اللائكية والدين.. جدل الإنسان والكون
كيفما قلّبتَ الكتاب وجدتَه واضحًا ممتعًا مفيدًا، سواء بدأتَ قراءته خطّيًّا من أوله إلى آخره، أو تخيّرت ما تبدأ به منه وتؤجل حسب ما يُثيره فيك فهرسُه المفصل المثير للفضول من خواطر وأفكار ورغبات في استكناه الإجابات التي ترجو أن تشفي الغليل في موضوع شائك فاتك بالأذهان والأفكار والمجتمع والسياسة والدين، حتى غدا موضوع جدل بامتياز حيثما ذُكر، ويُثار محفوفًا بإشكاليات عديدة.
تلك الإشكاليات نفسها التي تتلبّسك حين تصل يدك صدفة في رفوف مكتبة، أو عبر هدية صديق أو باقتراح منه، أو عبر إحدى الوسائط التواصلية إلى كتاب بحجم «لنتحدث عن اللائكية في ثلاثين سؤالًا» بعنوانه الفرنسي الأصلي «Parlons laicité en 30 questions» الصادر ضمن سلسلة «DOC’ EN POCHE ENTREZ DANS L’ACTU» للكاتبين المتميزين جون بوبرو صاحب كرسي «تاريخ وعلم اجتماع اللائكية» في معهد الدراسات العليا التطبيقية (EPHE) ومؤسس وأول رئيس لـ«نادي علم الاجتماع والدين واللائكية» وميشلين ميلو أستاذة علم الاجتماع في جامعة كيبيك بمونتريال. وهما من أكبر المختصين في قضايا العلمانية واللائكية وعلاقة الدين بالسياسة في فرنسا وفي العالم.
حين يقع الكتابُ ذو السبع والتسعين صفحة، تقريبًا، في يدك بعنوانه المثير، لا تستطيع أن تتمالك نفسك عن تصفحه ومباشرة قراءته بمجرد أن تقع عيناك على فهرسه الذي يستعرض الثلاثين سؤالًا واحدًا واحدًا بين فصل تمهيدي عُنوِن بـ«منوعات»، يستعرض فيه الكاتبان معارف أولية عامة حول الموضوع من حيث تاريخه وواقعه وطبيعته والقوانين المتصلة به والمفارقات التي قد تنشأ عن محاولات إجرائه وتنزيله في أُطر مختلفة والأرقام الممثلة لانتشار مظاهره وبعض المقارنات في مدى اعتماد هذا المفهوم من دولة إلى أخرى عبر العالم، وفصل ختامي مُعنون بـ«الكلمة لكم» لخّصا فيه أهم الإشكاليات المستجدة الخاصة بموضوع اللائكية من خلال الأسئلة التي يطرحها الناس كثيرًا حولها.
وبين هذا وذاك تناول الكاتبان بدقة متناهية وتبسيط غير مخلّ بجدية المفهوم وما يطرحه من إشكاليات قضية اللائكية، وبيّنا علاقتها بمختلف الحقول المعرفية والمجالات الحياتية والاجتماعية والدينية خاصة، بشكل عملي مقصود ومباشر بالاعتماد على أمثلة دقيقة وواضحة تُراوِح بين وقائع التاريخ ومجريات الراهن.
ينطلق الكاتبان من خلال فقرة توضح أهمية مصطلح اللائكية وخطورته واجتياحه كمفهوم وممارسة لأغلب مجالات الحياة اليومية، وذلك ما يجعل طرحه وإدارة النقاش حوله أكثر من ضروري لتبين ما يتصل بها وما يتلبس بها تلبسًا فيلتبس فهمها على الأذهان، ثم يمتد إلى النقاش وفي أحيان غير قليلة إلى الممارسة والوقاع.
وفي متابعة دقيقة لمسار تطور المفهوم ينطلقان من عنوان يختزل تاريخ اللائكية حين يضعان «من النقاش الفرنسي- الفرنسي إلى الحقيقة الدولية»؛ ذلك أن مصطلح اللائكية يمثل الاستثناء الفرنسي كما قال ريجيس دوبريه سنة 1989م «laïcité exception française» بما أنه بالنسبة للآباء المؤسسين لللائكية الفرنسية يبدو المفهوم أكثر أهمية وأوسع من المصطلح المستعمل للتعبير عنه أو عن تمظهراته.
