تعبيرات تتوسل أناقة متوحشة.. بحثًا عن هوية ثقافية جديدة
يمكننا القول عمومًا: إن الشباب منذ «ثورة» الهيبيين في الستينيات حتى حدود اليوم يرتكزون أولا وقبل شيء على المظهر الجسدي، وعلى اللباس في التعبير عن اختلافهم. وهم بهذا لا يختلفون فقط عن الفئات العمرية الأخرى ولكن أيضًا عن الشباب في الأزمنة السابقة عليهم. في هذا السياق يمكننا الحديث عن قَصَّة الشعْر وعن اللحية الخفيفة الواضحة التقاسيم، وعن السراويل المثقوبة التي قد تبيّن أحيانًا جزءًا كبيرًا من الفخذين، أو السراويل التي تحمل أكثر من لون…
بيد أن هذا الاختلاف المظهري يمكن قراءته بأنه إعلان عن هوية معينة راهنة أضحت فيها المظاهر الأنثوية والذكورية لا تختلف كثيرًا… كما أنه من ناحية أخرى يبين عن منظور جديد للأناقة. إنها أناقة متوحشة تتلاعب بالتجانس الثوبي واللوني وبالمفهوم السائد للأناقة.
الاندماج في أهواء جديدة
أما المستوى السلوكي فإن الشباب أضحى يندمج في جماعات جديدة تنبني على أهواء ومضامين جديدة تتمثل في الموسيقا أو القراءة أو الرحلات والسفر أو غيرها. ولا يخفى أن هذه «القبائل الجديدة» تمنح هوية ثقافية جديدة للشباب، تقتلعهم من انتماءاتهم الأصلية، وتسهل تفاعلاتها وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، بحيث إنها أيضًا تنتج خطابًا مشتركًا، بل أحيانًا أسلوبًا مشتركًا في الكلام والزي والتواصل…
الطابع الاختلافي ليس سوى مظهر للدخول في وحدات تتسم بالتشابه والتناغم، ضمن دوائر تختار لغتها وأمكنتها ولغتها وأساليب ضحكها وتفاعلها… من خلال هذه الضروب من السلوك اليومي يحفر الشباب هوات عميقة مع جيل الآباء من جهة كما مع السلطة عمومًا؛ ليخلقوا انفلاتهم الممكن منها.
ينبني هاجس الشباب في المجال الفني على سؤال المغايرة والاختلاف والقطيعة والتجريب أكثر مما ينبني على الاستمرارية. لقد هجر أغلب الشباب التشكيليين المبدعين اللوحة باتجاه أشكال تعبيرية جديدة تعتمد المنشأة البصرية التي تمنحهم حرية أكبر في التعامل مع المواد وفي تدبير الفضاء، وفي التفاعل مع المكونات الأخرى من صوت وصورة. إن هذا الفن سياقي وتفاعلي بامتياز، يقوم على تدبير الفضاء وابتكار وضعيات بصرية جديدة ومستجدة. كما أن كثيرًا من الفنانين الشباب باتوا يعتمدون في تجاربهم تلك على الجسد الشخصي والغيري في منجزاتهم الفنية، وينتجون هُجنة فنية تدخل فيها الصورة الفوتوغرافية والمسْرحة والتشكيل والصور الرقمية.
الانفتاح على الطابع المركب للمجتمع
هكذا يغدو التمرد على المعطيات «الكلاسيكية» للفن انفتاحًا على الطابع المركَّب للمجتمع والثقافة في الأوقات الراهنة، وتوظيفًا فنيًّا لما تقدمه تقنية المعلومات والتقدم التقني الراهن في سبيل صياغة رؤى مغايرة، غالبًا ما تكون نقدية واستشرافية في الآن نفسه. إنها نقدية لأنها تتعامل أحيانًا مع المهمش والمنبوذ والبشع، واستشرافية لأنها تنفتح على مجهول الزمن وتسائل المستقبل أكثر من مساءلة الماضي الذي كان خاصية الأجيال السابقة. من ناحية أخرى فإن العديد من الشباب صاروا يبلورون في أعمالهم خطابًا سياسيًّا مناوئًا للسلطة وللأبوية وللحدود، معبرين بذلك عن «ثوريتهم» الراهنة…
أما في المجال الموسيقي، فإن الموسيقا التي ينتجها الشباب ذات طابع تعبيري يتسم أحيانًا بالاحتجاج والمباشرة السياسية والاجتماعية. إنها موسيقا نثرية تتسم بإيقاعية تعبيرية سريعة وبحدة وكثافة لم نعهدها في الموسيقات السابقة (الراب، الهيب هوب)، كما أنها استعراضية تستخدم الجسد بشكل أكبر.
