
المركزية الصوتية بين الفلسفة والعلوم الإنسانية
لم ينفك «جاك دريدا» يردد أن تاريخ الفكر مسكون بنزعة مركزية صوتية تراهن على أولوية الكلام والصوت، وحضور الكائن أو الذات، وتتوجس من كل تأخير أو إرجاء الآثار المباشرة للكلام، أو إحداث شرخ في قوته الحضورية(1). فما هي جذور وامتدادات «المركزية الصوتية» داخل الفلسفة وداخل العلم حسب «دريدا»؟
تمتد نزعة تمجيد الكلام من «أفلاطون» إلى «كلود ليفي ستراوس» مرورًا بـ«روسو» و«دي سوسير» وتتحدد بمعنيين: أولوية الكلام على الكتابة، ثم تنزيل «الفونولوجيا»، كعلم جديد يتأسس على فكرة قديمة هي «المركزية الصوتية» الممتدة داخل الفلسفة المثالية الغربية منذ «أفلاطون»، منزلة النموذج الإبستمولوجي للعلوم الإنسانية. ففي مقابل «المباشرة» في الكلام، تقوم الكتابة في فلسفة أفلاطون على التباعد والتأخير والتأجيل. مجسدة «خطر» القطيعة القادم من الخارج، مقارنة مع ما يميز الكلام من «جوانية» وتَماهٍ مع الذات المتكلمة. هكذا، تقدم محاورة «فيدون»(2) الكتابة على أنها خطر مهدد لوحدة الكلام ولطابعه الحضوري.
الكلام والحضور
لأن الكلام يتميز عن الكتابة بطابعه الحضوري، فإن إمكانية الدفاع والرد المباشر متاحة للمتكلم دون الكاتب، في حال تعرضه لأي هجوم أو تحوير، وبالتالي فإن الكلام المكتوب قابل لأن ينقلب على صاحبه ويستعمل ضده. ما يدل على تلازم بين المركزيتين الصوتية والخطابية تذكي نوعًا من الثقة في الكلام وطابعه الحضوري، مع الحذر من كل ما من شأنه تأخير وتأجيل الآثار المباشرة للكلام. والكتابة، بهذا المعنى، هي تأجيل، أي إضافة إلى الكلام كمعطى أول. فما معنى أن تكون الكتابة مجرد إضافة؟
«الإضافة» بين أفلاطون وروسو
على خطى الأفلاطونية، فإن فلسفة الأنوار، كانت تحط من قيمة الكتابة. «روسو»، مثلًا، يفكر في الكتابة من حيث هي «إضافة خطيرة» دخيلة على الكلام الذي هو الفعل الطبيعي. وفي رأي «دريدا»، فإن فعل إقصاء الكتابة يشتغل عبر بنية «الإضافة» من الخارج إلى ما هو «أصلي». فالإضافة غياب يحيل على ما هو خارجي. لكن المفارقة هي أن تأكيد الإضافة بهذا المعنى يعني نفيها في آن؛ ذلك لأن المضاف من خارج إلى الحضور الكامل، يظل بدون قيمة أصلية. فالكلام، في هذا السياق إضافة لكائن موجود وجودًا حدسيًّا جوهريًّا وهو يتكلم، أما الكتابة فهي إضافة للكلام الحي الحاضر في ذاته، شأنها شأن الحليب الصناعي بالنسبة لحليب الأم(3). لكن المفارقة هي أن حاجة «الأصل» إلى «الإضافة» لتكمله، يعني أنه وهم. وكذلك الإضافة. فهي تلغي نفسها بنفسها ما دامت محض زيادة خارجية. يعكس مفهوم الإضافة إذن خرافة محو الأثر.

