أتصور أن من يقرأ ديوان «أشياء ليس لها كلمات» للشاعر المصري جرجس شكري، الصادر حديثًا عن دار آفاق بالقاهرة، سيكتشف أن الوعي الذي أنتج هذه القصائد، هو «وعي ضدي» بامتياز. ولعل أبرز سمات هذا الوعي أنه ينقسم على نفسه باستمرار، وهو ما يعنى أنه يظل وعيًا متوترًا، يضع نفسه والعالم موضع التساؤل الدائم(1). هذا الوعي الضدي الذي امتلكه الشاعر جرجس شكري هو بالضرورة قرين نوع من المفارقة؛ إذ إن العالم مجموعة من المتناقضات المتصارعة(2).
أحسب أن الكتابات الشعرية الجديدة التي نقرؤها الآن، تؤكد أننا لا نستطيع أن ننفصل بوعي محلي مغلق، أو قومي محاصر، عن الوعي الكوني الذي يتخلق الآن.
فلم يعد الشاعر هو ذلك النبي المنتظر الذي يمتلك اليقين ويعرف الحقيقة المطلقة عن العالم، وتلك كانت إحدى الصور الشائعة عن الشاعر العربي القديم. أما الآن فقد صار مجرد كائن مأزوم يتشكك في كل شيء من حوله، مُحمَّل بالهواجس والتساؤلات، يضع كل تصوراته وأفكاره عن العالم موضع المساءلة المستمرة ليخرج من أسر وعيه الضيق، فيكتشف وجوده بكل ما ينطوي عليه من جمال أو قبح، بعيدًا من سطوة الأنظمة والمفاهيم المستقرة التي حجمت حريته طويلًا، فيجد نفسه مضطرًّا؛ كما عبر نيتشه: «لإعادة تقييم كل القيم». فالشاعر -لا يمكنه بأية حال- أن ينفصل عن لحظته الراهنة التي يعيشها أو يتجاهل مثلًا المتغيرات العالمية ودخولنا إلى عالم تغيرت فيه طرائق إنتاج المعرفة الإنسانية وصار العالم قرية كونية صغيرة، عالمًا مليئًا بالتناقضات ومشبعًا بحالة من التشظي والتفكك، عالمًا تتساقط فيه كل يوم النظريات الكبرى التي سادت الفكر والعلم الاجتماعي، التي ادعت طويلًا إمكانية قراءة العالم وتفسيره.
مفارقة ساخرة باردة
جرجس شكري
وأظن أنه ليس من قبيل المصادفة، أن كل الدواوين السابقة التي أصدرها الشاعر جرجس شكري، تقوم بنيتها على المفارقة الساخرة الباردة التي تعكس موقفًا عدميًّا من الحياة والوجود. والعدمية ليست –كما هو شائع لدى كثيرين- هي مجرد إبراز الموت والبشاعة والعنف والقبح في العالم، لكن الشاعر العدمي هو الذي ينفذ من خلال ذلك إلى معنى الحياة، وبذلك يكشف لنا أن العدم هو الوجه الآخر للوجود، ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأن معنى كل منهما يكمن في الآخر. فعلى سبيل المثال- كان الشاعر والناقد غوتفريد بن (1886–1956م) من أبرز العدميين الذين أوضحوا معنى العدمية كمذهب أدبي؛ إذ قال: «إن العدمية ليست مجرد بث اليأس والخضوع في نفوس الناس، بل مواجهة شجاعة وصريحة لحقائق الوجود»(3). فقد خلق الإنسان ولديه إمكانات محدودة وعليه لكي يثبت وجوده، أن يتصرف في حدود هذه الإمكانات، بحيث لا يتحول إلى يائس متقاعس أو حالم مجنون. أما العدمية عند الفيلسوف الألماني «نيتشه» (1844-1900م) فهي «ليست تلك المعروفة بأنها الحياة بلا هدف، وإنما الحياة المعمية عن مناقشة أفكارها، والمبنية على بعض الأوثان»(4).
