فِلْم الجبل
العام ١٩٧٦م..
جازان.. أبو عريش.. إلى الشمال قليلًا وسط غابات الأشواك والأراك.. تقبع قرية الخضراء الجنوبية.. على مجرى وادي جازان.. حيث ولد طفل لعائلة كانت تسكن القرية بين حد الشوك وصخب تساقط المنازل من على ضفاف الوادي.
سنة قاسية تعيشها القرية. موجة من البرد.. الذي لم تعتده القرية.. الوادي المائج بمنازل السكان والأشواك التي ترسل ظلالها لترعب الصبية في الطرقات. كل ذلك يجعل من مستقبل الطفل وعائلته على حافة الهاوية. تقرر عائلته الهجرة لجبل يعصمها من عبثية الطبيعة القاتلة. وكان جبل الدقم الخيار الأقرب للعائلة.
العائلة؛ تلملم ما أمكنها الوصول له من متاعها…تترك القرية وتهاجر شرقًا إلى جبل الدقم، حياة جديدة كانت بانتظار الطفل وعائلته الفارين من بطش الوادي، وضجيج الأشواك المرعبة.
الجبل وإن بدا أنه الملاذ الآمن من الوادي إلا أن حقيقته الغامضة قد تكون.. بعيدة جدًّا عن الأمان.
وصلت العائلة وحطت رحالها إلى كهف في الجبل، قرر الأب وزوجته أن هذا الكهف سيكون المنزل المثالي الذي سيتربى بين جنباته طفلهم المشؤوم.
مضت الأيام سريعة. وكذلك الأعوام. الطفل الصغير بدأ يكبر ويصبح أكثر نضجًا. ووالداه يعيرانه كثيرًا من اهتمامهم.
وبدأ الجبل يبرع في تأصيل سماته الخاصة على الطفل. ملامحه، وعاداته اليومية؛ الطفل أصبح شابًّا قويًّا يعين أبويه على الجبل وقسوته. يحضر لهم قوتهم اليومي من الصيد، وينازع الجن على مياه بئر مهجورة أسفل الجبل.
ذات صباح ندي بارد، خرج الشاب لصيد ما يسد فاقته وأبويه. حربته بيده… وأمامه قطيع من الضباع، مجتمع على جيفة حمار، اقتنص الشاب أحد الضباع. وفرت البقية.
سحب الشاب الضبع الميت نحو كهف والديه، وفي طريق عودته سمع صوتًا أكثر نعومة من تلك التي كان قد سمعها طيلة حياته في الجبل. راح يقترب من ذلك الصوت، شيئًا. فشيئًا، لمح من بين الصخور كوخًا لأول مرة يراه، وعلى بابه تقف فتاة وحدها، اختبأ الشاب خلف إحدى الصخور، وكانت الفتاة تغني لطيرها الواقف بين يديها، مسلمًا أمره لعذوبة غنائها، وراحتي كفيها الناعمين… أطال الشاب النظر نحوها.
Cut Cut Cut
أوقف المخرج تصوير المشهد، بسبب خطأ من الممثل، كان من المفترض أن يرمي الفتاة بسهم يرديها قتيلة، لا أن يناظرها فقط؛ وكان سامي في الرابعة عشرة من عمره، يجلس بجوار والده عز الدين «كاتب سيناريو الفِلْم»، وكانا يجلسان خلف الكواليس مع بعض العاملين.
وفي الظلام حيث كان يجلس سامي شبه نائم في أثناء تصوير الفِلْم، وقبل أن يوقف المخرج التصوير؛ كانت تدور في ذهنه أحداث لمشاهد متخيلة لفِلْمه الذي يحلم بكتابته حينما يكبر:
كان باب يصطفق في الآخر، بفعل الرياح العاتية، ومطر غزير يهطل، وبروق تشوط المطر والرياح لتزداد سرعتهما، ولمعة البروق تنير شيئًا من العتمة المطبقة على صدر المدينة.
الوجه الأول
خارج سور المبنى الذي كان يحرسه… أبو عزيز؛ مدير الأمن القادم من قريته التي تبعد من قلب المدينة ٩٠ كيلًا. يتوسّد كرتونه ويفرد قامته على الرصيف… أمروه أن يحضر في المساء، وحين حضر لم يجد أحدًا، وجد ملفًّا أخضر ملقى أمام بوابة المكتب، وعلى ظهر غلافه وجد أبو عزيز لهيب الأمر.
مرّت خمسون عامًا وهو يربي شيبه، ليهز به في وجه العواصف القادمة من الجبال، ويهش به على قطيع القطط التي تقتحم أسوار المبنى في أثناء نوباته الليلة… ثم لا شيء يغطي عورته في مواجهة الليل ووحشته، والعواصف وبردها. غير كرتون يحجز بينه وبينها.
الوجه الثاني
خلف ما اتكأ على مكتبها الشارد في ذاكرة السنوات، تجلس مباشرة أمام المدخل الرئيس لمبنى الشركة، تكتسحها الوجوه السعيدة، وتلك الغاضبة كل صباح؛ تعصر الوقت، ترج الأرض ولا تنتهي ساعات الدوام الطويلة، كل سؤال لا بد أن يجد الجواب، وكل قامة متهدمة تصطف أمامها لا بد أن تلبي لها مطلبها، وإلا ستذهب سنوات طويلة من الجلوس أمام هذا الباب، وأمام أكوام الوجوه إلى غير رجعة.
الوجه الثالث
.
.
.
سامي….. سامي….. المدرسة يا ولدي!!