«جنازة السيدة البيضاء» لعادل عصمت أوهام القدرة والنصر

«جنازة السيدة البيضاء» لعادل عصمت

أوهام القدرة والنصر

أصدر الكاتب المصري عادل عصمت روايته التاسعة، ٢٠٢١م، بعنوان «جنازة السيدة البيضاء». هي ليست امرأة أجنبية تنتمي للجنس الأوربي، بل ابنة الفلاحين، اسمها «نعمة الأبيض» ابنة قرية «نخطاي»، تزوجت بعد تخرجها في كلية العلوم بثلاث سنوات، في عام ١٩٨٧م، من العقيد «عثمان الفقي» الذي أحيل إلى التقاعد ويمتلك مزرعة في غرب الدلتا بها بيت ريفي، لكنه يعيش في «المركز» وهي القرية التي تتبعها «نخطاي» وتجاورها.

عادل عصمت

يعيش الفقي مع نعمة زوجته وأبنائه الثلاثة «منار» الكبرى، و«مروان» الأوسط، و«سمية» الصغرى. أنهت منار دراسة الطب، وانتقلت للعمل بالقاهرة، وأنهت سمية دراستها في كلية التربية، وتزوجت من زميل لها وتقيم بالقرية، أما مروان، فإنه قبل أن ينهي دراسته كان قد بلغ الخلاف بينه وبين أبيه حد القطيعة، فقرر ترك وطنه كله والذهاب إلى ألمانيا، وهناك هو يستكمل دراسة الطب. تعالج الرواية يومًا ونصف يوم من حياة نعمة الأبيض، هذه الساعات الست والثلاثون، هي الزمن الذي يسبق وفاتها ودفنها في مقبرة أسرتها.

اعتاد الروائي عادل عصمت (مواليد ١٩٥٩م) أن يكتب عن الفلاحين، فهو فلاح نشأ في قرية «أبشواي المَلَق»، وانتقل إلى مدينة طنطا مبكرًا حيث تعلم ويقيم حتى اليوم. وقد نال جوائز أدبية مرموقة عن أعماله الروائية. في روايته الجديدة «جنازة السيدة البيضاء» اختار الكاتب فضاءً روائيًّا هو الوسط المعتاد لديه، قرية في الدلتا، فقرية «نخطاي» تابعة لمركز «فُوّة» التابع لمحافظة كفر الشيخ في شمال الدلتا، وقد أعطانا السرد معالم القرية ومعالم من مدينة طنطا، ومعالم من حي الزمالك في القاهرة، وأخيرًا معالم من الصحراء الغربية، هي منطقة زراعية، استصلحت بها أراضٍ واسعة، وكانت أيضًا مسرحًا وفضاءً روائيًّا تتحرك فيه شخصيات روايته السابقة «الوصايا».

في رواية «جنازة السيدة البيضاء» صراع محتدم بين نعمة، المرأة التي تعمل معلمة علوم في المدرسة الإعدادية، وزوجها الضابط السابق والمُزارع الحالي، الصراع انعكس على حياة الأولاد الذين انحازوا لأمهم، وكانت نعمة حريصة على نجاح أبنائها بديلًا عن إخفاقها في زواجها، فقد سبق لها وتركت المنزل مرتين؛ المرة الأولى حين حاول زوجها الاستيلاء على حُليّها، واستطاع أبوها «الأستاذ عبدالمعز الأبيض» ناظر المدرسة، المعتد بثقافته وأصوله، الانتصار لابنته ومنع زوجها من هزيمتها في هذا الخلاف الأول، لكنّ خلافًا أشد نشأ بين الزوجة الشابة الجميلة وزوجها، حينما طلب منها ارتداء النقاب فرفضت، ورأت أن الطلاق هو الحل، كانت وقتها أمًّا لهؤلاء الأبناء الثلاثة، وكان أبوها قد رحل عن الدنيا، وحضر جلسة الصلح أخوها «أنس الأبيض» مدرس الرياضيات المسالم كثيرًا، والمستسلم أحيانًا، وقد استجاب عثمان الفقي لزوجته، فوافق ألا ترتدي النقاب، لكنه حاول منعها من الاستمرار في العمل فأبت أيضًا، لكنها الآن لا ترى في الانتصار الظاهري في معركتها الثانية نصرًا، بل هزيمة لأنها عادت لعش الزوجية البغيض مرة أخرى.

