أحمد اللباد: تصميم الغلاف خطوة في مشوار معقد قطع فيه الغرب أشواطًا بعيدة
يمثل أحمد اللباد حالة فنية تمشي على قدمين، فهو رسام ومصور فوتوغرافي ومصمم أغلفة وكتب ومجلات وماركات تجارية وغيرها، لكن علاقته بتصميم الأغلفة كانت الأبرز، فمنذ بدأ في احتراف هذه المهنة وقد أحدث فارقًا كبيرًا في صناعتها، ونقل الذوق المصري من الأغلفة التي تحمل رسومات فنية تترجم العناوين، إلى غلاف جيد من حيث المتانة وتوزيع الأيقونات ودقة الألوان، فضلا عن الصورة الفوتوغرافية القابعة في عمق الغلاف، صورة غالبًا ما تكون مفاجئة وصادمة وغير متوقعة، صورة مطواة أو كلاشنكوف أو حصان أو سمكة، وبخلفية بسيطة تتناغم مع الصورة وفكرة الكتاب.
جذبت أغلفته انتباه كل المثقفين، وحرصوا على أن تصدر أعمالهم بأغلفة له، سبب ذلك أزمة لدى دور النشر، تلك التي ما كان بمستطاع اللباد أن يلبي طلباتها، خاصة في أوقات التحضير للمعارض، وشعر المصريون أن صناعة الكتاب أخذت في التطور، وأن ما كانوا يسعون إليه في مراكز ثقافية أخرى مثل لبنان وغيرها أخذ في التحقق لديهم.
في هذا الحوار لـ«الفيصل» يؤكد أحمد اللباد أن تصميم الأغلفة مهنة، وأنه ورثها بشكل ما عن والده الفنان الكبير محيي الدين اللباد، وأن عائلة اللباد ذات الأصول المغربية تتمتع جميعها بالاهتمام البصري، وأنه يقف بتواضع أمام تاريخ صناعة الأغلفة وتزيين الكتب في مصر، وأنه حزين لتراجع مقام النشر في مركز ثقافي كبير مثل لبنان. إلى نص الحوار:
● لماذا لا تعدّ تصميم الأغلفة مهنة على رغم أنها مصدر دخل لصاحبها؟
■ أظن أن لبسًا ما قد حدث في فهم ما قلته؛ فأنا لم أقل: إن تصميم أغلفة الكتب ليس بمهنة؛ لأني شخصيًّا جزء كبير من عملي ودخلي هو عبر تصميم الأغلفة! أنا قلت: إن تصميم الأغلفة ليس مهنة منفردة مفصولة عن جسدها الأساس، وهو التصميم الغرافيكي بشكل عام، فتصميم الأغلفة هو «تخصص» متفرع من التصميم الغرافيكي، وعليه فلكي تتخصص في تصميم الأغلفة عليك أولًا أن تدرس وتمتلك خبرات التواصل البصري الذي يمنحها لك التصميم الغرافيكي. يعني أن تكون بالأساس مصمم غرافيكي، وأن ليس هناك دراسة أو طريق يؤهلك مباشرة لتكون مصمم أغلفة كتب، هل سمعت عن طبيب تخصص مباشرة في الجراحة أو علاج العظام أو حتى الطب النفسي، ولم يدرس علم التشريح ومبادئ الصيدلة وغيرها من مواد أساسية مثلًا؟! مقصدي كان أن التعريف الصحيح لهذا الشخص المحترف المُجيد ليس بأنه «مصمم أغلفة»، بل هو مصمم غرافيكي بالأساس. أنا شخصيًّا أصمم الأغلفة، والكتب الداخلية، والمجلات والمطبوعات، والملصقات، والشعارات ونظم العلامات، وغيرها وأصور الفوتوغرافيا وأرسم.. وأمزج كل هذه الخبرات في أي إنتاج منهم.
● كم غلافًا صمّمتَه منذ بدأت حتى الآن؟
■ هذا سؤال صعب فعلًا! تخيّل أني لم أنتبه أو أتوقف لهذا الإحصاء على رغم أهميته احترافيًّا؟! سأقول بتقريب -أرجو ألا يكون مخلًّا- إنهم حوالي ما بين الألف وخمس مئة والألفين غلاف.
