بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | نوفمبر 1, 2018 | سيرة ذاتية
مدينة من أطياف وذكريات وصداقات راحلة. رسمت على جدران حياتي خطوطًا تشبه صورًا على جدران كهف قديم. علمتني دمشق القراءة والكتابة والصداقة والحزن على الأصدقاء الراحلين، وصحبة الأمكنة والحوار مع أزمنة متغيّرة. تبدو صورها اليوم مزيجًا من التذكر والفقدان الذي لا يمتثل لأحد.
علّمتني «خمسينيّاتها» البريئة صداقة السينما والأفلام واختلفت إلى «صالاتها» الصغيرة والكبيرة، الصيفي منها والشتوي، التي قاربت الأربعين، ذات يوم، واندثرت مع أشياء أخرى مندثرة. كان لملصقات الأفلام هالة ترضي العين وتوقظ الأحلام، وتضيع مع الأشياء الضائعة. أذكر لوحًا خشبيًّا مستطيلًا ثُبّت إلى أعلى سيارة عامة، فوقه ملصق لمرأة تستجير برجل، إلى جانبهما مخلوق غريب الهيئة يرفع غاضبًا عصًا طويلة في وجه الهواء. كان هذا ملصق فِلْم توفيق صالح «درب المهابيل» 1956م، الذي أخذ بيدي إلى عالم السينما، «بائعة الأحلام» كما قال المخرج الإيطالي فيديريكو فيليني، الذي لم يكن ينتبه إلى أزرار بنطاله إلى أن تلفت نظره زوجته الممثلة القليلة القامة جولييتا ماسينا. بعد أربعين عامًا على رؤية الفلم وتداعي الصالة التي عرضته، سيقول لي توفيق صالح، في مقهى على النيل: إنه أعجب دائمًا بممثّل الفلم شكري سرحان؛ لأنه كان مهذَّبًا، قالها بالفرنسية، ومنضبط المواعيد.
الخمسينيّات علمتني صداقة «الفن السابع»، ودفعتني ستينيّات دمشق إلى صداقة الكتب، التي ابتدأت من مكان تقليدي يواجه المسجد الأموي، قريب من المكتبة الظاهرية، يدعى «المسكيّة»، انقطعت أخباره عني منذ زمن. تقودني صداقة الكتب، التي لازمتني طويلًا بلا خديعة أو نميمة، إلى صداقة تختلف عن الحبر والورق، جاءت مع المخرج السينمائي محمد ملص ومكتبته المتعددة العناوين: الطبعة المصرية لأعمال دوستويفسكي، ترجمة الدكتور سامي دروبي، ورواية «الدون الهادئ» للروسي ميخائيل شولوخوف في أجزائها الأربعة، شيء من أعمال نجيب محفوظ، و«الأيديولوجية الانقلابية» لنديم البيطار، السوري الذي كان مقيمًا في كندا، وحدثني حين التقيته مرة في ليبيا عن «قاعدة الهرم المتحوّلة»، التي قد تتخذ من مصر مكانًا، وتأخذ بيدها تحوّلات الأيام إلى بلد مجاور. كان لطيفًا وصادقًا وبطيء الكلام.
الدمشقي الحقيقي
استمرت صداقتي مع ملص، الدمشقي الحقيقي، من عام 1968م، حين ذهب إلى دراسة الإخراج السينمائي في موسكو، إلى اليوم. كان من عاداته كتابة ما يعيشه في يوميات جميلة الأسلوب. سينمائي أقرب إلى الأدب وأديب قريب من السينما، وإنسان مرهف الروح قبل الأدب والسينما معًا. كتب حين عاد رواية واحدة «يوميات مدينة كانت تعيش قبل الحرب» -يحتمل العنوان خداع الذاكرة- وقاسم المخرج الروسي الشهير أندريه تاركوفسكي، صاحب فِلم «طفولة إيفان» 1962م، تصورات عن طبقات الذاكرة وانثيال الزمن وعتمة الوجود. نفذ فلم «طفولة إيفان» إلى روح طفل، سلبته الحرب طفولته، وعاشها في رحابة الأحلام. كان كهلًا شقيًّا في يومه وطفلًا بريئًا في الحلم. بعد سنوات من عمله في السينما أخرج ملص فلمه الوثائقي الشاعري «المنام» 1987م، حيث اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات يشقون في النهار، ويحتضنون ما فقدوا في «المنام».
جمعتني مع ملص، الذي فقد والده في سن مبكرة، قراءة الكتب وفتنة السينما، وارتباطه الروحي بفلسطين. كان والده من الذين أرادوا نصرة ثورة فلسطين (1936- 1939م)، وهو ما أدرجه في فلمه «الليل» 1993م، واستذكر طويلًا في روايته الوحيدة عائلة فلسطينية عاشت في الجولان السوري بعد النكبة، وتردد على مخيمات الفلسطينيين في بيروت وهو يرسم «المنام»، وكان قارئًا لروايات الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا. اعتبر، كما غيره، هزيمة فلسطين هزيمة للإنسان العربي.
تبادلنا الرسائل بين عامي (1968- 1974م). كنت طالبًا في فرنسا وكان طالبًا في الاتحاد السوفييتي، وحدثني عن ضريح لينين وتمثال بوشكين وجمود بريجنيف، وعن الثلج والغابات ومعلمة اللغة الروسية ورحلات في القطار ومرّ على أسماء الأدباء بنطق روسي: تشيخف وغوغل وشولوخَف عوضًا عن تشيكوف وغوغول وشولوخوف وبقي اسم غوركي، كما أظن، بلا تغيير وذكر كثيرًا الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي درس معه الإخراج، وأنهى دراسته بفلم وثائقي عنوانه، إن لم تخطئ الذاكرة، طويل: «كل شيء على ما يرام وكل شيء في مكانه سيدي الضابط». انطلاقًا من قاعدة صديق صديقي صديقي نزلت ضيفًا على بيت صنع الله في القاهرة، صيف عام 1976م، وانتبهت إلى كرمه وصمته وشغفه «بأرشيف صحفي» سيوظّفه لاحقًا في روايته «ذات» وغيرها.
سعدالله ونوس
عمر أميرالاي وسعد الله ونوس
لا أذكر «ملص»، عقب عودتي من فرنسا إلى بيروت في نوفمبر 1974م، إلا ذكرت المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي، المبتسم دائمًا والمحتفي بجماليات الحياة البسيطة. تناولت الغداء، مصادفة مع عمر، في مطعم الليوان، قرب البرلمان السوري آنذاك، ولفت نظري حرصه على شكل المائدة، وانشغاله بأشياء بدت له أساسية: أوراق النعنع، وشرائح الليمون، والبصل الأخضر، ونظافة الصحن والكأس والسكين. وحين انتشرت رائحة الشواء أذكر أني قلت له: إنها تدعى باللغة العربية: القتار، وانفجر ضاحكًا.
كنت ألتقي أميرالاي، الوسيم الأنيق الضاحك، مصادفة، في بيت سعدالله ونوس. تعاونَّا معًا في إخراج فلم وثائقي عن قرية سورية في منطقة الفرات: «الحياة اليومية في قرية سورية» 1974م. أولى الأول الثاني الاهتمام كله حين زار باريس مريضًا، في التسعينيات، وأخبره الطبيب أن نصيبه المتبقي من الحياة ستة أشهر، عاش بعدها ونوس أربع سنوات وأكثر.
