مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ (3)

ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ (3)

فيصل دراج

في مكان ضيق، قلق الإقامة، ألجأني إليه بلد مجاور أراد أهله السعادة فسقطوا في الكارثة، نازعتني روحي إلى زيارة قبور الأقربين. كنت أراقب جماعات تتأبط حزمًا من جرائد النخيل، وتقصد المقبرة، في اليوم الأخير من رمضان. سخرت رغبتي مني، فأنا في بلد أفتقر فيه إلى الأقارب، وأعادتني إلى زمن مضى، حين كنت مع الأقارب، وكانوا معي ومني.

أراني طفلًا في فجر التبس سواده بزرقته، والتبس أزرقه بصوت المؤذن، أساير أُمًّا سريعة الخطو، تؤنس الطريق بمشيتها، ويؤنسها الطريق بحصاه، وتضغط على يدي كي تتأكد أنني هناك. كانت تقصد مقبرة لتزور قبور الأقربين.

كانت مقبرة الجاعونة، في ذاك الزمن الفلسطيني، تتاخم حقول التين والزيتون، تسبقها مدرسة، وكان الفلاحون يطلون القبور بالكلس، فتبدو بيضاء في النهار، وأكثر بياضًا في الليل. كان تداخُلُ زرقة الفجر وبياض القبور، في صمتها الأبدي، يخلق فضاءً غامضًا، «تحوم فوقه الأرواح»، ويبعث على الرهبة. وكانت المقبرة تنفتح على السهل والجبل. كانت الأم، التي لا تكف عن البسملة، تحمل معها دموعها ودعواتها وريحانها، توزعه على القبور، وإبريقًا صغيرًا تحتفظ بمائه لقبر أخير، تجالسه وتحاوره، توسّده ريحانها، وتفرشه بدعائها، تسقيه وتمسّده وتعاتبه وتستأذنه قبل الرجوع. كان قبر أخيها الوحيد، الذي أكمل تعليمه في القدس وصفد وحسمه الموت، قبل أن يبلغ العشرين، واحتفظت له بصورة شمسية شاحبة إلى أن وافاها الموت، بعد ستين عامًا، وضمّها قبر في أطراف دمشق.

كان عليّ، في المكان الضيق الذي وصلت إليه، أن أُوهم نفسي بزيارة قبور الأقربين، وأن أنسحب من زمنٍ مضى، كما لو كنت أستيقظ من منام، سواده من زرقته، وأزرقه أقرب إلى النور. وكان عليَّ أن أستذكر قبورًا كثيرة، عبرت كطيف أو كابوس، وتناثرت في أكثر من مكان. كان جدي لأبي أول الراحلين، أذكره بعصاه الطويلة وقد جاوز التسعين، يجلس في مكان مشمس ويدهن جسمه بالزيت، ويستخرج، وهو المزارع القديم، من ذاكرته كلامًا بدويًّا: «الدنيا لا ش ولا ش، مثل طيّات القماش». كانت دنياه قد بلغت طيّتها الأخيرة في قرية «زاكية السورية»، بعد النكبة بعام.

أذكر من جدي وجعًا طفوليًّا وأنا أتصوره، بعد رحيلنا عن القرية، وحيدًا في قبر غريب تحيط به صخور بركانية. وسألت نفسي، ونحن نقصد دمشق: من سيزور قبره؟ وبكيت، حين سألت: هل نراه ثانية؟ أجاب عمي، الذي كنا ندعوه «ذاكرة العائلة»: في فلسطين، في فلسطين، ولم تقنعني الإجابة. بعد أشهر قليلة، سنعرف، أن خالتي القليلة القامة الكثيرة الكلام ماتت في «بنت جبيل»، وأن رفاتها سيذوب في تراب الجنوب اللبناني. علمني رحيل الجد معنى الفقْد، وأضاءت الخالة لي برحيلها تجربة الغياب. وسأدرك لاحقًا «بداهة التبعثر»، وعادية غياب ما كان، وعرفت أن في زيارة القبور تحية للأقربين، لا احتفالًا بأكوام التراب، وأن ما يدعى بالذاكرة متواليات من الرفض والمعاناة، وتدريب على قراءة الوجود الفلسطيني.

قبر منيف يطل على صفد

حين رحلت عمتي التي اقتربت من الستين، في قرية جويزة السورية القريبة من شمال فلسطين، لم يداهمني الخوف، كالمرتين السابقتين. شعرت أن لها قبرًا منيفًا يطلّ على «صفد»، ومحاطًا بالخضرة. كان في المكان ما يؤنس الأحياء والأموات، ويسمح للميت أن يصل فلسطين مشيًا، لو استطاع، وقد تتسرّب رفاته إلى تراب الوطن وينسج معه حوارًا. كانت التصورات تأتي من الحكايات وقصر المسافة، التي تضع ملامح الوطن أمام عين الذاكرة. لم يكن المنفى قد أوغل في اتساعه بعد.

كان الفلسطيني النجيب حسين البرغوثي يتحدث عن «ذاكرة المكان»، في عمله الجميل «سأكون بين اللوز»؛ إذ في فضاء بلدته روح «غريري»، وهو حيوان برّي صغير، لن تموت، وإن بين ثنايا التراب حكايات واسعة الصوت، يحميها «تناسخ» غامض، يضع على لسان الطفل حكايات جده، وفي ذاكرة الجد مواء «غريري» صغير، أطلق اليهود عليه النار غير مرة.

بيد أن ذاكرة المكان تعطّلت، وهجرها التناسخ، حين حُشر الفلسطينيون في أرض غريبة وحمل الأطفال اللاجئون ذاكرة «وليدة». كان الكبار يرمِّمون ذاكرة المكان بحكاياتهم، أو بأفعال غريبة تسكنها الفجيعة، حال تلك الكهلة الفارعة التي جاءت من الغور الفلسطيني إلى بيروت، في أثناء الحرب الأهلية لتنتزع رفات ولديها من تراب غريب، وتعيدهما إلى أرض الأهل والطفولة. حملت على ظهرها كيسًا من عظام، يغطيه التراب ويرسل خشخشة مقبضة كانت صامتة الوجه، تائهة النظرات، أقرب إلى شجرة سنديان داخلها اليباس. تقصد دمشق مشيًا وضلت الطريق. انبثقت من الأسفلت وقالت «أختي» وكلمات متداخلة. حين سألها المسؤول عن محتويات الكيس المشدود إلى ظهرها، أجابت بصوت هادئ أقرب إلى الاستسلام: «عظام الأولاد»، أحملها إلى قريتي في فلسطين. كانت مسكونة بذاكرة المكان، وكان في المكان ما يلقن روحها دروسًا في الذهاب والإياب، ويحوّل العظام إلى شابين يستقران في تراب أنيس، لا تحيط به الصخور البركانية. ما زلت أذكر عذابًا يمشي، يقف على الأرض، ويتحدى الأزمنة وعجوزًا فارعة تحاور ولدين لا تعترف بموتهما. لا أذكر سفري بين دمشق وبيروت إلا وذكرت «أم الأولاد» بِلَوْعةٍ.

كانت قد سمعت، ربما، عن عظام الفلسطينيين الملقاة في العراء، بعد سقوط مخيم تل الزعتر في أغسطس 1976م، وتسلل إلى روحها عتاب من أكثر من مكان. كان في وجوه الناجين من المجزرة، وهم جمع من صبية وأطفال وعجائز، صفرة يخنقها السواد، وملامح سُوِّيت بالذهول والكبرياء، أوكلوا الكلام إلى عيونهم، وتأبطوا أطياف الأحزان القادمة. أما الذين خرجوا من المخيم بطرق سرية، ولا يتجاوزون العشرات، فكان في عيونهم رايات مكسورة، وفي نظراتهم طبقات من نار ورماد. كنا نلقي عليهم كلامًا على مشارف بيروت، ولا ننتظر.

عبث لم يسكت الفلسطينيون

في ذاك اليوم القائظ من شهر أغسطس عام 1976م، يوم سقوط تل الزعتر، كان في فضاء «بيروت الغربية»، كما كنا نقول، طبقات من الحِداد تجثم على الوجوه والعيون والكلام، وعلى الدفاتر والأوراق ومفارق الروح. كان شهداء مجزرة «دير ياسين»، التي قام بها اليهود قبل النكبة، قد استيقظوا من «قبرهم الجماعي» ليؤنسوا قبورًا جماعية جديدة، ويطلقوا مع «الشهداء الجدد» نشيدًا مختنقًا يعاتب الكون.

