مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

المركزية الصوتية بين الفلسفة والعلوم الإنسانية

المركزية الصوتية بين الفلسفة والعلوم الإنسانية

لم ينفك «جاك دريدا» يردد أن تاريخ الفكر مسكون بنزعة مركزية صوتية تراهن على أولوية الكلام والصوت، وحضور الكائن أو الذات، وتتوجس من كل تأخير أو إرجاء الآثار المباشرة للكلام، أو إحداث شرخ في قوته الحضورية(1). فما هي جذور وامتدادات «المركزية الصوتية» داخل الفلسفة وداخل العلم حسب «دريدا»؟

تمتد نزعة تمجيد الكلام من «أفلاطون» إلى «كلود ليفي ستراوس» مرورًا بـ«روسو» و«دي سوسير» وتتحدد بمعنيين: أولوية الكلام على الكتابة، ثم تنزيل «الفونولوجيا»، كعلم جديد يتأسس على فكرة قديمة هي «المركزية الصوتية» الممتدة داخل الفلسفة المثالية الغربية منذ «أفلاطون»، منزلة النموذج الإبستمولوجي للعلوم الإنسانية. ففي مقابل «المباشرة» في الكلام، تقوم الكتابة في فلسفة أفلاطون على التباعد والتأخير والتأجيل. مجسدة «خطر» القطيعة القادم من الخارج، مقارنة مع ما يميز الكلام من «جوانية» وتَماهٍ مع الذات المتكلمة. هكذا، تقدم محاورة «فيدون»(2) الكتابة على أنها خطر مهدد لوحدة الكلام ولطابعه الحضوري.

الكلام والحضور

لأن الكلام يتميز عن الكتابة بطابعه الحضوري، فإن إمكانية الدفاع والرد المباشر متاحة للمتكلم دون الكاتب، في حال تعرضه لأي هجوم أو تحوير، وبالتالي فإن الكلام المكتوب قابل لأن ينقلب على صاحبه ويستعمل ضده. ما يدل على تلازم بين المركزيتين الصوتية والخطابية تذكي نوعًا من الثقة في الكلام وطابعه الحضوري، مع الحذر من كل ما من شأنه تأخير وتأجيل الآثار المباشرة للكلام. والكتابة، بهذا المعنى، هي تأجيل، أي إضافة إلى الكلام كمعطى أول. فما معنى أن تكون الكتابة مجرد إضافة؟

«الإضافة» بين أفلاطون وروسو

على خطى الأفلاطونية، فإن فلسفة الأنوار، كانت تحط من قيمة الكتابة. «روسو»، مثلًا، يفكر في الكتابة من حيث هي «إضافة خطيرة» دخيلة على الكلام الذي هو الفعل الطبيعي. وفي رأي «دريدا»، فإن فعل إقصاء الكتابة يشتغل عبر بنية «الإضافة» من الخارج إلى ما هو «أصلي». فالإضافة غياب يحيل على ما هو خارجي. لكن المفارقة هي أن تأكيد الإضافة بهذا المعنى يعني نفيها في آن؛ ذلك لأن المضاف من خارج إلى الحضور الكامل، يظل بدون قيمة أصلية. فالكلام، في هذا السياق إضافة لكائن موجود وجودًا حدسيًّا جوهريًّا وهو يتكلم، أما الكتابة فهي إضافة للكلام الحي الحاضر في ذاته، شأنها شأن الحليب الصناعي بالنسبة لحليب الأم(3). لكن المفارقة هي أن حاجة «الأصل» إلى «الإضافة» لتكمله، يعني أنه وهم. وكذلك الإضافة. فهي تلغي نفسها بنفسها ما دامت محض زيادة خارجية. يعكس مفهوم الإضافة إذن خرافة محو الأثر.

كلود ليفي ستراوس

يمكن القول، في ضوء الزوج المفهومي أصل/إضافة: إن الكتابة، بمعناها الضيق، هي الموضوع الذي يتلبسه المحو أو النفي في الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون إلى روسو ثم هيغل. تمثل الكتابة في هذا الإرث الفلسفي «الأثر»، بالمعنى العام، وهو ما يعني أنها ليست أثرًا في ذاتها، وما دام الأثر نفسه عرضة للمحو فهو غير موجود؛ لأن الوجود يخص الموجود الحاضر والماثل. لذلك فإن أولوية الكلام على الكتابة تحضر في كتاب «روسو» «حول أصل اللغات» في صورة لوحة من المتقابلات بين أزواج مفهومية مثل: الصوت/الكتابة، الحضور/الغياب والحرية/العبودية. ومن مظاهر تمجيده للكلام/الصوت قوله: «كل لغة لا يمكن إسماعها داخل المجالس الشعبية هي لغة خاضعة. من المستحيل أن يظل شعب ما حرًّا ولغته في مثل هذه الوضعية، وعلاقته بلغته على هذا النحو».(4) فاللغات، في المقام الأول، وجدت لتُتَكَلمَ، والكتابة لا تصلح إلا إضافة أو شيئًا زائدًا على الكلام الذي يشخص الفكر على نحو مباشر، بواسطة علامات اتفاقية، أي بالطريقة نفسها التي تشخص بها الكتابة الكلام، لكن بشكل غير مباشر. فالكلام هو تشخيص أول لأنه يشخص الفكر، أما الكتابة فهي تشخيص ثانٍ لأنها تشخص الكلام. وهكذا، فإن فن الكتابة ما هو إلا تشخيص غير مباشر للفكر(5).