● أقمت معرضًا لأعمالك، حدثنا عنه؟
■ أقيم هذا المعرض عام ٢٠٠٩م، وعرضت فيه نماذج ومنتخبات من الأغلفة، وليس بالطبع كل الأغلفة التي صممتها ورسمتها حتى ذلك التاريخ. كان من الصعوبة بمكان عرض مئات الأغلفة في وقت وحيِّز واحد، والفكرة كانت عرض مجموعة متنوعة من الأعمال تتيح للمتلقي المهتم التعرف على أنساق التفكير والصيغ والتقنيات التي أستعملها.. ولعرض تصوري عن معنى خلق الشخصيات البصرية المتنوعة لدور النشر المختلفة.. فأنا أعمل عبر تصميم الأغلفة على خلق هوية خاصة لكل جهة نشر، فالغلاف ليس مرتبطًا بمتن الكتاب فقط، لكنه أيضًا صاحب مسؤولية عن السلسلة مثلًا التي يصدر فيها، وعن روح الدار التي تنشره. وسيناريو عرض الأغلفة في هذا المعرض توخى الإشارة والتعريف بذلك التصنيف، ثم إن هذا المعرض في حد ذاته سابقة قد تشجع تلك المهنة ومتخصصيها بشكل ما مستحق.
وراثة بعيدة وعميقة
● إلى أي مدى يمكن القول: إنك ورثت تصميم الأغلفة عن الفنان محيي الدين اللبّاد؟
■ أظن أن كلمة «وراثة» هنا صحيحة في ناحيتها «البيولوجية» المباشرة. الموضوع أظنه أبعد من عمل الوالد مباشرة، أعتقد أنها وراثة بعيدة وعميقة، فهذه العائلة (اللبّاد) عامة مولعة بالبصريات، وتكنّ للكتب احترامًا وحبًّا خاصًّا. أجيالها كلها خط يد أبنائها جميل واضح ناصع، وكثيرون منهم يرسمون، أو مهرة في التلوين والزخرفة والتشكيل، حتى إن لم يحترفوه مباشرة. هناك مثلًا معلومة بعيدة عن العائلة «اللبّاد» أن أصولها مغربية (كعائلات مصرية كثيرة)، وأن اللبّاد هناك في المغرب هو صانع «اللبدة»، أي سجادة الصلاة بالدارج المغربي، ومن ذلك الاهتمام المتوارث بالبصريات والتشكيل أظن أن هذه المعلومة صحيحة جدًّا. أنا منذ الصغر مُغرم بصيغة الكتاب كوسيط معرفي وبصري، أحب رائحته. وملمس أوراقه، وحركة صفحاته، وهشاشته النبيلة الساحرة.
● كيف كنت تنظر إلى فن تصميم الأغلفة قبل دخولك إليه؟
■ في بلد «مركزي» كمصر، أسست الدولة فيها المطبعة (الأميرية) بشكل رسمي قبل مئتي سنة، وكانت قد أنتجت قبلها بمئات السنين كمًّا مذهلًا من الكتب الثمينة المخطوطة والمرسومة والمزوقة يدويًّا، وإنتاج الكتب فيها موغل منذ القدم، فنخبتها دائمًا (حتى في عز أوقات ارتباكها) واسعة الإنتاج المعرفي، تصدر عنها آلاف الكتب متنوعة الاتجاه والمجالات. فتراكمت فيها كل خبرات إنتاج وصناعة الكتاب؛ لذلك فأنا دخلت إلى مهنة «قاعدة» ومستقرة عبر أجيال متوالية من صناعها، لذلك فالتواضع هنا ليس فضيلة ولا تفضّل، بل هو واجب بديهي. لكن أيضًا من واجبي أن أطرح على نفسي تحديها الخاص، بأن أدفع العجلة للأمام ولو لأشبار.. أو أدحرجها في مسالك جديدة تشبه وتُعبِّر عن حساسية عصرها وروحه.
● إلى أي مدى أفادت الأدوات الأحدث غرافيكيًّا في صناعة الأغلفة؟
■ أنا من الجيل الذي حضر تنفيذ الأعمال الغرافيكية نصف يدوية، وحضرت زمن الحاسب الآلي وأعتمد عليه تنفيذيًّا الآن. وأعرف فارق الجهد والمكسب التقني الذي وفّره. لكن دائمًا هناك وجوه مختلفة لكل جديد، فمع الجانب الإيجابي الناصع لذلك التحديث، فإن المتسرعين وفقيري الخيال فتحوا به بابًا للاستسهال والبهرجة الشكلانية التي تُخرب وتشوه المتلقين.