قابلتُ «ونوس» للمرة الأولى في بيروت، حين جاء مشرفًا على الملحق الثقافي لجريدة السفير، في الربع الأول من عام 1982م، واحتفظت بصداقته حتى رحل. ناحل في وجهه شحوب، عينان صريحتان، حسوب في كلامه بعيد من التفاؤل، يكره الكلام في الصباح ويكره أكثر «نميمة المثقفين»، متطلّب في كتابته مهجوس بالإتقان، متقشف المطالب قريب من الزهد. ألمح إلى مسرحيته «منمنمات تاريخية»، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982م، أعطاها أكثر من شكل وعنوان، وأوغل في قراءة مقدمة ابن خلدون، وأنهاها بعد سبع سنوات أراد أن يقرأ في سيرة «مؤسس علم الاجتماع» العلاقة بين المثقف والسلطان، مقيمًا الفرق بين الثقافة كملكية خاصة، والثقافة كوظيفة اجتماعية، وبقي وعيه الشكوك يلاحق موضوعه إلى أن وصل إلى «أسباب ضياع الشعب وهزيمته» في جميع العصور. لامست بحزن جفاف بردى ونقيق الضفادع، وأعطى فلسطين في جميع العصور حضورًا ثابتًا أقرب إلى المجاز.
عاش ونوس حياته مندفعًا وراء عناوين ثلاثة: قلق الإبداع، ونزاهة السؤال، والسير الشائك إلى جواب عاقل محتمل. وتأمل طويلًا قول بريشت: «لا يكون الإنسان واقعيًّا في الكتابة إلا إن كان واقعيًّا خارج الكتابة»، ولم يصل إلى جواب أخير. جمع بين عقيدة المسؤولية ومبدأ الإنصاف، وحاول تجسيدهما في مسرحيته «الاغتصاب» التي نظرت إلى الشأن الفلسطيني بعقلانية بعيدة من البلاغة. لم يكن يميل إلى المثقفين الباحثين عن الشهرة؛ إذ في الشهرة ما يربك الأحكام وفي فن الإعلان ما يخترع إبداعًا لا وجود له.
عبدالرحمن منيف
في حوار أخير حول دورية «قضايا وشهادات» التي أشرفنا عليها معًا مع الصديق عبدالرحمن منيف، اقترح سعدالله عددًا خاصًّا موضوعه «مظاليم الأدب»، هؤلاء المبدعون الحقيقيون الأقرب إلى منطقة الظلال: بدر الديب الموسوعي المصري الذي جمع بين الترجمة والفلسفة والرواية، والعراقي غائب طعمة فرمان، الذي أبعده المنفى من وطنه ومن العالم العربي وبقي يكتب عن بغداد، ويوسف الشاروني رائد القصة القصيرة، في مصر والعالم العربي، وغالب هلسا، الأردني الذي كان يتردد كثيرًا على بيت سعدالله في ركن الدين في دمشق. لم يرَ العدد المقترح النور؛ لأن الدورية عاشت عمرًا قصيرًا محاصرًا: (1990- 1993م).
غالب هلسا صورة عن المنفى
كان غالب هلسا صورة عن المنفى بامتياز، أبديّ الطفولة مديد النقاء، ترك الأردن إلى العراق، وقذف به «شغبه السياسي» إلى القاهرة، استقر فيها طويلًا وأدمن على اللهجة المصرية، واقترب كثيرًا من
غالب هلسا
صنع الله إبراهيم وإدوار الخراط، وطرد من القاهرة إلى العراق، حيث كتب روايته «ثلاثة وجوه لبغداد»، وانتقل إلى بيروت، فدمشق مرورًا باليمن، وظل دائم الذكر لروايته «سلطانة»، حيث يساوي بين الطفولة ودفء الأم. كان غالب في دمشق يوجد في كل مكان، يدخن ويمسح العرق عن وجهه، ويبتسم بوجه طفولي ويدعو الجميع إلى شرب القهوة. سقطت عليه حيرة مسكونة بالشجن أثناء كتابته روايته الأخيرة «الروائيون»، أقلقته نهاية «بطله»، الثوري المهزوم، كان يشبهه، وأشقاه موته الروائي وأشقاه أكثر بقاؤه في الحياة. كان سعد الله يسأله ساخرًا: هل مات بطلك أخيرًا، أم أنك عفوت عنه؟ كان يجيب: «دعوني أفكر، المشكلة أنه لا يستحق الموت، والمشكلة أنه لا يحب الحياة، وأقدار البشر لا يصنعها الروائيون». قاده قلقه إلى عادات جديدة، العزلة و«متعة النوم»، كما كان يقول، والخوف من البشر في الحياة اليومية.
في لقائي الأخير مع غالب، اقترح أن نمشي قليلًا، وقليل المشي عنده لا زمن له، وتسايرنا من بوابة الصلاحية -مركز المدينة- إلى نهاية حي الميدان القديم، حيث المطاعم تقدّم «أكلات تقليدية» متقنة الصنع. شرب من حنفية قديمة (سبيل)، ماؤها بارد ولا تزال على قيد الحياة، ونظر بفرح إلى السماء وقال: الشهر القادم أرجع شابًّا، حصلت على موافقة العودة إلى القاهرة. نقل بعد أسابيع، فجأة، إلى المستشفى ولم يرَ القاهرة مرة أخرى. مات في دمشق ودفن، بعد حين، في الأردن. وكان غالب في آخر أيامه حين يشعر بالبرد يخاطب أمه. حافظ على وجه طفولي، لا يحب الأذى، ولا يذكر «مثقفين» ألحقوا به الأذى أكثر من مرة.
أندريه تاركوفسكي
كان ونوس، في ذلك الزحام الثقافي العارض، مركز ذاته وغيره، يحاور محمد ملص عن السينما، ويسائل أميرالاي عن علاقات السينما والسياسة، ويثني على التنويري العجوز أنطون مقدسي في مقال نشره في «قضايا وشهادات»، ويفرح بغالب هلسا وهو يتحدث عن روايته «سلطانة»، ويقترح مقابلة صحافية مع غائب طعمة فرمان، إذا مر بدمشق، الذي كان يرد بدهشة صادقة: هل أنا فعلًا جدير بمقابلة؟ ويطلب شيئًا «يبلّل به ريقه»، قبل أن تصعقه كلمة أيديولوجيا قائلًا: «شوي شوي عيني، أنا إنسان بسيط لا أعرف الكلمات المعقدة».
كان فرمان يستعيد طمأنينته إذا حضر عبدالرحمن منيف، الذي كان يحدّثه بلهجة عراقية خالصة، مرددًا بابتسامة ظاهرة كلمته: «يا معوّد»، هذه اللغة التي استضافها عبدالرحمن طويلًا في ثلاثيته «أرض السواد»، التي بعث فيها شخصيات شعبية عراقية من القرن التاسع عشر، وعالجها بمحبة غامرة.
ما زلت أذكر ملصق «درب المهابيل»، وقد بلّله المطر ومحا العصا الطويلة التي تواجه الهواء، ومنطقة «المسكيّة» الحافلة بكتب جديدة ومستعملة، وعبدالرحمن منيف بمشيته الواثقة وقهقهته المتعددة الطبقات، وقدرته على تحديد المُدة المطلوبة لإنجاز عمل روائي، وهو الذي كان يكتب إلى أن تتعب أصابعه، وأنجز روايته الشهيرة «شرق المتوسط» في أسبوعين تقريبًا. وأذكر حزن سعدالله الطويل على صديقه المخرج المسرحي اللامع فواز ساجر، الذي رحل عنا في الأربعين، أو أقل، كان الألمع في مجاله، والأكثر صخبًا وصدقًا. وأذكر محمد ملص في أحلامه المديدة والمريرة والمجيدة أيضًا.
