سامانتا شويبلين: ما يجعل الأدب النسائي قويًّا وطازجًا للغاية أنه الأدب الذي تكتبه الأقلية مِنْ تعذُّر النُّطق في الطفولة إلى ريادة الأدب الأرجنتيني في الألفية الجديدة
الفم المُلطّخ بالدماء لمُراهِقة بعد التهامها طائرًا حيًّا، نظرة الشاب المُتسمرة في شاشة حاسوبه اللوحي وهو يحاول إنقاذ طفلة مخطوفة على بُعد ملايين الكيلومترات بدُمية تحكّمٍ عن بُعد، صوت طفل يبحث عن تفسير للديدان التي تخرج من الجسد ويتساءل: «من أين تأتي؟». لا يمكن لهذه المشاهد ألا تسترعي انتباه أي قارئ، بل تثير لديه أسئلة من قبيل: أي نوع من الناس أرى؟ هل من الممكن وجود عالم على هذا النحو؟ تُرى من استطاع تخيُّل كل ذلك؟ والإجابة -أو محاولة الإجابة- هي أن هذه الشخصيات لا توجد إلا في عالم أبدعته سامانتا شويبلين.
وُلِدت سامانتا شويبلين في بوينس آيرس عام 1978م، وتُعد واحدةً من أهم كُتّاب الأرجنتين في الوقت الحالي. تُرجمت كُتبها الستة «نواة الاضطراب»، 2002م؛ و«سبعة بيوت خاوية»، 2015م؛ و«حُمّى الأحلام»، 2015م؛ و«عصافير في الفم»، 2017م؛ و«تنفّس الكهوف»، 2017م؛ و«كينتوكي»، 2018م، إلى أكثر من عشرين لغة، وحصلت على جوائز عدة؛ من أهمها: جائزة «بيت الأميركتين» عام 2018م، وجائزة «خوان رولفو» عام 2012م، وجائزة «شيرلي جاكسون» عن فئة الرواية القصيرة عام 2017م؛ ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «غابرييل غارثيا ماركيث» للقصة عام 2016م، وكانت على رأس قائمة المرشحين للفوز بجائزة «مان بوكر الدولية» لعام 2019م.
كانت قد فرَّت من الكلمات في وقت ما خلال مرحلة طفولتها، وأضربت عن الكلام، وعمدت إلى التزام الصمت. كانت مؤلمة للغاية تلك الواقعة التي طلبت فيها مديرة المدرسة من والدة سامانتا إحضار شهادة تفيد بأن ابنتها فتاة طبيعية. ولكن انطلاقًا من هذا الصمت بدأت الكلمات المكتوبة تكتسب المزيد من القوة والحضور في حياتها كما تقول في مقابلة لها نُشرت في قسم «قراءات الأحد» من جريدة «إل تييمبو» الكولومبية: «شعرتُ أن اللغة المنطوقة شيءٌ خطير. لكنني من جانب آخر إذا وضعتها على الورق، فسأستطيع التحكم بها، بل وسأؤثر في الآخرين».
بعد أن تمكّنَتْ من التحدث مرة أخرى، قررت أن تدرس السينما، ومن هنا بدأت تفهم فن سرد القصص؛ إذ تقول: «كانت خمس سنوات تمكنت خلالها من مشاهدة كل أنواع السينما بنهم شديد، والتفكير ضمن مجموعات في آليات القَصّ، وطرح الأسئلة باستمرار حول طرق السرد، والنظرة، ونبرة الصوت، والألوان، والإيقاع. أظنّ أن مروري بالسينما كان شيئًا ثمينًا جدًّا استفدت منه في كتابتي». في النهاية، لم يكن عالمها سوى مجموعة من الكتب والقصص- الجنس الأدبي الذي تجد راحة أكبر في كتابته. كان هذا تشريحًا لكيفية بناء القصة لدى الأرجنتينية سامانتا شويبلين.
