«أنثروبولوجيا الحواس.. العالم بمذاقات حسية» لدافيد لوبروطون

«أنثروبولوجيا الحواس.. العالم بمذاقات حسية» لدافيد لوبروطون

انطلق دافيد لوبروطون في مشروعه الأنثروبولوجي حول الجسد مع كتابه «أنثروبولوجيا الجسد والحداثة» في 1990م، منذ ذلك الوقت وهو يسعى إلى بلورة أنثروبولوجيا واضحة للحواس، يبني من خلالها نظرية للمعنى تراعي الاختلاف والتعددية الثقافية؛ إذ ليست الحواس وحدها التي تفهم أسرار العالم، وإنما ما يضفيه عليها الفرد من خلال حساسيته وتربيته وثقافته؛ فالإنسان «ليس فقط عينًا وأذنًا ويدًا وفمًا وأنفًا، وإنما هو نظر وسمع ولمس وتذوق وشم، أي أنه نشاط للمعنى». ويضيف لوبروطون في تقديمه للترجمة العربية لكتابه «أنثروبولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسية»، (ترجمة: فريد الزاهي، الطبعة الأولى 2020م، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب): «إن هذا الكتاب عبارة عن خرائطية أنثروبولوجية للعلاقات التي تقيمها البشرية مع الإدراكات الحسية، وهو يسائل الشرط الإنساني في تنوعه وتخومه». فلا يوجد الإنسان خارج الإحساس بالعالم، والانصياع للانغماس فيه، وبينهما استمرارية حسية دائمة الحضور؛ لأن العالم الذي نعيش فيه يوجد من خلال الجسد الذي يسير نحو لقائه.

دافيد لوبروطون

ليست هناك الحساسية نفسها نحو الغابة من طرف الأشخاص المختلفين، لأنه ليست هناك حقيقة واحدة للغابة، وإنما ثمة إدراكات مختلفة لها تبعًا لزاوية المقاربة والانتظارات والانتماء الاجتماعي والثقافي. عمل الأنثروبولوجيا هو استكشاف هذه الترسبات المختلفة؛ لأن كل مجتمع يرسم لنفسه «تجربة حسية خاصة»، هي بمنزلة توجه ثقافي لا يلغي الحساسية الفردية. وأنثروبولوجيا الحواس هي إحدى السبل المتعددة للأنثروبولوجيا، تطرح علاقات الناس من مختلف المجتمعات الإنسانية مع مسألة النظر والإحساس واللمس والسمع والذوق؛ لأن الإنسان منغمس في محيط يتشكل مما يدركه عبر حواسه، غير أن هذه الحواس ليست نوافذ على العالم ومرايا محايدة بل هي مصفاة تحفظ ما تعلّم المرء أن يضعه فيها.

والأشياء دائمًا مسكونة بنظرة ما؛ لأن «تشكيلة الحواس وحدودها أمر ينتمي إلى الخطاطة الرمزية الاجتماعية». وإحساس المرء بالعالم هو إدراكه في قلب تجربة ثقافية معينة؛ فمثلًا استعمال مفهوم الرؤية للعالم بوفرة يترجم هيمنة البصر في المجتمعات الغربية، بينما تتحدث مجتمعات أخرى عن تذوق العالم ولمسه وسمعه وشمه؛ فالناس يسكنون عوالم حسية مختلفة. يفكك الأنثروبولوجي بداهة حواسه وينفتح على ثقافات حسية أخرى، والتجربة الأنثروبولوجية هي «دعوة إلى ارتياد آفاق الحواس والمعنى؛ ذلك أن الإحساس لا يتم أبدًا من غير تدخل الدلالات».

إدراكات رهينة رمزيات مكتسبة

نظرًا للظروف الطبيعية التي تحد من إمكانية الإبصار لدى الإسكيمو في المحيط الفريد للشمال الكبير، لا يتحدثون عن الفضاء بمفهومه البصري، بل يولون أهمية أكبر للسمع والشم؛ لأن العالم لديهم خُلق من صوت، فتنصاع جغرافيتهم للتغيرات الجذرية التي تأتي بها الفصول وطول الليل والنهار والثلج والجليد؛ التي تحد من فاعلية الرؤية، وتمد في فاعلية السمع؛ ذلك لأن العالم لا يمنح نفسه إلا في شكل محسوس، وكل شيء في الروح يكون قد مر أولًا بالحواس حسب ميرلوبونتي؛ لأن الجسد مثل اللسان، منبع مستمر للدلالات، غير أن الإدراكات الحسية تظل رهينة بالرمزيات المكتسبة. وللغة في بلورة الإدراكات دور حاسم، على الرغم من صعوبة ترجمة الإدراكات الحسية إلى كلمات.

