خطاب المهمشين بصريًّا.. فن الخربشة على الجدران
تنطلق فلسفة الخربشة والرسم على الجدران عند بعض الفنانين الشباب من تجاوزها للمساحات الممنوحة لهم في الكراريس والكتب المدرسية، متجاوزين بأقلامهم وطباشيرهم المحدود إلى غير المحدود. فليس رسم التلميذ مثلا وكتابته على طاولته الخاصة إلا مستوى من مستويات البحث عن مضمون الفهم الأول للكتابة عنده، ورغبته في التعبير عن المنطقة الداخلية المكبوتة ليتيح لها شكلا من أشكال الخروج. فهو يكتب على طاولته، ويحفرها بقلمه، وينقش عليها؛ ليشكل بذلك عالمًا وهميًّا يجد من خلاله نفسه، حيث الحرية والجرأة والرغبة في رسم الحقيقة.
ومن يتتبع نشأة هذا النوع من الفنون الشبابية في العالم سيجد أن بداياته كانت في نهاية السبعينيات في أميركا، ثم أخذ موقعه بين الفنون البصرية تحت اسم «الغرافيتي» الذي عُرف به واشتهر. ظهوره هذا ارتبط بفنون شبابية أخرى صاحبت ثورة حركية وموسيقية تتعلق بالهيب هوب، ورياضة التزلج، ومصحوبة كذلك بثورة فنية أخرى جاءت مرتبطة بالملابس والأزياء من ألوان صاخبة متمردة على الشكل التقليدي.
ومن رسوم الفنانين الشباب على الجدران ما يمكن ملاحظته في بعض المدن السعودية، من رصدهم للوجوه والأشكال لشخصيات مشهورة طبعت عشقها على مسامع الكثيرين، مثل ولعهم برسم الفنان (طلال مداح) صوت الأرض، والفنان (محمد عبده)، والفنان (بشير حمد شنان) وآخرين. فمثلًا تجد في مدينة واحدة كالطائف أكثر من رسمة بورتريه للفنان طلال مداح منتشرة في أحياء المدينة وأزقتها الخلفية، مرسومة بعناية ودقة، بدءًا من رسم الشماغ والنظارة وملامح الوجه وصولًا إلى تفاصيل أوتار العود.
وهناك الرسوم الكارتونية، وهي كثيرة على جدران الأماكن والأحياء. من ذلك رسمة لطائر (نقار الخشب)، البطل الكارتوني المشهور الذي يعرض على التلفاز منذ الثمانينيات ويعرفه الأطفال، فقد عشعش في الأذهان وأصبحوا ينقرونه على الجدران. وهناك رسوم متنوعة لشخصيات كارتونية مشهورة مثل: (توم وجيري)، و(سبونج بوب)، و(بينك بانثر) النمر الوردي، وهذا الأخير كان أكثرها انتشارًا. ومما يقترب من الرسوم الكارتونية الرسوم الإعلانية ذات التعبير الدعائي لسلعة معينة لنجد وفي هذا الموضوع رسمة لشخصية (سفن أب) المعروف بعبارة «يا لذيذ يا رايق» مع التركيز على هذه الجملة بالذات. وهناك رسوم الوجوه المختلفة المتعلقة بأشكال لا تتصل بأي شخصية معينة أو شكل كارتوني معروف، وهذا منتشر بكثرة في المدن. أما رسوم الأيدي والأصابع فلها دلالاتها المتعددة، كرموز للتعبير عن القوة والاتحاد والحرية والنصر، وغير ذلك من شعارات الفرق الرياضية مصحوبة بعبارات لغوية متعصبة.
عالم كبير من الفن
أما رسم السيارات والدراجات النارية فهو عالم كبير من الفن الذي شغف به الشباب. فهناك من يرسم على الجدار شعار ورمز سيارة معينة، وهي منتشرة في أغلب الشوارع بصور مختلفة تعبر في معظمها عن أنواع كثيرة من السيارات رغم طغيان بعضها على بعض، فمنهم من يعشق رسم السيارات ذات الحوض المعروفة بغمارة أو غمارتين. وهذه الرسوم في النهاية تعبّر عن شغف بعض بسيارته أو تمني حصوله على هذا النوع من السيارات. وهناك من يرسم سيارة كاملة برؤية تركز مرة على الشكل الأمامي، ومرة على الشكل الجانبي مظهرًا بذلك الأبواب وهي مفتوحة، في دلالة لعلها تشير إلى البحث عن الحرية والانفتاح.
وتنتشر كتابات العشاق من الشباب وأهل الغرام في شوارع المدن والأحياء المهمشة، وبخاصة بالقرب من مدارس البنات. ويمكن النظر إليها من نواحٍ عدة منها: ولع العشاق برسم القلوب بأنواع وأشكال مختلفة، تختلف من شخص لآخر، كذلك من عاشق صغير وآخر كبير، كما تختلف رسم القلوب بحسب المحبوبة ومنزلتها لدى الشخص، فتجيء مرة بقلوب يشقها سهم ناري إلى نصفين وهي تقطر دمًا أحمر، وهذا هو الغالب، ومرة يُرسم القلب طائرًا بأجنحة محلقًا في سماء الحب. ومرة يُرسم على هيئة قفل بداخله مفتاح مشيرًا إلى تصوير العلاقة بين المحبين من أنها بحاجة إلى مزيد من التفاهم وكشف المخبوء.
كما برع العشاق في رسم العيون وتفننوا في تكحيلها وإبراز الرمش ومحاولة إظهاره في أروع ما يكون. وكأن العيون هي بداية العشق ورمز الفتنة عند أغلبهم ودليل على جمال المرأة. في رسمة نجد عبارة تقول: «يا عين لا تبكين هذا نصيبي». ومن جهة أخرى نجد الألقاب والأسماء والأوصاف المتعلقة بقضايا العاشق وبالحب والغرام مثل: «الجريح» و«المحب» و«الولهان» و«عاشق» و«ساهر الليل» و«مشتاق» و«الموادع»، وغيرها كثير.
كتابة صعبة القراءة
وتبدو كتابة الخربشة على الجدران صعبة القراءة كما يذكر أحد الباحثين: «من وجهة نظر علم الخط غالبًا ما تكون صعبة القراءة، غير أن الوثائق المكتوبة بهذا الشكل، التي لم تكن تستهدف الآتي من الزمن، غالبًا ما تصبح ذات أهمية كبرى في معرفة الحياة اليومية، وحديث الإنسان الشعبي». وعبارة «تستهدف الآتي من الزمن» هي الغاية من ذلك، لتصبح المسألة أكبر وتصبح الكتابة خطرًا على الزمن وإدانة له. فخطورة الخربشة تكمن في خطابها المضاد، فليست عبارات الهجاء والغضب والتعصب والرفض والعبارات البذيئة والمشوشة إلا توصيفات مهمة تقدمها لنا الحدود اللغوية عن بنية المجتمع، بوصفها مدلولًا مؤشرًا على خطاب النقد الثقافي عند جيل الفنانين الشباب، لتغيب في بنيات بصرية متباعدة تؤكد حقيقة ما يسمى بجماليات القبح.