من ذاكرة الطفولة
● ما أولى ذكرياتك عن القراءة؟
■ الطفولة. كان والداي يقرآن لي في كل ليلة. أتذكر بعض كتب إلسا بورنرمان، ماريا إيلينا والش، وحكايات إيسوب. وعندما بلغت الخامسة أو السادسة من عُمري بدأت أطلب ألا يخبروني بالنهايات، وكنت أبتكرها أنا. كانت والدتي تدوّنها في دفتر، ونترك بعض الفراغات لرسم الصور في اليوم التالي. وبعدما بلغت العاشرة والحادية عشرة من عُمري أتذكر أنني قرأت «ولدوا أحرارًا» لجوي أدامسون. وجدتها في مكتبة والديّ، وربما كانت تلك الرواية هي أول كتاب أقرؤه «للبالغين» إذا جازت تسميتُه هكذا.
● كان جدُّكِ شخصية مهمة في حياتك. قلتِ في إحدى المقابلات: إنه شجّعكِ على كتابة يومياتك وكان لديكما دفتر مشترك. أخبريني كيف كانت علاقتك به؟ ماذا كنتِ تكتبين في هذا الدفتر؟ وكيف أثّر فيكِ فنيًّا؟
■ كان جدّي فنّانًا تشكيليًّا، وكان منفصلًا عن العائلة. عندما أتممتُ السادسة من عمري، اتَّصلَ بأُمّي وأخبرها بأنه يريد قضاء بعض الوقت معي، ثم طلب منها أن يصحبني في نُزهة في العُطلة الأسبوعية. كانت علاقتنا جميلة للغاية، لقد عشقته حقًّا. أخبرني منذ اليوم الأول أن ما سنفعله ما هو إلا تدريبٌ من أجل مُستقبلي، وأسْمَاهُ «تدريب الفنان». كنتُ في السادسة من عُمري آنذاك. علمني أن أسافر في القطار دون دفع ثمن التذكرة؛ لأنه كان يرى أن الفنان الجيد يجب عليه أن يعرفَ كيف يعيش بغير نقود. أخذني إلى أفقر قُرى بوينس آيرس لكي أقدّرَ الامتيازات التي أحظى بها. علمني كيف أسرقُ الساعات من معرض الأثريَّات، بينما يُشتت البائعَ بالأسئلة. لكنه إضافة إلى ذلك اصطحبني إلى المسرح والسينما والكرنڤالات وإلى البارات حتى! كانت كل نُزهة مغامرةً جديدة. وعندما نعود كنا ندوّن معًا في الدفتر أكثر الأشياء التي أثارت إعجابنا على مدار اليوم. كان دفتر اليوميات الذي كتبَتْه «أربعُ أيادٍ» هو أوّل ما كتبتُه في حياتي.
● ثمّة حدث ما ترك أثرًا قويًّا في حياتك.. أعني عندما أضربتِ عن الكلام لبضعة أشهُر. نستنبط من خلال هذا الموقف مدى قوة الكلمة المنطوقة والمكتوبة أيضًا. ما الذي دفعك إلى الإضراب عن الكلام؟ وما الآثار التي خلّفتها هذه المدة؟
■ أضربتُ عن الكلام بسبب شجار مع صديقتي. كان أمرًا سخيفًا في الحقيقة؛ ولكنني في تلك اللحظة شعرت بِظُلم صارخ، ولم أتمكن من جمع شتات نفسي؛ لذا جعلني غضبي وكبريائي عاجزة عن الكلام حرفيًّا. تسألني عن الآثار التي خلَّفَها هذا الصمت الطويل: حسنًا، رُبما جعلني متصلة إلى حد بعيد بعالمي الداخلي. لجأتُ إلى القراءة؛ لأن الإضراب عن الكلام ليس سهلًا كما يبدو. الجميع يريد أن يعرف ما بك، ما الذي يحدث لك، وهل أنت بخير أم لا! يريد أن يرسلك إلى محلل نفسي وأشياء من هذا القبيل. عندما كنت أفتح كتابًا وأشرع في القراءة كانت كل هذه الأسئلة والمضايقات تختفي. كنتُ أبدو فتاة عادية عندما أقرأ؛ شخصًا لا يتكلم لأنه مشغول بالقراءة. لا أحدَ كان يزعجني ولا كنت أزعج أحدًا. كانت القراءة لي كأنني أغطي نفسي ببطانية تجعلني غير مرئية، لقد غفرت لي تمامًا عدم اكتراثي بما يحيطني. وفي مقابل هذا، سلمني الأدبُ مفاتيحَه وأعاد إليَّ الكلمات بطريقة ما.
