روح جديدة وتعبيرات مختلفة تحارب ثقافة الإسمنت وتملأ الأحياء بالفن
يمكن القول: إن كتاب «التعبيرات الشبابية والديمقراطية الثقافية»، الذي ألّفناه وصدر من المركز العربي لعلوم الاجتماع، لامس فعلا التعبيرات الجديدة للشباب. وجدنا أن فنون الشارع هي تعبيرات شبابية غير رسمية وجديدة، أو بالأحرى دخيلة على مجتمعاتنا. وهي تحمل معها تاريخها الثوري والهامشي كأدوات للتعبير لجأ إليها كل من ضاقت به السبل للنفوذ إلى منصة رسمية تسمح له بقول كلمته وبجعلها مسموعة أو مرئية والتعبير بالتالي عن قضيته.
كانت لحظة الربيع العربي فرصة سانحة لاختبار هذه المسالك التعبيرية غير الرسمية، خصوصًا في ظل الهيمنة الرسمية للدول على أغلب المنابر التعبيرية المكتوبة والسمعية. وكانت الجدران والأعمدة، والغرافيتي هي الآلية الأسهل في يد قوى التغيير الجديدة، وبخاصة أن الكتابة على الجدران والأعمدة لا تتطلب إذنًا مسبقًا أو ترخيصًا يسمح للإفلات من الرقابة؛ لذلك لجأ بعض الشباب للاحتفاء برموز الثورات برسمهم على الجدران، وكتابة أسمائهم، وأيضًا لكتابة مطالبهم، وغضبهم، وأحيانًا نصرهم. فصارت الجدران والأعمدة أدوات منخرطة في الصراع في يد قوى التغيير الجديدة. مثلما كانت فنون الشارع أداة استعملها فاعلون عديدون من فناني الشارع الملتزمين بالقضايا موضوع التغيير.
ظهرت فرق موسيقية اختارت النوتات الموسيقية أداة لتمرير القضايا في الشارع. وصار الشارع حقلًا للصراع بين الفاعلين الجدد وقوى السلطة، وظهرت فرق موسيقية تشهد على هذا الصراع مثل «الفن سلاح» بتونس، ومجموعة من فناني الشارع في الدار البيضاء الذين اعتقلوا ليؤسسوا بعدها جمعية اتخذت لنفسها شعار «الفن ليس جريمة»… نجحت موسيقا الشارع في خلق نقاش حول الفضاءات العمومية، وهوية الموسيقا وعلاقتها بالقضايا المجتمعية. مثلما كان مسرح الشارع، أداة تعبيرية تاريخية ظهرت في بعض البلدان وبخاصة المغرب، بعدما نزل مجموعة من الشباب بعدتهم واتخذوا من الشارع خشبة مسرحية، وجعلوا الفن متاحًا للعموم، باعثين رسائل مباشرة للمؤسسات الرسمية بخصوص قضايا تتعلق بالحرية والديمقراطية الثقافية.
محاربة الإسمنت بالثقافة والفن
إن ما يمكّن منه الشارع هو أن يكون التجسيد والتعبير من خلال الفن وخارج الفضاءات التقليدية المعدة له، وبغير التنظيم المعهود الذي اعتادته رأسمالية المدينة وسلطتها الرسمية، وفي غير متناول الأدوات الميكروفيزيائية المستخدمة في هندسته وتوجيهه، وبما يراوغ ويضع أنواع الخطاب المتداولة فيه تحت أنظمة المراقبة والمعاقبة. ومن الممكن على هذا الأساس أن نقرأ انتشار فنون الشوارع في المدن العربية اليوم على أنه يتأسس على نقد هندسة المدينة القائمة، أو رفض الانخراط فيها وصولًا إلى التمرد عليها ومقاومتها.