شعرت في ذاك اليوم البعيد، والقريب أيضًا، أنني مجرد إنسان فلسطيني عبثت به الأقدار، وأن عبثها المتمادي لم يُسْكِت الفلسطينيين، وبكيت.

حين التقيناه في حديقة «الصنايع» في بيروت، كان في التاسعة تقريبًا، خلّف وراءه عائلة طمرتها الفؤوس في التراب، يلف رقبته بـ«حطّة فلسطينية»، عيناه من صمت ويرد على أسئلتنا بكلمات تتجاوز عمره «أنا أدبّر حالي!!». ولم نكن نعلم معنى «أن يدبّر نفسه» صبي في التاسعة، يعيش في حديقة من مدينة. دأبَ على استعمال جملته الوحيدة حتى أصبحت جزءًا منه واسمًا له. لا يشكو ولا يسأل، كما لو كان أعاد خلق ذاته وامتلأت ذاته «بذات» تدبّر حالها، ولا تسأل أحدًا.

كان الواضح في الفارعة – وهو لقب فلسطينية في مسرحية سعدالله ونوس: الاغتصاب- عيناها الخرساوان اللتان تخالطهما حمرة واضحة، وكان الواضح في «الصبي الناجي» عزوف عن الكلام وشعور بالكرامة. وكان فيهما معًا ما يثقّف «الإنسان الإلهي»، بلغة نجيب محفوظ في رواية «قلب الليل»، وما يحتفي بذاكرة إنسان لا يخشى الموت بقدر ما يخاف الإهانة.

تقترح الحكايتان مصطلح «تثقيف الذاكرة»، الذي يعني التعلّم من آخرين تعلّموا بالمعاناة وتدريب الروح، أو مصطلح «الذاكرة المثقفة» التي تشير إلى إنسان علّمته تجربته أن يسكن حبسه ويجعله متراسًا. واظب الصبي «أنا أتدبّر حالي» على الظهور في «الحديقة» طويلًا، ثم اختفى، إلى أن ظهرت صورته على غلاف المجلة الفرنسية «الأكسبرس»، كان مع «حطّته الفلسطينية» ووجهه الهادئ، واقفًا، ولكن بساق واحدة. جعلت منه المجلة موضوعًا للحصار والعذاب، ورأيت فيه نموذجًا للذاكرة المقاتلة، فلولا ذاكرته، التي تسأل عن الأسباب وتزهد بالنتيجة، لما وقف من جديد، ولولا وقوفه الشجاع المتكرّر، لما علّم غيره شيئًا. أكّدت وقفته أن روح الإنسان من ذاكرته، وأن ذاكرته معركة، قد تمتلك اللحظة أو يبددها الزمن.

في مكتب من مكاتب إعلام المقاومة الفلسطينية في بيروت، وقبل الخروج منها في خريف 1982م، كان هناك إعلاميٌّ يحسن الكلام بالعربية والإنجليزية ويتحدّث عن «عملية جديدة»، وعن شهيد، استلقى على «ملصق» جميل حسن الطباعة. في أسفل الدرج وعلى مقربة من الباب الخارجي، كان يقف عجوز صامتًا ينظر إلى الملصق، ولا يطلب شيئًا حين سُئل العجوز عما يريد قال: نسخة واحدة من هذا الملصق، وانتزع جملة أخرى من حَلْقِهِ وقال: أنا والد الشهيد.

حين كنت ألتقي الفنان الفلسطيني ناجي العلي، في مكتبه في جريدة السفير البيروتية، ليلًا، كان يقول: «أولاد الشليتة لا يريدون لنا الحياة، ولكننا». وكان المرحوم سعدالله ونوس الذي عمل مدة في الجريدة، يضحك: إذا كنت شاطر عدّ لي عشرة من أولاد الشليتة!!

خرائط متنقلة

كان عمّنا الأكبر يدعى «ذاكرة العائلة»، طويلًا نحيلًا بشوشًا، واسع الذكريات. محملًا بحكايات «من أيام زمان»، يذكر حيفا أيام الشباب، عاش فيها زمنًا، ويتكلّم بفرح عن فنانين مصريين زاروا المدينة، مثل أم كلثوم وعبدالوهاب ويوسف وهبي، الذي حضر عرض فلمه «ليلة ممطرة». وكان يسهب في الكلام وهو يفرد أمامه ورقة خضراء متهدمة الأطراف، تشهد أن له أسهمًا من سينما «الحمراء». حين كنا نسأله عن الحدود التي بلغتها العائلة في متاهة الغربة كان يقول: ما من مكان استطعنا الوصول إليه إلا وتركنا فيه قبورًا، دفنا قريبًا، بعد الخروج، في صور، وآخر هدَّه مرض خبيث في بيروت، وشابٌّ ذهب إلى السعودية وصرعه مرض القلب، ومهندس اختفى في العراق في ظروف غامضة، وكان لنا قريب «عافنا»، بعد الطوفان، وارتحل إلى اليونان وغابت أخباره. وكانت له جملته الأثيرة: «على الإنسان أن يموت بلا بهدلة». حين اقترب من الخامسة والتسعين عاف جسده الطعام، ورحل سريعًا بكرامة.

لو بقي على قيد الحياة وسألته: ماذا لو زرت قبور الآخرين؟ لانفجر من الضحك وسألني: هل تعرف أسماءهم؟ فالاسم هوية وملكية غالية، والقبور خرائط وخرائطنا متنقلة. وكانت تلك الخرائط مثقلة بالمفارقات، تستهلّ باتجاه مرغوب، وتنغلق على اتجاه صادم، يمزّق الرغبات في الطريق، أو يبدأ بتمزيقها قبل المسير.

سألت الناقد المصري الكريم محمود أمين العالم في تسعينيات القرن الماضي، عن قبر خليل السكاكيني، الذي انتخب عضوًا في المجمع اللغوي في القاهرة عام 1948م، أجاب: «مات من زمان، سنبحث عنه». كان البحث صعبًا عن قبر اللغوي الفلسطيني المقدسي، الذي كان يقول: «لو ترك الناس القدس جميعًا، لبقيت فيها وحدي»، مرددًا في سره: «إن مقبرة البطل هي مهد الشعب». جاءت ساعة النكبة، وكان المربي الشهير ينوء بثقل العمر (1878 – 1953م) ورعب مرض ابنه الوحيد، فترك القدس في اللحظة الأخيرة ولجأ إلى القاهرة، مبتعدًا من «مهد الروح» إلى قبر لم يتوقعه.

علّمني شعوري، بعد النكبة، أن أفصل بين الموت المكتمل، الذي يقع على فرد بعيد من العائلة، لن نزور قبره، والموت الناقص الذي يحسم فردًا قريبًا منا، ونزور قبره حين نشاء، كما لو كان في القبر القريب بعض من صفات الراحل وأصداء ضحكاته. وكان الموت المكتمل يتفوّق دائمًا على الموت الناقص، موكلًا إلى «ذاكرة العائلة» أن تستدرك النقص، من دون أن تجعل زيارة القبور متاحة. غير أن صورة الموت المكتمل صدمتني، حين علمت العائلة، بعد عشر سنوات من النكبة، أن عمتي الوحيدة التي رفضت الرحيل وتمسّكت بحيفا، قد رحلت. وسألت نفسي: كيف يكون موتها كاملًا، وهي لم تغادر الوطن؟ جاء الجواب سهلًا: ما ينطبق على غير الفلسطينيين لا ينطبق على الفلسطينيين، الذين يرون في زيارة القبور فعلًا يعبِّر عن الوفاء، ومجابهة النسيان.

ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ السؤال مشروع وإمكانية تحقيقه تحتاج إلى معجزة.

الغربة وتناسل الحكايات (2)

الغربة وتناسل الحكايات (2)

وكل غريب للغريب نسيب. قال أبو حيّان التوحيدي، الذي كان غريبًا بين الغرباء.

عرف الصبي اللاجئ أنه مختلف، حين طلب المعلّم من التلاميذ الغرباء أن يرفعوا أصابعهم، وأدرك حقيقة الغرباء، وهو ينصت إلى حكاياتهم المسائية في غرف مستأجرة، ويعيش أقدارهم المتحوّلة إلى حكايات. سأذكر لاحقًا تناسل الحكايات التي تأتي بها الحياة المتغيّرة، وتعمل «النظريات الأدبية» على معالجتها بصيغ ثابتة.

