نينا زيفانكيفيش.. أشجان بلغراد تباريح الكينونة: منتخبات شعرية
جغرافيا شعرية راسخة
مما لا جدال فيه أن آداب أوربا الشرقية، أو ما يصطلح عليه بآداب الشعوب السلافية، لم تحظَ، على مستوى الاهتمام والقراءة والترجمة، سيان في سائر العالم أو في العالم العربي، بما حظيت به الآداب الغربية، الأنغلو– أميركية أو الفرنسية أو الإسبانية؛ وذلك على الرغم من ثراء هذه الآداب وفرادتها، من حيث اللغات أو الموضوعات أو المتخيلات؛ بل من حيث استكشافاتها الأسلوبية والجمالية التي كثيرًا ما شكلت محطّ جذب للمحافل القرائية والأوساط الأكاديمية في الغرب تمامًا كما تشكيلها لمادة اختبارية أو إجرائية حاسمة لدى مشهوري النقاد ومنظري الآداب.
وبخصوص تفاعل العالم العربي، تحديدًا، مع ثمار هذه الآداب يبدو الفن الروائي السلافي وقد حاز، إن قراءة أو نقولات إلى اللغة العربية، نسبةً عالية من الجذب والاعتناء مقايسة مع فن الشعر الذي يمثل نواتها الصلبة، ويفي بعكس المتخيل العام لشعوب أوربا الشرقية، مما تدعمه الأنثروبولوجيا الثقافية التي انكبت على توصيف الوجدان الجمعي لهذه الشعوب، والتقاط ذبذبة مزاجها الوجودي المخصوص، ومن هنا الصدى العارم الذي نلفيه لأسماء روائية، من قبيل الروس: نيكولاي غوغول، ليون تولستوي، فيدور دوستويفسكي، إيفان تورغينيف، مكسيم غورغي، بوريس باسترناك، وفلاديمير نابوكوف؛ والروماني فيرجيل غيورغيو؛ واليوغوسلافي إيفو أندريش؛ والتشيكي ميلان كونديرا؛ والبولونية أولغا توكارشزوك؛ في حين يندر حضور الأسماء الشعرية السلافية المرموقة التي سوف يصل تأثيرها إلى رحاب شعريات عالمية عدة، ويكفي أن نلمع إلى الرمزية العالمية التي كانت من نصيب أسماء بعينها يمكن عدها أعمدة الشعرية السلافية الحديثة، ونقصد كلًّا من التشيكي ياروسلاف سيفرت (جائزة نوبل للآداب، 1984م)، والروسي جوزيف برودسكي (جائزة نوبل للآداب، 1987م)، والبولونية فيسلافا شزيمبورسكا (جائزة نوبل للآداب، 1996م)، والصربي– الأميركي شارل سيميك (جائزة بوليتزر العالمية للشعر، 1990م)، والكرواتي سلافكو ميخائيليك (جائزة التاج الذهبي لمهرجان شتروغا «مقدونيا» العالمي للشعر، 2002م)؛ ومن ثم، وفيما خلا مبادرات محصورة لشعراء وأكاديميين عرب لا يتعدون أصابع اليد، كترجمات الشاعر المصري عبدالرحمن الخميسي، والشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر، ومواطنته الأكاديمية حياة شرارة لمتون ونصوص من الشعر الروسي، وترجمة الشاعر العراقي هاتف الجنابي لمختارات من الشعر البولوني، والشاعر المصري رفعت سلام لنماذج من الشعر الكرواتي؛ لا نكاد نعثر على ما في مكنته إشفاء الغليل في هذا الصدد.
هذا، وإذا ما جاز لنا إدراج جهدنا الشخصي المتواضع في هذا المضمار فلنعترف أن مردّ تتبعنا للشعرية السلافية، وفي مقدمتها الشعرية الروسية، قراءة ودراسة(١) وترجمة(٢)، إلى دواعٍ أكاديمية خالصة ما كان لها سوى أن توثق، على مر السنين، علاقتنا بتجاربها المائزة وخبراتها النوعية حافزة إيانا، بين الحين والآخر، على مقاسمة فائدتها، ومتعتها في آنٍ واحد، مع القارئ العربي وذلك في مرمى الإلفات إلى القيمة الإبداعية المضافة، إن شئنا، لجغرافيا شعرية راسخة في الخارطة العالمية يجب ألا تظل طي النسيان والتجاهل.