لا يمكن أن ننكر إذن، وجود تلك الإستراتيجيات الخاصة بمجموعة الشباب، التي لا تكف فيها عن مراجعة ما ترثه من أشكال مادية، وموارد ثقافية تسهم بشكل من الأشكال في ظهور تعبيرات فنية خاصة بها، يمكن من خلالها أن نفهم المواقف العديدة التي لها علاقة بالحراك الاجتماعي، الذي يخضع له المجتمع وضخ دماء جديدة في جيل الشباب التواق إلى الحرية والتغيير. وعلى ذلك الأساس تتفارق الاتجاهات والإستراتيجيات؛ لأنها تقع في قلب الاستجابة للحاجيات الاجتماعية والثقافية، وانخراط الشباب في التغيير، وابتكار آليات وأشكال تعبيرية جديدة تنفلت مما هو تقليدي أحيانًا، وتكسر قواعد اللعب المعتادة أحيانًا أخرى. فأشكال التعبيرات الجديدة التي تخرج علينا اليوم تكشف بالملموس أن واقعًا آخر ممكن، وأن الشباب لهم رأيهم فيما يقع ويقولون ذلك بطريقتهم الخاصة… والمهم في هذا الأمر هو محاربة ثقافة الإسمنت وانخراط الشباب في ملء الأحياء بالثقافة، والفن.
المأسسة والتدجين
الحديث عن جدلية فنون الشارع وإمكانية خلقها مدارس فنية جديدة أو السقوط في المأسسة والتدجين يُفضي إلى الفكرة الأهم لنا، وهي بروز فنون الشارع في العديد من المجتمعات، وازدهارها بعد الربيع العربي، وكونها حقلًا للصراع بتعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو. بمعنى أن هناك فاعلين وقوى تغيير جديدة تدافع عن أدوات التعبير الجديدة، غير الرسمية، مثلما تدافع عن الفضاءات العمومية الحرة. في الوقت نفسه هناك قوى السلطة الرسمية التي تريد أن يبقى كل شيء تحت رقابتها.
وفي هذا الصراع نكون أمام إمكانية استقلال حقل فنون الشارع، وسيره في اتجاه مزيد من الحرية والجاذبية، أو سقوطه في المأسسة، وانصرافه عن أدواره وانحرافه عن هويته التاريخية. وهنا نكون انتقلنا من فنون الشارع كحقل للصراع، إلى فنون الشارع كجهاز أيديولوجي في يد الدولة، بتعبير الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير.
وكتابنا «التعبيرات الشبابية…» يذهب بهذا التحليل إلى مداه، ويبين عبر طول فصوله ما جاء في سؤال «الفيصل». فهناك بعض فناني الشارع الذين يرفضون التمأسس، وهناك من يسعى وراء ذلك، وهناك من فضل الانخراط في جمعيات فنية، وهناك من يدافع عن استقلاليته وحريته وفردانيته، وهناك من يرحب بالعمل مع السلطة وصعوده للمنصات الرسمية، وهناك من يظهر تأففًا ورعبًا من كل فنان شارع يسعى وراء ذلك.
المهم أننا أمام حقل جديد، منذور للمستقبل. والشارع هنا، «هو ذلك الفضاء المسرحي الكبير الذي يجمع الكل في حالة مشهدية لا تؤمن بالضرورة بالتناغم، ولا بالحدود ولا بقواعد الصندوق الصارمة والمحفوظة، وإنما يتيح الفرصة للتعبير عن الأنا من خلال فن الشارع. من هنا يعيد الشباب تنسيق المشهد الفني ويعيدون تعريف الفن، والفنان ومعه الشارع بما تطلبه نواميس الشارع كما يتصورونه، مثلما يتخذ الفن والفنان معهم تعريفًا ومهامّ جديدة».
هكذا نفترض مثلما ورد عند ألان سوينغوود من أن «أجيالًا جديدة تسعى إلى الإطاحة بالأشكال الفنية المؤسسة المرتبطة بالتراتبية القديمة للقوة والمكانة». عبر هذه التعبيرات الشارعية تُمْلَأ الشوارع في مدننا بروح فنية ثقافية جديدة وتعبيرات مختلفة من موسيقا ومسرح وغرافيتي. هذا الشكل الأخير يجعل الإسمنت والجدران تنطق فنًّا في رسائل صريحة وضمنية، ومشفّرة. وعبر هذه الممارسات الشبابية الفنية الشارعية يصبح الفن من الموضوعات المشتركة بين جميع الذين يمشون في الشارع، فما هي أفضل طريقة للتعبير عن رأيك من وضعها مباشرة أمام المارة؟ لكن الغرافيتي، كممارسة فنية، كانت وما زالت تطرح إشكالات عديدة: فبعضٌ يعدُّها ممارسةً فنية ثورية، كانت ويجب أن تبقى تحت المنع، ومتى سعت وراء الترخيص عادت شيئًا آخر إلا أن تكون فنًّا. لكنّ بعضًا آخر يعدُّه فنًّا تخريبيًّا، وبالأحرى سوقيًّا.
