من البروج إلى العروج
«عندما طارت طيور الأرواح المقدسة
من أغصان الشهود واجتازت
سماوات اليقين، لا يمکن العثور عليها
في البساتين القريبة…»
لا ريب أن مشاهدة ذلك التطويف الذي تقوم به الطيور في الآفاق، ثم تَجمّعها في أسراب تختفي في طيات السحب كانت مثيرة لأقصى درجات الفضول الإنساني. كلما تشق الطيور عنان السماء بخافقيها، ثم تختفي عن نطاق الأبصار البشرية، تطير في أعقابها العقول على أجنحة الخيال لترسم ملامح عالم مفترض قد تدنو منه تلك الطيور، عالم يحل محل الوجهة الغامضة التي قد تبلغها على خارطة ترحالها المتعالي.
يتصاعد الفكر البشري في معراج السؤال، مأخوذًا بفضول جامح لمعرفة معنى الترحال الصاعد إلى المحل الأرفع، تواقًا إلى رحلة ارتقاء مجازية تمتد لأبعد مما يدركه البصر، فيبدأ في تشكيل خط سير شائك يفضي إلى هدف ناءٍ تحفّه المهالك. وتتبدَّى هذه الظاهرة الفكرية في فرع من الكتابة الأدبية العرفانية، يمكن تسميتها بـ«رسائل الطيور»، التي تتوسل الحالة الطيورية من خفة الحركة والصعود والحومان، ومن اللطف والرشاقة والرقة، لتربطها بالأرواح الشفيفة المتجردة، والسابحة في رحلة ارتقاء تقربها من الذات العليا.
لهذه الرسائل سياق قصصي يتابع مراحل الرحلة التصاعدية، وفيها تنطق الطيور بلسان البشر، وعلى الرغم من أن هذا المنحى الترميزي يربطها بقصص الحيوان الناطق الواردة في كتاب «كليلة ودمنة» مثلًا، فإن الحكاية المَثَلية التي تَرِد على ألسنة الحيوانات هناك غرضها الإخبار، والحجاج، وانعكاس الواقع المَعيش لتبيان قوة العقل وانتصاره على الغرائز. تأتي قصة «الحمامة المطوقة» في محضر التمثيل على تواصل إخوان الصفا وتعاونهم، وكيف أنهم يتعاضدون للخروج من كل مكروه؛ لذلك حين وقعت سيدة الحمام مع صواحبها في شبكة صعب التخلص من حبائلها، فإنهن يتعاونَّ على قلع الشبكة والعلو بها في الفضاء، ثم إنهن هبطن حيث الجرذ زيرك لطلب المساعدة، فيقوم بقرض العُـقد حتى تستطيع المطوّقة أن تنطلق وحمامها معها.
المسألة إذًا ليست إنطاق الطير، بل إنها ليست مجرد رحلة خروج من نطاق الأرض إلى فضاء السماوات، فما قام به أبو العلاء المعري في كتابه «رسالة الغفران»، الذي يصور رحلة إلى العالم الآخر مكتملة بالمحشر والنعيم والجحيم، لا علاقة له بالطيور أولًا، ثم إن فكرة اكتمال المسعى فيها تعلن نهاية الحياة وما آلت إليه الأرواح بعد الحساب الختامي، وكذلك يفعل دانتي في «الكوميديا الإلهية».
رحلة عجيبة مهلكة
وعلى مستوى آخر فإن «رسالة الطيور» للرازي تقترب من رسائل الطيور، ليس فقط في عنوانها، ولكن في طريقة تجمع الطيور، واختيارها مندوبًا، والطيران في رحلة عجيبة مهلكة، ثم الوصول إلى هدف منشود تتفكك عنده العقدة، ويحل بعدها الأمان والطمأنينة. في رسالة الرازي قصة عن طيور مظلومة تجتمع وتنتدب الببغاء متحدثًا عنها، ليطلب من سليمان الكبرياء أن يرفع عنهم الجور الذي حل عليهم بابتعاد ملك الطيور، عنقاء المُغرِب عنهم. تُبتعَثُ الحمامة إلى سليمان، فتمر بمراحل تميز رسائل الطيور حتى تبلّغ رسالتها، ثم يرسل سليمان الهدهد برسالة إلى عنقاء المغرب. يجتاز الهدهد سبعة أقاليم، وسبعة بحار، ويشاهد العجائب حتى يسلم الرسالة إلى عنقاء المُغْرِب، الذي يمتثل للأمر قائلًا: «سمعًا وطاعة، إنني أعمل وفق إشارات صاحب الجلالة سليمان الكبرياء»، ويعود ليرفع الظلم عن الطيور.