كلود ليفي ستراوس
يمكن القول، في ضوء الزوج المفهومي أصل/إضافة: إن الكتابة، بمعناها الضيق، هي الموضوع الذي يتلبسه المحو أو النفي في الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون إلى روسو ثم هيغل. تمثل الكتابة في هذا الإرث الفلسفي «الأثر»، بالمعنى العام، وهو ما يعني أنها ليست أثرًا في ذاتها، وما دام الأثر نفسه عرضة للمحو فهو غير موجود؛ لأن الوجود يخص الموجود الحاضر والماثل. لذلك فإن أولوية الكلام على الكتابة تحضر في كتاب «روسو» «حول أصل اللغات» في صورة لوحة من المتقابلات بين أزواج مفهومية مثل: الصوت/الكتابة، الحضور/الغياب والحرية/العبودية. ومن مظاهر تمجيده للكلام/الصوت قوله: «كل لغة لا يمكن إسماعها داخل المجالس الشعبية هي لغة خاضعة. من المستحيل أن يظل شعب ما حرًّا ولغته في مثل هذه الوضعية، وعلاقته بلغته على هذا النحو».(4) فاللغات، في المقام الأول، وجدت لتُتَكَلمَ، والكتابة لا تصلح إلا إضافة أو شيئًا زائدًا على الكلام الذي يشخص الفكر على نحو مباشر، بواسطة علامات اتفاقية، أي بالطريقة نفسها التي تشخص بها الكتابة الكلام، لكن بشكل غير مباشر. فالكلام هو تشخيص أول لأنه يشخص الفكر، أما الكتابة فهي تشخيص ثانٍ لأنها تشخص الكلام. وهكذا، فإن فن الكتابة ما هو إلا تشخيص غير مباشر للفكر(5).
هكذا ينتهي الفكر الأنواري في شخص «روسو» وآخرين إلى عدّ الكتابة «شرًّا سياسيًّا». تنقلنا هذه الفكرة حول الكتابة والسياسة مباشرة إلى أطروحات «ستراوس» حول الثقافة. فعندما يثمن «ستراوس» الثقافة الشفوية السائدة في المجتمعات البدائية، فإنه يضع قدميه على أرضية «روسوية» بملامح أيديولوجية كلاسيكية تتصور الكتابة «كحتمية حزينة» تقوم على أنقاض «البراءة الطبيعية» وتضع نقطة النهاية للعصر الذهبي للكلام الحاضر والكامل(6). وإذا كان «روسو» و«ستراوس» يتقاسمان نظرة حزينة، عاطفيًّا، إلى الطبيعة وقد فعلت فيها الثقافة فعلها، فإن «دي سوسير» له رأي آخر.
دي سوسير وأفضلية الكلام
يشير «دي سوسير» في كتابه «دروس في اللسانيات العامة» إلى ما يعدّه استبدادًا تمارسه الكتابة على الكلام، وهو ما يؤدي إلى تحوير هذا الأخير وتشويهه. يتجلى ذلك، في نظره، في فرض بعض الأشكال المَرَضِية من النطق، كما هو الحال في اللغة الفرنسية بالنسبة لكتابة الاسم العائلي (lefèbvre) من الأصل اللاتيني (faber) حيث راوَحَتْ كتابته بين شكل أول عامي بسيط هو (Lefèvre) وشكل آخر إتيمولوجي «عالِم» (Lefèbvre)، حيث يُكتب حرف «b» دون أن ينطق. ونتيجة للخلط بين حرفي «u» و «v» في الكتابة القديمة، فإن (Lefèbvre) كانت تُقرأ (Lefèbure) أي بحرف «b» الذي لا وجود له أصلًا في نطق الكلمة(7).
يورد «دي سوسير» هذه الحالات غير الطبيعية؛ ليؤكد أهميةَ انصراف اللسانيات إلى الاهتمام بدراسة الظواهر الصوتية لتتراجع الكتابة إلى المراتب الخلفية مع وضعها موضع ملاحظة بالمعنى الإكلينيكي، ما دام دورها يقتصر على تشخيص وتجسيد الكلام الذي يشكل الأصل والطبيعة والحقيقة الأولى. فعلى الخط «الروسوي» نفسه الذي ينظر إلى الكتابة بوصفها قطيعة ذات مصدر خارجي مفارق للكلام، يؤكد «دي سوسير» أن للغة تقليدًا شفويًّا مستقلًّا عن الكتابة، بل يذهب أبعد من ذلك ليعلن، بمنطق تفكير أفلاطون، أن اللغة الشفوية والكتابة تشكلان نظامين متمايزين. إن مبرر الوجود الوحيد بالنسبة للكتابة هو تشخيص اللسان وهو بالطبع شفوي في أصله. لكن، إذا كان إشكال التقليد الشفوي والكتابة يمتد في الفكر الغربي من أفلاطون إلى دريدا، فماذا عن هذا الإشكال نفسه في البيئة الثقافية الإسلامية؟ سنحاول تقفي أثر الإشكال عند الجاحظ في كتابيه «البخلاء» و«كتاب الحيوان».
