بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | يناير 28, 2018 | سيرة ذاتية
كان زمنًا صعبًا، يعلم اللاجئ بجدارة ما لا ينسى.
أذكر شاحنة رمادية متقطعة الصوت، وطريقًا نحو الشمال، وحقائب متراكمة، ومطرًا ربيعيًّا، وغموضًا باردًا يخالطه الحزن، وحصانًا يحتضر تحت المطر، وأتذكّر نفسي صبيًّا يسافر مع عائلته إلى مكان قريب. وأذكر أيضًا عجوزًا ضريرًا افترش التراب، يلوّح بيد تعلن عن الفراق.
حين رفع الصبي رأسه المبتل، وقد تكدّس مع أهله في الشاحنة، رأى خلاءً واسعًا، على أطرافه خيمة سوداء يتصاعد منها الدخان، وأطياف امرأة تتقي المطر، وشعر أنّ الدخان مبتل يكسوه الصمت. أمعن النظر في ما حوله فوقع على حصان قائمتاه في الهواء، يحرّك جسمه ولا يستطيع الوقوف. كان ذلك في شهر نيسان من عام 1948م. وكان الطريق يصل بين مدينة القنيطرة وقرية «الجويزة» الواقعتين في هضبة الجولان السورية. حين اندفعت الشاحنة شرقًا، محمّلة بالبلل والأرواح المهاجرة، نظر الصبي إلى الوراء، واحتضنت عيناه صورة الحصان، وتخيّل عينين مفتوحتين يسقط فيهما المطر، ترتعشان، وتسكنه قشعريرة مميتة. كان الصبي في السادسة من عمره. وأذكر أنّ السائق كان يلفّ عنقه «بحطة فلسطينية»، يغمغم كلامًا مبهمًا، ويحرق سجائر كثيرة، ويطلق صوتًا كأنه غناء، يعاتب أختًا رفضت الرحيل، ويحاورها بكلمات متوجعة، ويسأل عن موعد اللقاء. كان غناؤه يختلف عن غناء أمي في بيتنا القديم. بعد أكثر من نشيج وأقل من غناء، مال السائق إلى جانب الطريق، وتوقف فوق أرض موحلة، إلى جانب عمود حديدي تعلوه لوحة معدنية كتب عليها «شيء ما». لاحظ الصبي أن العمود يهتز، وأن اللوحة مغطاة بوحل الطريق، كتب فوقها: «الجويزة ترحب بكم»، كما سيعرف فيما بعد. كان الطقس ربيعيًّا يطارده الشتاء.
قانون وجودهم الجديد
رفع المتكوّمون في الشاحنة رؤوسهم، محاذرين المطر، ولم يقولوا شيئًا، حين قال السائق بصوت واهن: وصلنا. ظنّ المتكوّمون، الذين أفرجت عنهم الطريق، أنّ الوصول إقامة مؤقتة، قبل أن تعلّمهم الأيام أن في الإقامة المؤقتة إقامات، وأن المؤقت قانون وجودهم الجديد. كان إلى جانب اللوحة المعدنية، التي يعابثها المطر الربيعي، كوخ خشبي يتصاعد منه الدخان، مطلي بلون رمادي يميل إلى السواد، صُفّت أمامه أحجار متلاصقة، سوّيت على عجل ويعلوها وحل كثير. يذكر الصبي فتاة ملفّعة بالسواد، سارت فوق الأحجار ودخلت الكوخ، ظنّها المرأة الأولى التي كانت تقف أمام خيمة وتتقي المطر، لكنها خرجت مسرعة وبيدها كيس صغير، سقط في الوحل، نظرت إليه شاكية وتابعت المسير.
انبثق من الكوخ الرمادي رجل طويل القامة، كثيف الشعر، يرتدي معطفًا يشبه متاع الجيش، يتوكأ على عصا، يختلط لهاثه بالسعال. اقترب من الشاحنة وقال: «لاجئين، لاجئين من فلسطين، ادخلوا، الدكان دافئ، استريحوا. دخلنا وشعرنا بالدفء، ولم نشعر بالراحة. سيذكر الصبي، في قادم الأيام، اسم الرجل بحب كبير، وسيتذكر عينين زرقاوين وابتسامة خجلى، ورجلًا يعرج كثير السعال. كان اسمه «عيسى». الرجل الدافئ الكلمات كان مصدورًا، وصرعه «داء السُّل»، قبل أن نغادر القرية بقليل، ومشى وراء جنازته خلق قليل. كان للدكان جزء داخلي، فيه مدفأة حطب وسرير متقشّف وطاولة قديمة وكؤوس شاي، وكان الشاي الساخن حلو المذاق. في الجزء الخارجي من الدكان ميزان وبضائع بسيطة وكتب تحاذي النافذة، وصورتان واضحتان إلى جانب النافذة، تثيران الفضول.
رجل على رأسه كوفية وعقال، يتدلى من عنقه منظار، وجهه مستريح، ينظر إلى البعيد، طوّق خصره بمسدّس وبحزام الطلقات. كتب تحت الصورة، كما سأعرف لاحقًا: الشهيد عبدالقادر الحسيني، الذي دافع عن القدس بجند قليل، وبعبوات ناسفة، واستشهد في الثامن من نيسان عام 1948م، ودعاه المؤرخ الفرنسي هنري لورانس «الفلسطيني الألمع». سارت فلسطين كلها وراء جنازة الشهيد، الذي شارك والده، عمدة القدس، في مظاهرة ضد الانتداب البريطاني، وهو يقترب من التسعين.
حنا أرنت
فانتر بنيامين
سيعلّمني المقاتل الشهيد، بعد عقود، أن المثقف لا يتعرّف بعمله الذهني، كما تعوّدت الكتب أن تقول، ذلك أن عبدالقادر درس الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة، وتخرّج من الأخيرة، وأنه ترجم علمه إلى «صناعة المتفجّرات»، التي ألحقت بجيش الغزاة الصهيوني أضرارًا كثيرة. وسيعلّمني أن الثقافة ممارسة أخلاقية – وطنية، لا علاقة لها بالمراتب والألقاب. وأن المدعو بالمثقف ينوس بين النسر ودجاجة الأرض الكسيحة. الصورة الثانية الزاهية الألوان، كان يطفو فوقها وجه حديدي الملامح، شارباه كثيفان، في عينيه حنان وثقة، ظننتها صورة والد الرجل الطويل، إلى أن قال: «إنه والد الجميع»، وابتسم. سأعرف بعد عقود أنها لوحة رسمها الإسباني الشهير: بيكاسو، وأن المرسوم هو الزعيم السوفييتي ستالين، الذي أنتج ظاهرة مستبدة: الستالينية التي بنت «دولة جديدة» وهدمتها، وسأعرف أيضًا أن الاستبداد قديم، لا تستطيع حجبه مكتبات الظلام.