هكذا ينتهي الفكر الأنواري في شخص «روسو» وآخرين إلى عدّ الكتابة «شرًّا سياسيًّا». تنقلنا هذه الفكرة حول الكتابة والسياسة مباشرة إلى أطروحات «ستراوس» حول الثقافة. فعندما يثمن «ستراوس» الثقافة الشفوية السائدة في المجتمعات البدائية، فإنه يضع قدميه على أرضية «روسوية» بملامح أيديولوجية كلاسيكية تتصور الكتابة «كحتمية حزينة» تقوم على أنقاض «البراءة الطبيعية» وتضع نقطة النهاية للعصر الذهبي للكلام الحاضر والكامل(6). وإذا كان «روسو» و«ستراوس» يتقاسمان نظرة حزينة، عاطفيًّا، إلى الطبيعة وقد فعلت فيها الثقافة فعلها، فإن «دي سوسير» له رأي آخر.

دي سوسير وأفضلية الكلام

يشير «دي سوسير» في كتابه «دروس في اللسانيات العامة» إلى ما يعدّه استبدادًا تمارسه الكتابة على الكلام، وهو ما يؤدي إلى تحوير هذا الأخير وتشويهه. يتجلى ذلك، في نظره، في فرض بعض الأشكال المَرَضِية من النطق، كما هو الحال في اللغة الفرنسية بالنسبة لكتابة الاسم العائلي (lefèbvre) من الأصل اللاتيني (faber) حيث راوَحَتْ كتابته بين شكل أول عامي بسيط هو (Lefèvre) وشكل آخر إتيمولوجي «عالِم» (Lefèbvre)، حيث يُكتب حرف «b» دون أن ينطق. ونتيجة للخلط بين حرفي «u» و «v» في الكتابة القديمة، فإن (Lefèbvre) كانت تُقرأ (Lefèbure) أي بحرف «b» الذي لا وجود له أصلًا في نطق الكلمة(7).

يورد «دي سوسير» هذه الحالات غير الطبيعية؛ ليؤكد أهميةَ انصراف اللسانيات إلى الاهتمام بدراسة الظواهر الصوتية لتتراجع الكتابة إلى المراتب الخلفية مع وضعها موضع ملاحظة بالمعنى الإكلينيكي، ما دام دورها يقتصر على تشخيص وتجسيد الكلام الذي يشكل الأصل والطبيعة والحقيقة الأولى. فعلى الخط «الروسوي» نفسه الذي ينظر إلى الكتابة بوصفها قطيعة ذات مصدر خارجي مفارق للكلام، يؤكد «دي سوسير» أن للغة تقليدًا شفويًّا مستقلًّا عن الكتابة، بل يذهب أبعد من ذلك ليعلن، بمنطق تفكير أفلاطون، أن اللغة الشفوية والكتابة تشكلان نظامين متمايزين. إن مبرر الوجود الوحيد بالنسبة للكتابة هو تشخيص اللسان وهو بالطبع شفوي في أصله. لكن، إذا كان إشكال التقليد الشفوي والكتابة يمتد في الفكر الغربي من أفلاطون إلى دريدا، فماذا عن هذا الإشكال نفسه في البيئة الثقافية الإسلامية؟ سنحاول تقفي أثر الإشكال عند الجاحظ في كتابيه «البخلاء» و«كتاب الحيوان».

الجاحظ ضد أفلاطون

يستعمل «الجاحظ» في مؤلفيه المذكورين طريقة الحوار والمناظرة بين طرفين متضادين: «البخلاء والأسخياء»، في الكتاب الأول، و«أنصار الكلب» و«أنصار الديك» في الكتاب الثاني. فما هو موضوع التناظر والحوار؟ هذا ما يبحث فيه الكاتب المغربي «عبدالفتاح كيليطو»(8). واضح أن بخلاء الجاحظ لا يحبون الشعر، بدليل أنهم نادرًا ما يحيلون عليه في سجالهم، خلافًا لخصومهم الأسخياء. والسبب الظاهر هو قيام الشعر على التفاخر والتباهي المؤديين، بشكل جنوني إلى حد الإفلاس. الشعر عند العرب لا تصل فيه الأمور إلى هذا الحد طبعًا، لكن التفاخر والتباهي حاضران فيه بصورتين؛ الأولى: هي صورة الشاعر الذي تأخذه الحماسة والفخر والمباهاة، فلا يتردد في تبذير ماله في الجود وفي متع الحياة (الخمرة مثلًا)، على الرغم من معارضة واستهجان أهله وذويه وفي مقدمتهم قرينته، وهو ما تدل عليه «أبيات شعرية تبدأ بكلمة «ذريني» كما في البيت التالي:

«ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى

ولا يهلك المعروف من هو فاعل»

جان جاك روسو

والثانية هي صورة الممدوح عندما يجزل العطاء للشاعر. فلأن الشعر يحضر فيه التبذير بهذا المعنى، فهو «باب من أبواب الباطل» كما قال «الأصمعي»(9)؛ لذلك لم يكن بخلاء الجاحظ شعراء، وهو ما يعني أن المجال الذي يتوافق مع ميولهم هو الكتابة النثرية.