● متى تعدّ غلافًا ما غلافًا ممتازًا أو جيدًا؟
■ كلما حقق أهدافه بنجاح: مُعبرًا بإشارات ذكية عن مادته، وبتكوينات وعناصر مبتكرة، ومن زاوية غير مستهلكة، متخلصًا من أي صخب أو تزيّد، وكذلك أن يشير بلطف وذكاء لجنس هذا العمل: هل هو مثلًا محتوى أدبي، أو فكري، أو نقدي، أو غيره، وكذا أن يعكس شخصية الجهة الناشرة. والأهم أن تكون عناصره ومفرداته محققة بتوفيق لتراتب الأهميات، لتكون رحلة قراءة ورؤية المعلومات الأساسية مرتاحة سطوعًا وزمنًا.
خطوة في مشوار معقد
● ما قدر المسافة التي بيننا وبين الغرب في تصميم الأغلفة؟
■ هو قدر المسافة بين صناعة النشر والتوزيع، وأيضًا حجم ونوع الجمهور القارئ هنا وهناك. تصميم الغلاف خطوة في مشوار معقد قطع فيه الغرب بحكم التقدم الصناعي والاجتماعي أشواطًا بعيدة، وراكم ورسّخ خريطة دقيقة منضبطة، تطرد أو تحجم كيانات النشر المشوهة أو غير الاحترافية. الشروط التي أنتجها ذلك النظام الصارم الدقيق خلقت آلية لإنتاج وتوالد الأجيال المحترفة رفيعة المستوى من الكوادر في كل مستويات إنتاج الكتاب، ومنها بالطبع مصممو الأغلفة. ومع أننا بالفعل قدماء نسبيًّا في صناعة الكتاب كما قلت سابقًا، لكن الوضع العام والنكوص الاجتماعي وتأخر القراءة وتناقص القراء سمحوا بتشويه تلك الصناعة كما تشوهت صناعات أخرى أو أصابها المرض، وأصبحت «صنعة» الغلاف مرتبطة أكثر بحماس شخصي لممتهنيها، أو لجهات نشر نيّرة تعرف أهميته وتقف وراء تشجيعه على أوقات متقطعة؛ لذلك فإن إنتاج الأغلفة المُحكمة النافذة والناجحة، أو قل الكتب الفارقة شكلًا وموضوعًا في بلادنا هي مناسبة تستحق كل احتفاء وتشجيع.
● ما خطواتك لصناعة الغلاف؟
■ أول خطوة أساسية هي قراءة نص الكتاب، ومع أني عادة ما أدوّن على الورق بعض الخربشات والرسوم لكني أحاول بعدها أن أترك مسافة وقتية بين الانتهاء من القراءة والبدء في العمل على الغلاف… ممكن تسميتها بمرحلة «تخمير» الفكرة، بجعل الذاكرة تتخلص من الحضور الثقيل الأولي للنص، وإبقاء البخار الصافي منه، واستحضار بعض الجوانب القابلة للتحقق البصري بحيث تكون زاوية صائبة ونافذة للتعبير عن روح النص ككل. ساعتها أعمل على تهذيب وصنفرة تلك الفكرة وجعلها مسنونة ولامعة أكثر. وكلما كانت تلك المرحلة مريحة وممتعة بالنسبة لي، يزيد تأكدي بنجاح الفكرة الرئيسة.
● ما رأيك في صناعة الغلاف في بلدان أخرى مثل لبنان؟
■ زادت دور النشر في كل البلاد العربية، وبالذات الدور الخاصة، وتوسع النشر أفقيًّا فيها، وتغيرت الظروف السياسية، بما كان له كبير الأثر في لبنان، البلد المستقطب والمنتج للمعرفة بنخبته النشطة تأليفًا وترجمة وتحريرًا، ودور نشره الذكية، ومطابعه رفيعة الاحتراف، وهو الذي ظل أيضًا لعقود متمتعًا بحرية سياسية واجتماعية نسبية، لتجتمع كل العوامل كي يكون منفذًا لنشر الكتاب العربي بشكل عام، والكتاب المضطهد في بلاده على الأخص، وجذبت ماكينة نشره كل الكوادر الموهوبة لإنتاج الكتاب من البلاد المجاورة، فرسّخ شروطًا احترافية عالية في صناعة الكتاب، وخرجت من هناك بالذات في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات أغلفة للكتب غاية في الإتقان والحداثة والجمال، وعلى الرغم من الأحداث السوداء التي أنهكت هذا البلد وقطعت تجربته، وانزياح مقام النشر وانتثاره في بلاد عربية عديدة كما ذكرت، وخسارتنا لتلك التجربة العربية الفارقة.. فإن كتبًا ذات أغلفة مثيرة وصنعة دقيقة ما زالت تصلنا أحيانًا من هناك تذكرنا بالزمن الجميل.