هل تعرفون هذا في بلادكم؟
كانت «جويزة»، قرية الإقامة المؤقتة، مقسومة إلى حي شركسي بيوته بيضاء مُزنَّرة بالورود، وحي تركماني بياضه من أهله البسطاء المكسوين بالبراءة والحكايات الغريبة. ما زلت أذكر الشاب التركماني، واسمه «حَلْبرام»، الذي سأل أمي، وبيده سمكة: هل تعرفون هذا في بلادكم أيتها السيدة الغريبة؟ أجابته متعابثة: نعرفه كثيرًا ونزرعه في الحقول مثل البصل، ينضج في شهر أيلول وندّخره للشتاء ورمضان. حين أعجبه الجواب سألها من جديد: وهل تعرفون «الدبس»؟ أجابته: نشربه عوضًا عن الماء طيلة العام. هز رأسه طربًا وقال: «من لا يحب الدبس لا يحب الله»، وصار يأتينا كل أسبوع بصحن من الدبس دعمًا للاجئين.
دفعتني التجربة، بعد سنين، إلى تأمل صورة الغريب في عيون الذين لم «يتغرّبوا»، ويعتقدون أن الغريب كائن مجهول السمات، لا تاريخ له ولا أصول، يثير الشك والريبة، كما لو كان قد سقط من السماء، وعلى الآخرين أن يتعرّفوا عليه، وعليه أن يعترف بأنه لا يعرف ما يعرفه الآخرون. ظهر اللاجئ الفلسطيني، في أحيان كثيرة، مخلوقًا ناقصًا، حتى كاد أن يعترف بنقصه المفترض، وينظر إلى كثيرين بإكبار غير جديرين به.
لم نكن نعرف أهل القرية، الذين عرفوا أننا عرب من بلد قريب، وعاملونا باستغراب ومحبة. وكنا نشعر أن وجودنا عبء على الآخرين. القرية العالية الموقع موزعة على بيوت بيضاء وقلوب بيضاء، سكنتها أربع عائلات فلسطينية من الجليل. حين كان يُسأَل والدي عن بلده كان يجيب: نحن فلسطينيون، من الجليل الأعلى، من ضواحي صفد القريبة من الحدود السورية، ويجيب عن أكثر من سؤال، ويدع كثيرًا من الإجابات معلقة في الهواء. كانت والدتي تقتعد مكانًا عاليًا، إلى جوار غرفتنا المؤقتة، وتنظر كل صباح إلى اتجاه صفد، وترى بالعين المجردة بشرًا يتحركون وتقول: «هذا يهودي ذاهب إلى صفد، وهذا يهودي يخرج منها». تميل إلى الصمت وتردّد بعد حين: «في يهود كثير، وفي ضباب، كنا أكثر منهم، كيف غلبونا لا أعرف!!» وتذكر كلامًا ملتبسًا عن «جيش الإنقاذ». وأذكرها تنشد بصوت مختنق: «يا فلسطين اذكريني واذكري ما فات كيف ننساك وفينا نسمة الحياة». بقيت تردد هذه الكلمات، بصوت أسيف، إلى أن جاوزت التسعين، ودفنت في أطراف دمشق. كان بين أشيائها القليلة صورة لها «من أيام الشباب»، تقف في ساحة الدار وتنثر الحب للحمام. لم أكن أعرف قبل دخولي إلى الصف الأول الابتدائي معنى اللاجئ، وأقل منه اللاجئ الفلسطيني، إلى أن قال المعلم: «التلميذ الفلسطيني في هذا الصف يرفع أصبعه». قالها ذلك الخمسيني المطربش المتواضع اللباس بصوت هادئ مغمس بالشفقة. علَّمني ثلاث سنوات في القرية السورية التي سطا عليها الإسرائيليون بعد حرب 1967م. رفعت أصبعي في ذاك النهار الخريفي، وظل مرفوعًا بوجع عقودًا لاحقة. كان المعلّم المتواضع يحكي لتلاميذه طويلًا حكايات عن شجاعة «عنترة العبسي»، وحكايات أطول عن بطولات خالد بن الوليد.
تعلَّمت في الصف الأول تهجئة الحروف، وتعلمت معها أنني إنسان مختلف يتعرّف بنقصه، يرفع داخل الصف أصبعه، ويقف وقت الاستراحة، مع تلاميذ فلسطينيين ثلاثة، يأخذون عن غيرهم مسافة، تعلن عن غربتهم، كما لو كنا نحن التلاميذ الأربعة مع التلاميذ الآخرين ولسنا منهم. تذكّرت، بعد زمن، ما قالته حنا أرنت، الفيلسوفة اليهودية العادلة، عن الناقد فالتر بنيامين الذي هرب من النازية وانتحر قرب الحدود الإسبانية: «لم يحسن السباحة مع التيار، ولم يحسن السباحة ضده». لاذ بخوفه وكبريائه وتشاؤمه، وألقى بنفسه في وادٍ قاتل. وتعلَّمت مبكرًا الفرق بين «مع» و«من»؛ إذ في الأُولى رقم لا يشير إلى كيف، وفي الثانية لقاء لا مسافة فيه، وأن على الإنسان أن يصنع علاقته مع ذاته، قبل أن يلتحق بآخرين. آثر بنيامين، المثقف الغريب الذي جمع بين الفلسفة والنقد الأدبي، الانتحار، واختار الفلسطينيون البقاء وإرادة الأمل وتشكيل ذاكرة، تعرف الفرق بين «مع» و«من» وتدرك أن مأساتهم لم تسقط من السماء، وأن «الجاعونة» ليست حكاية، كان لها بيوتها وبساتينها وأهلها، وذلك «السمك الغريب» الذي نزرعه في الأرض وندّخره لموسم الشتاء، وأن الإقامة المؤقتة جزء من ذاكرة تجدّدها الغربة ويجددها الفلسطينيون الذين يعرفون، أحيانًا، الفرق بين الوقائع والأوهام.