شاعرة زمن الشدة
يتعلق الأمر، إذن، بالشاعرة الصربية المعاصرة نينا زيفانكيفيش التي تنتمي إلى جيل شعري سيبرز أكثر بدءًا من سبعينيات القرن العشرين، ومن بين أسمائه الأساسية لنا أن نذكر كلًّا من ميلان أورليش، وميلوش كانجنسكي، وبرانيسلاف بيتروفيش، وألكساندر تيسما، وميلوراد بافيتش، علاوة على الصربية– الألمانية إلفيرا كوجوفيش؛ وسيخلف الرعيل الريادي الذي سوف يرسي دعائم الحداثة الشعرية الصربية ويشرع أبوابها على هبات الحداثة الشعرية الغربية، ويكاد يختزله الثالوت الشهير، برانكو كوبيش وراتسكو بيتروفيش وديسانكا ماكسيموفيتش.
ولدت نينا زيفانكيفيش، الشاعرة أصلًا، عام 1957م، لكن الروائية والكاتبة المسرحية وناقدة الفن ومفوضة المعارض التشكيلية والمترجمة والأستاذة الجامعية، وتوزعت حياتها بين بلغراد ونيويورك وباريس حيث تدرس المسرح الطليعي بجامعة السوربون، وبالموازاة من هذا فهي تنضوي إلى هيئات تحرير العديد من المجلات الأدبية الذائعة، مثل: «كنجيزيفن نوفين»، و«مجلة نيويورك الأدبية»، و«الرسامون المعاصرون»، و«مجلة الكتاب الأميركي»، و«جمهورية الآداب»، و«جنوب الشرق».
من أعمالها الشعرية: «قصائد» (1983م) –الذي نالت عنه جائزة برانكو راديكيفيش في بلغراد كأفضل إصدار شعري، ستتلوها ثلاث جوائز أخرى؛ اثنتان شعريتان وواحدة في مجال الترجمة– و«جسور تتنامى» (1984م)، و«أكثر أو أقل استعجالًا» (1988م)، و«كنت مراسلة حربية في مصر» (1992م)، و«ديوان الشاعر» (1995م)، و«المينيتور والمتاهة» (1996م)، و«موت مدينة نيويورك» (2002م) –مختارات شعرية من تقديم الشاعر شارل سيميك– و«معافاة» (2012م)، و«رسائل إلى نفسي» (2014م)، و«سونيتات في الطائرة» (2015م)، و«مذكرات بنعال تزحلق مصفحة» (2020م). كما يضم منجزها الكتابي أعمالًا نثرية، منها مجموعتاها القصصيتان: «بحثًا عن فيليب سوليرس» (1992م) و«داخل بيزنطة وخارجها» (1994م)، وروايتاها: «برودافشي سنوفا» (2000م) و«العيش في الهواء» (2015م)، ومونوغرافيا تحمل عنوان: «إحدى عشرة امرأة فنانة؛ سلافيات ومترحلات» (2011م)، وكذا ترجمات لأعمال عقدية وأدبية وفكرية إلى اللغة الصربية، وهي الآتية: «لاوتسو.. تاو تي شينغ» (1981م)، و«شارل بوكوفسكي» و«مذكرات بجنون اعتيادي» (1985م)، و«جوليا كريستيفا: مختارات من حوارات» (2001م)، و«سيمون فيل: وطأة الكياسة» (2007م)، ناهينا عن ترجمتها لأشعار قطب حركة البيتنيك الأميركية الشاعر ألين غينسبيرغ.
كون الشاعرة سيبزغ نور حياتها في صربيا، القلب النابض ليوغوسلافيا السابقة –التي تعني أرض السلاف الجنوبيين– الرازحة، وقتها، تحت نير القبضة الشيوعية الحديدية الخانقة، والمخاصمة، جوهريًّا، للشعر بما هو حرية وانطلاق، فإن هذا يستحث، بقوة الأشياء، في وجدانها منزع النزوح إلى غرب ليبيرالي يرفل في حرياته، رفوله في رفاهه ونعمائه، وإذ نردف هذا الوازع إلى ما تستحثه الجيرة البحرية لبلدها مع بحر الأدرياتيك الموصول بالبحر الأبيض المتوسط، من انفعالات الارتحال والاستكشاف والمغامرة سنفهم ما كان من توزعها، أي الشاعرة، كيانيًّا بين بلغراد ونيويورك وباريس، المثلث المكاني– الرؤياوي، أو المهاد الأرضي– الوجودي الذي سيضايف ذاتها، كما مخيلتها، ويمد تمرسها الشعري بأنساغ تاريخية وثقافية وإبداعية تنضح بها قصائدها ودواوينها.