صناعة الكتابة
● الكلمات التي ستغدو كل حياتك فيما بعد. بعد دراسة السينما، كانت هناك مرحلة مهمة في تكوينك الفنّي وهي الورش الأدبية. هل تعتقدين أنه من الممكن تعلُّمُ كتابة الأدب؟ وما أعظم استفادة تركتها لديك تلك الورش؟
■ بالطبع من الممكن تعلُّم الكتابة. يجب نزع هالة التقديس التي تحيط بفكرة أن الكاتب يولد عبقريًّا. يمكن تعلُّم الكتابة كما هو الحال مع الرقص أو الموسيقا. لكن ما لا يُمكن تعلُّمه، في الأدب أو في أي من هذه المجالات، هو كيفية تكوين نظرة شخصية تجاه العالم. في الواقع أعتقد أن أي مدرسة أو أي معلِّم يورّط نفسه في هذا، فمن الممكن أن يكسر شيئًا لا ينبغي لمسُه أبدًا ويصعُب إصلاحه. يمكن للمُعلّم الجيد أن يفهم إلى أين أنت ذاهب، ويساعدك على تجاوز مصاعب الطريق. هذا هو جُلّ ما يستطيع فعله؛ لكنه يساوي كثيرًا في الوقت ذاته. اشتركت في العديد من الورش لكنني لم أجد سوى معلمة واحدة فقط؛ وهي عزيزتي ليليانا هيكر القاصة الأرجنتينية الرائعة.
● تحدثتِ عن بعض المكتبات التي تركت أثرًا قويًّا في حياتك. واحدة منها تلك التي تمتلكينها في منزلك، وتكثر فيها أعمال كُتّاب بُوم أميركا اللاتينية-Boom latinoamericano. هل تعتقدين أن الأثر العميق الذي تركه هؤلاء المبدعون يُثقِل الكُتّاب الجُدد؟ وهل تظنين أنه لا يزال من المتوقع أن يكون الكُتّاب خارج حدود أميركا اللاتينية مثلهم؟
■ لقد تخلَّص كُتّاب جيلي من ثقل ظاهرة البُوم؛ لكنها ما زالت وسمًا يستمرون -في الخارج، وبخاصة في أوربا- في إلصاقه بنا. دُعيت منذ أيام قليلة إلى مؤتمر في كولن للتحدث عن واحد من كُتّاب أميركا اللاتينية أقوم باختياره. فكّرت مِن فَوْري أنني «سأُدلي بِدَلْوي في هذه التحريفيَّة التاريخية العظيمة المتزايدة في مجالات فنية وفكرية كثيرة عن طريق عرض نصوص لإحدى فُضليات كاتبات أميركا اللاتينية: إيلينا جارو، أو سارة غالاردو، أو ماريا لويزا بومبال، أو أمبارو دافيلا، أو نورا لانج، أو سيلفينا أوكامبو…». لكن كان هناك شرط صغير: لا بد للنص أن يكون مترجمًا إلى الألمانية، ولم تُترجم أي واحدة من هؤلاء الكاتبات إلى الألمانية. يترجمون في السنوات الأخيرة لبعض الكُتّاب الشُّبَّان مثل: لينا مرواني، وأليخاندرو زامبرا، وماريانا إنريكيز، وبيدرو مايرال؛ لكن لا توجد أي ترجمات في أغلب الظن للأجيال التي جاءت بعد البُوم. يعتقد الأوربيون أننا ما زلنا نكتب الواقعية السحرية لأنهم لم يقرؤوا شيئًا تقريبًا منذ ذلك الحين.