كنا في تلك البلدة المعلّقة في الفضاء غرباء، لم يتوقعوا ما وصلوا إليه، وأنسباء جاؤوا من قرى الجليل المتجاورة، الغريبة الأسماء حينًا: الجاعونة، فرْعِم، المغار، الجِشّ، والأليفة الأسماء حينًا آخر: عين الزيتون، التي اسمها يدل على ما فيها، والصفصاف بنساء جميلات تقصدهن القرى المجاورة، ولوبيه التي اعتقد أهلها أن كثرة سكانها تجعلها مدينة. وكثيرًا ما تصوّرت هؤلاء الغرباء بشرًا حُشروا في موقع ضيق مرتفع، يدفعهم خارجه، يسقطون أو يتعلقون بالهواء.

كان النهار المدرسي يأتينا بألقاب غير مستحبة وبحكايات صادمة، في انتظار أمسيات الغرباء، التي يحتشدون فيها كبارًا وصغارًا، وينشرون حكايات عن ماضٍ قريب، مدركين، أن في استذكار الماضي استراحة للغريب. كنت أنصت إلى ما يقال تاركًا تأويل الحكايات لأزمنة قادمة. كانوا في أمسياتهم، التي تقصّر المسافة بين الأعمار والقرى، يتسامرون ويتصايحون ويتشاكسون ويتآيسون ويتضاحكون، إلى أن ينطق واحد منهم، لا تنقصه «الفخامة الكاذبة»: سترى. لا يلبث أن يعطفها على كلمات عن الحرب والعرب والعودة، وعن عدالة تستقدمها المآثر العربية. كنت أغفو وأتوزع على غموض خانق وأستدفئ، بالغرباء المتكوّمين في الغرفة وبصراخ أطفالهم. كانت أمي، في ساعات الفراغ، تسخر من الرجل وفخامته الفارغة، وتستعمل «سترى» بأشكال مختلفة. وكانت هناك عجوز مجللة بالسواد، تستخف بالرجل وكلمته وتقول صارخة: رأينا الرحيل والبيوت المشتعلة وعساكر اليهود وشبابًا يموتون، ولن نرى أسوأ مما رأيناه، ولا حاجة بنا إلى «ستراكم» الكريمة.

مواجهة الغربة بحكايات عن الوطن

كان المجتمعون مساءً يواجهون غربتهم بحكايات عن الوطن ويختمون قصصهم المتنوعة بصوت أقرب إلى الدعاء: «سقا الله»، حيث قطر السماء وحضور الله وأعين تقول ولا تقول، ونظرات يكسوها الابتسام إلى «أسعد» الشاب الضامر، الذي ينتسب إلى عائلة «سقا الله» الفلسطينية. كانوا يستنجدون، في غرفة ضاقت بهم، بما يتذكرونه، والذاكرة سجل الروح، ويتركون لأيامهم الحزينة القادمة حكايات لم تولد بعد.

الشاعر، الذي لم يكن شاعرًا، هو أول الحكايات الحزينة. كان يسبقه صوته ويأتي البيوت نهارًا، فارع الطول مكتحل العينين، حليق الذقن، خمسينيًّا لا يذكر ولدًا ولا زوجة، أنيق اللباس بكوفية وعقال و«قمباز» رمادي وحزام أسود عريض، وله صوت جهير. يفترش الأرض ويُخرج من جيب داخلي مجموعة أوراق، ومن جيب خارجي صغير قلم «كوبيا»، يمر عليه بلسانه ويدقق الكلمات، ويستهل قوله بغضب: «باعوا البلاد واشتروا كراسيَّهم»، ويضيف ما يضيف ويكرّر استهلاله، إلى أن يتعب ويطلب كأسًا من الماء، ويعيد الأوراق إلى جيبه ولا ينظر في وجه أحد. وما أن ينظر إلى الأعلى ويقول: «فلسطين بوابة السماء»، حتى يكون خارج البيت. كانت الغرف لا تتسع لغضبه الكسير. أقلع «أبو محمود»، هكذا كان يدعى، فجأة، عن زيارة الآخرين، وغاب وأصابهم الفضول، وعثروا عليه.

غرفة ضيقة، عارية من الأثاث، على جدارها صورة «عبدالقادر الحسيني»، افترشت أرضها أوراق وكتب، تتدلى من سقفها جثة هائلة، مال رأسها إلى اليمين، التف حول العنق حبل، وعينان مفتوحتان ولسان لم تفلح الكوفية في حجبه. شنق أبو محمود نفسَه، وترك وراءه غضبًا وقصيدة لن تكتمل. أنقذ الرجل ماضيه من بؤس حاضره، وأنقذ صوته من صراخ لن يفضي إلى مكان. كنا حين نمر أمام داره، بعد رحيله، نختنق بالأسئلة ونشعر أن للموت رائحة بيضاء. أراد الغاضب اليائس أن يرسم معاناتنا، وعانى وهو يرسمها، فحمل أوراقه ومعاناته وآثر الرحيل.

ما زلت أذكره، بعد عقود، واقفًا كشجرة، وأراه شجرة التهمها الحريق.

ورث الغرباء عن «الشاعر» حكايته وورّثوا غيرهم حكايات لا تنسى. كان هناك ذلك القصير الأكرش، الصغير العينين، المتضاحك إلى حدود السذاجة، الذي فاجأ معارفه بجمل ضاحكة: «عن قريب أرجع غنيًّا كما كنت، وعن قريب أعيش كما أريد أن أعيش»، إلى أن يصل إلى جملة عاقلة «الفقر مع الغربة لا يحتمل» و«الفقر مع الغربة غربة أخرى أشد وجعًا». كان يتكلّم عن ماشية عديدة، تركها في البلاد، أودعها عند بدوي من «عرب الهيب» المعروفين بالشهامة، كما يقول، وما عليه إلا أن يعثر على «دليل» يصحبه ويعود به، مقابل مكافأة. والتقى دليلَه المنتظر، وخرج ولم يعد. افتقده الناس أسابيع، وعثروا أخيرًا على جثة منتفخة تحت أشجار الصبّار، قرب «خطوط الهدنة»، كما كان يقال، جثة يصعب التعرّف عليها، لولا قامته القصيرة وكوفيته الفلسطينية. قال البعض: قتله اليهود، وقال آخرون: قتله الدليل واحتفظ بالماشية.

كانت مهنة «الدليل» ذائعة في تلك الأيام، تتيح لأهل القرى القريبة أن يتسللوا إلى بيوتهم وأن يعودوا منها بحوائج قليلة. بعضهم تصيبه رصاصة في الذهاب، فإن أخطأته أصابتة في الإياب، وأحيانًا كان البعض يرجع فرحًا بأشياء «سرقها» من بيته. كانت بين البلدة السورية و«الجليل الفلسطيني الأعلى» مسافة قصيرة، توهم الغرباء أنهم «جيران» لبيوتهم الماضية.

عبدالقادر الحسيني

ميراث لا يخدع صاحبه

اقتنع الفلسطيني الذي تفسّخت جثته تحت أشجار الصبار، أن ما كانه في البلاد يمكن أن يعود إليه في الغربة، وأن «الميراث» لا يخدع صاحبه. ناسيًا أن الماشية لا تصنع وطنًا، وأن الحلم بحاجة إلى مستقر. ولم يكن من حق الغرباء الاستقرار. بكاه معارفه، وبكاه خاله «المختار»، الذي كان بحاجة إلى من يبكيه. وكان الفلسطينيون في ذاك الزمان، وما تلاه، يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه ويموتون أكثر إن هجسوا بعبدالقادر الحسيني المقاتل الذي درس الكيمياء في الجامعة الأميركية في القاهرة، واستشهد على حدود القدس، وأعطى صورة واسعة عن مثقف مختلف. وكان اللاجئون أحيانًا يقعون في الغفلة، ويظنون أن ذكرى الوطن تنوب عنه، حال «المختار» الطريف الذي أدمن التجوال مساءً في البلدة السورية.