وإذ، كذلك، تشبع هذا الكيان بعيون الشعرية الصربية، والشعرية السلافية في نطاق واسع، وهي لما تزل تباشر تربصاتها الشعرية الباكرة في مسقط الرأس، بالمرويات الشعبية، من سرود وملاحم وأمثال، بالمحكيات العشقية المبرحة، بالموسيقات التراثية الرخيمة، الأهازيج الغجرية الحزينة بخاصة، سيتيح لها، لا مقامها الأميركي ولا الآخر الفرنسي، إمكانية التزود بالاجتراحات الجمالية والموضوعاتية والتخييلية للحداثة الشعرية الغربية واستدماجها، بشيء من النباهة، في منتسج مشروعها الكتابي.
هكذا، وفي مواءمة حصيفة، سديدة، بين قطوف ذاكرتها الشعرية الأصيلة وبين مغتنماتها الشعرية المتحصلة في أميركا وفرنسا ستستقيم هويتها الإبداعية، من حيث السجلات المفرداتية، طرائق الصوغ أو التدبرات التوليفية، المجازات والترميزات، المحمولات والرؤى، واضعة قصيدتها موضع تفنيد خيالي، ضمن تقنية أدائية تغريبية، إن لم نقل سريالية، عمادها الاستبطان والتداعي والحلم، لكل أشكال التراضيات التاريخية والأخلاقية الزائفة، للأيديولوجيات الشمولية الماحقة للفرديات، محتفية، على العكس، بالحيوات الذاتية والمصاير المقسطة، بالمباهج والخطوب الشخصية، بالمواقف والتوضعات اليومية، بالمتشذر والحميمي، بالمقدس والدنيوي، بالمرئي والمجهول، بالقائم والمحتمل، وبالتالي، باختلاطات الوجود الإنساني ومفارقاته الشائقة، لكن القاسية، عادّة نفسها شاعرة زمن الشدة على الغرار من النعت الذي سيسبغ على الشاعر الرومنتيكي الألماني الكبير فريدريش هولدرلين.
حتى نأخذ فكرة، ولو نسبية، عن عوالمها الشعرية رأينا أن نجتزئ من منجزها بمنتخبات تؤول إلى ديوانها «معافاة»، الذي نقله من اللغة الصربية إلى اللغة الفرنسية كل من لجيلجانا هويبنير فوزيليي ورايمون فوزيليي ونشرته دار «لارماتان» الباريسية الشهيرة، المتخصصة، أو تكاد، في احتضان ونشر الآداب الطليعية من مختلف أنحاء العالم. ولعل إدراجنا لقصيدتها «الدائرة القوقازية»، ضمن هذه الباقة الشعرية المترجمة، يستهدف الإلفات إلى مدى اقتدارها على تحويل العمل المسرحي الملحمي الذائع، «دائرة الطباشير القوقازية»، للكاتب الألماني برتولد بريخت إلى قصيدة توفق ليس فقط إلى إعادة بناء الموضوع المسرحي، بل إلى تكثيف روحه الملحمية المستفيضة عبر أسطر شعرية تقول الشي نفسه وأعمق.