● كيف تسير كتابة القصص معكِ؟ كيف تبنين الشخصيات والحبكة؟ هل لديكِ خريطة طريق تتبعينها أم إنكِ تتركين نفسك تنجرفين مع التيار؟
■ ليس لديَّ طرقٌ أو سلالم أو أي شيء يحدد لي مسارًا بعينه. لديَّ على جدار مكتبي نصّ لديفيد كلوز يقول: «عليك أن تتعلّم إلقاء القصص في سلة المهملات، وأن تستعين بالأثر الذي خلَّفته فقط». أثق في النسيان الطبيعي للأفكار، وأنه لا ينبغي أن تتبلوّر أي كلمة في النص بشكل كامل. إنني أربط نفسي بشيء واحد فقط، وهو أمر يصعُب عليَّ دائمًا تفسيره لأنه شعورٌ بديهي للغاية: عندما أشرع في بناء القصة -وقبل أن أدوّن أي ملحوظات من أي نوع أو أكتب مُسوَّدة- أتتبع لوقت طويل ذكرى أول ما دفعني وقال لي: «يجب عليكِ كتابة هذا». أحاول أن أفهم ذلك الشعور، وهنا تتركّز كل أفكاري. بالطبع ليس أي شعور؛ لكنه شعور مميّز وفريد من نوعه، وهو ما أتطلع إلى إيصاله إلى القارئ في نهاية المطاف. هذا جُلّ ما أستطيع تغييره؛ أما أي شيء آخر فَخَاضع للمراجعة حتى آخر لحظة.
الكاتبات وأسئلة الكتابة
● في كارتاخينا، في حديث لكِ مع خوان غابرييل باسكيث نُشر في مجلة WMagazine تناقشتما حول ظاهرة البُوم الجديدة التي تقودها كاتبات أميركا اللاتينية وعن الموضوعات التي يستكتشفنها كالأمومة مثلًا. في رأيك ما دور الكاتبات في أدب القارة اللاتينية؟ هل تظنين أن هذه الظاهرة لا تزال موجودة؟ وترى هل هي ظاهرة أدبية أم مجرد موضة ابتدعتها دور النشر؟
■ قد تكون مُجرد موضة ابتدعتها دور النشر بالفعل؛ لكنها نتيجة لشيء أكبر من ذلك بكثير. منذ أشهر عدة سألوني إن كنتُ أُومِن أن الكتابة النسائية «وُجِدت لتبقى» أم إنها «مجرد موضة عابرة». وأنا أقول: إن الأدب الذي تكتبه النساء ليس مجرد موضة عابرة، بل إنه الأدب الذي يكتبه النصف الآخر من الإنسانية.
إن ما يجعل الأدب النسائي قويًّا وطازجًا للغاية هو أنه كان وما زال الأدب الذي تكتبه الأقلية. إنه يحمل في طياته دائمًا أشياء جديدة يقولها. أنا لا أقرأ كتابًا لأن مؤلفه رجل أو امرأة، ولكنني أقرؤه لأنه يبدو لي جيدًا، بل جيدًا للغاية، وإن لم يكن كذلك أتركه مِن فَوْري من دون أي شعور بالذنب. استغرق الأمرُ مني بعض الوقت لكي ألحظ عدد النساء الهائل في قائمة كتبي التي قرأتُها أو التي سأقرؤها هذا العام. يمكنني القول: إن أفضل ما قرأته مؤخرًا كان أغلبه أدبًا نسائيًّا، ويُعزى ذلك إلى جودته وليس لأنه ظاهرة متعلقة بالسوق.
● تروايتاكِ «حُمّى الأحلام» و«كينتوكي» تجربتان جديدتان على مستوى البنية. لا تُعَدّان روايتين تقليديتين. ما الفارق الذي يشكله الشروع في كتابة مثل هذه الروايات بالتوازي مع كتابة القصة؟ هل تتغير عملية الإبداع نفسها؟
■ لقد توصّلت إلى فكرة الروايتين بالطريقة نفسها بعد أن مزَّقت كثيرًا من المسوّدات وفشلت في كتابتهما على هيئة قصص. ألجأ إلى الرواية عندما لا تكون هناك أي طريقة أخرى لحكي ما أريد قوله في عشر صفحات أو عشرين صفحة. أفهم ما تقوله بخصوص البنية، لكنه شيء أشعر به أيضًا في القصة. بمعنى أنني حتى أكون مستعدة لسرد قصة ما يجب أن يتردد في ذهني سؤالان: ماذا سأحكي؟ وكيف سأحكي؟ ولكليهما الأهمية نفسها. بالنسبة لي، إن الشكل يحدد المضمون، والمضمون يتطلب شكلًا؛ إنهما وجهان لعُملة واحدة أو جزءان لهما الحدود نفسها. وأنا شخصيًّا يروقني وضع مثل تلك الحدود التي قد تكون بنيوية، أو نغمية، أو إيقاعية؛ فكل عنصر من عناصر القصة بإمكانه أن يكون حَدًّا في ذاته. توضّح تلك الحدود كل ما لا يُمكن القيام به في القصة لكنه يصح في الرواية مثلًا، ومن ثَمّ فإن ذلك يُجبرني بشكل أو بآخر على التحرك دائمًا بشكل مبتكر؛ أعني أنني حتى أصل إلى نقطة ما، أجد نفسي مُضطرة إلى الخروج من مساحتي الآمنة.