فاللائكية يمكن أن توجد كممارسة فعلية وواقعية بشكل ظاهر في بعض البلدان التي لا يُستعمل المصطلح فيها ولا يُشار إليه في الخطاب السياسي أو الإعلامي أو اليومي، بينما يمكن أن تكون اللائكية أقل حضورًا وتأثيرًا في البلدان التي يُستعمل فيها المصطلح على نطاق واسع. وعلى هذا القدر من التنسيب والدقة وعدم الجنوح إلى إصدار الأحكام يسير الكتاب في عرض موضوعه عرضًا ميسرًا بسيطًا، يفهمه المثقف العادي ويغتني به الباحث المختص ويقدر على استيعابه القارئ غير المجيد للغة الفرنسية.
الممارسة والمفهوم
وفي هذا المدخل المتنوع الممتع يستعرض الكاتبان أهم الآباء المؤسسين لللائكية الفرنسية كفردينوند بويسون (1841-1932م) وهو أول من أجرى اللائكية في المدرسة العمومية بوصفه كان يشغل خطة مدير التعليم الابتدائي، وأرستيد بريوند (1862-1932م) والأول قد حصل على جائزة نوبل للسلام سنة 1927م والثاني حصل عليها سنة 1926م.
ثم يجد القارئ الكريم نفسه أمام عرض سريع لكنه ضافٍ لمرتكزات اللائكية التي يلج إليها من خلال تعريف أو تحديد مبسط مفاده أن «اللائكية شكل من أشكال تنظيم السلط السياسية والإدارية، التي تمتد جذورها عميقًا في تاريخ التسامح» ولضمان السلم الاجتماعي؛ على الدولة بمقتضى مرتكزات اللائكية أن تضمن من ناحية حرية الضمير والمعتقد والمساواة بين الأديان، وذلك من خلال مرتكزين مهمين هما: حياد الإدارة والسلطة، والفصل بين السلطة السياسية والإدارية والسلطة الدينية.
والحياد يقتضي عدم دعم أي دين أو تمتيعه بأي حظوة كما تعني أيضًا عدم ازدراء أي دين أو معتقد أو الإلحاد من ناحية ثانية. وتأكيدًا لأهمية اللائكية فإن 250 جامعيًّا من 30 دولة مختلفة كانوا قد أمضوا سنة 2005م «الإعلان العالمي حول اللائكية في القرن الحادي والعشرين» مؤكّدين أن: «اللائكية ليست سمة مميزة لأي ثقافة أو أمة أو قارة، بل إنها يمكن أن توجد في أماكن وظروف لم يقع تداول مصطلح اللائكية فيها…» وفق ما حَدَّد المجلسُ الدستوري الفرنسي مرتكزاتِها في قراره الصادر في 21 فبراير 2013م حيث أجملت هذه المرتكزات في:
احترام كل المعتقدات. المساواة بين المواطنين أمام القانون دون تمييز على أساس الدين. ضمان حرية أداء الشعائر والطقوس الدينية. حياد الدولة والسلطة والإدارة.
عدم وجود دين رسمي للدولة. عدم دفع أجور لرجال الدين.
ولضمان تنزيل هذه المرتكزات تتعدد الهياكل التي تسهر على تفعيلها مثل «مرصد اللائكية» الذي أحدث بأمر سنة 2007م لكنه لم يُفعّل إلا سنة 2013م وهو يؤكد في تقريره سنة 2014م أن مصطلح اللائكية قد أقحم في كل شيء ولكل شيء، وهو ما أحدث كثيرًا من الخلط لدى الناس.
ولمزيد التوضيح تابع الكاتبان مسار إرساء دول لائكية عبر تاريخ طويل في العالم ليعودا بنا إلى أصولها والفلسفة التي قامت عليها انطلاقًا من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) كأول من وضع الأسس للحكومة المحدودة المسؤوليات من خلال الفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، فيما وضع معاصره الفرنسي بيار بايل (1647-1706م) مفهومًا متقدمًا لحرية الضمير يشمل الملحدين أيضًا، ثمّ تابعا بشكل دقيق تاريخ تنزيل اللائكية في الواقع مشيرين إلى تبنّي العالم الجديد لها مثل كندا عبر قانون 1854م الذي يُعَلْمِنُ بعض الأمور الكَنَسيّة، وينزع الصفة الرسمية عن الكنيسة الإنجليكانية، بينما في أوربا وكما يوضح أرستيد بريوند سنة 1905م «ما زال الفصل بين الكنيسة والدولة ضعيفًا وغير منزل بشكل كامل في الواقع».
