«أسماك القرش في زمن المنقذين».. رواية المفارقات
حققت رواية «أسماك القرش في زمن المنقذين» للكاتب كاواي سترونغ واشبورن (MCD) نجاحًا كبيرًا منذ أن صدرت في 30 مارس 2020م، وصُنِّفَت من أهم الكتب في عام 2020م. وفي 2021م فازت بجائزة القلم-همنجواي. الظاهر في النص أن طفلًا في السابعة من العمر يسقط في محيط مليء بأسماك القرش، وتحاول الأم أن تنقذه فتقفز في مياه المحيط في خطوة جريئة تعد انتحارًا، في موقف نتيجته المنطقية افتراس أسماك القرش للضحية والمنقذ.
أسماك القرش. زمن. المنقذون. الافتراس هو المقدم في العنوان من خلال أسماك في محيط. الزمن الظاهر هو لحظة سقوط الطفل وسلبية الأب الذي لم يتحرك لإنقاذ ابنه ومسارعة الأم، وهو زمن سريع عابق بالتوتر. المنقذون، وهم الأم والأسماك نفسها! والمفارقة الواضحة هنا هي أن الذي أنقذ الطفل ليس المنقذ، ولكن الأسماك المفترسة نفسها التي مرت من جوار الأم ولامست زعانفها جسدها وتركتها لتلتقم الطفل بأفواهها برفق ثم تعيده إلى القارب بسلام؛ وبهذا تتأكد للأم معجزة طفلها الذي تقول الأساطير القديمة إنه سيكون منقذًا لأسرته ولقومه.
الدلالة الأخرى للإنقاذ هي إنقاذ الناس من الأمراض من قبل هذا الطفل المعجزة، طبعًا إضافة اعتقاد الأم أن هذا الطفل سيكون منقذًا لهم من الفقر والديون. الدلالة الأهم هي إنقاذ الناس لأنفسهم من أوهام الأساطير وأوهام أفكارهم وأنفسهم. ومن ثم المنقذون للناس هم الناس أنفسهم، بمعنى أن انتظار الإنقاذ من الخارج انتظار عبثي ولا يفيد. وبإعادة قراءة ترتيب العنوان: سنجد أن أسماك القرش هي واقع الحياة التي لا ترحم، وأن الزمن هو الزمن الذي يعيشه الناس، وهو زمن متوتر يجب ألا نتهاون فيه مثل لحظة سقوط الطفل بين أسماك مفترسة، فأي تأخير تكون نتيجته مأساوية، وأن المنقذين للناس هم الناس أنفسهم، والوقت هو أداتهم.
مصادر النص
تعتمد هذه الرواية على أسطورة الروح أو الآلهة (أوماكوا) التي قد تتجسد في كائنات محددة، فتأخذ شكل سمكة القرش، أو الغراب، أو البومة، أو الأخطبوط، أو نوع من النبات؛ لكي تحمي الناس. وهذه الأسطورة من الأساطير المعروفة في جزيرة «هاواي». هذه الجزيرة التي تتميز بالمنتجعات السياحية والجمال الطبيعي. لكن المؤلف أختار جانبًا مخفيًّا من أساطير مواطني الجزيرة.
على رغم أن أحداث الرواية تبدأ سنة 1995م، ولكن الأم تخبر طفلها «نوا»: «كانت مملكة هاواي محطمة منذ فترة طويلة وكانت الآلهة متشوقة للتغيير» وفي تلك المدة تنهار صناعة السكر ويفقد والده وظيفته. وتعتقد الأم أن ابنها هذا سيكون هو المنقذ. فعندما كان الأب يضع بذرته فيها سمعا طبول أرواح الآباء وشاهدا مشاعلهم التي كانت تقترب منهم، هذه الأسطورة التي كانوا يسمعون عنها إنهم يشاهدونها الآن، من هنا تبدأ الأم بإيمانها بالقدرات الخارقة للطفل الذي سياتي. تتأكد هذه العقيدة عند الأم وعند الناس لاحقًا عندما يسقط في مياه المحيط بين أسماك مفترسة، لكنها تنقذه بدلًا من افتراسه، وتتأكد أكثر حينما يكون «نوا» مع رفاقه يحتفلون بالمفرقعات فتنفجر في يد صديقه إحداها ويتمزق جلد يده حتى يظهر العظم، وحينها يلمسه «نوا» في موضع الجرح يشفى تمامًا. يقول «نوا» إنه لحظتها أحس كأن الكائنات من حوله كلها بداخله، أو كأنه هي وكأنها هو؛ يتنفس بها وتتداخل أنفاسها مع أنفاسه. ومن ثم بعد هذين الحادثين يتوافد الناس إلى بيت الطفل المعجزة طلبًا للشفاء. وتكون النتيجة غيرة أخته وأخيه وشعورهما بالإحباط والغبن، ولكن في مرة من المرات يأتي رجل ويقول إن «نوا» لم يشفه، فيشعر «نوا» بالإحباط ويتوقف عن شفاء الناس.
