل أن يشدنا إلى شيء آخر.. هذه اللغة لا تحاكي شيئًا، ولا تنقل شيئًا، وإنما هي عالم قائمٌ بذاته، مُفْعَمٌ بالحياة، منفتح على كل الاحتمالات، حمّال لكل ألوان التفسير والتأويل، غاية هذه اللغة هي إيقاظ حسّ الدهشة في القارئ وتشكيكه في تأويلاته النهائية للأشياء ودفعه إلى النظر إلى العالم بعينين جديدتين».
ويلتقط الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف، عبارة من سياقات إحدى قصائد سيف حيث يقول: «يا ذهبًا يبحث عنه العميان/ في مناجم منهارة»، فيكتب متسائلًا: «ماذا عساه أن يكون هذا الذهب الذي يبحث عنه العميان في مناجم منهارة؟ لا ضير في أن يقول بأنه النور، ولكنه النور بوصفه الحرية التي يفتقر إليها العبيد، كما يفتقر العميان إلى الضياء». ثم خذ هذا القول مثلًا آخر «العمائر المأهولة بالجفاف، وبمخلوقات زنخة تفوح من أردانها جثة العالم المتفسخة منذ قرون».
ومما هو جدير بالتنويه أن الروائح الكريهة كثيرًا ما تذكر في هذه المجموعة «أحلام القدماء التي تفعمني برائحة الموتى في السرير». وفي رؤية الشاعر كذلك أن جذور الحياة، أو ركائز الوجود البشري قد «أصبحت تغذيها النفايات السامة في أعماق الأرض الملحية، التي تصارعت على أديمها أرومات البشر والضباع والأشجار السامقة». وناصع تمامًا أن هذا النص له مرجعية أوّلانية ينبجس من صميمها، ولا ريب في أن تلك المرجعية هي المجتمع أو التاريخ، أو قل: إنها الحياة في أزمتها الكابوسية، أو الشديدة القدرة على استلاب كل أصالة من جوف الروح. فهي لا ترى الحياة إلا من حيث هي رضوخ لسلب متطرف قد استطاع أن يرمّد نقيضه، أو أن يطوّح به إلى أقصى المنافي، وبذلك يكون قد أرغمه على التلاشي، أو أقلّه على أن يتقلص حتى تخوم الاختزال أو الاضمحلال، فتبدّى العالم وكأنه قد شاخ واهترأ، وأخذ ينفق روائحه النتنة، حتى الدروب قد شاخت تحت أقدام الناس، «مفعمة بروائح الأجساد التي أنهكوها كثيرًا، مسوقين برغبة الزوال، الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة». ولهذا فقد كثرت في المجموعة تلك الألفاظ التي لا تدل إلا على البؤس والشر والهرم والتفسخ.
بينما يكتب الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين ما يؤكد ذلك الجمع بين السريالية والملحمية المتمثلة في عناصر عدة، تتشكل أساسًا من مكوناته وتفاصيل روحه «فمن أماكنه القديمة، بأسمائها ومعالمها، حيث ولد وجاء في نشيجه سلالات أسلافه، يمد سيف الرحبي، الشاعر العماني يد الشعر إلى آخر العالم؟ والصورة المجسدة والهائلة التي يمنحها العنوان، لليد البشرية التي تنتشر إلى نهايات الوجود، تذكر بسريالية سلفادور دالي المضخمة عينها، حيث في إحدى لوحاته، حصان ينطلق من نافذة مفتوحة في أعلى برج، واتجاهه في الفضاء. وهي سريالية ذات نكهة ملحمية، يديرها سيف الرحبي في قصائد الديوان، إنها جوهر صنيعه على ما أرى.
والصورة الشجية والقاسية الكاسرة أيضًا، المنقضة في النص، التي ينتقل بها من مكان لآخر، أشبه ما تكون بالضربات والخطوط القاسية لهذا الفنان… الباشق، مثلًا الذي يرسمه الرحبي، في مقطع من قصيدته الأولى، هو هنا منقض على السلاحف والأسماك في القيعان البحرية الملتمة، وفي الكهوف والخلجان، وهو أيضًا في جانب منه، يحتوي الفريسة، ويلتهم بها الفضاء كعريس «وعلى خطمه دم المسافة» والباشق، سيد الجوارح، الشريد المفرد، تراه في النص، يسافر بين جزائر زرقاء ونيران غجر مندلعة في أفق (هو كما يقول مسودة أفق) خرافي وعصبي بصواعقه وأمطاره المحتقنة… فالمشهدية الملحمية للأمكنة وعناصر الطبيعة تحقن النص بروح هائجة، وهي تتجه معه كيفما اتجه، مع العواصف القادمة من بحار الهند باتجاه بحر عُمان المتاخم لقلاع الفرس وأناشيد الرعاة المنحدرين إلى الأفلاج.