الموضوع نفسه يثيره الجاحظ، بطريقة المناظرة أيضًا، في «كتاب الحيوان» وبشكل آخر. إن كان البخلاء يتحفظون من الشعر في كتاب «البخلاء»، فإن أنصار الكلب يناصرون الفلسفة، ويتحفظون من الشعر في «كتاب الحيوان»، ويتجلى ذلك في تصديهم وردهم على مناصري الشعر (الديك). ولأن الشعر مرتبط بقراءته وإسماعه، فإن الانتصار للفلسفة، في «كتاب الحيوان»، هو انتصار للكتابة ضد الكلام الشفوي. فالكتابة (النثر) قابلة للترجمة بينما الشعر مستعصٍ عليها؛ ذلك لأن الشعر هو في المقام الأول ظاهرة صوتية (كلامية)، أما الفلسفة فهي بنت الكتابة كما يقول «ميشيل سير». فهي لم تظهر إلا بعد تجاوز مرحلة التقليد الشفوي. هكذا يرتد الحوار والترافع بين الطرفين إلى الترافع حول التقليد الشفوي والكتابة، وهو من طبيعة الترافع الذي أداره الفيلسوف أفلاطون في محاورة «فيدون» على لسان سقراط حول الكلام والكتابة. وعلى خلاف البخلاء الذين لا يكنون أي حب للشعر، فإن المدافعين عن الفلسفة لا يعادون الشعر لكنهم يبرزون حدوده. فترجمته متعذرة، بل، إن ترجم فإنه يفقد القيمة التي يكتسبها في لغته الأصلية.

قد يكون هدف الجاحظ هو إبراز الموقفين في تعارضهما، وليس اتخاذ موقف الحَكَم بين أنصار الشعر وأنصار الكتابة. لكن، ما دلالة رده على مخاطب مفترض من مناصري التقليد الشفوي، يؤاخذه على تأليفه كتبًا ورسائل بدلًا من نظم الشعر؟ هل يعني هذا الرد أن الجاحظ يفكر مع الكتابة ضد الشعر؟ لا يقدم «عبد الفتاح كيليطو» جوابًا عن هذا السؤال، لكنه ينبهنا إلى أن الجاحظ يبدأ «كتاب الحيوان» بمدح الكِتاب وتمجيد الكتابة.

وإذا كان الجاحظ ينتصر للكتابة في عصره وزمانه، فإن الأنثروبولوجي «ستراوس» يسير في خط مضادّ يناصر الكلام واللغات والثقافات الشفوية، وهو الخط الذي بدأه أفلاطون وسار عليه «روسو» أيضًا.

ستراوس إلى جانب روسو

بوقوفه إلى جانب الشعوب البدائية التي لم تعرف الكتابة، يبرهن «ستراوس» في «مدارات حزينة»(10) على أنه لم يَحِدْ عن الخط الروسوي نفسه في تصوره لمسألة الكتابة. وما يؤكد استغراقه في النزعة المركزية الصوتية، مثله مثل «دي سوسير»، انبهاره بعلم الفونولوجيا كما بلوره أستاذ الفونولوجيا الشهير «نيكولاي تروبتسكوي» (1890-1938م). فلقد اقتنع «ستراوس» أن هذا العلم الإنساني الجديد يقوم، في مجال العلوم الاجتماعية، «بالدور المجدد الذي قامت به الفيزياء النووية حيال مختلف فروع الرياضيات»(11). فبما أن اللسانيات هي العلم الأكثر علمية داخل حقل العلوم الإنسانية، فإنها المؤهلة لحمل علوم الإنسان على القطع مع النموذج العلمي الفيزيائي الخارجي القديم.

جاك دريدا

وهكذا، فبإمكان عالم الاجتماع، مثلًا، أن يسير في اتجاه «استخدام منهج شبيه في شكله بالمنهج الذي أشاعته الفونولوجيا»(12)، وذلك من أجل «أن يحقق لعلمه تقدمًا شبيهًا بالتقدم الذي اتخذ مكانه مؤخرًا في العلوم اللغوية»(13). إن ما يسوغ استعارة المنهج الفونولوجي في ميدان الاجتماع والأنثروبولوجيا هو كون ظواهر القرابة هي من طراز الظواهر اللغوية ذاته، وكون «حدود القرابة شأنها شأن الوحدات الصوتية هي عناصر ذات دلالة».

يدل هذا كله على انبهار «ستراوس» بعلم الفونولوجيا ودعوته إلى دراسة ظواهر «القرابة» في مجال علم الأنثروبولوجيا كما لو كانت ظواهر صوتية لها خاصيات محددة قابلة للضبط تمامًا، كما تضبط الوحدات الصوتية من طرف عالِم الفونولوجيا. فعالِم الاجتماع والأنثروبولوجيا يجد نفسه في وضع شبيه بعالِم اللغة بشكل معكوس لكنه قابل للتعديل. فقبل «دي سوسير»، كانت وظيفة اللغة معروفة، وهي التواصل، أما بِنْيتُها فكانت مجهولةً. أما نظام القرابة فالعكس هو الذي كان: البنية معروفة في الدراسات الأنثروبولوجية، ممثلة في منظومة الحدود أو المفردات (أب، ابن، عم، إلخ)، لكن الوظيفة الممثلة في منظومة المواقف، فكانت مجهولة، إلى أن درسها «ستراوس» في ضوء مخرجات علم اللسانيات وعلم الفونولوجيا.(14)

كان لا بد إذن من انتظار «جاك دريدا» لكسر التيار، وإعادة ترتيب العلاقة بين الكتابة والكلام كواجهة من واجهات عمل نقد وتفكيك الأزواج المفهومية في المركزية الغربية، وربط الكتابة بمفهومي الاختلاف والأثر.