على قارعة الذاكرة، وفي زاوية من زواياها الشاحبة، أذكر «المختار» يمشي في المساء متباطئًا، سُبْحتُه في يمينه، مسربلًا بالبياض، الكوفية البيضاء و«القمباز» أبيض، والحذاء أبيض، يسايره آخر، يساويه في القصر والبياض، وإن كان بلا سُبْحة. يسيران وحيديْن، أحدهما يحرك يديه ويرفع صوته، والآخر ساكن بلا صوت ولا حركة. كانا شقيقين عقيميْن، ولكل منهما زوجات ثلاث، ولا يختلطان بأحد. ما لا أنساه صوت المختار الراعد المزلزل الذي انفجر في صبي منا، حيّاه وأراد أن يصافحه وتراجع أمام صوت المختار المدويّ: «الناس مقامات يا غبي، لا أسلّم إلا على من هو جدير بالسلام، ولا يسلّم عليّ إلا من يعرف معنى «المخْترة». كان يظن أنه من «زعامات البلاد»، كما كان يقال، لا فرق إن كانت في الوطن أو خارجه ويصرخ عاليًا: «أنا المختار يا صبي، كيف سترجعون إلى البلاد إن لم تحترموا مخاتيركم…». كان سجين أوهامه وحبيس ذاكرة مغلقة، تهجس بالمراتب في منفى ساوى بين الفلسطينيين والانكسار. عرفت بعد سنين أن المختار، الذي أصيب بالشلل، كان من «الهيئة العربية العليا»، ذات الصلة الوثيقة بالحاج أمين الحسيني، الذي كان الأهل، قبل اللجوء، يحتفون به مرددين: «الحاج أمين الحسيني إياك تلين، لا تخلي ولا يهودي في فلسطين». وظلّوا يردّدون هتافهم حتى أصبح اليهود أسياد فلسطين.

كانت حكاياتنا تصل إلى معلّم المدرسة، الذي كان معلمًا ومديرًا ومفتشًا ومسؤولًا عن ضبط التلاميذ ونظافة المدرسة. قال لنا بعد أن شنق «الشاعر» نفسه بصوت حزين: إنها جائحة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا، وإن كنا قرّبنا المعنى تقريبًا ولذنا بالصمت. وبعد رحيل «الواهم القصير» قال من جديد: إنها نائبة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا أيضًا. حدّق فينا وقال بمحبة: عليكم أن تجتهدوا في الإملاء، فلغتنا مقدّسة، وفي حفظ التاريخ… وقال أشياء عن «جيش الإنقاذ» الذي سينقذ فلسطين ويهزم اليهود. كنا نحن الصغار نفرح بكلماته، ونرى فيها سرًّا وبشارة، ونهرع بها إلى أهلنا فرحين.

جيش الإنقاذ

الحاضر لحظة ملتبسة

أمّا الأهل فكانوا يستمعون إلى كل شيء ويعودون إلى ماضيهم القريب، كما لو كان الماضي، كما سأعرف لاحقًا، زمنهم الحقيقي الوحيد. كان الماضي عندهم ما مضى وتقدّس ببعده، والحاضر لحظة ملتبسة لا يعوّل عليها، نصفها في الماضي ونصفها الآخر أضاع الطريق، والمستقبل هو الماضي المستعاد، كما يقول الرومانسيون، الذين آمنوا بأن «الحلم قوة»، وأن قوة الأحلام تستحضر المرغوب وتمدّه بالقوام. ولم يكن حلمنا الفلسطيني في تلك الأيام، إلا «سترى» الشهيرة، التي هي مزيج من الأمل والأسرار وعقيدة تؤمن «بأن الحق يعود إلى أصحابه».

سأعرف، في المستقبل الذي جاء كما أراد، أنّ المطلوب معرفة الماضي وعدم الإقامة فيه، فمن دونه يضطرب الطريق إلى المستقبل، والإقامة الطويلة فيه تزيد الطريق اضطرابًا وتلغي المستقبل. أدمن الفلسطينيون، بعد النكبة، الإقامة في الماضي وتوليد الحكايات، ولم يتكيّفوا مع ما وصلوا إليه، وشهدوا حكايات جديدة. وكان عليهم أن يصالحوا بين ما كان وما استجد، دون أن يصلوا إلى حكاية أخيرة.

وكثيرًا ما كان اللاجئون، في لقاءاتهم اليومية، يراهنون على العودة القادمة، بل يحددون السنة والشهر، ويعتبرون اللجوء رحلة عابرة أو اختبارًا ابتلى به الله المؤمنين. وعلى خلاف المتكئين على خيوط الأمل و«جيش الإنقاذ»، وله حكاياته العجيبة، كان المعلّم المقدسي القديم، الذي التحق بنا متأخرًا، يكتفي بالنظر، ويخرج عن صمته إن تصايح «المتراهنون» واقتربوا من الشجار.

غسان كنفاني

كان يستعمل كلمة «الحمقى»، ويدخل بصوت بطيء إلى «أيام الثورة» (1936 – 1939م) ويتحدث عن العنف الإنجليزي الذي كان يحرق قرية، إن انطلقت منها رصاصة ويقضي بالسجن عشر سنوات على قروي معه «سكين» ويصرخ غاضبًا: «إذا كان الإنجليز مستعدين لحرق ما كان يهدد الحلم اليهودي، فكيف سنرجع إلى «البلاد» ونحن الآن في المنفى؟ وإذا كان عساكر اليهود قتلوا بدم بارد أهل «دير ياسين» فبماذا نعود وهل يرضى «جيش الإنقاذ» بعودتنا؟ كان فيه، كما تصورت، لاحقًا، شيء من معلّم غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، الذي مات على المتراس.

كانت أحاديث اللاجئين تدور حول فردوس مفقود قريب من حال «آدم» الذي غلبه الشيطان وطُرد من الجنة وأنقذه العفو الإلهي من ضلال طويل.

تتحدث كتب الفلسفة عن الزمن في وحداته الثلاث: ماضٍ ومستقبل وحاضر ملتبس. استولد الفلسطينيون، بعد النكبة، ماضيًا يمحو ما عداه، يستهلك الحاضر ويعيّن ذاته أفقًا للزمن الآتي الذي هو ماضٍ مستعاد. ذلك أن الماضي في ذاكرة المغلوبين زمن أصيل مبارك، تخضع له جميع الأزمنة، ينصر ذاته بذاته، كما تقول الأساطير. كان اللاجئون يستعيدونه ويقولون: سقا الله، ويصطنعون الأمل هاتفين: «سترى»، التي لم تكشف عن حقيقتها حتى اليوم.

استهلكت حكايات الغرباء المتوالدة سنوات ثلاث: 1948 – 1951م.

الصعود إلى المنفى الأول (1)

الصعود إلى المنفى الأول (1)

كان زمنًا صعبًا، يعلم اللاجئ بجدارة ما لا ينسى.

أذكر شاحنة رمادية متقطعة الصوت، وطريقًا نحو الشمال، وحقائب متراكمة، ومطرًا ربيعيًّا، وغموضًا باردًا يخالطه الحزن، وحصانًا يحتضر تحت المطر، وأتذكّر نفسي صبيًّا يسافر مع عائلته إلى مكان قريب. وأذكر أيضًا عجوزًا ضريرًا افترش التراب، يلوّح بيد تعلن عن الفراق.

حين رفع الصبي رأسه المبتل، وقد تكدّس مع أهله في الشاحنة، رأى خلاءً واسعًا، على أطرافه خيمة سوداء يتصاعد منها الدخان، وأطياف امرأة تتقي المطر، وشعر أنّ الدخان مبتل يكسوه الصمت. أمعن النظر في ما حوله فوقع على حصان قائمتاه في الهواء، يحرّك جسمه ولا يستطيع الوقوف. كان ذلك في شهر نيسان من عام 1948م. وكان الطريق يصل بين مدينة القنيطرة وقرية «الجويزة» الواقعتين في هضبة الجولان السورية. حين اندفعت الشاحنة شرقًا، محمّلة بالبلل والأرواح المهاجرة، نظر الصبي إلى الوراء، واحتضنت عيناه صورة الحصان، وتخيّل عينين مفتوحتين يسقط فيهما المطر، ترتعشان، وتسكنه قشعريرة مميتة. كان الصبي في السادسة من عمره. وأذكر أنّ السائق كان يلفّ عنقه «بحطة فلسطينية»، يغمغم كلامًا مبهمًا، ويحرق سجائر كثيرة، ويطلق صوتًا كأنه غناء، يعاتب أختًا رفضت الرحيل، ويحاورها بكلمات متوجعة، ويسأل عن موعد اللقاء. كان غناؤه يختلف عن غناء أمي في بيتنا القديم. بعد أكثر من نشيج وأقل من غناء، مال السائق إلى جانب الطريق، وتوقف فوق أرض موحلة، إلى جانب عمود حديدي تعلوه لوحة معدنية كتب عليها «شيء ما». لاحظ الصبي أن العمود يهتز، وأن اللوحة مغطاة بوحل الطريق، كتب فوقها: «الجويزة ترحب بكم»، كما سيعرف فيما بعد. كان الطقس ربيعيًّا يطارده الشتاء.