كنا في ذلك الزمن نستدفئ بالصداقة ولا نراهن على شيء، من دون أن نعتقد، باستثناء عبدالرحمن، أن الثقافة تنشئ بيتًا، أو تخترق جدارًا واهن البناء.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | سبتمبر 1, 2018 | سيرة ذاتية
كنت في مرحلتي الثانوية أطيل النظر إلى جامعة دمشق، مستعجلًا الوصول إلى مكان يَعِد بألوان متعددة، أتأمل طلبة يتبادلون، ذكورًا وإناثًا، حرية الكلام، يحملون الكتب ويتضاحكون بلا رقيب.
كانت الجامعة تبدو في عمر يضيق بحاضره، كتابًا جميلًا، صفحاته من نور وسطوره من حكمة، يفصل بين عمرين، وبين معارف خفيفة، وأخرى مغايرة، أقرب إلى الغيوم الممطرة ولها جلال الأبوة. وكثيرًا ما كنت أرسل خيالي إلى أرجاء الجامعة، لينصت إلى محاضرات قادمة، ويطوف في قاعات الكتب، ويصغي إلى أساتذة لهم حظ من الشهرة في الحياة العامة، حال أستاذ القانون د. مأمون الكزبري، الذي أصبح مرة رئيسًا للوزراء، وسعيد الأفغاني أستاذ اللغة العربية الشهير، ود. عبدالكريم اليافي، الذي جمع بين شهادات ثلاث في اللغة العربية والحقوق والعلوم الطبيعية، وأكمل دراسته العليا في الجامعات الفرنسية، وانتهى متصوّفًا. قال لي يومًا: الإنسان الحقيقي لا يبحث عن الشهرة بل عن الحقيقة.
كان ذلك الخيال المراهق الطليق يبني صورة الأستاذ الجامعي بتفاصيل طريفة، قوامها رأس كبيرة ونظارة طبية وأشياء من «أناقة العلماء»، ويد يمنى تحمل حقيبة تحتشد بالأسرار، وقدرة على اختراق المعلوم إلى المجهول، وصحبة من ذهب، يتوسطها أبو العلاء المعري وطه حسين، وصداقة مع كتاب ابن المقفّع: كليلة ودمنة.
كنت أمشي من «التجهيز الأولى»، التي ستصبح «ثانوية ابن خلدون»، وأصل إلى جسر يغطي نهر بردى، كان يجري مكشوفًا في ذاك الزمان وله هيبة، وأنعطف إلى وزارة «الثقافة والإعلام»، ببنائها الأنيق المكوّن من طابقين، الذي قابلت فيه، مصادفة، شاعرًا معروفًا وافر الوسامة، هو: علي الجندي الذي سيهجو، بعد حين، فساد الأزمنة بلسان إنسان يتيم. وكثيرًا ما كان طريقي ينزاح يسارًا، فأدخل إلى «تكية السلطان سليم»، المصوغة من الماء وأشجار الليمون وعبق قديم، وتنضح برطوبة رشيقة في جميع الفصول، وقد حشر في ركن منها هيكل آلة عسكرية بدا زائدًا لا نفع فيه. وفي مقابل «التكية»، بمآذنها السامقة، كان يقوم «المتحف الوطني» الذي استقرت فيه آثار تعود إلى حقب تاريخية، تراكم فيها الأبناء والأحفاد والأجداد في غرفة واحدة.
بعد «المتحف»، كانت تقف جامعة دمشق بلوحة كبيرة الخط: كلية الحقوق – جامعة دمشق. كانت موزعة على أبنية متعددة تطلق عليها الألسنة العامة «صانعة الأجيال»، فقد تخرّج منها أكثر من مسؤول كبير ووزير. كان أستاذ لنا في «التجهيز الأولى»، التي درست فيها مدة، يوجز الجامعة بصفة «مخزن المعارف الهادية». لم يكن التعبير، بلغته المقعّرة، سائغًا، ذلك أن خريجًا منها يدرس اللغة الفرنسية، فسّر قصور تلميذه الفلسطيني بالانتداب الإنجليزي الذي وقع على بلده قبل النكبة، مرددًا، بابتسامة باردة: «البعض لا يقبل إلا بلغة مستعمريه». كان المعلّم البدين المشوّه الذاكرة – فحين كانت فلسطين محتلة إنجليزيًّا كانت سوريا محتلة فرنسيًّا – يباهي بلغته الفرنسية وبمجموعة قصصية يتيمة طريفة العنوان: «الصعود إلى الحضيض» ربما، أو عبث لغوي قريب من ذلك.
طلبة وطالبات في حرم جامعة دمشق
انتسبت إلى الجامعة في أوائل ستينيات القرن الماضي. بدت الجامعة، بأشجارها الخضراء المتفرقة، أقسامًا متصلة – منفصلة، تشيع منها «رائحة الحرية» وسعادة الأيام القادمة؛ فبابها الخارجي يسمح بالدخول والخروج بلا استئذان، ومقهى الطلبة معرض أليف وغريب، يمر به البعض سريعًا ويلازمه بعض براحة يخالطها الكسل، وتنتشر فوق مناضده كتب مختلفة العناوين. وهناك قسم اللغة العربية بطلابه الذين يميلون إلى المحافظة، وقسم اللغة الإنجليزية بتلميذاته الجميلات، و«المدرّجات» التي تحتضن محاضرات متنوعة، والمكتبة بهدوئها اللافت ودوريّاتها العربية والأجنبية. أذكر منها مجلة «العقل» الإنجليزية ومجلة «الفكر» الفرنسية وعنوانها الثانوي: «العقلانية الحديثة» وأذكر أنني تصفّحت، بلغتي الفرنسية الفقيرة، صفحتها الأخيرة، ووقع نظري على إعلان عن دار النشر اليسارية «ماسبيرو» القائمة في باريس في الحي اللاتيني، التي أدمن الطلاب، كما سأعرف فيما بعد، سرقة كتبها، فصاحبها رفض التعامل مع «البوليس البرجوازي»، إلى أن أعاد حساباته وأغلق داره والمكتبة الملحقة بها.
جثث مغطاة فوق أسطح خشبية
ما زلت أذكر من مباني جامعة دمشق «قاعة التشريح»، الخاصة بكلية الطب، الواسعة القائمة في ركن منعزل، تتراءى وراء زجاجها القاتم جثث مغطاة فوق أسطح خشبية، تشيع منها رائحة الموت وانكشاف العدم. كانت القاعة المسكونة بروائح غريبة تبعث على الاختناق وتوحي بسخرية جارحة، تدع الموت مع بلاغة صادمة تفضي إلى متحف للكوابيس. وكان إلى جانبها طلبة متحزّبون يتشاجرون باستمرار.
كانت أهواء الطلبة، الجامحة المستثارة، تتكشّف في جماعات ملتفة حول ذاتها تتبادل الكلمات والإشارات، وترفع كتبًا متضاربة العناوين، تنحشر في الجيوب وتتمدد فوق مناضد المقهى، وتترجم أحوالها بنظرات متخاصمة، يتوازعها «أهل اليسار وأهل اليمين»، بلغة قريبة من طه حسين. وكثيرًا ما كان في النظرات ما يدفع إلى خصام عالي الصوت، تشترك فيه قبضات تستنجد بما يليها، إذ يتخلّى الطلبة عن أناقتهم ويتحوّلون إلى «قبضايات». كانت جامعة دمشق، في ذاك الزمن، فضاء مشبعًا بشعارات تترجم نزوعات المجتمع السياسية وتعبيراته الحزبية: القوميون العرب، الواعدون بسفر مريح إلى فلسطين، تضمنه وحدة عربية «تعرف» طريقها، والاشتراكيون المؤمنون بمدينة فاضلة على الأرض، تأتي إلى الإنسان قبل أن يذهب إليها، والتراثيون ويقينهم بعودة الماضي المبرأ من الدنس. كانت هناك تلك القلة الميسورة، التي تحافظ على مسافة مبتسمة وتسخر من الأحزاب.