دريدا ضد المركزية الصوتية

يدعو «دريدا» إلى تأسيس مفهوم جديد للكتابة، بالتفكير في أبعادها ومستوياتها وفي مظاهرها المادية الخارجية. ففيما وراء عملية رسم الحروف والخطوط، تحيل الكتابة على مفاهيم «المؤسسة» و«النظام» و«القانون»، كما تقوم على العلاقة التحكمية بما هي خاصية شارطة لإمكان قيام كل لغة؛ ذلك لأن الكتابة، إن كانت تحيل على أفعال الشق والحفر وترتبط بها، فإنها تدل بذلك على لحظة الأثر التأسيسية من حيث هي خاصية ثابتة ومشتركة في كل الأنساق ذات الدلالة(15). وبما هي كذلك، فإنها تختزل الشفوي والكتابي أو المكتوب على حد سواء. غير أن مفهوم «الأثر التأسيسي» أو المؤسِّس، يرمي إلى إيصال رسالة محددة، أخذًا في الحسبان، الفرق القائم بين أثر عفوي تلقائي خالٍ من أي قصدية ذات دلالة محددة، وأثر مقنن ذي دلالة محددة. يعني هذا أن مفهوم «كتابة» يتضمن معنيين: معنى ضيق (الكتابة الأبجدية)، أي رسم الخطوط والحروف، والكتابة أو المكتوب «كأثر/ حدث تأسيسي أو مؤسِّس». ومن أجل التمييز بين المعنيين يسمي «دريدا» الكتابة بهذا المعنى الثاني «الكتابة القصوى» أو «الكتابة الشاملة». لكن، إذا كانت الكتابة بالمعنى الشامل تتضمن الكلام والكتابة معًا، فلماذا مفهوم «الكتابة الشاملة» وليس «الكلام الشامل»؟

إن الخاصية المادية المباشرة والقابلة للملاحظة التي يتميز بها فعل الكتابة في صوره وأشكاله ودرجاته الأولية مثل الشق والحفر والنحت والإبراز، إلى جانب عنصري اللون والشكل، هي ما يدفع ويحمل على نحت مفهوم «الكتابة الشاملة». أما بلورة مفهوم «الكلام الشامل» هو عمل متروك للعالم الفونولوجي أو الصواتي، فهو وحده القادر والمؤهل، نتيجة تمرسه بمختلف أشكال تخيل ونقل وتسجيل الكلام، لنحت مثل هذا المفهوم، إن كان يرى فيه قوة تفسيرية إجرائية. وفضلًا عن طابعها المادي المشخص والمباشر، وأيضًا خلافًا لحالة التماهي الكائنة بين المتكلم وكلامه فإن الكتابة، أكثر قابلية من الصوت/الكلام لتسجيل وتجسيد المسافة بين المنتِج والمنتوج. فالمتكلم لا يتمثل كلامه كشيء خارجي خلافًا للكاتب الذي ليس له هذا الارتباط نفسه بمكتوبه، فهو يقرؤه من الخارج من موقع أي قارئ غيره تقريبًا. لعل التلازم القائم إذن بين صفتي «المادية» و«التخارج» الظاهر في حالة الكتابة أكثر مما هو ظاهر في الكلام، هو ما يعطي للكتابة القيمة الموضوعية الكامنة وراء بلورة مفهوم «الكتابة الشاملة» حسب «دريدا»، زيادة على علاقتها بمفهومي الأثر والاختلاف.

الكتابة بين الأثر والاختلاف

يمنح «دريدا» مفهومَ الأثرِ القوةَ الإبستمولوجيةَ التفسيريةَ التي كانت لمفهوم الأصل في الميتافيزيقا الغربية بحكم إحالته على معاني الخلق والخلود والحضور التي لم تسلم من عمل التفكيك «الدريدي». ومن اللافت أن تخلي إشكالية أصل اللغات مكانها في الفلسفة التفكيكية؛ للاهتمام أكثر بمسألة الأثر الذي لا يدلّ فقط على مادية الكتابة بمعناها الشامل، وإنما يؤسس الكتابة كاختلاف في آنٍ. والاختلاف الذي يؤسس الكتابة، بما هي أثر، ينهض على فعل الإرجاء بمعنيين: معنى التأخير، ومعنى الوجود المختلف في الزمان والمكان(16). وهو ما تتولد عنه صور متعددة للاختلاف. من هنا الثراء الذي تفتح عليه المفاهيم الثلاثة: الكتابة، الأثر والاختلاف.


الهوامش:

(1) انظر: Jaques Derrida, “De La grammatologie”, Editions de Minuit, 1967.

(2) تناول «دريدا» هذه المحاورة في مقال له بعنوان «صيدلية أفلاطون» نشر بمجلة «تيل كيل» Tel quel، عدد 32ـ 33، 1968. وضمنه فيما بعد في كتابه «التشتت» La «Dissémination, éditions du Seuil, 1971.

(3) “De La grammatologie”, p. 238.

(4) نفسه، ص: 239.

(5) Collectif, “La lecture des textes et l’enseignement du français”, Hachette, Paris, 1974. pp.12-13.

(6) دريدا، ص: 239.

(7) De Saussure(F), “cours de linguistique générale”, 1916, p. 53.

