التئام
منذ اليوم الأول أَمْلَتْ عليَّ العجوزُ أندريا شروطَ السكن معها، كانت شروطًا صارمة قاسية لكنني اعتدت عليها مع مرور الأيام، فلا أخرج من الغرفة دون إطفاء الإضاءة، وأن أغسل صحني وملعقتي بعد الأكل مباشرة ولا أستقبل أحدًا من رفاقي في البيت، بعد عشرة أيام أَثْنَتِ العجوز أندريا على سلوكي واحترامي لنظام البيت.
أندريا عجوز متذمّرة دومًا، تُمضي جُلّ أوقاتها في مشاهدة التليفزيون، قالت لي ذات مساء: إنها تكره الكلاب، قالت ذلك دون أن أسألها، ثم أردفت لا شيء يُبهج في الحياة غير مشاهدة التليفزيون، عجبتُ من أنها لا تملّ من مشاهدة الأفلام والمسلسلات، حتى إنها كانت تُصمت التليفزيون في حال نقل حفلة موسيقية، وحين كنتُ أحدّثها عن الناس في بلادي كانت تقوم وتغلق جهاز التليفزيون مستدرّة إياي في حديثي عن الحياة والناس في بلدان بعيدة منها، ثم بدأت تنتظر عودتي من المعهد الذي أدرس فيه كي أحدّثها كيف قضيت ساعات الدراسة، وكلما شعرتُ بحاجتها إليَّ ازدادت شفقتي عليها، ولأن الأحداث التي تمرّ بي خلال اليوم الدراسي لا جديد فيها فقد كنتُ أختلق أحداثًا مدهشة من خيالي، وكانت العجوز أندريا تُدهش وترتعش وأحيانًا تُصفّق بإعجاب من حسن تصرفاتي (الخيالية) بعد نحو شهرين كانت علاقتي بالعجوز أندريا فاقت علاقة طالب يسكن مع عائلة إنجليزية ويدرس في معهد للغة الإنجليزية لتصير علاقة أمّ بابنها تمامًا.
حدّثت نفسي: بعد نحو شهر سأنتهي من دراستي في المعهد وأغادر بيت العجوز أندريا، فماذا سيحلّ بها بعد ذهابي؟ أشغلني السؤال، حتى إنني كنتُ أردده على نفسي كل صباح بعد أن أتلقى آخر جملة صباحية تقولها لي قبل أن أقفل الباب خارجًا ( take care of yourself).
بعد أيام لمعت في ذهني فكرة صممت على تنفيذها فورًا، فلا سبيل إلى ترك هذه العجوز الطيبة وحيدة مكتئبة، فصحبتني عدة مرات في الأسبوع للنزهة، كنت وإياها نمضي ساعات على طاولة خارجية لأحد المقاهي، وكنت أحدّثها عن الناس والحياة والطقس، وكنت أقبض دومًا على طفولة عذْبة في ملامحها حين تكون مستمتعة منتشية، وحين يمرّ بنا رجل كهل كنتُ أبتسم له وأدعوه للجلوس معنا، فكان أحدهم يبتسم ويهزّ رأسه ويمضي، وآخر كان يقف لدقائق يتحدّث عن تلك الرياح الجارفة التي تهبّ من المحيط وكيف أنه يسقط أحيانًا من شدّة اندفاعها، وعلى بُعد خطوات مرّ أمامنا رجل كهل طويل مشدود الظهر، أنيق الملبس، تقبض يده على صحيفة مطوية، ويلبس قبعة سوداء فارهة، لحظتُ أنه يسير ببطء ويتلفّت كثيرًا، استأذنت من العجوز أندريا وذهبت إليه، دعوته بأدبٍ جمّ أن يشاركنا متعة القهوة في هذا اليوم المُشمس، وافق على الفور، كنتُ مندهشًا من سرعة استجابته وفرحته بدعوتي، تنوعت أحاديث آلار، وهذا هو اسمه. قال: إن له ابنة وأحفادًا، وإنه ينتظر عودة ابنته كل مساء من عملها كي تُعدّ له طعام العشاء، بعد نحو ساعة ودّعنا متعلّلًا بموعد له مع ابنته!
بعد يومين خرجت والعجوز أندريا إلى ذات المقهى وذات الطاولة، أجلستها، وذهبت إلى داخل المقهى لأجلب لي ولها القهوة، كان الصف طويلًا، وبعد أن ناولني عامل المقهى كوبي القهوة، عدتُ إليها، وضعت كوبي القهوة على طاولتها، لم أجد كرسيًّا شاغرًا المقهى كان ممتلئًا تمامًا والكرسي الذي كان لي جلس عليه آلار الذي أتى خلال جلبي للقهوة، وقفت أمام الطاولة أنتظر مغادرة أحد الجالسين لآخذ كرسيه، بعد دقائق كان آلار يضع كوب قهوتي فارغًا على الطاولة ويمدّ يده نحو أندريا كانا يقهقهان وهما يغادران المقهى دون أن يفطنا لوقوفي.