الجاحظ ضد أفلاطون
يستعمل «الجاحظ» في مؤلفيه المذكورين طريقة الحوار والمناظرة بين طرفين متضادين: «البخلاء والأسخياء»، في الكتاب الأول، و«أنصار الكلب» و«أنصار الديك» في الكتاب الثاني. فما هو موضوع التناظر والحوار؟ هذا ما يبحث فيه الكاتب المغربي «عبدالفتاح كيليطو»(8). واضح أن بخلاء الجاحظ لا يحبون الشعر، بدليل أنهم نادرًا ما يحيلون عليه في سجالهم، خلافًا لخصومهم الأسخياء. والسبب الظاهر هو قيام الشعر على التفاخر والتباهي المؤديين، بشكل جنوني إلى حد الإفلاس. الشعر عند العرب لا تصل فيه الأمور إلى هذا الحد طبعًا، لكن التفاخر والتباهي حاضران فيه بصورتين؛ الأولى: هي صورة الشاعر الذي تأخذه الحماسة والفخر والمباهاة، فلا يتردد في تبذير ماله في الجود وفي متع الحياة (الخمرة مثلًا)، على الرغم من معارضة واستهجان أهله وذويه وفي مقدمتهم قرينته، وهو ما تدل عليه «أبيات شعرية تبدأ بكلمة «ذريني» كما في البيت التالي:
«ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى
ولا يهلك المعروف من هو فاعل»

جان جاك روسو
والثانية هي صورة الممدوح عندما يجزل العطاء للشاعر. فلأن الشعر يحضر فيه التبذير بهذا المعنى، فهو «باب من أبواب الباطل» كما قال «الأصمعي»(9)؛ لذلك لم يكن بخلاء الجاحظ شعراء، وهو ما يعني أن المجال الذي يتوافق مع ميولهم هو الكتابة النثرية.
الموضوع نفسه يثيره الجاحظ، بطريقة المناظرة أيضًا، في «كتاب الحيوان» وبشكل آخر. إن كان البخلاء يتحفظون من الشعر في كتاب «البخلاء»، فإن أنصار الكلب يناصرون الفلسفة، ويتحفظون من الشعر في «كتاب الحيوان»، ويتجلى ذلك في تصديهم وردهم على مناصري الشعر (الديك). ولأن الشعر مرتبط بقراءته وإسماعه، فإن الانتصار للفلسفة، في «كتاب الحيوان»، هو انتصار للكتابة ضد الكلام الشفوي. فالكتابة (النثر) قابلة للترجمة بينما الشعر مستعصٍ عليها؛ ذلك لأن الشعر هو في المقام الأول ظاهرة صوتية (كلامية)، أما الفلسفة فهي بنت الكتابة كما يقول «ميشيل سير». فهي لم تظهر إلا بعد تجاوز مرحلة التقليد الشفوي. هكذا يرتد الحوار والترافع بين الطرفين إلى الترافع حول التقليد الشفوي والكتابة، وهو من طبيعة الترافع الذي أداره الفيلسوف أفلاطون في محاورة «فيدون» على لسان سقراط حول الكلام والكتابة. وعلى خلاف البخلاء الذين لا يكنون أي حب للشعر، فإن المدافعين عن الفلسفة لا يعادون الشعر لكنهم يبرزون حدوده. فترجمته متعذرة، بل، إن ترجم فإنه يفقد القيمة التي يكتسبها في لغته الأصلية.
قد يكون هدف الجاحظ هو إبراز الموقفين في تعارضهما، وليس اتخاذ موقف الحَكَم بين أنصار الشعر وأنصار الكتابة. لكن، ما دلالة رده على مخاطب مفترض من مناصري التقليد الشفوي، يؤاخذه على تأليفه كتبًا ورسائل بدلًا من نظم الشعر؟ هل يعني هذا الرد أن الجاحظ يفكر مع الكتابة ضد الشعر؟ لا يقدم «عبد الفتاح كيليطو» جوابًا عن هذا السؤال، لكنه ينبهنا إلى أن الجاحظ يبدأ «كتاب الحيوان» بمدح الكِتاب وتمجيد الكتابة.
وإذا كان الجاحظ ينتصر للكتابة في عصره وزمانه، فإن الأنثروبولوجي «ستراوس» يسير في خط مضادّ يناصر الكلام واللغات والثقافات الشفوية، وهو الخط الذي بدأه أفلاطون وسار عليه «روسو» أيضًا.