(8) تجربة الجاحظ، على الرابط التالي: https://youtu.be/1FVsnOWGFjM

(9) كيليطو، نفسه.

(10) Lévi-Strauss (C), “Tristes tropiques”, Paris, Plon, 1955.

(11) كلود ليفي ستراوس «الأنثروبولوجيا البنيوية»، ترجمة مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق1977م، ص52.

(12) المرجع نفسه، ص: 53.

(13) نفسه.

(14) نفسه، ص: 58 وما بعدها.

(15) “De La Grammatologie”, p. 68.

(16) “La lecture des textes et l’enseignement du français”, op.cit., p. 15.

التراث والهوية بين شحرور والخطيبي

التراث والهوية بين شحرور والخطيبي

انشغل المفكرون العرب على اختلاف مجالات تخصصهم ومرجعياتهم الفكرية والفلسفية، منذ بزوغ ملامح العصر الحديث، بموضوع التراث، رابطين إياه بموضوع الهوية القومية والدينية، ولعل من أبرز هؤلاء المفكرين، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، محمد عابد الجابري، وطيب تيزيني، وعبدالكبير الخطيبي، ومحمد شحرور. هؤلاء المفكرون الذين توزعوا على جناحي الأمة العربية الشرقي والغربي، عبروا عن أفكار وتصورات مختلفة، تتداخل أحيانًا، وتتعارض أو تتقاطع أحيانا أخرى. وتحاول هذه المقالة التركيز على مسألة التراث والهوية وما تثيره من إشكالات الأصالة والمعاصرة والتحديث كما يتصورها المفكران السوري محمد شحرور والمغربي عبدالكبير الخطيبي.

التراث والكتاب

تنبني أفكار شحرور وأطروحاته على تمييز دقيق وواضح بين مفهومي التراث والكتاب (الوحي)، فالكتاب المتضمن للرسالة والنبوة عنده ليس تراثًا لأنه موحى نصًّا ومحتوًى، أما التراث فهو يحيل على فهم بشري نسبي لنص هذا الكتاب تراكم عبر العصور والمراحل التاريخية. ولا نجد مثل هذا التمييز الواضح بين مفهومي التراث والكتاب إلا عند المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي. ومن دون الخوض في التفاصيل يمكن أن نلاحظ بسهولة أن بعض القراءات الحديثة والمعاصرة للتراث العربي الإسلامي لا توسم فقط بعدم تمييزها بين مفهومي التراث والكتاب، بل يميزها أيضًا كونها ترنو مباشرة إلى ما يمكن أن يوجد في التراث من عناصر قابلة للاستثمار السياسي في الحياة المعاصرة. والممكن استثماره من التراث، بنظرها، ليس هو كل التراث بل ما يتبقى منه، وما يتبقى منه هو وظيفته الأيديولوجية.

محمد عابد الجابري

إن محمد عابد الجابري صاحب كتاب «نحن والتراث» على سبيل المثال يؤكد منذ البداية «إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من «كائنات تراثية» إلى كائنات لها تراث(١)». يبحث الجابري ومعه تيزيني ومروة أيضًا في التراث عما يمكن استثماره في الحاضر لكسب معركة سياسية أي مضمونه الأيديولوجي، أما مادته المعرفية فإنها «تضايقنا وتشوش تواصلنا الأيديولوجي والفلسفي»(٢) معه. ليست القطيعة المعرفية هي الهدف الأساسي لهذا الموقف من التراث. ولا غرابة في ذلك ما دام التراث بالنسبة له عبارة عن مفهوم مختلط يشمل الكتاب وما أنتج حوله وعلى هامشه من تأويلات وقراءات بشرية. بينما مفهوم التراث واضح ومحدد عند شحرور ولا يندرج ضمنه الكتاب بل ما أنتج حوله وعلى هامشه.

لا يستهدف هذا الموقف في مجمله إذن تفكيك المفاهيم التراثية من أجل إعادة بنائها معرفيًّا بقدر ما يتوخى استثمار ما كانت تمثله في الماضي من مواقف أيديولوجية لكسب معارك سياسية في الحاضر. فهو يتقصد الأيديولوجيا وليس المعرفة بالدرجة الأولى. يبدو هذا التوجه واضحًا من قول الجابري: «ولذلك تجدنا نتجاوب الآن نحن أبناء القرن العشرين مع بعض التطلعات الأيديولوجية للفلاسفة الذين عاشوا قبلنا، ولا نتجاوب مع المعرفة التي استعملوها في فلسفاتهم»(٣). هذا الإدراك الإيجابي نفسه لعلاقة المفكر المعاصر بالتراث هو السائد عمومًا عند طيب تيزيني وحسين مروة؛ إذ لا يقرأ التراث من أجل إعادة بناء مفاهيم جديدة أو من أجل التفكيك المعرفي، بل من أجل استعادة بعض ما يعدُّه الجابري «وظائف أيديولوجية» ماضية من أجل استثمارها في الحاضر أو بعض ما يعدُّه حسين مروة وطيب تيزيني «نزعات مادية» و«جوانب مضيئة» أو «مشرقة» في تراثنا.