قانون وجودهم الجديد

رفع المتكوّمون في الشاحنة رؤوسهم، محاذرين المطر، ولم يقولوا شيئًا، حين قال السائق بصوت واهن: وصلنا. ظنّ المتكوّمون، الذين أفرجت عنهم الطريق، أنّ الوصول إقامة مؤقتة، قبل أن تعلّمهم الأيام أن في الإقامة المؤقتة إقامات، وأن المؤقت قانون وجودهم الجديد. كان إلى جانب اللوحة المعدنية، التي يعابثها المطر الربيعي، كوخ خشبي يتصاعد منه الدخان، مطلي بلون رمادي يميل إلى السواد، صُفّت أمامه أحجار متلاصقة، سوّيت على عجل ويعلوها وحل كثير. يذكر الصبي فتاة ملفّعة بالسواد، سارت فوق الأحجار ودخلت الكوخ، ظنّها المرأة الأولى التي كانت تقف أمام خيمة وتتقي المطر، لكنها خرجت مسرعة وبيدها كيس صغير، سقط في الوحل، نظرت إليه شاكية وتابعت المسير.

انبثق من الكوخ الرمادي رجل طويل القامة، كثيف الشعر، يرتدي معطفًا يشبه متاع الجيش، يتوكأ على عصا، يختلط لهاثه بالسعال. اقترب من الشاحنة وقال: «لاجئين، لاجئين من فلسطين، ادخلوا، الدكان دافئ، استريحوا. دخلنا وشعرنا بالدفء، ولم نشعر بالراحة. سيذكر الصبي، في قادم الأيام، اسم الرجل بحب كبير، وسيتذكر عينين زرقاوين وابتسامة خجلى، ورجلًا يعرج كثير السعال. كان اسمه «عيسى». الرجل الدافئ الكلمات كان مصدورًا، وصرعه «داء السُّل»، قبل أن نغادر القرية بقليل، ومشى وراء جنازته خلق قليل. كان للدكان جزء داخلي، فيه مدفأة حطب وسرير متقشّف وطاولة قديمة وكؤوس شاي، وكان الشاي الساخن حلو المذاق. في الجزء الخارجي من الدكان ميزان وبضائع بسيطة وكتب تحاذي النافذة، وصورتان واضحتان إلى جانب النافذة، تثيران الفضول.

رجل على رأسه كوفية وعقال، يتدلى من عنقه منظار، وجهه مستريح، ينظر إلى البعيد، طوّق خصره بمسدّس وبحزام الطلقات. كتب تحت الصورة، كما سأعرف لاحقًا: الشهيد عبدالقادر الحسيني، الذي دافع عن القدس بجند قليل، وبعبوات ناسفة، واستشهد في الثامن من نيسان عام 1948م، ودعاه المؤرخ الفرنسي هنري لورانس «الفلسطيني الألمع». سارت فلسطين كلها وراء جنازة الشهيد، الذي شارك والده، عمدة القدس، في مظاهرة ضد الانتداب البريطاني، وهو يقترب من التسعين.

حنا أرنت

فانتر بنيامين

سيعلّمني المقاتل الشهيد، بعد عقود، أن المثقف لا يتعرّف بعمله الذهني، كما تعوّدت الكتب أن تقول، ذلك أن عبدالقادر درس الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة، وتخرّج من الأخيرة، وأنه ترجم علمه إلى «صناعة المتفجّرات»، التي ألحقت بجيش الغزاة الصهيوني أضرارًا كثيرة. وسيعلّمني أن الثقافة ممارسة أخلاقية – وطنية، لا علاقة لها بالمراتب والألقاب. وأن المدعو بالمثقف ينوس بين النسر ودجاجة الأرض الكسيحة. الصورة الثانية الزاهية الألوان، كان يطفو فوقها وجه حديدي الملامح، شارباه كثيفان، في عينيه حنان وثقة، ظننتها صورة والد الرجل الطويل، إلى أن قال: «إنه والد الجميع»، وابتسم. سأعرف بعد عقود أنها لوحة رسمها الإسباني الشهير: بيكاسو، وأن المرسوم هو الزعيم السوفييتي ستالين، الذي أنتج ظاهرة مستبدة: الستالينية التي بنت «دولة جديدة» وهدمتها، وسأعرف أيضًا أن الاستبداد قديم، لا تستطيع حجبه مكتبات الظلام.

هل تعرفون هذا في بلادكم؟

كانت «جويزة»، قرية الإقامة المؤقتة، مقسومة إلى حي شركسي بيوته بيضاء مُزنَّرة بالورود، وحي تركماني بياضه من أهله البسطاء المكسوين بالبراءة والحكايات الغريبة. ما زلت أذكر الشاب التركماني، واسمه «حَلْبرام»، الذي سأل أمي، وبيده سمكة: هل تعرفون هذا في بلادكم أيتها السيدة الغريبة؟ أجابته متعابثة: نعرفه كثيرًا ونزرعه في الحقول مثل البصل، ينضج في شهر أيلول وندّخره للشتاء ورمضان. حين أعجبه الجواب سألها من جديد: وهل تعرفون «الدبس»؟ أجابته: نشربه عوضًا عن الماء طيلة العام. هز رأسه طربًا وقال: «من لا يحب الدبس لا يحب الله»، وصار يأتينا كل أسبوع بصحن من الدبس دعمًا للاجئين.

دفعتني التجربة، بعد سنين، إلى تأمل صورة الغريب في عيون الذين لم «يتغرّبوا»، ويعتقدون أن الغريب كائن مجهول السمات، لا تاريخ له ولا أصول، يثير الشك والريبة، كما لو كان قد سقط من السماء، وعلى الآخرين أن يتعرّفوا عليه، وعليه أن يعترف بأنه لا يعرف ما يعرفه الآخرون. ظهر اللاجئ الفلسطيني، في أحيان كثيرة، مخلوقًا ناقصًا، حتى كاد أن يعترف بنقصه المفترض، وينظر إلى كثيرين بإكبار غير جديرين به.

لم نكن نعرف أهل القرية، الذين عرفوا أننا عرب من بلد قريب، وعاملونا باستغراب ومحبة. وكنا نشعر أن وجودنا عبء على الآخرين. القرية العالية الموقع موزعة على بيوت بيضاء وقلوب بيضاء، سكنتها أربع عائلات فلسطينية من الجليل. حين كان يُسأَل والدي عن بلده كان يجيب: نحن فلسطينيون، من الجليل الأعلى، من ضواحي صفد القريبة من الحدود السورية، ويجيب عن أكثر من سؤال، ويدع كثيرًا من الإجابات معلقة في الهواء. كانت والدتي تقتعد مكانًا عاليًا، إلى جوار غرفتنا المؤقتة، وتنظر كل صباح إلى اتجاه صفد، وترى بالعين المجردة بشرًا يتحركون وتقول: «هذا يهودي ذاهب إلى صفد، وهذا يهودي يخرج منها». تميل إلى الصمت وتردّد بعد حين: «في يهود كثير، وفي ضباب، كنا أكثر منهم، كيف غلبونا لا أعرف!!» وتذكر كلامًا ملتبسًا عن «جيش الإنقاذ». وأذكرها تنشد بصوت مختنق: «يا فلسطين اذكريني واذكري ما فات كيف ننساك وفينا نسمة الحياة». بقيت تردد هذه الكلمات، بصوت أسيف، إلى أن جاوزت التسعين، ودفنت في أطراف دمشق. كان بين أشيائها القليلة صورة لها «من أيام الشباب»، تقف في ساحة الدار وتنثر الحب للحمام. لم أكن أعرف قبل دخولي إلى الصف الأول الابتدائي معنى اللاجئ، وأقل منه اللاجئ الفلسطيني، إلى أن قال المعلم: «التلميذ الفلسطيني في هذا الصف يرفع أصبعه». قالها ذلك الخمسيني المطربش المتواضع اللباس بصوت هادئ مغمس بالشفقة. علَّمني ثلاث سنوات في القرية السورية التي سطا عليها الإسرائيليون بعد حرب 1967م. رفعت أصبعي في ذاك النهار الخريفي، وظل مرفوعًا بوجع عقودًا لاحقة. كان المعلّم المتواضع يحكي لتلاميذه طويلًا حكايات عن شجاعة «عنترة العبسي»، وحكايات أطول عن بطولات خالد بن الوليد.