مثل هذا الوصف الملحمي نجده في أماكن أخرى، على غرار ما نسميه نشيد الباشق. فالشاعر المسيج بالوحشية والغربة، نراه يفتتح كلامه بما يشبه مديح الهاوية، الهاوية السعيدة، حيث يتم التحديق فيها لاكتشاف ماضٍ سحيق مثل ليالٍ متجولة على وجه الظلمة «حيث تقشعر أفئدة القساة في ليل بربري المزاج»، «وعلى زوايا الهاوية يتعلق أناس قلقون متأهبون دائمًا لركل الأودية بحوافز أفراسهم، أو ليذوبوا في غبش المغيب».
وأخيرًا هذه القصيدة
نكتفي بهذا القدر من الوقوف على هذا العمل الفذّ، لشاعر جوّاب آفاق، كما جاء في كلمة على الغلاف الأخير للمجلدات الثلاثة، كلمة بعنوان: «سيف الرحبي: تراجيديا الكون والكائنات»، جاء فيها «يبدو الشاعر سيف الرحبي، في «أعماله الناجزة» هذه، كما نعرفه في حياته، جوّاب آفاق. لكن الآفاق هنا ليست جغرافيا وحسب، وليست مدنًا وقطارات ومقاهيَ فقط، إنها آفاق الإنسان بكل ما تعنيه العبارة. وهنا آفاق وإنسان، الآفاق المفتوحة على الغيب، والإنسان المشتبك في التجارب، في الحياة والموت جوهريًّا، ثم في الحب كما في العذاب، في الترحال والتشرد كما في الإقامة المُضجرة.
الإنسان في قصيدة سيف الرحبي هو الإنسان الكونيّ، لا تحيط به الهويّات، ولا تحدّده ملامح وسِمات محددة ثابتة، هويّته الوحيدة أنه «إنسان» لا غير؛ لذا يذهب بنا الرحبي في عوالمه، ما بين الوقائع اليومية، والرسائل الأسطورية، وما بينهما من النكهة الشعرية الإنسانية، والطبيعية، وكل ما من شأنه أن يجعل الحياة أقلَّ وَحشةً، بل أشدَّ جَمالًا، فكل ما يعنيه هو هذا الجَمال النابع من روح الإنسان.
شيء أساسيٌّ يطبع تجربة الرّحبي، كما تتبدّى في هذه «الأعمال»، هو السياقات الخارجة على المألوف التي تقتحم عوالمنا، فهو يأخذنا إلى أقاصي الكون، وأقاصي الأشياء، يهجو الخراب بقسوة، يعزف وينحت ويلوّن ويحكي، بالهذيان والتأمل، راقصًا كفراشة، ومغنيًا مثل غزال شاردٍ في برية. يتفقّد رعاياه من المُهمّشين والأيتام، فترتفع أبراج مملكة شعرية هي أمُّ الممالك.
سيف الرحبي، هنا، هو حارس إنسانيتنا، المثقف والشاعر العُضوي الملتحم بإنسانيته أولًا، وبالشعر والإبداع في كل حين. أعماله هذه سوف يُخلّدُها التاريخ. هي ملحمته الخالدة، وكما «جحيم دانتي»، و«رسالة الغفران» وشاعرها المعرّي، وقصائد المتنبّي، ومحمود درويش، وغيرهم الكثير، ستبقى أعمال سيف درّة من دُرر الإبداع في مسيرة الإنسانية!».
ونختم قراءتنا/ مراجعتنا بهذه القصيدة من الديوان الذي يحمل العنوان نفسه أيضًا:
يَدٌ في آخرِ العالَم
يدٌ وحيدةٌ تلوِّحُ في البعيدِ/ وحيدةٌ من غيرِ مسافرين/ ولا أرصفةٍ أو قطاراتٍ/ يدٌ وحيدةٌ جاثمةٌ بوحْشَتِها/ تلوِّح في ليلِ الأجداثِ/ وحيدةٌ في غيمِها الجريحِ/ يدُ الشاعرِ أو القرصانِ/ أو بائعِ اليانصيب/ ووحيدةٌ تحتفي بقدومِ الغَرقى/ من محيطِ الهند/ أو البحرِ العربي/ محمولين على مِحفَّةِ طائرٍ/ يدٌ نحيلةٌ في غَسَقِها الاستوائي/ تحلمُ باجتيازِ المضيقِ/ بالنَّهدِ/ والفاكهةِ وملامسةِ الرعدِ/ يدُ الغرباءِ الذين قدِموا من بلادٍ مجهولةٍ/ وطفِقوا يسرُدونَ الحكاياتِ/ يدُ اليأسِ والندمِ/ والمحبةِ/ تلوِّحُ في البعيدِ/ نحو جزرٍ مستحيلةٍ/ ومدائنَ، لم يبقَ من أرومتِها/ غيرُ طعمِ الغيابِ/ تمنحُنِي مساءاتِها الثقيلةَ ووجوهَها/ وتمنحُني قهوةَ الصباحِ./ يدُ الهذيانِ الذي تجرفني وديانُه/ كلَّ ليلةٍ على أبوابِ الرُّبعِ الخالي.