وهذا ما لاحظه الدكتور علي أومليل عندما أكد أن «اهتمام العرب بتراثهم المكتوب ليس من قبيل العلم لذاته… فهو يرفض أن يكون الهدف من قراءة التراث استثماره فيما يعنينا من قضايا واستنطاقه للإجابة عن أسئلة اليوم؛ إذ إن في ذلك خلطًا بين «نظم الفكر ومنطق الثقافات» أو «قفزًا فوق العصور» بالتعبير الهيغلي(٤). في مقابل هذا الموقف الأداتي توجد معالم قراءة مختلفة تنظر إلى المفاهيم بوصفها «وقائع تاريخية تأخذ بنيتها بالنسبة لتفكير خاص وأحداث معينة في الزمن والمكان… ولكن أيضًا بواسطة مجموع تحولي بين التاريخ والعلم والأيديولوجيا(٥)»، وهي تروم تفكيك المفاهيم التراثية الأساسية لإرغامها على قول تاريخها الخاص في أفق إعادة بنائها من جديد. لعل هذا ما يأخذه على العاتق كل من شحرور والخطيبي، كل ضمن دائرة اهتمامه واشتغاله.

حول الأصالة والمعاصرة

تفتح القراءة الشحرورية آفاقًا كونية أمام الفكر الإسلامي في مجال السياسة والاجتماع البشري، بالتعبير الخلدوني، من خلال تركيزها على المشترك البشري ممثلًا في ثلاثية: القيم والشرائع (القوانين) والشعائر. فلا وجود لقيم خاصة بمجموعة بشرية محددة أو بمِلّة معينة لأنها خضعت للتراكم، ليس عبر تعاقب «ديانات الكتاب» فحسب، بل عبر تعاقب النبوات والرسالات من نوح إلى محمد. أما الشرائع أو القوانين فقد خضعت للتطور نحو الأحسن عبر المسار نفسه في حين تميزت الشعائر وطقوس العبادة بالاختلاف والتعدد. يؤدي إدراك هذا الثلاثي الذي هو أساس المشترك البشري (القيم والشرائع والشعائر) على هذا النحو إلى فهم جديد لمعاني الهوية والأصالة والمعاصرة في ارتباطهما بمفهوم التراث في الأذهان والأعيان، وما يرتبه ذلك مواقف وسلوكيات لدى الأفراد والجماعات.

يقوم هذا الفهم الجديد، عند شحرور كما عند الخطيبي، على تجاوز علاقة التضاد بين الملل والثقافات والهويات والأعراق، التي ترتدّ في أصلها إلى تمثلات مستمدة من فهم تراثي عتيق ومتجاوز، نحو أفق القطيعة من أجل تأسيس فهم جديد يقوم على الاحتواء والتجاوز، وعلى الانفتاح على الغيرية. فكيف تتقاطع تصورات وأفكار هذين المفكرين في هذا السياق حول التراث والهوية والأصالة والمعاصرة؟

يتقاطع مشروع شحرور في قراءته المعاصرة مع مشروع «النقد المزدوج»(٦)، للمفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي في شِقِّهِ المتعلق بنقد التراث الإسلامي. يؤكد الخطيبي أن التراث ينبغي تملكه، والهوية يلزم اكتساحها وغزوها، والغير لا يصبح مجرد آخر مختلف وليس عدوًّا إلا إذا «أعيد فيه التأمل وأزيح عن مركزه وحول عن تحديداته المهيمنة»(٧).

إن التراث الذي يشكل ذاتيتنا أو نعتقد أنه لنا وحدنا ينبغي أن نتملكه ونبنيه بفكرنا، والهوية أي ما يشكل تميزنا عن الآخرين، أو نعتقد أنه يشكل ذلك التميز، يجب أن نخترقها أيضًا بفكرنا ولا نطمئن إلى ما يعطى لنا فيها من دون إخضاعه للتفكير. أما الغير فينبغي أن يصبح في هذا التفكير مجرد آخر مختلفًا اختلافًا مشروعًا عنا تمامًا، كما نختلف نحن من جهتنا عن الآخرين. لكن هذا كله لن يتحقق، حسب الخطيبي، إلا عندما نحول بالفكر هذا الآخر عن مركزه المزعوم ونزحزحه عن تحديداته المهيمنة.

يفكر الفيلسوف المغربي إذن ضد ما يسميه «هوية وحشية»(٨) و«اختلافًا متوحشًا» و«أصالة عمياء» ترسم حدودًا وفواصل مطلقة بين الأنا والآخر، وتقذف بالآخر في خارج مطلق. غير أن هذا لا يعني شرعنة المساس بالخصوصيات الثقافية واللغوية للمجتمعات البشرية، التي تضمنها العهود والمواثيق الدولية على قاعدة الحرية والحق في الاختلاف، بل يعني الحذر من إمكانية تحول التشبث بمفهوم الخصوصية إلى مجرد ذريعة من أجل رفض ومناهضة المكتسبات المتراكمة للبشرية، في مجالات المعرفة والقيم والحقوق والقوانين.

وحسب شحرور فإن كل ما تصدره برلمانات العالم المعاصر تشريعات تندرج في إطار ما أحل الله للناس ولا تخرج عنه. فعلى الرغم من أن بعضها يكون قد قنن بعض أنواع الزواج مثلًا فإن ذلك لا يعني أنها قد حللت أو حرمت ما هو حرام أو حلال دينيًّا(٩) كما قد يعتقد بعض.