تعلَّمت في الصف الأول تهجئة الحروف، وتعلمت معها أنني إنسان مختلف يتعرّف بنقصه، يرفع داخل الصف أصبعه، ويقف وقت الاستراحة، مع تلاميذ فلسطينيين ثلاثة، يأخذون عن غيرهم مسافة، تعلن عن غربتهم، كما لو كنا نحن التلاميذ الأربعة مع التلاميذ الآخرين ولسنا منهم. تذكّرت، بعد زمن، ما قالته حنا أرنت، الفيلسوفة اليهودية العادلة، عن الناقد فالتر بنيامين الذي هرب من النازية وانتحر قرب الحدود الإسبانية: «لم يحسن السباحة مع التيار، ولم يحسن السباحة ضده». لاذ بخوفه وكبريائه وتشاؤمه، وألقى بنفسه في وادٍ قاتل. وتعلَّمت مبكرًا الفرق بين «مع» و«من»؛ إذ في الأُولى رقم لا يشير إلى كيف، وفي الثانية لقاء لا مسافة فيه، وأن على الإنسان أن يصنع علاقته مع ذاته، قبل أن يلتحق بآخرين. آثر بنيامين، المثقف الغريب الذي جمع بين الفلسفة والنقد الأدبي، الانتحار، واختار الفلسطينيون البقاء وإرادة الأمل وتشكيل ذاكرة، تعرف الفرق بين «مع» و«من» وتدرك أن مأساتهم لم تسقط من السماء، وأن «الجاعونة» ليست حكاية، كان لها بيوتها وبساتينها وأهلها، وذلك «السمك الغريب» الذي نزرعه في الأرض وندّخره لموسم الشتاء، وأن الإقامة المؤقتة جزء من ذاكرة تجدّدها الغربة ويجددها الفلسطينيون الذين يعرفون، أحيانًا، الفرق بين الوقائع والأوهام.

درب الرجوع إلى الوطن

كان المعلم المطربش الذي أيقظ في داخلي سؤال الهوية، يتوجه إلى الفلسطينيين الأربعة وقت الاستراحة، ويقول: «عليكم يا أولادي أن تتعلموا درب الرجوع إلى الوطن». لم نكن نفهم من كلامه الكثير، وإن كنا نشعر أنه يحذّرنا من الكسل والرسوب. «لم نخيّب ظنه» مثلما قال جبرا إبراهيم جبرا في «البئر الأولى»، وهو يتحدث عن تلميذ نجيب وأستاذ عادل. غير أن الانتظار «المؤقت» خيّب أملنا حتى غدا الانتظار الخائب جزءًا من حياتنا. المعلّم الخمسيني، صدمته في بداية السنة الثالثة من إقامتنا سيارة عسكرية مسرعة، أمام دكان «عيسى»، ولم نَرَه بعد ذلك. اختصرته ذاكرة السنين إلى عجوز، يعلِّمني حروف الهجاء مبتدئًا بفلسطين، ويسرد حكايات عن «عنترة العبسي» وهو يرسم حروف الهجاء.

كان في الإقامة غرف مؤقتة كثيرة، نغادرها بسبب رطوبتها، أو تغادرنا لأن صاحبها التركي يريد أن يزوّج ابنه، وقد نتركها لقربها من «غابة»، معمورة بالسنديان وشجر البطُم وبحيوانات متوحشة، وبأفاعٍ كثيرة تلمع في الصيف كأنها قطع معدنية. كانت كل غرفة تحتفظ بذكرى سابقتها وتضيف إليها جديدًا، وكانت الغرفة سجلًّا كابيًا، نقرأ فيها غربتنا، واختلاف حكاياتنا عن حكايات الشركس والتركمان. هجس الراحل محمود درويش، ذات مرة، بوضع كتاب نثري عن البيوت التي عاش فيها، وتخلى عن فكرته بعد أن أنجز جمال الغيطاني رواية: «نوافذ النوافذ»، سجَّل فيها حكايات غرف اختلف إليها. وإذا كان الغيطاني الذي صاحب محفوظًا إلى تخوم التقمص، تحدّث عن غرف اختارها، فإن الغرف التي اختلفت إليها، مع عائلتي، كانت بعيدة من الاختيار.

يقال: يتعرّف الإنسان على ذاته حين يعرف من أين أتى. والقول صحيح وغامض: فقد أتيت من الجليل، في شمال فلسطين، مارًّا بجنوب لبنان، ومنه إلى حوران في سوريا، وصولًا إلى غرف مؤقتة في قرية يتقاسمها التركمان والشركس، تناثرت على جوانب الطرق المؤدية إليها: خيم ودخان وبشر طيبون، تدهسهم سيارات مسرعة، وذكريات صادمة، وكتب دائمة الخضرة، وحصان مختلج العينين يحتضر تحت المطر.

هل للنقد الأدبي العربي الحديث ذاكرة؟

هل للنقد الأدبي العربي الحديث ذاكرة؟

اجتهد النقد الأدبي العربي، في العقد الأخير، في توسيع حقله النظري متصوِّرًا، أحيانًا، أن بإمكان النقد الأدبي أن يكون علمًا. فبعد سيطرة مذاهب نقدية ضيقة، دارت بين الواقعية والانطباعية، جاء السياق الثقافي في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها، باتجاهات وافدة، اطمأن لها بعض النقّاد العرب، وسعوا إلى تطبيقها على روايات حديثة، وعلى شعر عربي قديم، احتضن البحتري وأبا تمّام.

تعرّف النقد العربي، أو بعض النقّاد بشكل أدق، على البنيوية الفرنسية، التي صعدت في ستينيات القرن العشرين، وحملت معها أفكار رولان بارت وجيرار جونيت، وتطبيقات لوسيان غولدمان، الماركسي الذي اعتنق بنيوية تكوينية، كما يقال، في انتظار المنهج التفكيكي، الذي ارتبط بالفيلسوف الشهير جاك دريدا، الذي تحدّث عن «الآخر»، و«الأخروية». بل إن بعض النقّاد الذي أخذه الشغف، أضاف إلى الجهد الفرنسي مقولات الإنجليزي جوناثان كولر، وتمدّد إلى الروسي يوري لوتمان، الذي قال بعلم السميولوجيا، أو «الإشارات».

تطبيق منقوص

لم يكن في انفتاح النقد العربي على غيره ما يضير، فالفكر الذي لا يتعرّف على غيره يقع في السبات. بيد أن الاندفاع المطمئن إلى «الأفكار الوافدة» يستدعي، بمشروعية كاملة أو منقوصة، بعض الأسئلة: ما الحصاد النقدي الذي «راكمته»، بعد عقود، الاتجاهات النقدية المنفتحة على «الآخر» الغربي، وهل عرفت استمرارية «نظرية» (تطور أفكارها الأولى)، أم أنها أخذت بشيء من التطبيق المنقوص واكتفت به؟ وهل استطاعت هذه الاتجاهات أن تصير جزءًا من الثقافة العربية، أم اختصرت في نخبة، ترحب بالوافد، ولا تخضعه إلى مساءلة نقدية؟ تستعيد هذه الأسئلة قاعدة تقول: ما يأتي به سياق ثقافي ناقص الوضوح يتبدّد، سريعًا، مع رحيل السياق.