درب الرجوع إلى الوطن
كان المعلم المطربش الذي أيقظ في داخلي سؤال الهوية، يتوجه إلى الفلسطينيين الأربعة وقت الاستراحة، ويقول: «عليكم يا أولادي أن تتعلموا درب الرجوع إلى الوطن». لم نكن نفهم من كلامه الكثير، وإن كنا نشعر أنه يحذّرنا من الكسل والرسوب. «لم نخيّب ظنه» مثلما قال جبرا إبراهيم جبرا في «البئر الأولى»، وهو يتحدث عن تلميذ نجيب وأستاذ عادل. غير أن الانتظار «المؤقت» خيّب أملنا حتى غدا الانتظار الخائب جزءًا من حياتنا. المعلّم الخمسيني، صدمته في بداية السنة الثالثة من إقامتنا سيارة عسكرية مسرعة، أمام دكان «عيسى»، ولم نَرَه بعد ذلك. اختصرته ذاكرة السنين إلى عجوز، يعلِّمني حروف الهجاء مبتدئًا بفلسطين، ويسرد حكايات عن «عنترة العبسي» وهو يرسم حروف الهجاء.
كان في الإقامة غرف مؤقتة كثيرة، نغادرها بسبب رطوبتها، أو تغادرنا لأن صاحبها التركي يريد أن يزوّج ابنه، وقد نتركها لقربها من «غابة»، معمورة بالسنديان وشجر البطُم وبحيوانات متوحشة، وبأفاعٍ كثيرة تلمع في الصيف كأنها قطع معدنية. كانت كل غرفة تحتفظ بذكرى سابقتها وتضيف إليها جديدًا، وكانت الغرفة سجلًّا كابيًا، نقرأ فيها غربتنا، واختلاف حكاياتنا عن حكايات الشركس والتركمان. هجس الراحل محمود درويش، ذات مرة، بوضع كتاب نثري عن البيوت التي عاش فيها، وتخلى عن فكرته بعد أن أنجز جمال الغيطاني رواية: «نوافذ النوافذ»، سجَّل فيها حكايات غرف اختلف إليها. وإذا كان الغيطاني الذي صاحب محفوظًا إلى تخوم التقمص، تحدّث عن غرف اختارها، فإن الغرف التي اختلفت إليها، مع عائلتي، كانت بعيدة من الاختيار.
يقال: يتعرّف الإنسان على ذاته حين يعرف من أين أتى. والقول صحيح وغامض: فقد أتيت من الجليل، في شمال فلسطين، مارًّا بجنوب لبنان، ومنه إلى حوران في سوريا، وصولًا إلى غرف مؤقتة في قرية يتقاسمها التركمان والشركس، تناثرت على جوانب الطرق المؤدية إليها: خيم ودخان وبشر طيبون، تدهسهم سيارات مسرعة، وذكريات صادمة، وكتب دائمة الخضرة، وحصان مختلج العينين يحتضر تحت المطر.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | أغسطس 31, 2017 | مقالات
اجتهد النقد الأدبي العربي، في العقد الأخير، في توسيع حقله النظري متصوِّرًا، أحيانًا، أن بإمكان النقد الأدبي أن يكون علمًا. فبعد سيطرة مذاهب نقدية ضيقة، دارت بين الواقعية والانطباعية، جاء السياق الثقافي في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها، باتجاهات وافدة، اطمأن لها بعض النقّاد العرب، وسعوا إلى تطبيقها على روايات حديثة، وعلى شعر عربي قديم، احتضن البحتري وأبا تمّام.
تعرّف النقد العربي، أو بعض النقّاد بشكل أدق، على البنيوية الفرنسية، التي صعدت في ستينيات القرن العشرين، وحملت معها أفكار رولان بارت وجيرار جونيت، وتطبيقات لوسيان غولدمان، الماركسي الذي اعتنق بنيوية تكوينية، كما يقال، في انتظار المنهج التفكيكي، الذي ارتبط بالفيلسوف الشهير جاك دريدا، الذي تحدّث عن «الآخر»، و«الأخروية». بل إن بعض النقّاد الذي أخذه الشغف، أضاف إلى الجهد الفرنسي مقولات الإنجليزي جوناثان كولر، وتمدّد إلى الروسي يوري لوتمان، الذي قال بعلم السميولوجيا، أو «الإشارات».
تطبيق منقوص
لم يكن في انفتاح النقد العربي على غيره ما يضير، فالفكر الذي لا يتعرّف على غيره يقع في السبات. بيد أن الاندفاع المطمئن إلى «الأفكار الوافدة» يستدعي، بمشروعية كاملة أو منقوصة، بعض الأسئلة: ما الحصاد النقدي الذي «راكمته»، بعد عقود، الاتجاهات النقدية المنفتحة على «الآخر» الغربي، وهل عرفت استمرارية «نظرية» (تطور أفكارها الأولى)، أم أنها أخذت بشيء من التطبيق المنقوص واكتفت به؟ وهل استطاعت هذه الاتجاهات أن تصير جزءًا من الثقافة العربية، أم اختصرت في نخبة، ترحب بالوافد، ولا تخضعه إلى مساءلة نقدية؟ تستعيد هذه الأسئلة قاعدة تقول: ما يأتي به سياق ثقافي ناقص الوضوح يتبدّد، سريعًا، مع رحيل السياق.
تنطوي الأسئلة، مهما تكن دقتها، على مفهومين يتعامل معهما الفلاسفة: كونية المعرفة، التي تقضي بانفتاح كل معرفة «ضيقة» على أخرى أكثر اتساعًا وجدة، والتميّز المعرفي الذي يتحقق إذا اعترف ببيئته وموروثه الثقافي، قريبًا كان أم قديمًا. فجديد الأفكار، لا يقاس بالحاضر وبمعطياته. هناك، في الحالين، التجسير الثقافي، الذي يقيم بين المعارف، في أزمنتها المختلفة؛ تفاعلًا يضع القديم في الحاضر، ويضيء المعرفة الحاضرة بمعرفة قديمة.
تقف إلى جانب التجسير الثقافي بداهة، أخلاقية، تقضي باعتراف الأحياء بجهود الأموات، وأخرى معرفية ترى في المعرفة المنقضية جزءًا من معارف الحاضر، التي لا تستطيع الاكتفاء بذاتها، وإلا سقطت في الجمود والانغلاق.