المشكلة في النص، فقر عائلة هذا الطفل، المكونة من الأب والأم وفتاة وولدين. ورغبة هذه الأسرة في الخلاص من الديون ومن الفقر، فمصانع السكر تنهار ويفقد الأب وظيفته فتتراكم الديون وتضيق بهم الحياة. في الحبكة توترات وتشويق وتعقيدات تبدأ بلحظة وضع الأب بذرة هذا الولد في أمه وخصوصية اللحظة التي تنتهي بسماع طبول أرواح الأسلاف ومشاعلهم وهي أسطورة كانوا يسمعون عنها لكنهم الآن يشاهدونها فعلا، من هنا تبدأ الأم في أوهامها الخيالية. ثم تتحسن الأحوال قليلا بفعل الهدايا التي كانوا يتلقونها من الناس بسبب كرامات الطفل المعجزة، لكنها لا تستمر، ومن ثم تفرض ضرورات الحياة على الأبناء الثلاثة أن يتفرقوا طلبا للعلم والعمل. فيكون الصراع موزعًا على شخصيات هذه الأسرة. وبعد رحلة النجاحات القليلة والتي تنتهي بالإخفاقات، يعود الإخوة الثلاثة إلى «هاواي» حيث بيت الأسرة، فتنصح الأم المؤمنة بالقدرات الخارقة لابنها أن يذهب إلى الوديان لاستعادة قدراته. لكنه يختفي هناك ولا يجدون إلا آثارًا تدل على موته.
إذًا تبدأ الحبكة بمفارقة الاعتقاد الخاطئ بالقدرات الخارقة للولد الذي سيخلصهم من الفقر ومن الديون، ولكن ما يحدث للجميع هو اصطدامهم بواقع لا ينفع معه المنقذون الوهميون، واقع يعتمد عل الجد والمثابرة والعمل المحسوب حسابًا دقيقًا وهذا هو مستوى لصراع في الحبكة داخليًّا وخارجيًّا. ومن ثم يعودون إلى نقطة البداية ليحصدوا ثمرة أخطائهم، فتنكشف المفارقة بالنتيجة المأساوية لموت المنقذ، ومن ثم يكون المنقذ هو الضحية، وهذه نهاية مفارقة الحبكة. وبقاء الأسرة في معترك الحياة.
مستويات الصراع
اتخذ الصراع مستويات عدة؛ أولًا صراع الأسرة مع الديون وحاجات الحياة، ثم ظهور الولد المنقذ فيترتب عليه صراع نفسي داخلي في نفسيات أخته وأخيه اللذين عانا من تفضيل أخيهما عليهما. ثم ينتقل الصراع إلى مستويات أخرى في رحلة كل واحد منهم بعيدًا من «هاواي»، صراع مع أسباب النجاح المؤقت، ثم الفشل والعودة للتكييف مع واقع الحال في «هاواي» مسقط الرأس.
تبدو شخصيات الرواية بشكل عام غير تقليدية لكنها كلها تتطور نسبيًّا ثم تعود إلى نقطة البداية لكي تحصد ثمار أفكارها وأفعالها. تبقى الأم هي العامل المؤثر في مسار شخصية الولد المنقذ الذي يتضح في النهاية أنه هو الضحية وليس المنقذ؛ ضحية أوهام الأساطير القديمة.
اللغة في النص شعرية سلسة مميزة حافلة بالصور والمجازات البلاغية. إذًا مفارقة الحبكة تتكثف في وجود مؤشرات الالتباس مع خوارق أسطورية، مثل إنقاذ الأسماك للطفل، وشفاء جرح يد صديقه بمجرد أن لمسها «نوا» ثم شفاء بعض الناس، مما يترسخ عنه اعتقاد خاطئ، يترتب عنه في النهاية هلاك المنقذ الضحية، وهذه نهاية مفارقة الحبكة. تبقى مفارقات داخلية جمالية منها مفارقة أسماك القرش المفترسة، وانكشافها بتحولها إلى منقذة، ومفارقات شفاء يد الطفل المجروح وما يشبهها مع الناس.