كان للطلبة المندفعين إلى الأمام والوراء، مختارات من الكتب تمتد من «المعذبون في الأرض» لفرانتس فانون، الذي ترجمه جمال الأتاسي وسامي الدروبي، إلى مؤلفات ساطع الحصري، الذي بنى القومية العربية على فكرة الثقافة، ومن مؤلفات المصري سيد قطب، التي شجبت «الجاهلية الجديدة»، إلى روايات مكسيم غوركي الداعية إلى إنسان جديد يصنع المعجزات. وكان للوجودي الفرنسي جان بول سارتر أنصاره ومريدوه، الذين كان يبهرهم كتاب «اللامنتمي» للإنجليزي كولن ولسن، وكتاب «الجنس الآخر» للفرنسية سيمون دو بوفوار، التي لم يساورها الشك يومًا بالحق الصهيوني في فلسطين. من الطريف أن طلابًا قوميين، كانوا يرون في سارتر مفكرًا يمكن استثماره «قوميًّا»، فهو يدافع عن الجزائر ويؤمن بفكرة الحرية.
وبقدر ما كان للطلبة المتحزّبين فيض من المراجع الفكرية، كانت لهم لغة تستبد بها الألفاظ: القُطرية المتآمرة والشعبوية السوداء والإمبريالية الغادرة والصهيونية وشواذ الآفاق وصولًا إلى الصراع الطبقي، والاقتصاد الإسلامي الذي يردّ على نظريات وافدة. أذكر طالبًا قصير القامة كان يقضي نهاره صارخًا: الموت للجماعات الفاشية، الموت لديكتاتورية رأس المال. وحين طلبت منه أن يشرح لي شعاره الصارخ قال: قرأت هذا في أكثر من كتاب.
وعلى الرغم من العبث اللغوي وفتات الأفكار المحرّضة كانت تناقضات الفضاء الجامعي طافحة بنبض الحياة، تتوق إلى ما هو جديد، وتبحث عن نظر حديث يحتاج إلى جهد طويل كي يستقيم. كان في الأفعال ما يتجاوز وضوح اللغة، وفي الطموح ما يسخر من السبات والبيات الطويل. بدا الحوار جزءًا من الحياة اليومية، وظهر جديد في القصة والشعر والأصوات الشعرية، حال الشاعرين ممدوح عدوان والفلسطيني أحمد دحبور،….. وتحدث الطلبة، آنذاك عن هاني الراهب، الذي لم يتجاوز العشرين إلا بقليل وكتب روايته «المهزمون» التي ظفرت بجائزة.
كان في أساتذة قسم الفلسفة، قبل غيره، ما يمايزهم من معلمي المدارس الثانوية، حال د. عبدالكريم اليافي في «معطفه» الفضفاض، وقد تحلَّق حوله تلاميذ زهدوا في المعارف المدرسية، وكذلك أنطون مقدسي، الذي كان يلف عنقه بوشاح صوفي في الشتاء، وربما في الصيف أيضًا، ويحدِّث الملتفين حوله عن أيامه في الجامعة الفرنسية، متوقفًا أمام أستاذه الشهير، بول ريكور، وصديقه اليوناني كوستاس إكسيلوس الذي غدا فيلسوفًا معروفًا، ويتكلّم، بلا انبهار، عن لوسيان غولدمان الروماني الأصل، قبل أن يصبح ناقدًا أدبيًّا مجددًا. أما الأستاذ الثالث المعروف فكان بديع الكسم، المسرف في لطفه المتجهم، والذي كان يساوي بين الفلسفة والميتافيزيقا المتمثلة بالموت والزمن واللانهاية، ويرى في الماركسية الشائعة بين الطلاب «علم اجتماع» لا أكثر. وكان قد نشر دراسته الممتازة عن رامبو أو مالارميه، أو عما هو قريب منهما.
يدان مثقلتان بالكتب
كان أستاذنا اليافي يتميّز بيدين مثقلتين دائمًا بالكتب، وبكلمات متناوبة عن جورج أورويل وألدوس هكسلي، وبكتبه الجامعية الجديرة بصفة: رومانسية المعرفة: مدخل إلى علم الاجتماع، الذي «يساوي المراجع الكبرى في مجاله»، كما كان يقول، و«علم الاجتماع الحيواني»، الذي يفوق ما سبقه في ضخامته، و«دراسات فنية في الشعر العربي»، المزيج من بحث في اللغة العربية ونظريات علم الجمال، وصولًا إلى كتاب، أقل حجمًا، ترجمه عن الفرنسية عنوانه ربما «شرودنغر وفلسفة الفيزياء الحديثة». وكان يردد: المساواة جوهر الأفكار وغاية الدين، ومن يرفض المساواة يقصي ذاته عن دائرة البشر. وللثلاثة جميعًا ميول سياسية، تصل إلى التحزّب المعلن أو ما هو قريب منه. كان لبديع الكسم، بوجهه المتجهم وأناقته الكلاسيكية، تعاطفه مع الأحزاب القومية، وشهرة كتاب نشرته دار فرنسية مرموقة «دار النشر للجامعيين»، عنوانه: البرهان في الميتافيزيقا. كان في ملامحه ما يستدعي صورة فيلسوف من العصور الوسطى «كنا نحن الذين نحترمه ندعوه ماليبرانش». وما يوحي بفيلسوف متحرر من الأزمنة، بقدر ما كان أنطون مقدسي يعيش مع أفلاطون.
كان أنطون مقدسي، كما يعرف مجايلوه صديقًا في شبابه لزكي الأرسوزي، أحد مؤسسي حزب البعث في سوريا، ورأى أن عبقرية القومية العربية من عبقرية لغة عربية تشتق النهر من النهار. غير أن الزمن حرّر مقدسي من «العبقريات المفترضة»، ودفعه إلى تأمل فكري صامت، لا ينقصه التقشف والغموض. آثر أن يكون فيلسوفًا بلا كتب، إن لم يؤثر أن يكون مثقفًا مغتربًا، يلاحق أفلاطون وديالكتيكه، ويقارن بين سطور يونانية وسطور عربية ويطمح إلى نطق سليم ونظر أكثر سلامة. توسل أستاذنا «استنارة عربية» وبقي أستاذًا متواضعًا، يحاور تلاميذه وبين شفتيه لفافة تبغ رخيص، لا يؤرقه رمادها، وعلى عنقه وشاح أَلَفَهُ شتاءً، وربما في الصيف أيضًا. أراد طيلة حياته أن يقرأ أفلاطون بالعربية وباليونانية والفرنسية، وأن يقنع كل باحث عن الحقيقة بحكمة أفلاطون وامتداده المعرفي.
أنطون مقدسي
حين دخلت الجامعة كان د. اليافي أستاذًا، «مؤقتًا»، لم يكن مرحبًا به، كثيرًا، في زمن الوحدة المصرية – السورية. في يوم قائظ من أيام أغسطس عام 1966م، وأنا أسايره أمام مبنى «البرلمان»، في باب الصالحية، توقف فجأة بعد سؤال عارض وقال: «إنني لا أخاف الموت ولكني أخاف الإهانة». التمعت عيناه الزرقاوان الضيقتان، وشد كتبه إلى خاصرته اليمنى، ومضى سريعًا. قال أحد الأصدقاء: إن مسؤولًا أمنيًّا صفعه ذات مرة، وإن الأهانة زرعت في روحه ميلًا إلى «عزلة مستمرة». كان الدكتور عبدالكريم اليافي، العالم في اللغة العربية وغيرها، من مواليد حمص عام 1912م.