نقاد أعطوا في حدود زمنهم
فالنقّاد العرب، الذين كانوا أحياء ورحلوا، سايروا القرن العشرين إلى منتصفه، وأعطوا في حدود زمنهم، مساهمات لامعة، لا فرق إن عرفوا «مشاهير نقاد الغرب»، أم اكتفوا بالجاحظ وابن قتيبة. والأمثلة في هذا المجال كثيرة: أعطى الفلسطيني، روحي الخالدي، في مطلع القرن العشرين، كتابه الرائد: «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو»، الذي قرأ فيه حياة الأدب في حياة المجتمع. وما كان المصري أحمد ضيف (1880- 1947م) بعيدًا منه في كتابه اللامع: «مقدمة لدراسة بلاغة العرب»، الصادر عام 1921م. ومن العبث نسيان كتاب «الديوان»، 1921م، لمؤلفيه عباس محمود العقّاد وإبراهيم عبدالقادر المازني. الذي حاول، «إقامة حد بين عهدين»، وإرساء النقد الأدبي على قواعد جديدة. ولا من الإنصاف نسيان «غربال» ميخائيل نعيمة، و«الميزان الجديد» لمحمد مندور، وذلك النقد اللغوي الرهيف الذي مارسه أديب يدعى: يحيى حقي. وعلى هذا فإن الاعتراف بكونية المعرفة شرطٌ لتطور المعارف، الذي يقضي بتأمل الخصوصية الثقافية.
يقال: تُشكِّل معارف الماضي، بعد نقدها، جزءًا من معارف الحاضر، الأمر الذي يجعل من الذاكرة الثقافية العربية، في أزمنتها المختلفة، بُعدًا يحايث النقد الأدبي العربي، الذي لا يرتاح إلى الاغتراب. فهل انتصر النقّاد العرب، دائمًا، لذاكرتهم الثقافية؟
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مارس 1, 2017 | الملف, كتاب الملف
فيصل دراج
لا تنفصل الرواية، من حيث هي جنس أدبي حديث، عن ظواهر الأزمنة الحديثة، سواء أكان ذلك في حقلي الاقتصاد والسياسة، أم في حقل العلوم الإنسانية. فقد صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة، الممثّلة بالثروات القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع الإنساني ملامح جديدة، وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ»، بلغة المؤرخين.
أرادت «الحداثة الأوربية»، بلغة معينة، أو «رأسمالية الغرب المنتصرة»، بلغة أخرى، أن تروّض الجغرافيا، وأن تربط بين أقاليم الأرض المختلفة، مقصِّرة المسافات، وفاتحة الحضارات الإنسانية بعضها على بعض. وسواء صدرت «الجغرافيا الإنسانية الجديدة» عن تحديث أملته «الثورات العلمية»، التي واجهت المجهول بالمعلوم، أو عن طموح الإنسان الأوربي بأن يكون سيدًا على العالم، فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة، مختلفة الأعراق والأديان والتقاليد. ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصالات غير مسبوقة، احتل فيها «القطار» مكانًا مميّزًا. وما حكاية القطار إلّا حكاية القوة والمعرفة، وحكايات الفضول الإنساني الذي جمع، طواعية أو غصبًا، بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة.
لا غرابة أن يظهر القطار في روايات أوربية، اتخذت من الشعوب «المكتشفة» موضوعًا لها. فللقطار مكانة في الصفحات الأولى من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن الهند حيث يتحرك «السيد الإنجليزي» متوسلًا القطار، ومتحدثًا عن وسيلة نقله باطمئنان لا ينقصه التبجح. وإذا كان كبلنغ، الذي لا يقتصد في عنصريته، رأى في القطار أداة انتقال وسيطرة، فإن مواطنه إي. إم. فورستر في روايته «ممر إلى الهند»، يأخذ بمنظور مغاير، كارهًا الاستعمار الإنجليزي، متعاطفًا مع ثقافة «أصيلة» غريبة عن الموروث الإنجليزي، دون أن ينسى القطار.
أداة سفر وإشارة ثقافية في آنٍ واحد
جمال الغيطاني
أخذ القطار لدى كبلنغ وفورستر، كما في روايتي الفرنسي جول فيرن (حول العالم في ثمانين يومًا وميشال ستروغوف) دلالتين: فهو موضوع مباشر من ناحية كونه أداة انتقال وسفر، وإشارة ثقافية في آنٍ واحد، عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه «ألوانًا» أخرى في أقاليم بعيدة من وطنه. ولعل هاجس السرعة، الذي يحايثه اللهاث، كما التنوع البشري في أداة نقلٍ تَلتهِمُ المسافات، هو الذي أقنع أغاثا كريستي، بأن تتخذ من القطار عنوانًا لروايتها البوليسية «جريمة في قطار الشرق السريع»، حيث احتمالات ارتكاب الجريمة من احتمالات طبائع المسافرين.
والتر بنيامين
بيد أن القطار، في دلالتيه، لم يختصر في شخص الأوربي، بل توزّع على العالم كله. فرواية الأميركي ثيودور درايزر «الأخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة ريفية إلى المدينة، تعيد صوغ أقدارها، كما لو كان القطار يبدّل المسافات والمصاير معًا. وربما دور القطار كجسم حديدي فاعل يتجسّد، أكثر وضوحًا، في رواية تولستوي الشهيرة «أنّا كارنينا»، حيث الزوجة التي وقعت في عشق لا يراهن عليه، تنتهي إلى موت تراجيدي تحت عجلات القطار. وإذا كان في القطار ما «يبدّد» المسافات، بلغة طليقة، كان مفترضًا، اعتمادًا على التبادل اللامتكافئ، أن يغدو «موضوعًا أليفًا» في البلدان التي فاتتها الثورة الصناعية، شأن العالم العربي. ولهذا احتل القطار مكانة في الرواية العربية. فللقطار دوره في رواية عبدالرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»، حيث المثقف المغترب يلتقي، في القطار، آخرَ عاثِرَ الحظِّ يسرد له مسار حياة عامرة بالمشقة. وللقطار هنا دلالتان: يحقق لقاء بين غريبين، فيتبادلان الكلام والحكايات، وهو الإطار المعبّر عن العارض والمؤقت والصدفة «الحزينة – الطيبة»، فالغريب يجد ملاذًا في غريب آخر، يأنس إليه ويبوح له بأسراره على غير توقع.