على الرغم من التوافق مع عناصر رسائل الطيور، فإن قصة الرازي لا تعدّ تجربة عرفانية تميز بها سالكو الطريق نحو الحضرة الإلهية، بل هي تمثيل رمزي يعبّر عن دفع الظلم عن الرعايا بهدف اجتماعي وسياسي. أما «رسالة الطير» لابن سينا فيتحدث فيها الراوي بلسانه الخاص، ويظهر بشخصه على هيئة طائر يحلِّق مع إخوان الحقيقة، فيقول: «بينما أنا في سربة طير». يسقط السرب في حبائل شرك تعلّق بأرجل الحمام وعاقَ حركتَها حتى استسلمت للهلاك واطمأنت للأقفاص. وكما جرت الأحداث في «الحمامة المطوقة»، فقد أتت إلى نجدتهم طيور أخرى في أرجلها بقايا الحبال، فرفعت من همتها وعالجوها وفتحت باب القفص. حين عادت إلى الطيران، مرت بالجبال الشواهق فارّةً من الأعداء حتى أوهنها النصب. فارتاحت في جنان مخضرّة، ثم تابعت رحلة الفرار حتى التقت طيورًا دلتها على مدينة الملك الأعظم الذي يكشف الضرَّ عن كل مظلوم، وفي حجرة الملك رفع لهم الحجاب فتعلقت به أفئدتها، وعبّرت له عن قضيتها، فأرسل معها رسولًا يميط عنها الأذى.
يقترب ابن سيناء من الفكرة التي تنشغل بها رسائل الطيور، وعلى الرغم من أن الفرار والتظلم هو الدافع لرحلة البحث المرحلية الصعبة، فإن رحاب الملك الأعظم والراحة النفسية التي وفرتها للاجئين إليها تضيف عنصرًا مختلفًا فالطيور تتكبد مشاقّ الطريق ووعورته لتعود للحياة وتسير على درب جديد، كما أن التصريح بأن الطائر بشري في القصة يعقد الارتباط الرمزي بين الطير والروح الإنسانية بوضوح. في نهاية القصة يعود الراوي ليقص على الناس ما جرى له، لكنه يظهر بشكله البشري هذه المرة، فتأتي ردة الفعل هادمة للخيال الذي شيّد القصة وتحوّلها إلى حالة من الاختلال العقلي، فالناس لم يصدقوه وقالوا له: «أراك مس عقلك مسٌّ أو ألمّ بك لمم، ولا والله ما طرت، ولكن طار عقلك، وما اقتنصت بل اقتنص لُبّك، أنَّى يطير البشر أو ينطق الطير؟».
الخلاص الجمعي الطائر
وفي نصٍّ مختصر حمل عنوان «رسالة الطير» أيضًا، تحدث أبو حامد الغزالي عن رحلة تقوم بها الطيور بعد اجتماعها مع الهدهد للبحث عن ملك لها، فيخبرها أن ضالتها المنشودة هي العنقاء، ملك الطيور المقيم في جبل بعيد، «وراء سبعة وديان وسبعة أنهار». وهكذا تنطلق الطيور وتبدأ رحلة الخلاص الجمعي الطائر، وتتكبد مشاق السفر المرحلي وهي مصممة على الوصول إلى العنقاء، رغم المخاطر ورغم هلاك بعضهم، «فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد. ومات من كان في بلاد البرد في بلاد الحر. وتصرفت فيهم الصواعق، وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك». إبان وصولها سألت عن ضالتها ومليكها المنشود، ففوجئت بأن لا عنقاء هناك، وأن جهدها لم يأت بالنتيجة المرجوّة، فأصابتها خيبة أمل شديدة، واحتارت في هذا اللغز العجيب.