إن التعبيرات الفنية للشباب العربي منذ نهايات القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة جاءت استجابة للتحولات الفنية المتسارعة في الغرب منذ السبعينيات. والحقيقة أن العديد من الفنانين من الأجيال الماضية قد وصلتهم موجة هذه التغيرات الفنية والجمالية العالمية، لكن من غير أن يتخلوا عن علاقتهم باللوحة. بيد أن الأمور أضحت صريحة منذ عقدين، من خلال المغامرة المفتوحة والبحث عن موضوعات وطرائق جديدة، والاشتغال على الذات والجسد والمحيط والأصول الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن «خريطة» هذا الفن ما زالت ضبابية، وآفاقه الفكرية وعمقه الجمالي في العالم العربي لم يتبلور بعد بشكل وضح، فإن ما راكمته بعض التجارب الفردية من تميز وأسلوب ودلالات جعل الجيل الجديد من الشباب أكثر ثقة في النفس وأكثر مغامرة وأكثر تجريبية؛ إذ إنهم بدؤوا يرتادون آفاقًا مبتكرة تشتغل على الوسائط الجديدة كافة، وتستعيد القديمة منها لبلورة رؤى شخصية.
تصور عام استكشافي
أغلب الفنانين الشباب اليوم (في المجال البصري والتشكيلي بالخصوص)، يشتغلون وفقًا لمشروعات وتصورات يبلورونها في منشآت أو منجزات فنية، ليمروا إلى مشروعات أخرى، لكن ضمن تصور عام استكشافي.
غالبًا ما يتحول الطابع الاحتجاجي (الذي واكب بالأخص الربيع العربي) إلى طابع نقدي أكثر نضجًا. أما الطابع الاختلافي فإنه يشكل أساسًا من أسس الفن العربي المعاصر. فكل فنان يسعى إلى الاختلاف المزدوج: عن معاصريه وعن سابقيه. وهذا الاختلاف قد ينتج تجارب تضيف الجديد، كما قد يفرز تجربة فارغة من المحتوى. أحيانًا يكون التمييز بين الأمرين من الصعوبة على المتلقي العادي بحيث إنه قد يمنح القيمة لما لا قيمة له. بيد أن المتلقي أو الناقد أو مؤرخ الفن المتبصر لا يمكن إلا أن يقف على الطابع المبتكر والإضافة المنتظرة أو عدمهما.
إن الطابع المركَّب للفن العربي المعاصر في صيغه الجديدة، والبعد الهجين لمكوناته التعبيرية، يمنح أفقًا تعبيريًّا أفسح وأكثر شسوعًا، ثم صعوبة الإمساك بتركيبة دلالاته. بل أيضًا قدرته على إنتاج فيض دلالي وعاطفي قد يدهشنا ويعمينا عن قيمته الفنية والجمالية الحقّة.
بيد أن قدرة هذا الفن على النقد والاحتجاج والفضح قد منح الإبداعاتِ النسويةَ منه الفرصةَ لنقدِ الفكر الذكوري والهيمنة السياسية للنماذج الأبوية، إلى حدّ يمكن معه أن نقول: إن الشابات وجدن فيه ضالتهن، أكثر من فن اللوحة. بل إن الفوتوغرافيا أضحت فنًّا يمتهنه العديد منهن وتنتج من خلاله خطابًا لا يخلو من النقد والاحتجاج، لكنه يتبلور فنيًّا من خلال أسلوب تعبيري خصوصي.
من ناحية ثانية صار كثير من النساء الفنانات وغير الفنانات يخضن غمار «الكيوراتينغ» وينجحن فيه بشكل كبير، إما بشكل حر أو بالتعاقد مع المتاحف والأروقة الفنية أو مؤسسات أخرى. وهو معطى لم يكن ليتحقق في السابق.