ممدوح عدوان
أعطى المصري الراحل محمد البساطي القطار موضعًا في روايته «أصوات الليل»، كاشفًا عن معنى الزمن في القطار؛ يصل بين جنوب العراق والريف المصري، ويلامس أسئلة عن تواتر الأزمنة؛ ذلك أن الرواية، في صفحاتها القليلة (نحو مئة صفحة)، تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطين» إلى سقوط العراق، وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط»، منعته حياته الصعبة «تذكّر» عشق قديم. أما السوري ممدوح عدوان فأنجز، قبل رحيله، رواية تاريخية عنوانها «أعدائي»، سرد فيها سقوط العهد العثماني ومجيء الاستعمار، وقرأ «الحضارة الوافدة» في قطار بين تركيا والداخل العربي، يُقِلُّ امرأة تكرّس ذكاءها لخدمة القضية العربية.
القطار حكَّاء صامت
أخذ القطار، في الروايات السابقة، شخصية حكَّاء صامت، يروي بالإشارة والحركة، أو شخصية سارد يعبِّر عن سيولة الأزمنة. وإذا كان البساطي، المعلّم في اقتصاد الكلمة، قد أطلق لسان قطاره، وهو يكشف عن ذاكرة متعددة الطبقات، فإن جمال الغيطاني، في عمله «دنا فتدلى»، جعل من القطارات مجازًا لسيرة ذاتية متأسية، تميل إلى التصوف: «تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة» (دنا فتدلى- دفاتر التدوين. جمال الغيطاني). التبس القطار بشخصية إنسان يميل إلى الكآبة، له زهوه واختياله، ووحدته الباردة. ولعل «نزف الزمن»، الذي استغرق الغيطاني، في روايات متعددة، هو الذي جعله يرى القطار في «محطاته» المتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة، «تتلامعان»، قليلًا، قبل انطلاق القطار إلى محطة جديدة.
عبّر القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر في العالم، وعن «عالم تابِع» يريد أن يحاكي غيره ولا يصل. في مقابل ذلك فإن «المترو» صورة عن المدينة الحديثة، اللاهثة، العاملة، اللاهية، التي تضيق بالسطح العلوي المحدود وتذهب إلى عالم سفلي، هو امتداد للأول ونقيض له. والمترو، في الحالين، تجسيد لشرايين المدينة، يصل بين «قلبها» والأطراف المختلفة، ويؤمّن انتقال أهلها إلى مواقع قريبة أو بعيدة. فإذا أصابه عطل أشلَّ المدينةَ (حال أهل باريس) وأربك حياتها، كما لو كان آلة مطيعة ومستبدًّا واسع النفوذ معًا، ذلك أن حياة المدينة لا تنفصل عن «المترو»؛ ما يجعل من إضراب عماله حدثًا اجتماعيًّا في المدن الكبيرة.
ومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه، وهؤلاء العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده -حتى منتصف الليل- والمتسولين بعزف على آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقيرة وغريبة»، فإن له، في ساعات الصباح والمساء، حشوده، أو تلك «الجموع»، التي تميّز المدن الحديثة، كما أشار والتر بنيامين في أكثر من مكان، التي تجمع بين أخلاط من البشر، لهم هيئاتهم ولغاتهم، والفضول الإنساني الذي يصل بين غريب وآخر، وبين «عامل أجنبي» وسيم الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها، أو تذكّرته حين كانت مُقبلة على الحياة. سئل الروائي الفرنسي اليساري «روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته، فأجاب: «ركاب المترو في ساعات الصباح المبكّرة»، قاصدًا بذلك «العمّال» الذاهبين إلى المصانع.
كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة الثانية»، وابتعد الروائي الفرنسي الكبير «سيلين» الذي اتهم بالفاشية، عن الطبقات وانصرف إلى دلالة الحركة وجمالية الأسلوب. ففي روايته «رحلة إلى آخر الليل»، التي هي من ذُرا الأدب الفرنسي في القرن العشرين، اتخذ فرديناند سيلين من المترو، أو مجاز المترو بشكل أدق، موضوعًا، قرأ به «عالمًا سفليًّا، وتأمل وجودًا إنسانيًّا واسع الاضطراب». اقترب من الفيلسوف باسكال، الذي قبض على ما هو جوهري في الوجود، وأعرض عن الظواهر النافلة: «في المترو الانفعالي، الذي أتعامل معه، لا أدع شيئًا للسطح»، يقول سيلين، محاولًا الإمساك «بأعماق» الواقع، وجاعلًا من الأعماق مبتدأ لقراءة كل شيء. ذلك أن السطح «مطروق» وقريب من الابتذال، يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه دلالته، ويصيره إلى وجود رتيب فقير المعنى، على مبعدة من منظور سيلين الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إلى الجوهري و«باطن الأمور». ولهذا رأى في «المترو» عتمته وغموضه وعمقه، أو «ليله الملتبس»، الغريب عن الليل والنهار العاديين. «كل ما أريده أراه في القاطرة العجيبة» ( Celine: Voyage as bout de la nuit, gallimard, «pleiade», 1981, p: 104, 102.)، يقول سيلين، بعد أن يقول: «لا إمكانية للوقوف، مهما تكن ضآلته، في أي مكان»، بل إن في لغة الروائي ضجيجًا يذكِّر «بعويل القطار». بلغة عبدالوهاب البياتي ذات مرة.
مترو مدينة تثير الأعصاب
روجيه فايان
جبرا إبراهيم جبرا
تحيل الهاوية والأعماق والحفرة السوداء، وغيرها من مفردات سيلين، إلى «مترو» مدينة تثير الأعصاب وتقتات بالضجيج، يخترقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها، ويستدعي عقلانية باردة شديدة الحسبان. لا شيء من هذا في مدن عربية «تصحّرت» تسمع عن «المترو» ولا تعرف عن صناعته الكثير. ولأن الرواية العربية تعكس واقعًا تعرفه وتعيه، فهي لا تلتقي «المترو»، إلا نادرًا، حال مدينة القاهرة. فلم ينتبه إليه محفوظ، ولم يعره الغيطاني والبساطي ومحمود الورداني وغيرهم الكثير من الاهتمام. حتى لو انتبهوا إليه لكان، بالضرورة، مرورًا «عارضًا». فالمترو، الذي يترجم الدقة والنظام واحترام الزمن..، لا يأتلف مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛ لأن في «العشوائي» ما يمحو غيره.
ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مترو»، صورة عن استقبال «قطار الأنفاق» في الكتابة الأدبية المصرية، ومجازًا عن «هيئة القاهرة» في تعاملها مع «أداة نقل جديدة»، تخفّف من «كابوس المرور». فهذا العمل الذي طبع مرتين، كما يقول غلافه، قدّم نفسه «كرواية مصورة»، تصلح «للكبار فقط»، وذلك في طبعة جماهيرية عشوائية الملامح، تلتبس بالسخرية. تقوم «الرواية»، في صفحاتها المئة، على رسم بالأبيض والأسود قوامه «الكاريكاتير»، حيث الصور الساخرة و«كتابة عامية» متشكية، تزجر القائم وتشتكي من الزمن، يصبح «المترو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة العامية بمحطات المترو الملاحقة: محطة المعادي، ومحطة محمد نجيب، ومحطة أنور السادات، ومحطة السيدة زينب، ومحطة جمال عبدالناصر،… وفي كل محطة شكوى تستأنف شكوى محطة سابقة،… والسؤال هو: ما الذي جعل الشافعي يدرج «المترو» في فضاء كاريكاتيري عامي اللغة؟ والسؤال الثاني: هل أراد في ركونه الساخر إلى «مترو الأعماق»، أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي المصري، الذي يدور حول ذاته بلا أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى على غيره هو ما أعطى «المترو» حضورًا ومضيًّا، محتملًا، في روايات مصرية أخرى، مثل «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، التي مرت على حياة عشوائية لا ينقصها الكاريكاتير، و«البحث عن دينا» لمحمود الورداني التي تحدثت عن ركام التداعي والإخفاق، ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي عالجت الوعي الطائفي الماسخ؛ تستدعي هذه الروايات، كما غيرها، مفهوم الشكل، الذي يبدو واضحًا في عالم عقلاني تبنيه الأشكال، بعيدًا من عشوائيات يكسوها السديم.
عبدالوهاب البياتي
أدار جبرا إبراهيم جبرا حوارًا رحيبًا بين غرباء في روايته «السفينة»، كما لو كانت تقلّ ركابًا لا يعرف بعضهم بعضًا، وتقلّ معهم ثقافاتهم المختلفة، ووضع عبدالرحمن منيف في قطار «الأشجار واغتيال مرزوق» غريبين يتبادلان القصص، ولم يعثر المصري مجدي الشافعي في «مترو» القاهرة، إلا على بقايا الكلام وهيئات مشوّهة.
في كتابه المثير للإعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إلى أثير»، تكلم مارشال بيرمن عن الإنسان الحديث ملمحًا إلى الطرق الواسعة والقطارات و«المتروات العجيبة»، مؤكدًا أن حداثة الآلة التي يستعملها الإنسان لا تستقيم إلا بإنسان له وعي حديث.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مارس 16, 2016 | قراءات, كتب
فـي الرسائل المتبادلة بين مؤنس الرزاز وإلياس فركوح، ما يعلن عن مفارقة حزينة وجميلة، ويُخبر عن استذكار واستبصار حميم متميّز، يواجه عبث الزمن القاسي بكتابة متجددة. يأتي حزن المفارقة من رحيل أحد الطرفين. جاء الموت إلى مؤنس مبكرًا وقيّده إلى الصمت. رحل قبل أن يكتب الروايات التي كان يحلم بكتابتها. وتصدر جمالية الرسائل عن فضيلة الوفاء، التي جعلت إلياس فركوح يحمل ضجيج الحياة إلى صديق غادره.
جسّد إلياس بالكتابة المسافة الموجعة بين زمنين، وأخبر -على طريقته- عن قوة الكتابة التي تصرخ، وتهمس، وتحاور، وتشاكس، وتستقرّ فـي موقع محاصَر بالاحتمالات. لكنه، وهو يستنجد بالكتابة، صرّح، حزينًا، بهشاشة الكائن – الكاتب، الذي يلتفت إلى الأموات، ويعرف أنه سيلتحق بهم، فلكلّ كاتب نهاية تصادت فـي ذاكرته، قبل أن يعرف الكتابة،ودخل إلى الكتابة من دون أن تفارقه أطياف الأموات. ولعلَّ إيمانه بالكتابة، هو الذي جعله يستعيد بها صوت صديقه الذي رحل، كما لو كانت استضافة الراحل فـي حقل الكتابة تضعه «داخل الحياة» ولو إلى حين. تبدو الكتابة فعلًا سحريًّا ويائسًا فـي آنٍ واحد، يردّ إلى الحياة ما خرج منها، ويستدعي قلقًا لا يُعالَج بالكتابة.
دخل إلياس إلى عالم الرسائل من باب الاستذكار؛ إذ فـي دروب الصداقة الطويلة ألفة الأسماء والأصدقاء، التي تكسو النهار دفئًا وأسئلة. تقاسم الصديقان الحزن على صديق ثالث اغتاله «قنّاص» على حين غرَّة، وتوازعَا دهشة مريرة من مآل إنسان «حُشرت أعضاؤه المقطّعة فـي كيس»، وتبادلَا مَسَرَّاتٍ وأفكارَ قصص «قيد الإنجاز». الْتقى الاستذكارُ منافذَه المتعددةَ التي أطلّت فـي عمّان، ذات مرة، على مثقفيْنِ قومييْنِ يُنصتان إلى حديث «قائد قوميّ»، أراد لأمته السلامة فوقع فـي الموت. لَكَأَنَّ مؤنسًا «ولد بعثيًّا»، يقول إلياس، ناظرًا إلى عفوية إنسانية نبيلة، لم تكن بحاجة إلى «أيديولوجيا كبيرة»؛ لأنّ فـي الأيديولوجيات المتحزبة، فـي لحظة انغلاقها، ما ينفي العفوية، ويأمر بتماثل البشر الذي يطالها باستقالة العقل المفكِّر.
يتراءى فـي مداخل الصداقة مكانٌ نظيفٌ أليفٌ فـي عمّان يُدعى «اللويبدة»، عاش فيه «الأب» الذي أعدمه «حزبه»، والابن الذي وُلد كما أرادت له أسرته المثقفة، واختلف إليه «الصديق القوميّ» الذي استعاد الأطياف جميعًا، ووضعها فـي رسائل بين عامَيْ (2013- 2015م) كتابة وأزمنة، أو كتابة فـي أزمنة، هذا ما أراده إلياس فـي كتابة متعددة المرايا، تُوحي وتشير وتلهث وتشي وتصرّ أن تبقى كتابة، فـي التحديد الأخير.