كان لأساتذتي الثلاثة أحلامهم الواسعة، وخيباتهم الأكثر اتساعًا. كنت أرى، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بديع الكسم سائرًا وحده يحدّق في الفراغ وبيده كتاب، وعبدالكريم اليافي يتهيأ للصلاة، وعلى وجهه ابتسامة كأنها مستحية، وأنطون مقدسي يمشي إلى جانب حديقة «السبكي» يتحدث مغتبطًا عن ترجمة جديدة إلى الفرنسية لكتاب أفلاطون «الجمهورية»، أصدرها «ماسبيرو»، كما قال، ولكنها مرتفعة الثمن.
كتب سلامة موسى يومًا كتابًا عنوانه: «هؤلاء علّموني». أستطيع القول، وبشكل مختلف: إن الذين علّموني هم أساتذة ثلاثة، اختاروا طريقًا، وسحبهم «عبث الأقدار» إلى طريق آخر.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | يوليو 1, 2018 | سيرة ذاتية
فيصل دراج
أربع سنوات في قرية سورية، أعقبها رحيـــل إلى دمشق. بقينا في النكبة، وبقيت النكبة فينا. كان الفصل خريفًا، والطريق بين القرية والقنيطرة لا جديد فيه. ووراءنا مودّعون قلائل، والحصان الكسير الذي كان يحتضر غاب عن النظر. نظر إلينا، ونحن نغادر القنيطرة، عجوز وقال: «عليك بالشام عند مزاحمة الأقدام». فهمت من كلامه القليل، وأعادني إلى معلّم القرية، الذي قال مرة، بنبرة يختلط فيها الانتباه بالشرود: دمشق من خضرة ونور وعاصمة الأمويين. أيقظت كلماته في مخيلتي صورة لمدينة خضراء لا تعرف الظلام.
وصلنا المدينة مساء، دخلناها من حي الميدان، كما قال السائق، الذي بدا مرشدًا. أعقبت حي الميدان حارات ضيّقة، لم تفلح الكهرباء في طرد ظلمتها. أقنعتني، بلا سبب، أن فيها مخازن للحبوب والجلود المدبوغة والأسلحة القديمة، وأنها عامرة بأصداء فرسان رحلوا من زمن بعيد. دخلت السيارة، على غير توقّع، طريقًا معتمًا تحف به الأشجار، يفصل بين «حي الأكراد»، الذي نقصده، وأجزاء من المدينة. قال السائق – المرشد: إن غوطة دمشق تحيط بالمدينة من الشرق إلى الغرب، تتسلل إلى بيوتها، تظلل أحياءها، تجمّل صباحاتها، تغدق عليها فاكهة متنوعة. تخيّلت، بعد حين، أن الغوطة أم واسعة الأطراف، وأنّ دمشق ابنتها «المدلّلة»، وأن «الفيحاء»، جاءت من فاكهة عمرها آلاف السنين.
سكنّا «حي الأكراد»، في الشمال الشرقي من المدينة، كان الحي يتاخم جبل قاسيون الذي كانت فيه نبتة قصيرة لها مذاق زعتر فلسطين، قبل أن يجتاحه البناء ويحوّله إلى هضبة أليفة تتسلقها بيوت سوّيت على عجل. بعد دخولي مدرسة «عثمان ذو النورين»، أيلول – 1953م- تعرّفت على معالم المكان: نهر يزيد، أحد أنهار المدينة الخمسة، الذي كان يشتد في الشتاء ويوحي بهيبة غير متوقعة، «بيت الأربعين» المعلّق في الجبل والمحوّط بالاحترام والقداسة، مشفى ابن النفيس الذي يقع شرق المكان، ويعالج الأمراض المعدية، جامع يونس آغا، مبتدأ الحي، الذي ينفتح على الغوطة شرقًا، وساحة شمدين آغا، المفضية إلى حي «الشيخ محيي الدين»، حيث مسجد المتصوّف ابن عربي وقبره.
عرفت حي الأكراد بحاراته الصاعدة، نحو الجبل، وبيوته المحاذية لنهر يزيد، وحنفيات الماء (الفيجة)، التي تلازم بدايات الحارات جميعًا، ومساجده المغسولة ليلًا ونهارًا، وأهله الطيبين، وملامحهم الصارمة. كان البسطاء منهم يتجولون في الشوارع «بقبقاب خشبي» يسحبونه براحة، و«بيجاما» واسعة صالحة، ربما، لكل الأمكنة والأزمنة. لم تكن هذه العادة خاصة بالأكراد وحدهم، وهو ما حمل المربي الفلسطيني خليل السكاكيني، صاحب اليوميات الشاسعة، أن يدعو دمشق، التي أقام فيها أشهرًا في العهد العثماني؛ مدينة القباقيب.
الحي الكردي واللاجئ
أخذ الحي الكردي، من نهاية خمسينيات القرن الماضي، اسمًا جديدًا: ركن الدين. لكن ذاكرتي اعترفت، ولا تزال، بالأول لا بغيره، كما لو كان اللاجئ يعترف بما وصل إليه و«استقر» في سكن. اقترن الاسم ببيت قديم، على أطرافه أشجار رمّان يابسة، تحاذيها شجرة تين إلى جوارها قبر أحد «الأولياء». كان البيت ينفتح صباحًا على مدينة يتصاعد منها الضباب، ويشرف ليلًا على غوطة تؤنسها أنوار مرتجفة، وفي ليالي الشتاء الغائمة كانت الغوطة تفترش ظلامًا واسعًا، وتحلم بألوان الفصول القادمة.
ما زلت أذكر مدرستي ومديرها الكردي محمود مهدي إستنبولي، بشعره الخفيف الأصهب وببزّته الأنيقة وشغفه بالنظافة والخط الجميل وذكره المستمر لفلسطين. كان يظلع في مشيته، يدعم قدمه اليسرى بيده اليسرى، بإيقاع منتظم، كما لو كانت اليد القوية امتدادًا للساق المريضة، أو كانت الساق المتمردة امتدادًا ليد مطيعة. كان يكافئ المجتهدين بالكتب، ويعتبر كتب مصطفى صادق الرافعي هدية عالية خاصة: السحاب الأحمر وحديث القمر، فإن بلغ رضاه مداه، أضاف كتاب: الإسلام دين ودنيا، الذي سقط اسم مؤلفه من ثقوب الذاكرة. وأذكر المعلمين: حسن هاشم الدمث القصير القامة البالغ الأناقة الدقيق الشاربين، كما لو كان في تأنقه يعوّض ما ينقصه، ورياض آلاه رشي، في ريعان شبابه تلازمه أناقة رهيفة، إن مشى بين التلاميذ سقط عليهم الصمت، ونادر قره شولي، النحيف الطويل المخلص لِقهقهته المتطاولة والمخلص أكثر لمعطف رمادي طويل يلازمه في جميع الفصول. كان الأخير كثير الغياب، وكنا نظنه كثير المرض، إلى أن عرفنا أنه «موقوف» من «المكتب التاني»، لكونه عضوًا ناشطًا في حزب سياسي يعارض السلطة. ما أذكره أن تلاميذ المدرسة الابتدائية، في ذاك الزمان، كانت لهم ولاءات حزبية، وكان الجميع في ذاك الزمان يتخذ من فلسطين مدخلًا للكلام.