عن القوائم الأشياء
هي ثمينة بحق القوائم الأشياء
تحوج الوقت كيما تتنفس
تندفق منها الطاقة ثم تمشي
تثرثر مع أشخاص متنوعين، تتناول الحديث مع الجميع
وبينما هي تأخذ بناصية الكلام، هكذا، يحصل أن تهذر، أن تصفر في خفوت، أن تتناول الحديث
الأدراج تجس نبض دقات القلب
ترى كيف يعوم ثم إذا به يخفق طائرًا
مطليًّا بألوان صدئة، يغشيه الرمل والطحالب
مدركًا أن «المعجن» ليس أكثر من اسم وكون «الإنسان» هو الآخر
ليس «اسمًا أفضل كثيرًا»
أيًّا، دعنا نستنشق طراوة الصيف
القوائم الأشياء الثمينة، الرمل والطيور البحرية الكسلى
التي تأخذ بزمام خفقانها
ينبغي إعادة تدوير
الحاضر، المستقبل، لكن أيضًا الفائت
لصالح هذا الشيء العسير على الهضم الذي يا ما نضعه
على راحة اليد، فوق أرجوحة، ذاك اللمع المدثر لبرهة جذلى
تحل الاستذكارات ثم تؤوب في خضات شديدة
هي لا تزدردنا بعد وإنما تمنحنا فقط قدرًا
من الانبساط
لباس داخلي شبكي لسيدة تتنزه في أرجاء بستان
وحيث الليل يباشر مراسيم وداعه
لحصباء، لورد بنفسجي جميل
هنا، والآن، يتحتم عليك العثور على منفذ
مسك المفتاح
تنفس الصعداء
قبل النزول، خطوة… خطوة
عبر الأدراج قبل
العودة ثانية في إهاب فتاة غضة وزوجة جديدة لما وراء الموت
قبل رشق أشخاص، أشخاص برمتهم
بقائمة لورد بنفسجي
لا أحجم عن عدهم… غير متلاعبة بتاتًا معهم
كيف لي أن أتلاعب معهم أنا المغتمة
من يكونون… هؤلاء الناس كافة؟
فهم جد محتقنين لئلا يرقصون
منذورون لرحمة
طيور بحرية ورمل مؤتلق يقدح شراره
بلا مغفرة، بلا طيور السنونو بزواياها المثلثة
بلا ريش، بلا زينة، ودونما ندامة
بلا طيور السنونو، بلا ريش، بلا زينة
ودونما ندامة.
حب خالص
هو تعيس الحب، أزرق، ينضح عسجدًا وحقيقي
يمسك عن المداعبة، وإذن فلتكتبي شعرك
لتتجرعي بلسمك، اجعلي أحذيتك تلتمع
يممي شطر المدرسة، اطرحي ذاتك في المزاد
ابرحي حصنك الشخصي، طوحي به في مهب الريح
قال أورلاندو:
ما أحقر الظهيرة ها هي ذي تعتاش على الفتات
وها القوائم الأشياء تتكلم السواحلية وتحتفظ
بما بعد حداثة ساطعة، ما بعد حالة غيبوبة وحيث الليل تغشاه قشعريرة
ويغلق على الهامات بخمار هادر
ولن تنتشله سوى طمأنينة محتوى معرفة قيد التمعن
معلومة بائسة
على مدى رصيف زلق
قعد شيء
استدار حكيمًا ومغذيًّا
كي لا يلهج ولا بمجرد كلمة مواريًا أيامه الخبيئة… النكهة الغريبة،
ماضيه الماجد
لازمني
أماه… أوتحبينني؟
أماه… هل تقدرينني حق قدري؟
وأنا، فها الكرة في ملعبك؟
ليكن، فلأقل بأنك سوف تمشين تعرجين فوق برزخ من حصى تاركة إياي
وحيدة في عالم يكتظ بالمعجنات والنجوم،
بأشياء بارقة… بكتب ضخمة وموسيقا شديد بأسها،
بأشياء جليلة، بقواميس تزرع الفرحة ويأسرها زمن
غامر جزرًا، شمندرًا أحمر، وبلاسم أخرى،
بمقد جزارة في حوزة شيطان، ببلاط، بخواتم من حجر كريم
وغسق من زرنيخ
مطر واهن يخضخض بشرًا آليين عمالقة… فواتير ماجنة
بصمات وسلفات… لواحق تافهة مخيطة حاشيتها بصوان
حب يؤوب إلي وها هو الآن، أصلًا،
حزين، أنيق… ينضح عسجدًا وحقيقي.
