تعليم أمي كيف تضع مولودًا
ما قالته لكِ أمك بعد أن غادر أبوك
لم أتوسل إليه ليبقى
لأني كنت أضرع إلى الله
ألا يغادر.
*
يحييك شابٌّ في المصعد.
يبتسم كأن قطعًا نقديةً تختبئ في خديه.
تُطرق ناظرًا إلى حذائه حين يقول
غرف هذا الفندق خانقة الحرارة.
أقسم إني البارحةَ على السرير ظننتُ
أن جسمي يحترق.
*
عندما رأينا أباكِ آخرَ مرة
كان يجلس في مواقف المستشفى
في سيارة مُعارة، يعد نوافذ
المبنى، مُخمّنًا أيَّ واحدة يا ترى
كانت تضيء بخطيئته.
*
تحاول السباحة في معية الله
أستغفر الله
تقول أمي: هذه المدينة تقتل كل نسائنا ببطء؛
وهي تتمرن على سباحة الظهر في مسبح الحي.
أفكر في خديجة، كيف خذلها جسمها
في الطريق المنحدر من مجمع سكني.
يخبرنا المدرب بأن أطول مدة
استغرقها إنسانٌ في حبْسِ أنفاسِه تحت الماء
امتدت 19 دقيقة و21 ثانية. في البيت في الحمام،
أظل غاطسةً قدرَ ما أحتمل،
يتمدد شعري على السطح مثل كرمة، أفكر في كل الأشياء
التي سمحتُ لها بأن تنسل من بين أصابعي.
إنا لله وإنا إليه راجعون
تقول أمي: لا أحد يستطيع أن يمنعه،
أن يمنع الجسد العائد إلى ربه،
لكن الطريقة التي وقعَتْ بها، الوجه أولًا،
ممرغًا في الوحل،
فم محشو بالتراب،
بالهواء، بالأسنان، بالدم،
ترتدي «باتيًا(١)» أبيضَ من القطن،
شعر متروك على سجيته ومُبخرٌ باللبان،
أتساءل: أَكانت خديجة قد رأت
أنها سوف تطفو؟
*
أحاديث عن الوطن
(في مركز الترحيل)
حسنًا، أظن الوطن قد بصقني، تعتيم المدن وحظر التجوال يشبهان لسانًا يعبث بسِنٍّ على وشك السقوط. رباه، هل تعرف ضَنَى أن تتحدثَ عن اليوم الذي جرتك فيه مدينتُك من الشعر، عابرةً السجنَ القديم، مرورًا ببوابات المدرسة، مرورًا بالجذوع البشرية المحترقة منصوبةً على السواري كالأعلام؟ حين ألقى آخرين مثلي، أعرفهم من الاشتياق، من لوعة الفقد، من ذاكرة الرماد على وجوههم. لا أحد يترك الوطن ما لم يكن الوطن فمَ قرش. لقد بتّ أحمل النشيدَ الوطني القديم في فمي زمنًا طويلًا حتى لم يعد ثمة متسعٌ لأغنيةٍ أخرى، ولا للسانٍ آخر أو لغةٍ جديدة. أعرف عارًا يجلل المرء ويبتلعه بالكامل. لقد مزقت جواز سفري وأكلته في فندق مطارٍ ما. أنا مثقلةٌ بلغة لا أطيق نسيانها.
*
بَهار قديم
في ظهيرة كل أحد يلبس زيه العسكري القديم،
ويسرد عليكِ أسماء قتلاه.
مفاصلُ أصابعه قبورٌ بلا شواهد.
زوريه في يوم ثلاثاء وسيصف لكِ
جسدَ كل امرأةٍ لم يستطع إنقاذها.
سيقول: إنها تشبه أمك،
وستشعرين بعاصفةٍ تدوم في بطنك.