كارل ماركس
بعد أكثر من ستين عامًا، وتداخل العسل والصدأ والرماد، ما زلت أذكر بحنين باحة المدرسة كل يوم خميس. كان المدير والمعلّمون، يقفون بين تلاميذ توزعوا على صفوف مستقيمة، أخذت مسافة عن مركز «الباحة»، حيث منبر خشبي يكتمل بدرجتين خشبيتين إضافيتين تساعدان صبية حظهم من النمو قليل. كان المدير يطلب من «أحمد كم نقشي» نشيدًا وطنيًّا. يصعد التلميذ. بوجهه الشاحب وعينيه الواسعتين، إلى المنبر، ويطلق صوتًا شجيًّا وإلى الحزن أقرب: «أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدى»، فإن بلغ الجملة القائلة: «أرى اليوم موعدنا لا الغدا» جاء تصفيق صاخب، يوقفه المدير بحركة من يده. يشكر المدير التلميذ: ويأتي على ذكر محمد عبدالوهاب، ويثني على الشاعر المصري: «علي محمود طه». يتضاحك الأستاذ «إستنبولي» قليلًا ويقول بنبرة حاسمة: أحمد، الآن دور «الموّال»، حينها يشتعل وجه التلميذ بهجة وألقًا، يضع يده اليمنى على أذنه، ويطلق العنان لصوته: «يا مدبّر الكون ويا عاطي الخلايق نعم، ما خالفت أمرك يوم…». ينطلق الصوت راضيًا، يعلو ويرتفع ويصعد ويتصاعد، ثم يشفّ ويصبح أكثر حنانًا ويختم، متأسيًا، بكلمة أقرب إلى الآهات: يا ربي!
بعد التلميذ السوري الكردي، يصعد المنبر التلميذ الفلسطيني الوحيد في المدرسة ينشد بخجل قصيدة شوقي: «سلام من صبا بردى أرق، ودمع لا يكفكف يا دمشق». ومع أن بين الصوتين فرقًا في الأداء كانت المدرسة، مديرًا ومعلّمين وتلاميذ، تغمر الفلسطيني بالثناء والتصفيق. يقف على المنبر حائرًا، تسقط من عينيه دموع، وينزل ويلوذ بالصمت.
بعد مطلع الألفية الثالثة، وأنا مسافر من دمشق إلى عمّان، ركبت مع سائق يلف رأسه بكوفية وقليل الكلام. سألته: الأخ من دمشق، أجاب: نعم، سألته ثانية: من أين، أجاب: حي الأكراد. قلت له: أعرفه وكنت في مدرسة «عثمان ذو النورين»، أجاب: كنت فيها وقال: اسمي أحمد كم نقشي. كانت السنون قد غيّرت أشياء فينا وفي دمشق وجبل قاسيون الذي لم يعد جبلًا، ونهر يزيد الذي أهلكه الجفاف. وتبادلنا الكلام عن ذكريات هاربة، إلى أن سألته: هل ما زلت تذكر «يا مدبّر الكون؟» قال بحماس حزين: نعم، وما زلت أغني، وغنّى وأبكى قلبي، كان صوته شظايا من الصوت القديم.
أذكر من ذاك الزمان، وقد ترددت على «ثانويات» متعددة، أن فلسطين، كانت محور النظر ومركز خطابات وشعارات ومقالات ورسومات وأغانٍ وكتب ومناسبات تستنفر البديع والبلاغة والقصائد،.. كان يتقاسمنا، نحن الفلسطينيين، شعور ملتبس، نرتاح إلى تآزر دافئ في مناسبات وعد بلفور وتقسيم فلسطين ومجزرة دير ياسين… وكان يلازمنا أيضًا شعور بالمرارة والكآبة: لو كنا كغيرنا لما سقط علينا عطف ومتواليات من الوعود، ولو كان قميصنا كغيره لما كثر الكلام عن «لطخة سوداء» تتوسطه.
قلادة في صدر الدنيا
ساطع الحصري
كنا نسعد، في الثانويات المختلفة، حين نعرف أن بين المدرسين فلسطينيًّا أو أكثر. نباهي بهم، كما لو كنا نبرهن عن شهادة نحتاجها: «نعلّم الإخوة السوريين ونتعلّم منهم»، لا فرق إلا اللجوء وأمور غالية سقطت في الطريق. كان المدرسون الفلسطينيون يعلّمون، غالبًا، الإنجليزية، نتعمّد الاقتراب منهم، ونفرح إن كانوا محبوبين من التلاميذ، حال «إبراهيم عودة»، الطويل القامة الكثيف الشعر، الذي ترجم رواية للأميركي جون شتاينبك، وحرص على لهجة فلسطينية خالصة، يعابث بها التلاميذ ويزجرهم، ويكرر أن القدس «قلادة في صدر الدنيا»، وأنّ هواء «رام الله» يثلج الصدور. وكان معه في «التجهيز الثالثة»، بلغة ذاك الزمان، فلسطيني آخر أقل طولًا؛ محمد النحوي. يشدّ قامته في مناسبة وعد بلفور، ويضبط نظارته الطبية، ويتحدّث عن القدس والأرض وصفد ويدخل إلى الصف، بعد «الخطبة»، دون أن يغادره الغضب. كان «تجهيزنا» يجاور المستشفى الإيطالي، قريبة من «عرنوس» والجسر الأبيض والصالحية، وستغدو لاحقًا ثانوية: جول جمال.
لم يكن التلميذ في خمسينيات دمشق الآفلة بحاجة إلى «الكتب» ليصبح مثقفًا. كان فضاء المدينة الثقافي – السياسي يحرّره من الثقافة الكُتُبية الجامدة، نعرف ما يدور في العالم من عناوين الصحف المتنافسة، التي تتجاوز الثلاثين، ونتعرّف على جديد الثقافة من واجهة المكتبات المتعددة. فعلى مقربة من «التجهيز» كانت مكتبة صايغ، مقابل «البرلمان» اشتريت منها، الطبعة الأولى الإنجليزية لرواية همنغواي: العجوز والبحر 1954م، مؤجلًا قراءتها إلى لحظة سعيدة قادمة، وإلى جانبها مكتبة أوسع، ماتت منذ زمن طويل، اشتريت منها رواية أرسكين كالدويل «طريق التبغ» وسألت الزمن أن يسعف لغتي الإنجليزية.
كنا كتلاميذ مقبلين على الحياة – صبية لم يراهقوا بعد – نتنافس داخل الصف وخارجه، تجذبنا دور السينما، التي فاق عددها الأربعين، ونلتحق بالمظاهرات ونخترعها، ونتداول مجلات: الرسالة والرواية والهلال – الآتية من مصر، ونثني على أحمد حسن الزيّات ونوجه تحية إلى جورجي زيدان، ويلامسنا البكاء ونحن نقرأ المنفلوطي، وتمتعنا قصص الحيوان في كليلة ودمنة، وننظر بدهشة إلى الرسوم التي كان جبران خليل جبران يدرجها في قصصه.
محمد عبدالوهاب
وكان لنا تنافسنا الغريب في شراء روايات أجنبية شهيرة، ترهقنا ماليًّا لأنها جميلة الغلاف، حال طبعة جميلة لرواية هيرمان ميلفل موبي ديك، كانت تزينها من الداخل رسوم «ريكويل كنت». كنت أنبهر بالصياد المبتور الساق وبالحوت الأبيض الهائل وبصاحب الجسم الموشوم الذي كان أبوه ملكًا. لم نكن في أيام السعادة نسائل الربّان المستبد الذي يقود بحارته إلى الهلاك، ولا نكترث بصيّاد حيتان عصابي ينتهك براءة الطبيعة. عشنا سعادة بريئة خفيفة التكاليف، تأتي إلينا مع ضباب الغوطة الصباحي ونظرات التلميذات العابرات الناعسات العيون المحملات بأريج الياسمين. وحين ابتعدت السعادة سألنا: لماذا كنا سعداء؟ ولم يكن العثور على الجواب سهلًا، فالإجابات، كل الإجابات، تقصّر عن الأسئلة، وتأتي متأخرة.