سواء عند شحرور أو الخطيبي، فإن «آخر التراث لا يمكن أن يكون إلا التراث نفسه»(١٠). في المقام الأول، يريد الخطيبي أن يضع «بوضوح وبمنهجية مشكل مقومات كتابية تستعير من تراث ما المصادر الضرورية لتفكيك هذا التراث ذاته(١١)»، وإذا كان النقد المزدوج يتركز حول التراث الإسلامي والميتافيزيقا الغربية بنزعتها «الأنطو-ثيو-مركزية»، فإن شحرور بتصديه للتقليدانية التراثية السلفية في تلاوينها المختلفة يتقاطع مع إستراتيجة النقد المزدوج للخطيبي. من هنا تأكيده ضرورةَ إخضاع التراث عمومًا والفقهي منه على وجه الخصوص للنقد وتمييزه من الكتاب.

إن الكتاب الذي يتضمن الرسالة والنبوة هو وحي بالنص والمحتوى، أما التراث فليس إلا فهمًا نسبيًّا ومرحليًّا لهذا الوحي في عصر من العصور. إن التراث بهذا المعنى هو النتاج المادي والفكري الذي يصل إلى الخلف من السلف، فلفظ «تراث في معناه الحرفي هو ما يخلفه الميت لورثته»(١٢). وهو يعمل عمله في تكوين شخصية الخلف قلبًا وقالبًا أي من حيث التفكير والسلوك. وإذا كان التراث يعني نوعًا من العودة إلى الماضي فإن هذه العودة تدل على حركة للجسم والعقل أي لما يشكل، حسب الخطيبي، الجذور الطبيعية والتاريخية التي تحدد كيان الإنسان. غير أن التراث؛ إذ هو نتاج النشاط الإنساني الواعي عبر التاريخ، فإن زمنه هو الماضي، فنحن «نسينا أن الأموات ما زالت تنادينا منذ زمن طويل، نسينا أن كل أمة تتكون من وحدة الأموات والأحياء»(١٣). لكن أي أحياء وأي أموات؟ يجيب الخطيبي: «نحن أبناء هذا العصر نريد التأمل في مسألة جميع الأموات؛ ذلك لأن «أصل أي أمة يكون مقنعًا متجاوزًا تمامًا المميزات السلالية والعرقية»(١٤).

ولأن المعاصرة تعني التفاعل مع النتاج الفكري والمادي المعاصر، فإن التراث والمعاصرة متداخلان ومتفاعلان. لكن إذا كان لا خيار في الانتماء إلى التراث بالنسبة للأفراد والمجتمعات، فإن الخيار متاح في انتقاء المعاصرة سواء من التراث أو من منجزات العصر الحاضر، وباختيارنا نحن المعاصرين هنا والآن، إنما نصنع تراثًا للأجيال القادمة. لهذا فإن من صنعوا التراث الإسلامي هم من الناس ونحن من الناس أيضًا، «هم رجال ونحن رجال»، بتعبير أبي حنيفة النعمان(١٥).

للأصالة حسب شحرور اتجاه مزدوج نحو التراث ونحو المعاصرة معًا، أي نحو الجذور الضاربة في القدم، وهذا هو التراث، لكنها جذور حية دومًا ومثمرة، وهذه هي المعاصرة. فالجذور من جهة والأغصان المثمرة من جهة ثانية هما العنصران المتكاملان في مفهوم الأصالة. أن نكون أصيلين في المجال المعرفي معناه أن نستفيد من كل تراكمات المعرفة البشرية، بما في ذلك المنجزات التراثية في كل المجالات المعرفية.

غير أن واقع حال الحضارة الإسلامية اليوم واقع مفارق. فهو، إذ يكشف توافر عنصر الجذور، يتكشف معه في الوقت نفسه غياب الثمار. فقد «جفت ونضبت(١٦)»، وبتعبير الخطيبي فما زال بعض منا يعيش في وهم «أصالة عمياء» تمشي في ظلام الفكر و«الاختلاف المتوحش» الذي يرمي بالآخر في خارج مطلق. وهذه، حسب شحرور، سلفية وليست أصالة. «فالأصالة لها مفهوم إيجابي حي أما السلفية فهي عكس ذلك تمامًا». ففي حين تنغرس الأصالة في روح العصر، تدعو السلفية التقليدانية المتزمتة إلى اتباع خطى السلف خارج الزمان والمكان. فالسلفي المتزمت قد اغتال التاريخ، وأسقط العقل وهو يعيش في القرن العشرين مقلدًا القرن السابع(١٧).

التقليدانية التراثية تعوق التحرر

مثلما تقاطعت أطروحتا شحرور والخطيبي حول مفهوم التراث والأصالة، فإنهما تلتقيان أيضًا حول نقد الموقف التقليداني السلفي، الذي تتحول معه مسألة الوجود من مسألة متعددة الأبعاد إلى مسألة روحية عقدية بالدرجة الأولى، وإلى تراثية متشبثة بصورة جامدة بالماضي، والحال أن الماضي يتغير مع الحاضر والمستقبل. يعبر الموقف التقليداني، في نظر الخطيبي عن «أصالة عمياء» تؤدي إلى نكوص في الجسم والعقل، في الفرد وفي المجتمع(١٨). ولعل هذا ما يشير إليه شحرور أيضًا ويعنيه عندما رأى أن التقليدانيين السلفيين القدماء والمعاصرين يجعلون من نمط الحياة في القرن السابع نمطًا شموليًّا لكل البشر فوق الزمن والتاريخ.