تنطوي الأسئلة، مهما تكن دقتها، على مفهومين يتعامل معهما الفلاسفة: كونية المعرفة، التي تقضي بانفتاح كل معرفة «ضيقة» على أخرى أكثر اتساعًا وجدة، والتميّز المعرفي الذي يتحقق إذا اعترف ببيئته وموروثه الثقافي، قريبًا كان أم قديمًا. فجديد الأفكار، لا يقاس بالحاضر وبمعطياته. هناك، في الحالين، التجسير الثقافي، الذي يقيم بين المعارف، في أزمنتها المختلفة؛ تفاعلًا يضع القديم في الحاضر، ويضيء المعرفة الحاضرة بمعرفة قديمة.

تقف إلى جانب التجسير الثقافي بداهة، أخلاقية، تقضي باعتراف الأحياء بجهود الأموات، وأخرى معرفية ترى في المعرفة المنقضية جزءًا من معارف الحاضر، التي لا تستطيع الاكتفاء بذاتها، وإلا سقطت في الجمود والانغلاق.

نقاد أعطوا في حدود زمنهم

فالنقّاد العرب، الذين كانوا أحياء ورحلوا، سايروا القرن العشرين إلى منتصفه، وأعطوا في حدود زمنهم، مساهمات لامعة، لا فرق إن عرفوا «مشاهير نقاد الغرب»، أم اكتفوا بالجاحظ وابن قتيبة. والأمثلة في هذا المجال كثيرة: أعطى الفلسطيني، روحي الخالدي، في مطلع القرن العشرين، كتابه الرائد: «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو»، الذي قرأ فيه حياة الأدب في حياة المجتمع. وما كان المصري أحمد ضيف (1880- 1947م) بعيدًا منه في كتابه اللامع: «مقدمة لدراسة بلاغة العرب»، الصادر عام 1921م. ومن العبث نسيان كتاب «الديوان»، 1921م، لمؤلفيه عباس محمود العقّاد وإبراهيم عبدالقادر المازني. الذي حاول، «إقامة حد بين عهدين»، وإرساء النقد الأدبي على قواعد جديدة. ولا من الإنصاف نسيان «غربال» ميخائيل نعيمة، و«الميزان الجديد» لمحمد مندور، وذلك النقد اللغوي الرهيف الذي مارسه أديب يدعى: يحيى حقي. وعلى هذا فإن الاعتراف بكونية المعرفة شرطٌ لتطور المعارف، الذي يقضي بتأمل الخصوصية الثقافية.

يقال: تُشكِّل معارف الماضي، بعد نقدها، جزءًا من معارف الحاضر، الأمر الذي يجعل من الذاكرة الثقافية العربية، في أزمنتها المختلفة، بُعدًا يحايث النقد الأدبي العربي، الذي لا يرتاح إلى الاغتراب. فهل انتصر النقّاد العرب، دائمًا، لذاكرتهم الثقافية؟

حكاية القطار الذي جمع بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة (فيصل دراج)

حكاية القطار الذي جمع بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة (فيصل دراج)

فيصل-دراج

فيصل دراج

لا تنفصل الرواية، من حيث هي جنس أدبي حديث، عن ظواهر الأزمنة الحديثة، سواء أكان ذلك في حقلي الاقتصاد والسياسة، أم في حقل العلوم الإنسانية. فقد صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة، الممثّلة بالثروات القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع الإنساني ملامح جديدة، وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ»، بلغة المؤرخين.

أرادت «الحداثة الأوربية»، بلغة معينة، أو «رأسمالية الغرب المنتصرة»، بلغة أخرى، أن تروّض الجغرافيا، وأن تربط بين أقاليم الأرض المختلفة، مقصِّرة المسافات، وفاتحة الحضارات الإنسانية بعضها على بعض. وسواء صدرت «الجغرافيا الإنسانية الجديدة» عن تحديث أملته «الثورات العلمية»، التي واجهت المجهول بالمعلوم، أو عن طموح الإنسان الأوربي بأن يكون سيدًا على العالم، فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة، مختلفة الأعراق والأديان والتقاليد. ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصالات غير مسبوقة، احتل فيها «القطار» مكانًا مميّزًا. وما حكاية القطار إلّا حكاية القوة والمعرفة، وحكايات الفضول الإنساني الذي جمع، طواعية أو غصبًا، بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة.

لا غرابة أن يظهر القطار في روايات أوربية، اتخذت من الشعوب «المكتشفة» موضوعًا لها. فللقطار مكانة في الصفحات الأولى من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن الهند حيث يتحرك «السيد الإنجليزي» متوسلًا القطار، ومتحدثًا عن وسيلة نقله باطمئنان لا ينقصه التبجح. وإذا كان كبلنغ، الذي لا يقتصد في عنصريته، رأى في القطار أداة انتقال وسيطرة، فإن مواطنه إي. إم. فورستر في روايته «ممر إلى الهند»، يأخذ بمنظور مغاير، كارهًا الاستعمار الإنجليزي، متعاطفًا مع ثقافة «أصيلة» غريبة عن الموروث الإنجليزي، دون أن ينسى القطار.

أداة سفر وإشارة ثقافية في آنٍ واحد

جمال الغيطاني

جمال الغيطاني

أخذ القطار لدى كبلنغ وفورستر، كما في روايتي الفرنسي جول فيرن (حول العالم في ثمانين يومًا وميشال ستروغوف) دلالتين: فهو موضوع مباشر من ناحية كونه أداة انتقال وسفر، وإشارة ثقافية في آنٍ واحد، عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه «ألوانًا» أخرى في أقاليم بعيدة من وطنه. ولعل هاجس السرعة، الذي يحايثه اللهاث، كما التنوع البشري في أداة نقلٍ تَلتهِمُ المسافات، هو الذي أقنع أغاثا كريستي، بأن تتخذ من القطار عنوانًا لروايتها البوليسية «جريمة في قطار الشرق السريع»، حيث احتمالات ارتكاب الجريمة من احتمالات طبائع المسافرين.

والتر-بنيامين

والتر بنيامين

بيد أن القطار، في دلالتيه، لم يختصر في شخص الأوربي، بل توزّع على العالم كله. فرواية الأميركي ثيودور درايزر «الأخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة ريفية إلى المدينة، تعيد صوغ أقدارها، كما لو كان القطار يبدّل المسافات والمصاير معًا. وربما دور القطار كجسم حديدي فاعل يتجسّد، أكثر وضوحًا، في رواية تولستوي الشهيرة «أنّا كارنينا»، حيث الزوجة التي وقعت في عشق لا يراهن عليه، تنتهي إلى موت تراجيدي تحت عجلات القطار. وإذا كان في القطار ما «يبدّد» المسافات، بلغة طليقة، كان مفترضًا، اعتمادًا على التبادل اللامتكافئ، أن يغدو «موضوعًا أليفًا» في البلدان التي فاتتها الثورة الصناعية، شأن العالم العربي. ولهذا احتل القطار مكانة في الرواية العربية. فللقطار دوره في رواية عبدالرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»، حيث المثقف المغترب يلتقي، في القطار، آخرَ عاثِرَ الحظِّ يسرد له مسار حياة عامرة بالمشقة. وللقطار هنا دلالتان: يحقق لقاء بين غريبين، فيتبادلان الكلام والحكايات، وهو الإطار المعبّر عن العارض والمؤقت والصدفة «الحزينة – الطيبة»، فالغريب يجد ملاذًا في غريب آخر، يأنس إليه ويبوح له بأسراره على غير توقع.

ممدوح-عدوان

ممدوح عدوان

أعطى المصري الراحل محمد البساطي القطار موضعًا في روايته «أصوات الليل»، كاشفًا عن معنى الزمن في القطار؛ يصل بين جنوب العراق والريف المصري، ويلامس أسئلة عن تواتر الأزمنة؛ ذلك أن الرواية، في صفحاتها القليلة (نحو مئة صفحة)، تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطين» إلى سقوط العراق، وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط»، منعته حياته الصعبة «تذكّر» عشق قديم. أما السوري ممدوح عدوان فأنجز، قبل رحيله، رواية تاريخية عنوانها «أعدائي»، سرد فيها سقوط العهد العثماني ومجيء الاستعمار، وقرأ «الحضارة الوافدة» في قطار بين تركيا والداخل العربي، يُقِلُّ امرأة تكرّس ذكاءها لخدمة القضية العربية.