إلياس فركوح
تحيل شظايا الكتابة إلى العالم الرُّوحيّ لمثقفيْنِ استغرقتهما الكتابة المفكِّرة، وإلى زمن ثقافـيّ سياسيّ، لم يكن مثاليًّا، يغاير ما أعقبه، ويفرض على الرُّوح الكاتبة طبقاتٍ من التأسِّي والحنين. أراد مؤنس وإلياس كتابةً مفكِّرة، فـي زمن هجين، يبشِّر بالجديد ويتمسِّك بالقديم. كتابة معاناة أقرب إلى التفاؤل، أو كتابة متشائمة ترتكن إلى «الأمل»، تخالطها إيمانية العمل وميتافيزيقا الإرادة. يقول مؤنس لصديقه: «الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي تَقِيكَ الغَرَقَ… حاوِلْ أن ترى متعة الصبر، ولا تسأل كثيرًا». وقد صبر مؤنس على ما يُصبَر عليه ثم رحل، وتابع إلياس المساءلة: نَقَدَ الفكرَ الذي انتسب إليه، ثم نَهَرَه، من دون أن يكفّ عن تجديد الأسئلة، مقارنًا، بوعي أَسْيان، بين أحاديث الشباب فـي «اللويبدة» وألوية الجهل المتعالية فـي زمن «تحرير الرسائل».
كان محمود درويش يقول: «كل مثقف من المثال الذي يتطلع إليه»، ثم يكمل القول بتعليقات ساخرة، مميِّزًا الحِنْطةَ مِن الزُّؤَان. لعل المرور على أسماء الكتب والمفكرين الذين كان مؤنس يحتضنهم وهو ذاهب من مدينة إلى أخرى، ما يضيء المثال الصعب «الهائل» الذي كان يتطلع إليه، وهو فـي أوائل عشريناته. فحين كان فـي «بيرمنغهام» البريطانية، باحثًا عن تكامل رُوحيّ لن يصل إليه، يذكر هيرمان هسه وألدوس هكسلي وبروست، مسائلًا العلاقة بين الفلسفة والأدب، ومتوقفًا أمام كير غارد وهيدغر ومارلو بونتي، إلى أن يصل إلى مدينة واشنطن؛ ليستأنف شغفه المعرفـيّ، متحدثًا عن نيتشه وبيرغسون وهيوم و«عمل جويس العبقري: يوليسيس».
فـي الوقوف أمام مكتبة إنسانية «عبقرية»، كان مؤنس يَرْزَح تحت وطأة حُلم ثقيل، يشي برُوحٍ صابرة حالمة ترهق صاحبها، تراهن على ما لا يمكن الرهان عليه؛ إذ إن للمكتبات تاريخها، وللمدن فتنتها، وللشوارع مصائدها، وللأحلام غوايتها وجحيمها فـي آنٍ واحد. لعل تلك الأحلام، فـي سياق عربيّ رمادُه أكثرُ من جَمْره، وفـي مدار شخصيّ تتعقّبه المأساة، هي التي قادت مؤنسًا إلى طيران معوّق، كلّما ارتفع ازداد اضطرابًا. لم يكن ذلك الطيران الطموح والمستحيل، إلّا مرآة لوعيٍ رومانسيّ، يرى فـي الكُتب قوة خالقة، ولالتزام قومي تحاصره «أرواح ميتة»، ولحساسية عالية «مغتربة المتكأ».
مؤنس الرزاز
يشير مؤنس إلى فرحه «بصديقين»، مؤكِّدًا لصديقه إلياس أنَّ الاثنين عدد كبير، لا يمكن الاستخفاف به. والسؤال هو: إذا كان مؤنس مسكونًا بشهوة إصلاح العالم، حال الرومانسيين جميعًا، فما هي حدود اغترابه الرُّوحيّ، وهو يحتفي «باثنين» لا ثالث لهما؟ هل هي قوة الأمل، أم «التأقلم» مع خيبات لا تكفّ عن التوالد؟
لا غرابة أن يرجع الشاب الناحل، القريب من الخجل، إلى رواية كامو «الغريب» أكثر من مرة، وأن يعيش غربة متعددة الأبعاد وهو يراقب فـي بيروت «رفاقًا» تخلَّوْا عنه فـي لمح البصر. ولا غرابة أن يقرأه «نصفُ أصدقائه»؛ أي إلياس، بمقولة المسيح، وأن يقرأ بها والد مؤنس، بمعنى التخلِّي وشقاء الطريق. يرتسم فـي المصاير الثلاثة معنى التجربة، التي دفعت الوالد إلى مآل ظالم لم يكن يتوقّعه، وأمّلت في الابن أن يتعهّد أحلامه بموادّ متقشّفة، واستبقت إلياس بكتابة متجددة، تَتَطَيَّر من اليقين والمطلقات، التي تحسن الهدم وتستولد السراب.
زمن يضيق بالثقة
تَبادَلَ الصديقان استضافة الرُّوح، فكتبا وتحاوَرَا، واحتفظ كل منهما بموقع يخصّه، بملاحظات تصوّب النظر، إنْ أوغل فـي الحلم، أو عاجله التجريد. غير أنّ تلك الصداقة الطويلة الأمد، فـي زمن يضنّ بالثقة، لم تكن ممكنة من دون «شراكة روحية» مهجوسة بتساند لا حسبان فيه، وبإخلاص لا يَتبدّد فـي الطريق؛ لذلك تبدو الرسائلُ الممتدة فـي زمن يقترب من الأربعين عامًا، رسالةً واحدة، ترسم صداقة لا تخبو، وتؤرّخ لواقع بليد الخُطا، يخذل الأحلام ويتقدّم إلى حيث يريد. وإذا كانت الصداقة من وحدة هدف يصوغه نَظَران، فإنّ جماليتها من اختلاف النظرين المتكاملين، اللذين يتقاسمان قيمًا مشتركة، واجتهادًا لا يُختزل إلى صيغة مفردة. يقول إلياس محذرًا من هشاشة القراءة و«فتنة الكتب»: «غير أن الكيفية التي نقرأ من خلالها الكتب، بصرف النظر عن أهميتها ومداها، فتلك هي الإشارة الأدقّ التي تتجلّى فـي المكتوب»؛ لأن فـي القراءة سطوحًا نافلة، وأعماقًا خصيبة تَبْني وتُرمِّم وتُلغي بممحاة عاقلة. شيء قريب من أشكال الابتسام، فتلك التي لا تُخفي وراءها إلّا الأسنان، تغاير أخرى صادرة عن قلب صادق.