ستراوس إلى جانب روسو
بوقوفه إلى جانب الشعوب البدائية التي لم تعرف الكتابة، يبرهن «ستراوس» في «مدارات حزينة»(10) على أنه لم يَحِدْ عن الخط الروسوي نفسه في تصوره لمسألة الكتابة. وما يؤكد استغراقه في النزعة المركزية الصوتية، مثله مثل «دي سوسير»، انبهاره بعلم الفونولوجيا كما بلوره أستاذ الفونولوجيا الشهير «نيكولاي تروبتسكوي» (1890-1938م). فلقد اقتنع «ستراوس» أن هذا العلم الإنساني الجديد يقوم، في مجال العلوم الاجتماعية، «بالدور المجدد الذي قامت به الفيزياء النووية حيال مختلف فروع الرياضيات»(11). فبما أن اللسانيات هي العلم الأكثر علمية داخل حقل العلوم الإنسانية، فإنها المؤهلة لحمل علوم الإنسان على القطع مع النموذج العلمي الفيزيائي الخارجي القديم.

جاك دريدا
وهكذا، فبإمكان عالم الاجتماع، مثلًا، أن يسير في اتجاه «استخدام منهج شبيه في شكله بالمنهج الذي أشاعته الفونولوجيا»(12)، وذلك من أجل «أن يحقق لعلمه تقدمًا شبيهًا بالتقدم الذي اتخذ مكانه مؤخرًا في العلوم اللغوية»(13). إن ما يسوغ استعارة المنهج الفونولوجي في ميدان الاجتماع والأنثروبولوجيا هو كون ظواهر القرابة هي من طراز الظواهر اللغوية ذاته، وكون «حدود القرابة شأنها شأن الوحدات الصوتية هي عناصر ذات دلالة».
يدل هذا كله على انبهار «ستراوس» بعلم الفونولوجيا ودعوته إلى دراسة ظواهر «القرابة» في مجال علم الأنثروبولوجيا كما لو كانت ظواهر صوتية لها خاصيات محددة قابلة للضبط تمامًا، كما تضبط الوحدات الصوتية من طرف عالِم الفونولوجيا. فعالِم الاجتماع والأنثروبولوجيا يجد نفسه في وضع شبيه بعالِم اللغة بشكل معكوس لكنه قابل للتعديل. فقبل «دي سوسير»، كانت وظيفة اللغة معروفة، وهي التواصل، أما بِنْيتُها فكانت مجهولةً. أما نظام القرابة فالعكس هو الذي كان: البنية معروفة في الدراسات الأنثروبولوجية، ممثلة في منظومة الحدود أو المفردات (أب، ابن، عم، إلخ)، لكن الوظيفة الممثلة في منظومة المواقف، فكانت مجهولة، إلى أن درسها «ستراوس» في ضوء مخرجات علم اللسانيات وعلم الفونولوجيا.(14)
كان لا بد إذن من انتظار «جاك دريدا» لكسر التيار، وإعادة ترتيب العلاقة بين الكتابة والكلام كواجهة من واجهات عمل نقد وتفكيك الأزواج المفهومية في المركزية الغربية، وربط الكتابة بمفهومي الاختلاف والأثر.