ولعل عنوان ديوان الشاعر جرجس يستدعي إلى الذهن عنوان كتاب «أشياء وكلمات» للفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو (1926–1984م) وهو دراسة –بحسب ميشيل فوكو نفسه- لا تنتمي إلى تاريخ الأفكار، أو تاريخ العلوم، إنما هي دراسة تريد البحث عن المنطلق والأساس للمعارف والنظرية عندما تكون ممكنة وموجودة، وحسب أي مدى من النظام تكونت المعرفة، وعلى خلفية أي قبيلة تاريخية وفي عنصر أي وضعية تمكنت أفكار من الظهور(5). إن «فوكو» في هذا الكتاب، يريد البحث عن أشياء جديدة للمعرفة لم تبحث من قبل، وكأن الشاعر جرجس شكري بهذا الاستدعاء لعنوان كتاب ميشيل فوكو يريد أن يدعونا جميعًا إلى إعادة قراءة ما كنا نظنه هامشيًّا في المعرفة التي اكتسبناها، والبحث في علاقاتها المتشابكة والملتبسة مع النظام المكون لها.
وقد تبدو البنى داخل هذا الديوان ظاهريًّا -لغير المدربين على تلقي مثل هذا النوع من الكتابات الشعرية– كما لو كانت مفككة. وقد يذهب بعض منا إلى أن ثمة انفصامًا نحياه مع ذواتنا ومع الآخر، فكلما تشوه العالم ازدادت البنى تفككًا، وأن هذه الكتابة تعكس حال من الاغتراب صار يعيشها الإنسان الآن بعد أن عانى الانفصالَ عن محيط عالمه، وشعر بالتشيؤ وبفقدان الحرية. لكن هل يمكننا أن نتأمل الأمر على نحو مغاير، عند قراءة هذا المقطع من قصيدة «أشياء ليس لها كلمات»:
حين يصل الصباح على عربة يجرها الموتى
يصل باكيًا، وتسقط عيوننا على الأرض.
حين يسرق الآخرون حياتَنا
ويلبسون وجوهنا في وضح النهار.
حين نموت برصاصة طائشةٍ
ضلت طريقها بمحض إرادتها.
حين نأكل طعامًا رخيصًا
وننام في شوارع خائفةٍ.
حين نتبادل القبل كعزاء واجبٍ
وندفن موتانا في ملابسنا
خوفًا ومحبة.
حين تغلق الكنيسة أبوابها
فينام الملائكة والقديسون
في قاعة الرقص.
حين يغرس الموظف حليق الرأسِ
سكينًا في بطن صاحب الشركة
احتجاجًا على وسامته المفرطة
حين نغلق رغباتنا لأجل غير مُسمى
ونفاجئ الآخرين
يصطادون سراويلهم في غسالة الملابس.
فهل نخفي عنك شيئًا يا سيدي.
(الديوان، ص7-9)
بالطبع في البداية، سوف نتساءل: ما العلاقة بين هذه الدوالّ المتتابعة التي تبدو كأنها منفصلة؟! فليس ثمة معنى واحد يقوله النص، يمكننا تحديده بدقة وباطمئنان، فما علاقة مثلًا مشهد أو لقطة «وصول الصباح الباكي الذي تجره عربة» بالدوال التالية أو اللقطات المتتابعة بعدها في القصيدة مثل: «الموت برصاصة طائشة»، أو بـ«غلق الكنيسة لأبوابها ونوم القديسين في قاعة الرقص»، أو «غرس الموظف سكينًا في بطن صاحب الشركة» احتجاجًا على وسامته المفرطة»؟!
لعل القارئ وحده هو من يستطيع أن يقيم هذه العلاقة بين هذه الدوال المتتابعة، وتكاد العبارة الأخيرة في هذا المقطع من القصيدة، وهي على هيئة سؤال يحمل قدرًا من السخرية الباردة: «فهل نخفي عليك شيئًا يا سيدي؟» هي ما يدلنا على احتمالية ما يريد النص أن يقوله لنا ويكشف الرابط الخفي بين كل هذه اللقطات أو الدوال المتتابعة أمامنا. فهذا السؤال الذي يختم به المقطع ما هو إلا سخرية من حالة الموت وعبثية الوجود الذي نحياه، وهو ما نجده شائعًا في أغلب قصائد الديوان تقريبًا.