مونولوج داخلي

يعتمد الكاتب أسلوبًا في السرد يبدو في الظاهر منتميًا إلى تيار الوعي، لكننا بالتدقيق فيه سنجده أقرب إلى المونولوج الداخلي وقد ساعده هذا الأسلوب على وضع الخطاب السردي في القالب المناسب، حيث اختار الكاتب أن تكون الأحداث في يوم ونصف يوم هي المدة التي مرضت فيها نعمة الأبيض مرضًا مفاجئًا، ولم يحضر وفاتها سوى ابنتها الصغرى سمية والطبيب المعالج.

كانت نعمة تدير الخلاف مع زوجها بأساليب عدة؛ كانت تذهب إلى المدرسة، فتعمل وتتحدث مع زميلاتها، وبخاصة صديقتها هويدا، كانت تستمع لنصائح أمها بألا تترك بيت زوجها، وكانت تشكو لأخيها أنس الذي لم يكن في قوة شخصية أبيه، فيقول لها ضاحكًا: «ألم ترفضي كل الخُطّاب وتختاري الغَضَنْفر» في إشارة إلى رفضها خطابًا كثيرين أهمهم صديقه «حمدي بدران» وقبولها بالعقيد عثمان الفقي صاحب الشارب الكث والقامة الفارعة، الذي كان وقتها متخرجًا حديثًا في الكلية الحربية. لكن أهم أسلوب أدارت به نعمة الأبيض خلافاتها مع زوجها، كانت طريقة تربيتها للأولاد، هي كانت ترى في حياة أولادها ومستقبلهم، بديلًا عن حياتها الضائعة ومستقبلها الذي لم يعد فيه أمل.

يخبرنا السرد من خلال التذكر، وتقلب مشاعر «نعمة الأبيض» و«عثمان الفقي» والعاشق الدائم لنعمة «حمدي بدران» وأخيرًا الدكتورة «منار» كيف سيّرت الأقدارُ حياة هذه الشخصيات الأربع، وهي الشخصيات الرئيسة، التي كان أسلوب «المونولوج الداخلي» الوسيلة التي استعان بها الكاتب لكي يجعل السرد ينتقل بين صوت السارد، «كلي المعرفة»، وصوت داخلي، صادر من اللاوعي، ومن الذاكرة لكل شخصية من هذه الشخصيات.

الشخصيات الثانوية في الرواية أغنت السرد ووازنت النزعة الواقعية السائدة فيها، هناك شخصية «نسمة» بنت حمدي بدران، وشخصية «فرج» العامل في مزرعة العقيد، وشخصية «نجلاء» زوجة فرج، وأخيرًا شخصية الدكتور «حسين عبدالله» زميل الدكتورة منار، وهناك شخصية حاضرة غائبة هي شخصية الصحفي في جريدة الأهرام «سامي عفيفي» هو ابن خالة حمدي بدران، الطبيب البيطري الذي أحب نعمة حبًّا ملك عليه حياته، ولم يُشْفَ منه قط.

الواقع بأسلوب شعري

نعمة هي «نوارة عائلة الأبيض»، كان لها جسد فتيّ لافت بجماله وصحته، لكنها مرضت الآن وتهاوت صحتها فجأة، فاستسلمت للموت، وحينما داهمها المرض، أكدت في وصيتها «أن تدفن في مقبرة عائلة الأبيض في نخطاي». عاشت نعمة متزوجة لمدة ٢٧ عامًا، وماتت وهي في الثانية والخمسين، ماتت كمدًا وغادرت الحياة في حسرة؛ لأن مروان ابنها الذي أمّلت فيه خيرًا ترك البلد كله وذهب إلى ألمانيا بعيدًا من أبيه، الذي كان يتطلع لسلكه في أسلوب الحياة التقليدي البيروقراطي، كان يتحكم حتى في تسريحة شعره، وضربه على وجهه حتى لا يشارك في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير.

لقد عالج السرد في هذه الرواية موضوعًا تقليديًّا، بأسلوب غير تقليدي، يذكرنا بالأسلوب الشعري لإدوار الخراط (١٩٢٦- ٢٠١٥م)، إنها حياة أسرة ريفية، تعيش في النصف الثاني من القرن العشرين، ويأتي عليها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ليكون عقد الانكشاف، عقد تفكك الأوهام وتلاشيها، القوة الغاشمة للعقيد عثمان الفقي تنهزم، إنه وريث الفقر والغشم، الذي يضعه السرد تحت رحمة الحتمية البيئية والحتمية الوراثية.

الأوهام جعلت المنتصر مهزومًا، لكنها أيضًا لم تجعل من المهزوم منتصرًا؛ لأن الحياة فيها من القسوة والكَبَد، بقدر ما فيها من الأمل. رواية «جنازة السيدة البيضاء» ليست رواية مشوّقة فحسب، بل هي قطعة أدبية تحمل دلالات عميقة.