ومع أن الزمن العربي الذي نعيش يسخر من الذاكرة، فإن وقائع من دمشق الخمسينيات استقرت في الذاكرة بلا رحيل: فاض نهر بردى (عام 1955م ربما) ومنع السير بين بوابة الصالحية ومحطة الحجاز، وخرج أساتذة الجامعة في مظاهرة تهتف ضد حلف بغداد، وأسقطت مظاهرات الطلبة حكم العقيد أديب الشيشكلي.. كان هناك ذات مرة نهر ومدينة وصبية يختلفون في أفكار ساطع الحصري وحسن البنا وكارل ماركس.
لم نقصد العلم في ذاك الزمان كانت تعلمنا الحياة، وكانت دروسها أوسع منا. ولأسباب لم أتبيّنها زهدت، مبكرًا، بالمنفلوطي وأدب الدموع، واحتفيت بشخصية جان فالجان، في رواية فيكتور هوغو «البؤساء»، ذلك العادل العاثر الحظ، الذي طاردته الحياة وطارد مساخر الحياة حتى تلاشى.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مايو 1, 2018 | سيرة ذاتية
فيصل دراج
في مكان ضيق، قلق الإقامة، ألجأني إليه بلد مجاور أراد أهله السعادة فسقطوا في الكارثة، نازعتني روحي إلى زيارة قبور الأقربين. كنت أراقب جماعات تتأبط حزمًا من جرائد النخيل، وتقصد المقبرة، في اليوم الأخير من رمضان. سخرت رغبتي مني، فأنا في بلد أفتقر فيه إلى الأقارب، وأعادتني إلى زمن مضى، حين كنت مع الأقارب، وكانوا معي ومني.
أراني طفلًا في فجر التبس سواده بزرقته، والتبس أزرقه بصوت المؤذن، أساير أُمًّا سريعة الخطو، تؤنس الطريق بمشيتها، ويؤنسها الطريق بحصاه، وتضغط على يدي كي تتأكد أنني هناك. كانت تقصد مقبرة لتزور قبور الأقربين.
كانت مقبرة الجاعونة، في ذاك الزمن الفلسطيني، تتاخم حقول التين والزيتون، تسبقها مدرسة، وكان الفلاحون يطلون القبور بالكلس، فتبدو بيضاء في النهار، وأكثر بياضًا في الليل. كان تداخُلُ زرقة الفجر وبياض القبور، في صمتها الأبدي، يخلق فضاءً غامضًا، «تحوم فوقه الأرواح»، ويبعث على الرهبة. وكانت المقبرة تنفتح على السهل والجبل. كانت الأم، التي لا تكف عن البسملة، تحمل معها دموعها ودعواتها وريحانها، توزعه على القبور، وإبريقًا صغيرًا تحتفظ بمائه لقبر أخير، تجالسه وتحاوره، توسّده ريحانها، وتفرشه بدعائها، تسقيه وتمسّده وتعاتبه وتستأذنه قبل الرجوع. كان قبر أخيها الوحيد، الذي أكمل تعليمه في القدس وصفد وحسمه الموت، قبل أن يبلغ العشرين، واحتفظت له بصورة شمسية شاحبة إلى أن وافاها الموت، بعد ستين عامًا، وضمّها قبر في أطراف دمشق.
كان عليّ، في المكان الضيق الذي وصلت إليه، أن أُوهم نفسي بزيارة قبور الأقربين، وأن أنسحب من زمنٍ مضى، كما لو كنت أستيقظ من منام، سواده من زرقته، وأزرقه أقرب إلى النور. وكان عليَّ أن أستذكر قبورًا كثيرة، عبرت كطيف أو كابوس، وتناثرت في أكثر من مكان. كان جدي لأبي أول الراحلين، أذكره بعصاه الطويلة وقد جاوز التسعين، يجلس في مكان مشمس ويدهن جسمه بالزيت، ويستخرج، وهو المزارع القديم، من ذاكرته كلامًا بدويًّا: «الدنيا لا ش ولا ش، مثل طيّات القماش». كانت دنياه قد بلغت طيّتها الأخيرة في قرية «زاكية السورية»، بعد النكبة بعام.
أذكر من جدي وجعًا طفوليًّا وأنا أتصوره، بعد رحيلنا عن القرية، وحيدًا في قبر غريب تحيط به صخور بركانية. وسألت نفسي، ونحن نقصد دمشق: من سيزور قبره؟ وبكيت، حين سألت: هل نراه ثانية؟ أجاب عمي، الذي كنا ندعوه «ذاكرة العائلة»: في فلسطين، في فلسطين، ولم تقنعني الإجابة. بعد أشهر قليلة، سنعرف، أن خالتي القليلة القامة الكثيرة الكلام ماتت في «بنت جبيل»، وأن رفاتها سيذوب في تراب الجنوب اللبناني. علمني رحيل الجد معنى الفقْد، وأضاءت الخالة لي برحيلها تجربة الغياب. وسأدرك لاحقًا «بداهة التبعثر»، وعادية غياب ما كان، وعرفت أن في زيارة القبور تحية للأقربين، لا احتفالًا بأكوام التراب، وأن ما يدعى بالذاكرة متواليات من الرفض والمعاناة، وتدريب على قراءة الوجود الفلسطيني.
قبر منيف يطل على صفد
حين رحلت عمتي التي اقتربت من الستين، في قرية جويزة السورية القريبة من شمال فلسطين، لم يداهمني الخوف، كالمرتين السابقتين. شعرت أن لها قبرًا منيفًا يطلّ على «صفد»، ومحاطًا بالخضرة. كان في المكان ما يؤنس الأحياء والأموات، ويسمح للميت أن يصل فلسطين مشيًا، لو استطاع، وقد تتسرّب رفاته إلى تراب الوطن وينسج معه حوارًا. كانت التصورات تأتي من الحكايات وقصر المسافة، التي تضع ملامح الوطن أمام عين الذاكرة. لم يكن المنفى قد أوغل في اتساعه بعد.
كان الفلسطيني النجيب حسين البرغوثي يتحدث عن «ذاكرة المكان»، في عمله الجميل «سأكون بين اللوز»؛ إذ في فضاء بلدته روح «غريري»، وهو حيوان برّي صغير، لن تموت، وإن بين ثنايا التراب حكايات واسعة الصوت، يحميها «تناسخ» غامض، يضع على لسان الطفل حكايات جده، وفي ذاكرة الجد مواء «غريري» صغير، أطلق اليهود عليه النار غير مرة.