جدك من جيلٍ آخر-
شهادات من روسيا وباحة مدرسة تردد النشيد الكوبي،
شيوعية وإيمان. الآن وحدها الموسيقا قادرةٌ على جعله يبكي.
تزوج حبَّه الأول، شعرها يتموج
على طول ظهرها. يضمها أحيانًا إليه،
تلتف هذه الضفائر على يده
مثل حبل.
يعيش الآن وحده. واهن القوى، ذكرى حية
ترتمي على كرسي، وتطوف حوله الغرفة.
تزورينه وليس لديكِ ما تقولينه على الإطلاق.
كان رجلًا عندما كان في سنك.
تنكفئين على ذاتك كلما نادى باسمك.
أبو أمك،
الشهيدُ الوشيك،
بإمكانه أن يعبئ بندقية تحت الماء
في أقل من أربع ثوانٍ.
حتى ليلةُ عرسه كانت ساحةَ معركة.
وجهه صورةٌ متروكة في الشمس،
حناءُ لحيته، فضةُ حاجبيه
ذبول منديله، الطاقية والعصا.
جدك يحتضر.
يتوسل إليك أنْ خذيني إلى الوطن حالًا،
أريد فقط أن ألقيَ عليه نظرةً أخيرة؛
ولا تدرين كيف تخبرينه بأن الوطن لم يعد يشبه في أي شيء
الحالَ الذي تركه عليه.
*
وجه ابنتك أعمال شغب صغيرة،
يداها حرب أهلية،
مخيم لاجئين خلف كل أذن
وجسمٌ ملطخ بالقبائح.
لكن يا إلهي،
أليست ترتدي العالم
بشكلٍ أنيق؟
*
في الحب والحرب
لابنتي سوف أقول:
«حين يأتي الرجال أضرمي في نفسكِ النار».
*
شاي في حضرة جداتنا
صبيحةَ ماتت حبوبتُك
خطرَت على البال جدتي، المرأة
التي سُميتُ عليها، ورسَن بركة،
بشرة داكنة مثل لب تمر هندي،
ماتت وهي تطحن حب الهال
منتظرةً أن يعود أبناؤها
ويزيلوا وحشةَ المكان؛
أو أم أمي، نورة
ذات الضحكة العسل، من كانت تكسر لحاء القرفة
بين راحتيها، ساهرةً على جلطة
زوجها، على سرطانِ أختها، وعلى ظهرِها المهدود
بسواحيليةٍ مكسرة وإيطاليةٍ مستعصية؛
ودوريس، أم
وردتِك الإنجليزية
سميتْ على ابنة أوقيانوس وَتِثيس
الدم الويلزي فيك، من أرض
غاليون، جدتك التي
تحلم بالقشدة الرائبة صحبة شايها
حين تأخذها موجة السكري؛
ثم حبوبتك آل-سورا،
ليحفظها الله، بثلاثة خطوط على
كل خد، أرشيف نجاة،
المرأة التي كانت تبرد لك الشاي
تصبه كما تُوزَن الأعمال
بين كوبٍ وآخر، حتى يتصاعد البخار
مثلَ شبح.
ورسَن شِري:
شاعرة وُلدت في كينيا لأبوين صوماليين هاجرا بها في عامها الأول سنة 1988م إلى بريطانيا حيث ترعرعت وقضت شطرًا من شبابها. تقيم الآن في لوس أنجليس. هذا العجين الأسمر الغريب حاضر بكامل اشتغالات الحنين وأسئلة الانتماء والتفتح الأولي على هوية الجسد في منشورها المكتوب باللغة الإنجليزية: «تعليم أمي كيف تضع مولودًا». إضمامة شعرية chapbook صدرت عام 2011م لشاعرةٍ تستحق بامتياز أن تُقرأَ مترجَمةً إلى العربية.
هامش:
(١) الباتي: زي تقليدي فضفاض وزاهٍ بالرسوم والألوان ترتديه المرأة الصومالية في المناسبات.