فـي «رسائلنا ليست مكاتيب» ما يشهد على كتابة – وثيقة، تستعيد زمنًا مضى، تواجهه بحاضر تقهقر عنه، إلى تخوم الانقطاع تقريبًا. لم يكن ما كان مثاليًّا، لكنه قابل للتحمُّل، ولا يفصح عن كارثة. كان مؤنس يتحدّث عن الأمل والنشوة: «رسالتك بعثت فـيّ أملًا ضاعف من نشوتي. 1-3-1977م»، قبل أن يتحدّث إلياس، بعد ثمانية وثلاثين عامًا، عن عالم غاضت إنسانيته: «العالم يتصحّر يا أخي كل يوم. يحتشد بجموع الضباع، ويصخب بعواء الذئاب، دولًا، وفرقًا، وأحزابًا، وأديانًا ملفقة».
ذهب ما كان، وأعقبه ورثة كاثروا أمراضه، وأطلقوا النار على احتمالات العلاج. عرف الصديقان زمنًا عربيًّا يريد أن ينهض، سافر مؤنس إلى عاصمة العباسيين فـي طورها «البعثيّ» الواعد بتغيير العوالم، والْتَحَق إلياس بمقاومة فلسطينية فـي بيروت، ثم نَظَرَا، بنسب مختلفة، إلى انكسار الأحلام: احتلّت إسرائيل العاصمة اللبنانية، ودخلت بغداد، بعد الاحتلال الأميركيّ، إلى أطوار متصاعدة من الانتهاك والتدمير والسديم والاغتصاب. يتعيّن ما كتباه، بهذا المعنى، سيرةً ذاتيةً جَماعيةً، فما دارَا حوله طويلًا ارتبط بالشأن «القوميّ» بعيدًا من ثقافة الاختصاص.
يتذكّر إلياس فركوح، فـي الرسائل التي أشرف على إعدادها، ويستذكر فـي آنٍ: يتذكّر مناخًا ثقافيًّا سياسيًّا، تناءى إلى تخوم الغياب، ويستذكر صديقًا تقاسم معه «أحلامًا كتابية هائلة». تحضر الذاكرة وهي تزور ما كان وتداعى، رحل الصديق وتداعت الأحزاب، ويتجلّى الاستذكار فـي أسلوب مُحوَّط بالحنين، وبدمع محتجب. إنها التجربة التي جاءت وذهبت، لم تعطب العقل، لكنها تركت فـي الرُّوح ندوبًا كثيرة.
تحدّث الفيلسوف الألمانيّ هانز بولمنبرغ عن «قراءة العالم»؛ إذ إن كلَّ شيء، فـي قديمه وحديثه، عملية قراءة، تستنطق وتصوغ ما يشبه الإجابات. حاول إلياس فركوح الذي يرى الأدب لغة منذ بداياته، أن يترجم ما عاشه إلى كلمات، ترسم وتصوِّر وتسرد، مشتقًّا الفكر من لغة تصوغه، تنفذ إلى جوهر الأشياء، وتترك الكلمات تنسج المعنى وتشير إليه؛ فلا معنى لبلاغة تخطئ موضوعها.
لهذا بدت رسائله درسًا فـي الأسلوب، يلاحق العالم، ويصوغه فـي كلمات تجمع بين الصور والمفاهيم، تُستكمل بهوامش «دقيقة»، تنصف الأشخاص وتلامس «روح المرحلة».
من رسائل مؤنس إلى إلياس
فـي الاستذكار الذي يعطف الكتب على المدن، والوجوه على الأفكار، استبصار يحاذر الغضب، ويحتضن الأشياء كما كانت وكما ستأتي، طالما أن صور «السادة» الذين جرفتهم البلاغة، من صور الخاضعين الذين ورثوا عاداتهم. ينتهي الكتاب بقصة لمؤنس عنوانها: «البحث عن النشوة المستحيلة»، تلك النشوة التي تقف على الباب طويلًا، وتهزّها المفارقات القاسية: «فـي عينيك حساسية الغضب وقسوة الصدمة». لا تختلف جملة الاستهلال فـي قصة مؤنس عن استهلال قصة «الحصار» لصديقه إلياس: «مدججًا تأتيني بحزنكَ وما اختزنتَ من طعنات أسلحة الزمن القاتل».
يتراءى ما أتى وما سيأتي فـي متواليات من الكلمات، حَدُّها الأَوَّلُ «صدمة قاسية»، وحدُّها الأخير «طعنات قاتلة». أغلق الكتاب فضاءه المأساويّ بما كتبه مؤنس عن عبدالوهاب الكيالي، الذي اغتاله «أنصار الالتزام»: «لماذا يتسع هذا الوطن الكبير لملايين الشهداء ويضيق بأحلامنا الصغيرة؟».
غلاف رسائلنا ليست مكاتيب
وطن يختار شهداؤُه الحياة
كُتبت «الرسائل» عن وطن يختار شهداؤه الحياةَ، ويصادرهم الموت. حلمَ المثقفانِ الأردنيانِ المتميزانِ بوطن يطرد الضجيج الكاذب، ويستضيف السكينة. استضاف كلٌّ منهما الآخر، ولا يزال، نافرين من «كواتم الصوت»، هاجسيْنِ «بأحلام صغيرة» مستحيلة التحقُّق، لا مكان لها فـي متاحف الكوابيس، ولها بعض المكان فـي أرجاء الكتابة.
احتضن الكتاب، مثلما أعدّه إلياس فركوح، سيرتيْنِ مجزوءتيْنِ: سيرة ذاتية ثقافية لجيل من المثقفين العرب، صَالَحَ بين الغضب والأهداف النبيلة، وحصد رمادًا يحرق العيون، وسيرة أخلاقية إبداعية لأديبين مختلفين، تحتفي بذات المبدع، وتزهد في الشعارات الفارغة، وتعطي الكتابة تعريفًا لا يُلحق بها الإهانة. نرى فـي هذا الكتاب إلياس فركوح وشقاءه النبيل فـي حقل اللغة، مصرحًا بذاتية تفصل بين الواحد والمتعدد وبين النثر والإنشاء، ولا تلغي المسافة بين النقد والكتابة.
كما لو كان يقول: إن أخلاقية المبدع من لغته، وإن فـي لغته المبدعة ما يجسّد جماليات الحياة والصداقة، التي تجلّت فـي راحل جميل يُدعَى: مؤنس الرزاز.
شكل جديد من سيرة الكتابة الإبداعية، تتجاوز التصنيف، وترى الجنس الأدبيَّ فـي مسار الأديب، وتحتضن أخلاق الكاتب وتاريخه الكتابي فـي آنٍ.