نسجل الهيمنة الغربية للبصر، وعلى الرغم من أن التقليد اليهودي والمسيحي قد منح سموًّا للسمع فهو لم يحط من قيمة البصر، وقد جعل أفلاطون من البصر الحاسة الشريفة بامتياز، وظل هذا الأمر سائدًا لقرون طويلة في المجتمعات الغربية، وتكرس هذا الوضع مع اختراع المطبعة حيث حرم السمع من امتيازاته لصالح البصر. وهو ما جعل الغربيون ينحون إلى تأويل خاطئ للثقافات الأخرى التي لا تضع البصر في أعلى لائحة الحواس، حيث غالبًا ما يلغون البعد الرمزي الذي يندرج لدى هذه الثقافات ضمن تجربة مشتركة. ما يهم الإشارة إليه هنا أن الحواس تتضافر في الإدراك، وهي موجودة دومًا في كليتها، حيث كل شيء يتمازج، «تصحح الحواس بعضها بعضًا، وتتناوب وتتمازج وتُحيل على الذاكرة وعلى تجربة تمسك بالإنسان في تمامه لمنح التماسك».

حاسة محبوسة في المظاهر

نركز على البصر في علاقتنا بالعالم، وهو ما يجعل العمى أسوأ العاهات، غير أن البصر هو حاسة السطح وحده، حاسة ساذجة لأنها محبوسة في المظاهر، على عكس الشم والسمع، غير أنه من اللازم، على الرغم من ذلك، تعلم الرؤية؛ لأنها تمكن من النظر، لأن كل بصر تأويل ومنهج وفكر، يظل متشبعًا بالقيم الأخلاقية والثقافية. وبينما يخترق الصوت الإنسان، كما يخترق الإنسان ممرات له في صخب العالم الهادر، ويظل السمع هو الحاسة الجامعة للرابطة الاجتماعية؛ لأنه موطن اللغة، والحاسة التي تبرز حين يغيب البصر، وهو ما يمنح كثافة العالم لحمَه ودمه. فبالصوت الجماعي يحس الإنسان بقوة الانتماء، في هتافات الجماهير وشعاراتها، يفصح عما وراء المظاهر، وينسج وجوده في سيلان الزمن؛ فحين تكون الرؤية مستحيلة يصير كل مسموع معلومات مهمة.

الضجيج شذوذ مرضي للصوت، يمارس الإكراه ويسبب الإزعاج؛ لأنه لا يقبع في مكانه، بل هو شكل ماكر من التلوث. غير أن له وجهًا آخر، فحين لا يحظى الآخر بالاعتبار يصبح لسانه ضجيجًا وأصواتًا مزعجة متداخلة.

إذا كانت الحواس الأخرى تتحدد مكانيًّا بشكل كبير، فإن حاسة اللمس تشمل الجسد بكامله، ونظرًا لأن كل إدراك يعود إلى تماس معين فإن اللمس هو الأول في تكوين شخصية الفرد، فهو ذاكرة لا واعية للطفولة، وهو الصيغة الملموسة للعالم، وهو الحاسة الأقدم والأكثر تجذرًا.

في المجتمعات الغربية الثقافة الشمية غير منتظمة، والشم مثير للانزعاج غالبًا، لكن بالمقابل يحظى الشم بأهمية خاصة في مجال التسويق. لا يمكن الإفلات من الرائحة لأنها غلاف دقيق لطيف، تُستدعى خلال الطقوس الدينية والدنيوية، تُعبئ جغرافية وتاريخًا ذاتييْنِ، وتتضمن تعلمًا دقيقًا لدلالات العالم، وتتحمّل انتزاع شذرات حياة من النسيان، باستثارة أشباح الزمن الماضي وعواطفه. وللرائحة كذلك أبعاد متعددة اجتماعيًّا وثقافيًّا، فهي تكشف طوية الذات وميسمها الأخلاقي. وعادة ما تمنح قيمة للرائحة في المجتمعات، فتحمل أحيانًا خطابًا عنصريًّا، وحكمًا مسبقًا، بتعزيز الحقد المنبثق عن «الرائحة الكريهة» في حق الآخر المختلف أو المعادي، وتحقيره باللجوء إلى المتخيل الشمي. كما أن للروائح وظائف أخرى، فهي تساهم في انتشار المرض، كما قد تساهم في القضاء عليه، كما قد تكون مؤشرًا على تمدن مجتمع أو بداوته.

وأخيرًا؛ فإن أنثروبولوجيا الحواس عالم غير متناه، وبهجة الاستكشاف فيها لا تنقضي، ولا تكاد تقبض عليها حتى تنفلت من جديد؛ «لكن ما ستكونه الحياة من غير مذاق النافل، هذا الذي يملك مع ذلك معنى ويُدخل الدهشة للعلاقة
بالغير وبالعالم».