دريدا ضد المركزية الصوتية
يدعو «دريدا» إلى تأسيس مفهوم جديد للكتابة، بالتفكير في أبعادها ومستوياتها وفي مظاهرها المادية الخارجية. ففيما وراء عملية رسم الحروف والخطوط، تحيل الكتابة على مفاهيم «المؤسسة» و«النظام» و«القانون»، كما تقوم على العلاقة التحكمية بما هي خاصية شارطة لإمكان قيام كل لغة؛ ذلك لأن الكتابة، إن كانت تحيل على أفعال الشق والحفر وترتبط بها، فإنها تدل بذلك على لحظة الأثر التأسيسية من حيث هي خاصية ثابتة ومشتركة في كل الأنساق ذات الدلالة(15). وبما هي كذلك، فإنها تختزل الشفوي والكتابي أو المكتوب على حد سواء. غير أن مفهوم «الأثر التأسيسي» أو المؤسِّس، يرمي إلى إيصال رسالة محددة، أخذًا في الحسبان، الفرق القائم بين أثر عفوي تلقائي خالٍ من أي قصدية ذات دلالة محددة، وأثر مقنن ذي دلالة محددة. يعني هذا أن مفهوم «كتابة» يتضمن معنيين: معنى ضيق (الكتابة الأبجدية)، أي رسم الخطوط والحروف، والكتابة أو المكتوب «كأثر/ حدث تأسيسي أو مؤسِّس». ومن أجل التمييز بين المعنيين يسمي «دريدا» الكتابة بهذا المعنى الثاني «الكتابة القصوى» أو «الكتابة الشاملة». لكن، إذا كانت الكتابة بالمعنى الشامل تتضمن الكلام والكتابة معًا، فلماذا مفهوم «الكتابة الشاملة» وليس «الكلام الشامل»؟
إن الخاصية المادية المباشرة والقابلة للملاحظة التي يتميز بها فعل الكتابة في صوره وأشكاله ودرجاته الأولية مثل الشق والحفر والنحت والإبراز، إلى جانب عنصري اللون والشكل، هي ما يدفع ويحمل على نحت مفهوم «الكتابة الشاملة». أما بلورة مفهوم «الكلام الشامل» هو عمل متروك للعالم الفونولوجي أو الصواتي، فهو وحده القادر والمؤهل، نتيجة تمرسه بمختلف أشكال تخيل ونقل وتسجيل الكلام، لنحت مثل هذا المفهوم، إن كان يرى فيه قوة تفسيرية إجرائية. وفضلًا عن طابعها المادي المشخص والمباشر، وأيضًا خلافًا لحالة التماهي الكائنة بين المتكلم وكلامه فإن الكتابة، أكثر قابلية من الصوت/الكلام لتسجيل وتجسيد المسافة بين المنتِج والمنتوج. فالمتكلم لا يتمثل كلامه كشيء خارجي خلافًا للكاتب الذي ليس له هذا الارتباط نفسه بمكتوبه، فهو يقرؤه من الخارج من موقع أي قارئ غيره تقريبًا. لعل التلازم القائم إذن بين صفتي «المادية» و«التخارج» الظاهر في حالة الكتابة أكثر مما هو ظاهر في الكلام، هو ما يعطي للكتابة القيمة الموضوعية الكامنة وراء بلورة مفهوم «الكتابة الشاملة» حسب «دريدا»، زيادة على علاقتها بمفهومي الأثر والاختلاف.
الكتابة بين الأثر والاختلاف
يمنح «دريدا» مفهومَ الأثرِ القوةَ الإبستمولوجيةَ التفسيريةَ التي كانت لمفهوم الأصل في الميتافيزيقا الغربية بحكم إحالته على معاني الخلق والخلود والحضور التي لم تسلم من عمل التفكيك «الدريدي». ومن اللافت أن تخلي إشكالية أصل اللغات مكانها في الفلسفة التفكيكية؛ للاهتمام أكثر بمسألة الأثر الذي لا يدلّ فقط على مادية الكتابة بمعناها الشامل، وإنما يؤسس الكتابة كاختلاف في آنٍ. والاختلاف الذي يؤسس الكتابة، بما هي أثر، ينهض على فعل الإرجاء بمعنيين: معنى التأخير، ومعنى الوجود المختلف في الزمان والمكان(16). وهو ما تتولد عنه صور متعددة للاختلاف. من هنا الثراء الذي تفتح عليه المفاهيم الثلاثة: الكتابة، الأثر والاختلاف.
(1) انظر: Jaques Derrida, “De La grammatologie”, Editions de Minuit, 1967.
(2) تناول «دريدا» هذه المحاورة في مقال له بعنوان «صيدلية أفلاطون» نشر بمجلة «تيل كيل» Tel quel، عدد 32ـ 33، 1968. وضمنه فيما بعد في كتابه «التشتت» La «Dissémination, éditions du Seuil, 1971.
(3) “De La grammatologie”, p. 238.
(5) Collectif, “La lecture des textes et l’enseignement du français”, Hachette, Paris, 1974. pp.12-13.
(7) De Saussure(F), “cours de linguistique générale”, 1916, p. 53.
(8) تجربة الجاحظ، على الرابط التالي: https://youtu.be/1FVsnOWGFjM
(10) Lévi-Strauss (C), “Tristes tropiques”, Paris, Plon, 1955.
(11) كلود ليفي ستراوس «الأنثروبولوجيا البنيوية»، ترجمة مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق1977م، ص52.
(15) “De La Grammatologie”, p. 68.
(16) “La lecture des textes et l’enseignement du français”, op.cit., p. 15.