فنحن مع هؤلاء «ننتقل من القرن السابع إلى القرن العشرين لنقدم إسلام القرن السابع في القرن العشرين. في هذه العملية اللاتاريخية يتم تشويه التاريخ والتطور والزمان والمكان، وينتج لدينا إسلام خيالي يعيش في فراغ وخارج التاريخ ودين لا علاقة له بالحياة، بل خارج الحياة»(١٩). فإذا كان الأنصار مثلًا قد استقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم في يثرب بالغناء الجماعي والضرب على الدفوف، فلأن هذا الذي كان متوافرًا عندهم. «من هنا يتبين حسب شحرور أن «الموقف الذي اتخذه الفقهاء من الفنون موقف تاريخي كان صالحًا لفترتهم وعصرهم، وقد تغيرت الفترة والعصر وهذا مسوغ لتغيير المفاهيم»(٢٠). لقد تحول موقفهم التاريخي إلى موقف فوق التاريخ.

والحال أن حياة البشر تقتضي الانخراط في روح العصر على الدوام. فكما انخرط مفكرو القرنين السابع والثامن في عصرهم وأجابوا عن أسئلته، كذلك يتوجب على مفكري كل العصور أن يفعلوا مثلهم أي أن يجيبوا عن أسئلة عصرهم.

ولعل هذا ما يحمل شحرور على القول: «فإذا سألني سائل الآن: ألا يسعك ما وسع الصحابة في فهم الكتاب والقرآن»؟ فجوابي بكل جرأة ويقين هو: كلا، لا يسعني ما وسعهم لأن أرضيتي العلمية تختلف عن أرضيتهم، ومناهج البحث العلمي عندي تختلف عنهم، وأعيش في عصر مختلف تمامًا عن عصرهم، والتحديات التي أواجهها تختلف عن تحدياتهم»(٢١). ولكي يتحقق ذلك، لا بد من تجاوز النزعة النكوصية، من أجل تجديد الماضي والحاضر لبناء المستقبل. كما أن روح العصر تقتضي أيضًا تحرر الجسم والفكر من النكوص النفسي، وتحرر الطبقات الفقيرة والمرأة من العبودية والمجتمع من هياكله العتيقة، كما يدعو إلى ذلك الخطيبي(٢٢).

وبعد، إذا كنا قد حاولنا أن نقارب بين آفاق قراءة المفكر المشرقي محمد شحرور وأفكار المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي، وبصفة خاصة حول مسائل التراث والهوية والمعاصرة، فإن ما يدعونا لذلك أمران: الأول هو اقتناع شحرور نفسه بضرورة عدم توقف التفكير والمراجعة والمطارحة لأفكاره وموضوعات مؤلفاته، ودعوته إلى مواصلة تمحيصها بل مجاوزتها إن اقتضى الأمر. والثاني هو أن وراء «المفكر فيه» لدى كل مفكر، يوجد «اللامفكر فيه». وكما يقول هايدغر «فاللامفكر فيه» لا يكون غنيًّا إلا عند كبار المفكرين»(٢٣).


الهوامش

(١)  محمد عابد الجابري «نحن والتراث» (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، المركز الثقافي العربي، 1993م، ص: 19.

(٢)   نفسه، ص: 48.

(٣)   نفسه، نفس الصفحة.

(٤)   عبدالسلام بنعبد العالي، «التراث في كتاب «الخطاب التاريخي»، مجلة «أقلام» المغربية، العدد: 55 ديسمبر 1981م، ص: 28.

(٥)   عبدالكبير الخطيبي، «النقد المزدوج»، دار العودة، بيروت، 1980م، ص: 157.

(٦)   انظر: «النقد المزدوج»، مذكور.

(٧)   عبدالسلام بنعبد العالي، الخطيبي والفلسفة، حول كتاب النقد المزدوج، مجلة «أقلام»، العدد: 53 سنة 1981م، ص: 147.

(٨)   النقد المزدوج، ص: 24

(٩)   محمد شحرور، المداخلة الأولى ضمن فعاليات كرسي معهد العالم العربي بباريس، مذكور (شريط صوت وصورة على اليوتيوب) حيث يؤكد أن المؤسسات التشريعية في كل العالم تمارس حق التقنين والمنع، لكنها لا تملك حق التحريم، أو جعل الحرام حلالًا. ولا يوجد برلمان في العالم خرج عن هذا؛ مما يؤكد مصداقية وكونية القيم الكونية في الإسلام.

(١٠) نفسه، والصفحة نفسها.

(١١) النقد المزدوج ص159

(١٢)  عبدالكبير الخطيبي، «المغرب كقضية فلسفية»، مجلة «أقلام» المغربية، العدد: 3، إبريل 1978م، ص: 3.

(١٣)  نفسه، نفس الصفحة.

(١٤) نفسه، نفس الصفحة.

(١٥)  الكتاب والقرآن، ص: 33.

(١٦) نفسه، الصفحة 34.

(١٧) نفسه، نفس الصفحة.

(١٨) عبدالكبير الخطيبي، «المغرب كقضية فلسفية»، مرجع سابق، ص: 9.

(١٩) الكتاب والقرآن ص566

(٢٠) نفسه، ص: 672.

(٢١) نفسه، ص: 567

(٢٢) الخطيبي: «المغرب كقضية فلسفية»، مرجع سابق، ص9.

(٢٣) أورده عبدالسلام بنعبد العالي في «حول مفهوم الأيديولوجيا» مجلة «أقلام»، (الرباط) العدد المزدوج، 5/6، ديسمبر 1980م، ص13.