موت الفيلسوف
لم أفكر قط في شأنك ما دمت لم تغادر
المائدة منظفة… الكأس فارغة… لكن الصحن
غاص بالأخطاء… انزلقت عبر… الباب
التي كانت مغلقة بينما نحن نطرقها
أو قلت «لتدخلي»
لقد شرعتها ريح وسيعة عن آخرها
وفوقها عجوز بوجه متغضن الأسارير
تنفث دمًا… كانت أكثر أو أقل وحدة… مكسوة
على شاكلة أمي… فلقد كانت تشبهني
ابتسمت في وجهي ريثما تنزل عليَّ
لعنة درداء: أنا موتك، هكذا بادرت
إذن، هل تأوهت متحسرة، فأنا لست مهيئة بعد
إنه ليس أواني بعد، فعليَّ إتمام قراءة السفسطائيين
لم يتم أيضًا
بلوغ إشراق بوذا…
استعدي حثيثًا، صفرت قائلة، لكني ردعتها ثم صفقت الباب
ووقعت على أرضية البيت لأستيقظ إثرها مغموسة
في رشح رهيب
أدرت زر المذياع واستمعت إلى باخ
خالطت أناسًا كانوا يمجون الشعر
حينها كانت الاكتشافات محض تقليعة… غباوة ينغل جنين في أحشائها
ها هنا أنامل غلين غولد(٣)
أتراه قال، في عز يوم جميل: لاقيت الرب،
لعل ركوب النغمات بعضها على بعض لَهُو الأمر العظيم جدًّا في الموسيقا وفي الحياة
تكلم مرتلًا تنويعات رشيقة لباخ،
أعاد تمرير أخاديد ليجتني صفاوة بلورية… سقى
ربوعًا مسطحة وشاسعة في حياته اليومية
وأطعم فئرانًا أليفة برجاءات فاتنة
لم تكن رحيبة أو صلبة، ولا باردة كذلك
الأصداء الواهنة تلك لرنين
نوتة جنونه الموسيقية… النوتة المتواترة لضحكته
تشنع بركوب النغمات ذاك مسترذلة وعده المقمل.
أطباء يأتون ثم يقفلون راجعين
طبيب جاء، حدق في، فما الذي يكون قد وصفه لمداواتي؟
كان في حوزتي كدس من قصائد للعشاء
وفرة من مسرحيات مأساوية، ثلاث روايات، قصتان قصيرتان
محاكاة خماسية للفطور وسيرة ذاتية بمذاق روائي في الزوال
قد يكون سيئًا جدًّا لتغذيتك، سيئًا وزيادة… سيئًا وزيادة
لروحك
روحك ليست أنبوبًا لتصريف أدخنة مشينة… روحك
ليست أنبوبًا لتصريف أدخنة مشينة… روحك
هكذا يأتي الأطباء ثم يقفلون راجعين… يقضمون زبيبًا عفنًا
يحملون حاجات رثيثات… يلفظون جملًا حمالة أوجه
في مجرى حياة تطفح بجروح غائرة… باعتقاد أعمى وبشحم الخنزير
بشحم الخنزير والاعتقاد الأعمى… مقدودين كخزف وملفوفين بالجبنة
وضبًّا في قعر
البحار القرمزية الأعتى عمقًا.
صناعة السلوان
لكن من أيما كوكب مضحك
ثرثار، قدمتم،
أفإلى هذا الحد الصارم برمجت حواسيب كهاته
على أهبة أن تصادر مني بفظاظة آخر
سنتيم / دينار / دولار في هذا السديم الهائل
المال، المعلومة، البيانات،
لتسمعوا:
أنا مستعدة لكل شيء، بل لما أقسى من هذا
ابتغاء أن أستملك المكان الذي هو مكاني،
ما همني أن أنتزع كما لو أني في كنف زلزال
حتى أدفع الثمن بما يطابق قدري المرسوم
أن يتم استرجاعي إلى رحاب الهندسة المعمارية، إلى حضن التمدن
وحيث أمسي، إذن، موجودة في حمى الحاضر؟
عند أسفل الأمنيات المذهلة للزمن الغابر
مستعدة، آه بلى، في منامي ومنذ الأزل
لوضع برنيطة، قبعة، تاج
على رأس متيم بالحقيقة؛
مكسوة بالسواد أعلن عن نهاية المداهنة
في زاوية ضئيلة خالية
ألقن «الطليعة» لأولئك الذين
هجسوا منذ القديم، مسبقًا، بالخاتمة.
حلمت بك الليلة الماضية
جدي السحيق
أنت يا من غادرت القرية ترفل في وحدتك
أَشَحْت بظهرك الهش عنها
وأنت تذرع ممشاك صوب بقعة قرعاء في غابة تسكب عليها شمس من نورها
ساقاك تزمران فلم تقو حتى على المشي
وراء ظهرك تبقى مئات من الموتى
في قرية ستعمد في الآتي من الأيام باسم «تشوميتشي» أو، بالأحرى،
المكان الذي عاث فيه الطاعون الأسود حصادًا
درجوا على مناداتك بـ«جيفاتشيفيش» أو ذاك «الذي بقي على قيد الحياة»
وما إن حظيت بسكين
حتى سيجتها سريعًا بحائط ثم شيدت كنيسة تمجيدًا للرب
لكبير الملائكة الذي صان لك مهجتك
المكان عينه سيغدو «أرخاندجيلوفا» أو، بالأولى،
«المكان الذي مسه توفيق الرب»
أمس صليت، أنا أيضًا، لسائر الملائكة
التي شدت من عضدي حتى أبقى حية ويا ما فكرت فيك، في
الغد المحفور وراثة في ذرة من حامض الأسيد.