وهما في كل هذا يتابعان بدقة وينقلان ببراعة ووضوح وتبسيط تاريخ إرساء المفهوم وتاريخ إجرائه في الواقع انطلاقًا من الجدل الذي دار في فرنسا وأفرز قانون 1905م بعد صراع غير يسير بين «الفرنسيتين»: فرنسا التي ترى أنها سليلة الكنيسة ويجب أن تبقى على ذلك، وفرنسا التي تُبنى على العلمانية واللائكية ومدنية الدولة التي لا تحمل أية مرجعية دينية. وقد استدعى هذا النقاش نقاشًا آخر لا يقل عنه أهمية حول ضرورة جعل المدرسة العمومية لائكية من عدمه وما يطرحه هذا من إشكاليات ليست بالبسيطة. ولأن فرنسا هي المنطلق والأنموذج في هذا الكتاب فقد قدم الكاتبان في نهاية هذا التمهيد المنوع الثري جردًا لأهم التواريخ المتصلة بتنزيل اللائكية في المجتمع الفرنسي.
اللائكية والإسلام
لكن الطريف في الكتاب هو تلك الأسئلة الحارقة والإجابات الضافية عليها بشكل مختصر ومركّز وواضح وواقعي وعقلاني. ولئن كان المجال لا يسمح باستعراض الإجابات، فإنه ربما يسمح بإيراد نماذج من هذه الأسئلة على الأقل: – ما المبادئ الأساسية لقانون 1905م؟ – هل يتماشى الإسلام مع اللائكية الفرنسية؟ – هل الدول التي لها دين رسمي دول ثيوقراطية؟ – ماذا تعني عبارة «تعليم لائكي للظاهرة الدينية»؟ – هل من صلة بين القوانين الأخلاقية واللائكية؟
إضافة إلى ذلك فقد أورد الكاتبان نماذج من الأسئلة الأكثر تداولًا بين الناس حول اللائكية مثل: – هل يمكن أن تصبح اللائكية شكلًا جديدًا للتدين الذي يُعارض بقية الأديان والمعتقدات؟ – بمَ تتميز الجالية المسلمة في فرنسا؟ نتساءل: هل الإسلام يتماشى مع اللائكية؟ ولكن ألا يجدر بنا أن نتساءل أيضًا حول مدى تماشي بقية الأديان مع اللائكية؟
لعل من أطرف ما عولج في الكتاب بشكل برقي لكنه عميق وموجه نحو فهم الظاهرة بشكل أكثر واقعية، هو محاولة الإجابة عن سؤال جوهري يطرح نفسه اليوم في الغرب كما عندنا وهو: «هل يتوافق الإسلام مع اللائكية الفرنسية؟» وفي محاولة للإجابة ينطلق الكاتبان من مفارقة تتمثل في كون الـ«مناضلين اللائكيين» في القرنين التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانوا يَعُدُّون الكاثوليكية غير متوافقة مع اللائكية، بينما يبدو لهم الإسلام أكثر تسامحًا، فلا محاكم تفتيش ولا رهبنة ولا دغمائية؛ وبالتالي فهو أكثر تصالحًا مع اللائكية. غير أن التناول الإعلامي الموجه لكل ما يتصل بالجهاد والإرهاب يرفع من درجة الخوف من الإسلام، كما يزيد من مشاعر الكراهية والحقد على المسلمين وعلى كل ما يتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد. وهذا ما يدفع أحيانًا وباسم مبادئ اللائكية ومرتكزاتها إلى منع بعض الشعائر الدينية.
والكتاب بالأرقام والإحصائيات والأمثلة التي يقدمها يحاول أن يُنسِّب الأمور في النظر إلى الإسلام حين يحذر الكاتبان الناس بالقول: «يجب أن نحذر من النظرة العمياء المتصلبة، فهناك أكثر من صورة ومن وجود للإسلام اليوم» فـ 57% من الفرنسيين يرون أن الإسلام أكثر سلامًا من الأديان الأخرى، وأن الإرهاب ليس سوى مظهر منحرف من مظاهره.
وقد ذُيّلَ الكتاب بمسرد للمصادر والمراجع الورقية والإلكترونية الحديثة لزيادة الاطلاع لمن تلبّس به السؤال بعد قراءة الكتاب. ولا أحسب أن قارئه يسلَمُ من لوثة الأسئلة وازدحامها وإلحاحها، فيهرع نحو ما يظن أنه يشفي غليله من المراجع، فيقع في غليل جديد أشد ليقرأ المزيد.
وعمومًا فالكتاب يشدّ القارئ ويُغريه ويلقي به في متاهات الأسئلة، وهو يحسب أنه قد وجد ما يزيل حيرته، وتلك ميزة في الكتُبِ لأجلها يُقبل عليها الناسُ. وفي هذا الكتاب من ذلك الكثير.