الكتابة تصير مونتاجًا
فلو افترضنا مثلًا أن النص استخدم مونتاجًا من الكلمات لمونتاج من الصور؛ أي أن الكتابة صارت مونتاجًا، (وفكرة المونتاج هي من إبداع جاك دريدا، وهي تحل عنده محل المحاكاة عند أرسطو)، فعلينا -إذن- أن نحصر اهتمامنا في العلاقة بين الدال والمدلول «الصور داخل المونتاج». فمثلًا البنيويون يقررون أن الفلم نظام سميوطيقي في أي لغة، باعتبار أن الصور واللقطات دوال، والدال مستقل عن مدلوله الوضعي، وأن أي دال في النص يتحدد من خلال علاقته بالدوال الأخرى الموجودة به. إلا أن التفكيكيين يقررون أن المعنى لا يمكن أن يتحدد أبدًا، وأن أي دال في النص لا بد أن يحمل أثرًا أو آثارًا من دوال أخرى، ولهذا فإن معناه ليس ثابتًا. وهو تمامًا ما يحدث في المونتاج السينمائي فالمشاهد هو الذي يخلق بين الدوال أو اللقطات المتتابعة، فالمونتاج هو أنجح الوسائل لإعادة وصف العالم؛ لأنه يقدم عدة عوالم محتملة «Possible Worlds» -وهو يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها التفكيك الدريدي- والمشاهد أو القارئ هو الذي يخلق العلاقة بين اللقطات المتتابعة داخل النصوص(6).
والحقيقة أن هذه الصور أو «اللقطات المجازية» المتتابعة التي تحوي معنى ما، خفيًّا علينا، تصر على إبرازه بأكثر من طريقة؛ هو أن البشر يتصارعون، وهم يدركون جيدًا أن العدم في انتظارهم وهذا الصراع فوق طاقتهم البشرية، لذلك يتحول صراعهم إلى عبث لا معنى له. وقد لا يستطيع قارئ قصائد هذا الديوان من أن يمنع نفسه من تذكر مقولة الفيلسوف نيتشه في كتابه «إرادة القوة»: «كل معتقد، كل شيء يعتبر حقيقة، هو زائف بالضرورة لأنه ببساطة ليس هناك عالم حقيقي»(7).
فهل يمكننا أن نذهب إلى أن بنية القصائد التي تبدو في ظاهرها مفككة – قد تعكس فكرة يلح عليها الشاعر جرجس شكري طوال الديوان وهي غياب المعنى ومن ثم استحالة وجود حقيقة؟! وهو المعنى نفسه الذي نراه يتواتر في عدد كبير من القصائد داخل الديوان، على نحو ما نرى مثلًا في قصيدة «مشاهد من حياة رجل بارٍّ»:
فيما مضى
كنت ملكًا وقديسًا،
عازف مزمار
وصاحب فلسفة وأبقار كثيرة
وذات مساء
هربت الحقيقة من بيتي
فلم أعد كما كنت أبدًا.
( الديوان، ص44).
الهوامش:
- جابر عصفور، نظريات معاصرة، مكتبة الأسرة، سلسلة الأعمال الفكرية الهيئة العامة للكتاب 1998م، ص 268.
- نجاة علي، المفارقة في قصص يوسف إدريس القصيرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2008م، ص9.
- إبراهيم جركس، ما العدمية؟ (مقالة)، موقع الحوار المتمدن، تاريخ النشر 20/11/2009م.
- فريدريش نيتشه، غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح، دار الجمل، بغداد، بيروت، 2010م، ص106.
- ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدي وآخرين، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، 1990م، ص25.
- عابد خزندار، عن الحداثة وما بعدها، مجلة إبداع، الهيئة العامة للكتاب، نوفمبر 1992م، ص 74.
- فريدريك نيتشه، إرادة القوة، محاولة لقلب كل القيم، ترجمة وتقديم محمد الناجي، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2012م، ص 170.