القطار حكَّاء صامت

أخذ القطار، في الروايات السابقة، شخصية حكَّاء صامت، يروي بالإشارة والحركة، أو شخصية سارد يعبِّر عن سيولة الأزمنة. وإذا كان البساطي، المعلّم في اقتصاد الكلمة، قد أطلق لسان قطاره، وهو يكشف عن ذاكرة متعددة الطبقات، فإن جمال الغيطاني، في عمله «دنا فتدلى»، جعل من القطارات مجازًا لسيرة ذاتية متأسية، تميل إلى التصوف: «تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة» (دنا فتدلى- دفاتر التدوين. جمال الغيطاني). التبس القطار بشخصية إنسان يميل إلى الكآبة، له زهوه واختياله، ووحدته الباردة. ولعل «نزف الزمن»، الذي استغرق الغيطاني، في روايات متعددة، هو الذي جعله يرى القطار في «محطاته» المتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة، «تتلامعان»، قليلًا، قبل انطلاق القطار إلى محطة جديدة.

حكاية-القطار-2عبّر القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر في العالم، وعن «عالم تابِع» يريد أن يحاكي غيره ولا يصل. في مقابل ذلك فإن «المترو» صورة عن المدينة الحديثة، اللاهثة، العاملة، اللاهية، التي تضيق بالسطح العلوي المحدود وتذهب إلى عالم سفلي، هو امتداد للأول ونقيض له. والمترو، في الحالين، تجسيد لشرايين المدينة، يصل بين «قلبها» والأطراف المختلفة، ويؤمّن انتقال أهلها إلى مواقع قريبة أو بعيدة. فإذا أصابه عطل أشلَّ المدينةَ (حال أهل باريس) وأربك حياتها، كما لو كان آلة مطيعة ومستبدًّا واسع النفوذ معًا، ذلك أن حياة المدينة لا تنفصل عن «المترو»؛ ما يجعل من إضراب عماله حدثًا اجتماعيًّا في المدن الكبيرة.

حكاية-القطارومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه، وهؤلاء العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده -حتى منتصف الليل- والمتسولين بعزف على آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقيرة وغريبة»، فإن له، في ساعات الصباح والمساء، حشوده، أو تلك «الجموع»، التي تميّز المدن الحديثة، كما أشار والتر بنيامين في أكثر من مكان، التي تجمع بين أخلاط من البشر، لهم هيئاتهم ولغاتهم، والفضول الإنساني الذي يصل بين غريب وآخر، وبين «عامل أجنبي» وسيم الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها، أو تذكّرته حين كانت مُقبلة على الحياة. سئل الروائي الفرنسي اليساري «روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته، فأجاب: «ركاب المترو في ساعات الصباح المبكّرة»، قاصدًا بذلك «العمّال» الذاهبين إلى المصانع.

كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة الثانية»، وابتعد الروائي الفرنسي الكبير «سيلين» الذي اتهم بالفاشية، عن الطبقات وانصرف إلى دلالة الحركة وجمالية الأسلوب. ففي روايته «رحلة إلى آخر الليل»، التي هي من ذُرا الأدب الفرنسي في القرن العشرين، اتخذ فرديناند سيلين من المترو، أو مجاز المترو بشكل أدق، موضوعًا، قرأ به «عالمًا سفليًّا، وتأمل وجودًا إنسانيًّا واسع الاضطراب». اقترب من الفيلسوف باسكال، الذي قبض على ما هو جوهري في الوجود، وأعرض عن الظواهر النافلة: «في المترو الانفعالي، الذي أتعامل معه، لا أدع شيئًا للسطح»، يقول سيلين، محاولًا الإمساك «بأعماق» الواقع، وجاعلًا من الأعماق مبتدأ لقراءة كل شيء. ذلك أن السطح «مطروق» وقريب من الابتذال، يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه دلالته، ويصيره إلى وجود رتيب فقير المعنى، على مبعدة من منظور سيلين الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إلى الجوهري و«باطن الأمور». ولهذا رأى في «المترو» عتمته وغموضه وعمقه، أو «ليله الملتبس»، الغريب عن الليل والنهار العاديين. «كل ما أريده أراه في القاطرة العجيبة» ( Celine: Voyage as bout de la nuit, gallimard, «pleiade», 1981, p: 104, 102.)، يقول سيلين، بعد أن يقول: «لا إمكانية للوقوف، مهما تكن ضآلته، في أي مكان»، بل إن في لغة الروائي ضجيجًا يذكِّر «بعويل القطار». بلغة عبدالوهاب البياتي ذات مرة.

مترو مدينة تثير الأعصاب

روجيه فايان

روجيه فايان

جبرا إبراهيم جبرا

جبرا إبراهيم جبرا

تحيل الهاوية والأعماق والحفرة السوداء، وغيرها من مفردات سيلين، إلى «مترو» مدينة تثير الأعصاب وتقتات بالضجيج، يخترقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها، ويستدعي عقلانية باردة شديدة الحسبان. لا شيء من هذا في مدن عربية «تصحّرت» تسمع عن «المترو» ولا تعرف عن صناعته الكثير. ولأن الرواية العربية تعكس واقعًا تعرفه وتعيه، فهي لا تلتقي «المترو»، إلا نادرًا، حال مدينة القاهرة. فلم ينتبه إليه محفوظ، ولم يعره الغيطاني والبساطي ومحمود الورداني وغيرهم الكثير من الاهتمام. حتى لو انتبهوا إليه لكان، بالضرورة، مرورًا «عارضًا». فالمترو، الذي يترجم الدقة والنظام واحترام الزمن..، لا يأتلف مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛ لأن في «العشوائي» ما يمحو غيره.

ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مترو»، صورة عن استقبال «قطار الأنفاق» في الكتابة الأدبية المصرية، ومجازًا عن «هيئة القاهرة» في تعاملها مع «أداة نقل جديدة»، تخفّف من «كابوس المرور». فهذا العمل الذي طبع مرتين، كما يقول غلافه، قدّم نفسه «كرواية مصورة»، تصلح «للكبار فقط»، وذلك في طبعة جماهيرية عشوائية الملامح، تلتبس بالسخرية. تقوم «الرواية»، في صفحاتها المئة، على رسم بالأبيض والأسود قوامه «الكاريكاتير»، حيث الصور الساخرة و«كتابة عامية» متشكية، تزجر القائم وتشتكي من الزمن، يصبح «المترو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة العامية بمحطات المترو الملاحقة: محطة المعادي، ومحطة محمد نجيب، ومحطة أنور السادات، ومحطة السيدة زينب، ومحطة جمال عبدالناصر،… وفي كل محطة شكوى تستأنف شكوى محطة سابقة،… والسؤال هو: ما الذي جعل الشافعي يدرج «المترو» في فضاء كاريكاتيري عامي اللغة؟ والسؤال الثاني: هل أراد في ركونه الساخر إلى «مترو الأعماق»، أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي المصري، الذي يدور حول ذاته بلا أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى على غيره هو ما أعطى «المترو» حضورًا ومضيًّا، محتملًا، في روايات مصرية أخرى، مثل «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، التي مرت على حياة عشوائية لا ينقصها الكاريكاتير، و«البحث عن دينا» لمحمود الورداني التي تحدثت عن ركام التداعي والإخفاق، ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي عالجت الوعي الطائفي الماسخ؛ تستدعي هذه الروايات، كما غيرها، مفهوم الشكل، الذي يبدو واضحًا في عالم عقلاني تبنيه الأشكال، بعيدًا من عشوائيات يكسوها السديم.

عبدالوهاب-البياتي

عبدالوهاب البياتي

أدار جبرا إبراهيم جبرا حوارًا رحيبًا بين غرباء في روايته «السفينة»، كما لو كانت تقلّ ركابًا لا يعرف بعضهم بعضًا، وتقلّ معهم ثقافاتهم المختلفة، ووضع عبدالرحمن منيف في قطار «الأشجار واغتيال مرزوق» غريبين يتبادلان القصص، ولم يعثر المصري مجدي الشافعي في «مترو» القاهرة، إلا على بقايا الكلام وهيئات مشوّهة.

في كتابه المثير للإعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إلى أثير»، تكلم مارشال بيرمن عن الإنسان الحديث ملمحًا إلى الطرق الواسعة والقطارات و«المتروات العجيبة»، مؤكدًا أن حداثة الآلة التي يستعملها الإنسان لا تستقيم إلا بإنسان له وعي حديث.