ينتهي نص الغزالي عند المثول أمام الحضرة الإلهية، حيث لا سبيل إلى اليأس، وحيث كمال الغنى يوجب التعزز، وانكشاف النفس يحرر من الأوهام. نتيجة الرحلة الغزالية هي السفر داخل النفس والتحول الوجداني، فالمرء مهما طاف في الآفاق باحثًا عن الطمأنينة، فسيجدها كامنة في ذاته تحقيقًا لحكمة الفلسفة الأولى: «في باطنك تكمن الحقيقة». ويظهر أن رسالة الغزالي تشكل رحلة معراج سماوية تصل بالطيور، التي تجرّدت واشتاقت وتكبدت العناء، إلى الحضرة ذاتها عن طريق وسيط حكيم يتمثله الهدهد.
وتصل رسائل الطيور إلى ذروتها عند فريد الدين العطار، وهو ثالث أعلام التصوف الفارسي، بعد سنائي الغزنوي وجلال الدين الرومي، وذلك في منظومته الشعرية الصوفية المسماة، «منطق الطير». في قالب قصصي يحدثنا العطار عن اجتماع ثلاثين من الطيور تختار الهدهد العارف دليلًا لها ومرشدًا في رحلة تتجه صوب الطائر الأكمل، السيمرغ، وهو المعادل الفارسي للعنقاء في الأساطير العربية. في مراحل سفرها الشاق تمرُّ بوادي الطلب، ثم العشق، ثم المعرفة، ثم الاستغناء، ثم التوحيد، ثم الحيرة، وأخيرًا الفناء والبقاء، وحين تصل مطهّرة ومخلصة، يُكشف لها الحجاب الساتر لتكتشف أن السيمرغ ليس إلا انعكاسًا لصورتها.
الرمز بالطير عن النفس أو الروح، والاجتماع لبدء رحلة الارتقاء الروحي المرحلية الخطرة، ثم الوصول والإحساس بالبصيرة، هي عناصر أساسية في رسائل الطيور، إضافة إلى وجود المرشد للمريدين المسافرين، والسعي نحو غاية عليا منشودة، العنقاء وما ماثلها. وقد تختلف نهايات الرسائل، لكن نهاية العطار تبقى متفردة؛ لأنها تحقق فكرة المعراج الروحي المُخلّص من العلائق الدنيوية بشكل واضح ومباشر. في «منطق الطير» يظهر السفر الروحي كفكرة صوفية خالصة يكون فيها الطير رمزًا للمريد الشفاف، المُتخفّف بالمعاناة في دروب السالكين، منساقًا بقوة العشق الإلهي إلى مشهد الحضرة، ومشتاقًا إلى الفناء والانمحاء. في نهاية العطار، عند رؤية النور الإلهي، يدرك المريد معنى الانصهار الثنائي في الاتحاد الأسمى، حيث الوحدة هي عين الكثرة، والكثرة هي عين الوحدة.
* عبهر العاشقين، روزبهان بقلي الشيرازي، تصحيح هنري کربين ومحمد معين، افست منشورات منوجهري، طهران 1360 ش، ص124.
طيور سليمان جلال الدين الرومي
فصاحة طيور البلاط مجرد أصداء
أين أحاديث طيور سليمان؟
كيف ستعرف أصواتهم،
وأنت لم ترَ سليمان لدقيقة واحدة؟
من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب
تمتد أجنحة الطير الذي تهزهم نغماته.
من أعتاب عرش الرحمن إلى الأرض،
ومن الأرض حتى العرش المقدس
يتحرك في عظمة وكبرياء.
الطير بدون سليمان، هو خفاش يعشق الظلام،
تعرّف على سليمان، أيها الخفاش الوغد،
وإلا بقيت في كهفك للأبد.
تحرك شبرًا في هذا الاتجاه، وكالشبر ستصبح
مقياسًا معتمدًا
حتى لو أنك زحفت، أو عرجت في ذلك الاتجاه،
فلسوف تتحرر من كل عرج أو كساح.
ترجمة: ل ب. من كتاب مختارات الرومي؛
تحرير: كبير هيلمينسكي