عالم محاصر بالتقنية
● قلتِ في إحدى مقابلاتك: إن فكرة روايتك «كينتوكي» وُلدت من وجود طائرات من دون طيّار تراقب كل شيء. كيف كتبتِ هذه الرواية؟ وكيف استطعتِ التوليف بين هذا العدد الهائل من الأصوات في عمل واحد؟
■ بالنسبة إلى هذه الرواية، فقد تصوّرت أن الراوي هو أحد أنواع الخوادم الرقمية. وبالمناسبة لا ينبغي أن يشكل هذا الأمر أهمية لدى القراء؛ فقد كان مجرد تصور يساعدني على ترتيب أفكاري. «كينتوكي» بكل بساطة هي قصة خادم يرى عددًا كبيرًا من الاتصالات بين عدد من المستخدمين في وقت مُعين وهنا تظهر مسألة الحدود. فالخادم لا يستطيع أن يختار ما يراه أو أن يعرف ما هو مهم من عدمه، لا يصدر أحكامًا تقييمية أو عاطفية، وقد ساعدني ذلك للغاية لأنني أردت لكل ذلك أن يقع بأكمله على عاتق القارئ وحده. فقد فَرَض التفكيرُ في ذلك الخادم حدودًا صارمة لما يستطيع أو لا يستطيع فِعْلَه الراوي.
● ما فائدة الأدب اليوم في عالم محاصر بالتقنية وكل ما هو رقمي؟ ما الذي يميز الكتب من الأشكال الثقافية الأخرى مثل السينما أو الفن؟
■ أظن أن ما يُميّز الأدب هو أنه يمتلك تقنية فريدة وغير قابلة للنقل، ألا وهي عقل كل قارئ. على سبيل المثال: لو أنني أقرأ كتابًا بتركيز شديد وأمضي قدمًا في القراءة لأنني أثق في ذلك الكاتب والقصة تحاصرني في كل مكان وأكاد أمشي -من فرط التأثر- وراء الشخصية عندما يرن الهاتف في الردهة وأرى كيف تركض لتردّ وترفع سماعة الهاتف الذي يهتزّ وفي هذا الجزء يقول الراوي: «رفع سماعة الهاتف إلى أذنه واستمع إلى صوت المُتصل فكان أباه»، فإن ما يحدث هنا شيءٌ استثنائيّ؛ لأن القارئ اتّخذ للتوّ عددًا هائلًا من القرارات: حدّد لون الهاتف، وزنه، علامته التجارية أو الحقبة الزمنية التي يرجع إليها، تخيّل كيف يبدو صوت الوالد، وربما انصب تركيز بعض القراء على إحساس برودة السماعة فوق الأذن. كل هذه القرارات هي قرارات عاطفية بحتة، تستند إلى ذكريات القارئ عن هواتف قد رآها أو امتلكها مسبقًا، أو هواتف يعرف حتى كيف تبدو رائحتها. ومن الممكن أن يكون صوت الأب هو صوت أبيه أو صوت شخص آخر يشتاق إلى سماعه. كل المواد التي يبني بها القارئ القصة هي مواد تخصه وحده، والأدب يستولي على كل هذه الشحنة العاطفية، ويحمل ما هو معروف منها بالفعل إلى مكان جديد تمامًا. على الجانب الآخر، في السينما مثلًا، لا بد من اختيار هاتف واحد، واحد فقط لملايين المشاهدين، وسيظل هكذا دومًا للجميع؛ أما في الأدب فكل شيء شخصي.
النص الأصلي: https://www.eltiempo.com/bocas/samanta-schweblin-escritora-argentina-entrevista-revista-bocas-356214