الديمقراطية الفنية
فنون الشارع بآلياتها ومضامينها، تبقى فعلًا تعبيريًّا عن الروح الديمقراطية وجوهرها، وعن حرية التعبير واستقلالية الفضاءات العمومية. والكتاب يخوض في هذه النقطة مبينًا، من وجهة نظر تاريخية، كيف أن هناك من يعتبر فنون الشارع آليات للتخريب، وقد تكون سيفًا ذا حدين، خصوصًا عندما تصبح أداة في يد قوى الظلام التي تروم ترويج العنف والإقصاء، ورسم علامات عنصرية على الأعمدة والجدران، أو أداء أغانٍ تشجع العنصرية… مثلما أن فنون الشارع هي تاريخيًّا وسائل لخدمة التحرر والتعبير عن قضايا المهمشين.
لقد أتاح الشارع بتركيبته المتشابكة مجالًا أوسع لموسيقيي الشارع أن يزرعوا أشكالًا موسيقية مختلفة داخل الفضاء. فالشارع يعني حرية، وكل ما يحدث في الشارع هو ملك الشارع، لا دخل للسلطة ولا الحاكم فيه. هؤلاء مكانهم الصندوق يحتكمون به ويحكمون من داخله، أما الشارع فهو حاجة أخرى؛ لأنه يعطي الفرص لمراوغة الصندوق، ومراوغة تلك المراسيم الرسمية وخلق فضاءات تعبيرية خاصة بالحراك المواطني الذي تظهر أهميته في قدرته على امتلاك كل الأساليب التعبيرية الفنية التي نخترق بها الشارع ونبني لأشكال تواصلية مباشرة مع الهامش.
نزعم إذن، أن مختلف أشكال الممارسة لفنون الشارع سواء في بعدها العفوي، أو الواعي، يندرج في إطار نوع من الديمقراطية الفنية. بمعنى حق الفنان في الولوج إلى الجمهور أولًا، ثم حق جميع المواطنين في الاستفادة من الأنشطة الثقافية والفنية. هكذا يسنّ فنانو الشارع قانونًا جديدًا وتقاليدَ وأعرافًا مغايرة تقول بحق الجميع في الفن، وذلك إما بشكل غير واعٍ أو بشكل واعٍ وقصدي. ومهما كان الأمر فإننا أمام عملية تمكين جمهور واسع من الناس من الحق في الفن. فيكون هنا الشارع هو الوسيلة والغاية. وإن لم يكن فنان الشارع بفعله هذا يحمل رسالة حقوقية وسياسية وشعبية لأدوار الفن فهو يطلب على العكس من هذا، أو في مقابل هذا، حكم الجمهور الجمالي ورأي الآخر على أعماله الفنية التي يسعى ويطلب الوسائل التي تسمح بتعميم عمله الفني.
لكن مهما كان الأمر فأدوات التعبير مهما كان مضمونها فهي منا وإلينا، ووجودها ضروري للنظر في المجتمع والتعرف إليه. فمعرفة أدوات التعبير الفنية في كل مجتمع، مفتاح لفهم ذلك المجتمع. وهذا ما أكدناه في كتابنا، بعدما توجهنا إلى دراسة فنون الشارع وفق مقاربة فلسفية سوسيولوجية تجسّدت الأولى في الباحث ياسين أغلالو، بوصفه باحثًا في الفلسفة، والثانية تجسّدت في الباحثة فاتن مبارك، بوصفها باحثة في السوسيولوجيا. ليخرج الكتاب مؤكدًا أن دراسة فنون الشارع مدخل لفهم مجتمعاتنا وتطلعات شبابنا.