الدائرة القوقازية
كذا يبدأ الأمر من جديد، دائرة الطباشير القوقازية
استدارة الدراويش المملوكين وأنا العصية على القرار في
اللاممسوسة التي تمسك دومًا بكل حبال
المغادرة اليومية، أمحو حدود أيما اصطبار
وبمحض لمحة مني لسلوك يحتسب لبيبًا
أرى الحركة الأكثر سرية لأفكاري
أخبط خبط عشواء في دوائر متسارعة كما سمكة قرش
أحوم مثلما نسر
أكسر الشتائم كما لو كانت من زجاج رافعة عقيرتي بالصياح «ها، ها، ها»
أقهر خبثاء الطوية عسى أن يشحبوا
أسكب نزرًا من مشروبات لاسعة، أحشو أصابعي في قفازات ناعمة
أخرج، وهادئة
ألج إلى داري.
بم يفيد السيرك
لا أدري لم يذهب الناس إلى السيرك
إلا إذا كان بغاية الإعجاب بشخص ما، بشيء ما
من أجل مثال للقوة والتجلد
لكن بالنسبة لي هناك سيرك ينشأ مع سحابة كل يوم
ففي أثناء العمل يا لطالما أكبح جماح وحوش ضارية
لينبح، حينها، كلب سرعان ما ستحمله ريح
بعدها لا نتورع عن سجن الماء في جرن على مدى تلك السبيل المتربة
عند استراحة الغذاء يأتي لزيارتي كلب وبر رفقة سيدته
بينما مهرج أبيض يسمعني، رأسه تهتز عن الآخر
من أجل أن أتذوقه: الرأس تلوح منحنية – «نعم»، الرأس مصوبة يسارًا، ثم جهة اليمين – «كلا»،
ما يسعفني على قراءة «سيرك» كوش(٤) بوصفه قصيدة
بديعة، رومانسية، لكن هنا، في مهب حياتي
لا يكاد يتوقف السيرك؛
قبل حلول المساء تتبدل السبيل المتربة وتتفتت
إلى أصوات مخترقة يصدح بها مكبر صوت يتمرن فيه الولد على كمنجة كبيرة
مصحوبًا بنداء حاد وشخير آلة تسجيل
ساعة كنا نأكل لقمة حان ميقات
تحرير وتأدية فواتير الطعام، هواتف متعبة
انبرت ترن: أحدهم ينادي من مستشفى
قط لأحدهم زهقت روحه
نداء ثالث يدعوني إلى إعارة ما لم يعد تحت تصرفي
وختمًا، وفي قلب جريدة تتراقص فيها كل الحروف
تنطفئ الأنوار. السبيل المتربة تعروها الظلمة، وحين أغفو
يتبختر بهلوان سرمدي فوق حبل منحرف، أمامًا، خلفًا،
فوق أحبولة ممزقة
أستيقظ مغموسة في رشح
فلربما نحن في حمى الغد، شأن سائر الأيام
يوم جديد يغسل الليل من أدرانه
يخضخض أخطاء اللغة.
هوامش:
(١) نشير هنا إلى دراستنا الموسومة بـ«سيرغي يسنين: خربشة / مجاز الرمق المأساوي» التي ضمّناها كتابنا «مضايق شعريّة: ترجمات.. مقتربات.. بورتريهات»، منشورات «بيت الشعر في المغرب»، مطبعة البيضاوي، الدار البيضاء 2013م.
(٢) ترجمتنا لديوان الشاعرة الكرواتية المعاصرة لانا ديركاك «من صف ناطحات السحاب.. وقصائد أخرى»، دار البدوي للنشر والتوزيع، تونس 2014م.. وكذا قصائد مختارة للشاعر الكرواتي المعاصر دافور سالات نشرناها بمجلة «الفيصل» السعودية، ع 500 – 501، يوليو – أغسطس 2018م.
(٣) Glenn Gould (1932- 1982)، مؤلف موسيقيّ، عازف بيانو، وكاتب كندي (المترجم).
(٤) Kenneth Koch (1925 – 2002)، جامعي، شاعر، ورجل مسرح أميركي (المترجم).