بيد أن ذاكرة المكان تعطّلت، وهجرها التناسخ، حين حُشر الفلسطينيون في أرض غريبة وحمل الأطفال اللاجئون ذاكرة «وليدة». كان الكبار يرمِّمون ذاكرة المكان بحكاياتهم، أو بأفعال غريبة تسكنها الفجيعة، حال تلك الكهلة الفارعة التي جاءت من الغور الفلسطيني إلى بيروت، في أثناء الحرب الأهلية لتنتزع رفات ولديها من تراب غريب، وتعيدهما إلى أرض الأهل والطفولة. حملت على ظهرها كيسًا من عظام، يغطيه التراب ويرسل خشخشة مقبضة كانت صامتة الوجه، تائهة النظرات، أقرب إلى شجرة سنديان داخلها اليباس. تقصد دمشق مشيًا وضلت الطريق. انبثقت من الأسفلت وقالت «أختي» وكلمات متداخلة. حين سألها المسؤول عن محتويات الكيس المشدود إلى ظهرها، أجابت بصوت هادئ أقرب إلى الاستسلام: «عظام الأولاد»، أحملها إلى قريتي في فلسطين. كانت مسكونة بذاكرة المكان، وكان في المكان ما يلقن روحها دروسًا في الذهاب والإياب، ويحوّل العظام إلى شابين يستقران في تراب أنيس، لا تحيط به الصخور البركانية. ما زلت أذكر عذابًا يمشي، يقف على الأرض، ويتحدى الأزمنة وعجوزًا فارعة تحاور ولدين لا تعترف بموتهما. لا أذكر سفري بين دمشق وبيروت إلا وذكرت «أم الأولاد» بِلَوْعةٍ.
كانت قد سمعت، ربما، عن عظام الفلسطينيين الملقاة في العراء، بعد سقوط مخيم تل الزعتر في أغسطس 1976م، وتسلل إلى روحها عتاب من أكثر من مكان. كان في وجوه الناجين من المجزرة، وهم جمع من صبية وأطفال وعجائز، صفرة يخنقها السواد، وملامح سُوِّيت بالذهول والكبرياء، أوكلوا الكلام إلى عيونهم، وتأبطوا أطياف الأحزان القادمة. أما الذين خرجوا من المخيم بطرق سرية، ولا يتجاوزون العشرات، فكان في عيونهم رايات مكسورة، وفي نظراتهم طبقات من نار ورماد. كنا نلقي عليهم كلامًا على مشارف بيروت، ولا ننتظر.
عبث لم يسكت الفلسطينيون
في ذاك اليوم القائظ من شهر أغسطس عام 1976م، يوم سقوط تل الزعتر، كان في فضاء «بيروت الغربية»، كما كنا نقول، طبقات من الحِداد تجثم على الوجوه والعيون والكلام، وعلى الدفاتر والأوراق ومفارق الروح. كان شهداء مجزرة «دير ياسين»، التي قام بها اليهود قبل النكبة، قد استيقظوا من «قبرهم الجماعي» ليؤنسوا قبورًا جماعية جديدة، ويطلقوا مع «الشهداء الجدد» نشيدًا مختنقًا يعاتب الكون.
شعرت في ذاك اليوم البعيد، والقريب أيضًا، أنني مجرد إنسان فلسطيني عبثت به الأقدار، وأن عبثها المتمادي لم يُسْكِت الفلسطينيين، وبكيت.
حين التقيناه في حديقة «الصنايع» في بيروت، كان في التاسعة تقريبًا، خلّف وراءه عائلة طمرتها الفؤوس في التراب، يلف رقبته بـ«حطّة فلسطينية»، عيناه من صمت ويرد على أسئلتنا بكلمات تتجاوز عمره «أنا أدبّر حالي!!». ولم نكن نعلم معنى «أن يدبّر نفسه» صبي في التاسعة، يعيش في حديقة من مدينة. دأبَ على استعمال جملته الوحيدة حتى أصبحت جزءًا منه واسمًا له. لا يشكو ولا يسأل، كما لو كان أعاد خلق ذاته وامتلأت ذاته «بذات» تدبّر حالها، ولا تسأل أحدًا.
كان الواضح في الفارعة – وهو لقب فلسطينية في مسرحية سعدالله ونوس: الاغتصاب- عيناها الخرساوان اللتان تخالطهما حمرة واضحة، وكان الواضح في «الصبي الناجي» عزوف عن الكلام وشعور بالكرامة. وكان فيهما معًا ما يثقّف «الإنسان الإلهي»، بلغة نجيب محفوظ في رواية «قلب الليل»، وما يحتفي بذاكرة إنسان لا يخشى الموت بقدر ما يخاف الإهانة.
تقترح الحكايتان مصطلح «تثقيف الذاكرة»، الذي يعني التعلّم من آخرين تعلّموا بالمعاناة وتدريب الروح، أو مصطلح «الذاكرة المثقفة» التي تشير إلى إنسان علّمته تجربته أن يسكن حبسه ويجعله متراسًا. واظب الصبي «أنا أتدبّر حالي» على الظهور في «الحديقة» طويلًا، ثم اختفى، إلى أن ظهرت صورته على غلاف المجلة الفرنسية «الأكسبرس»، كان مع «حطّته الفلسطينية» ووجهه الهادئ، واقفًا، ولكن بساق واحدة. جعلت منه المجلة موضوعًا للحصار والعذاب، ورأيت فيه نموذجًا للذاكرة المقاتلة، فلولا ذاكرته، التي تسأل عن الأسباب وتزهد بالنتيجة، لما وقف من جديد، ولولا وقوفه الشجاع المتكرّر، لما علّم غيره شيئًا. أكّدت وقفته أن روح الإنسان من ذاكرته، وأن ذاكرته معركة، قد تمتلك اللحظة أو يبددها الزمن.
في مكتب من مكاتب إعلام المقاومة الفلسطينية في بيروت، وقبل الخروج منها في خريف 1982م، كان هناك إعلاميٌّ يحسن الكلام بالعربية والإنجليزية ويتحدّث عن «عملية جديدة»، وعن شهيد، استلقى على «ملصق» جميل حسن الطباعة. في أسفل الدرج وعلى مقربة من الباب الخارجي، كان يقف عجوز صامتًا ينظر إلى الملصق، ولا يطلب شيئًا حين سُئل العجوز عما يريد قال: نسخة واحدة من هذا الملصق، وانتزع جملة أخرى من حَلْقِهِ وقال: أنا والد الشهيد.
حين كنت ألتقي الفنان الفلسطيني ناجي العلي، في مكتبه في جريدة السفير البيروتية، ليلًا، كان يقول: «أولاد الشليتة لا يريدون لنا الحياة، ولكننا». وكان المرحوم سعدالله ونوس الذي عمل مدة في الجريدة، يضحك: إذا كنت شاطر عدّ لي عشرة من أولاد الشليتة!!
خرائط متنقلة
كان عمّنا الأكبر يدعى «ذاكرة العائلة»، طويلًا نحيلًا بشوشًا، واسع الذكريات. محملًا بحكايات «من أيام زمان»، يذكر حيفا أيام الشباب، عاش فيها زمنًا، ويتكلّم بفرح عن فنانين مصريين زاروا المدينة، مثل أم كلثوم وعبدالوهاب ويوسف وهبي، الذي حضر عرض فلمه «ليلة ممطرة». وكان يسهب في الكلام وهو يفرد أمامه ورقة خضراء متهدمة الأطراف، تشهد أن له أسهمًا من سينما «الحمراء». حين كنا نسأله عن الحدود التي بلغتها العائلة في متاهة الغربة كان يقول: ما من مكان استطعنا الوصول إليه إلا وتركنا فيه قبورًا، دفنا قريبًا، بعد الخروج، في صور، وآخر هدَّه مرض خبيث في بيروت، وشابٌّ ذهب إلى السعودية وصرعه مرض القلب، ومهندس اختفى في العراق في ظروف غامضة، وكان لنا قريب «عافنا»، بعد الطوفان، وارتحل إلى اليونان وغابت أخباره. وكانت له جملته الأثيرة: «على الإنسان أن يموت بلا بهدلة». حين اقترب من الخامسة والتسعين عاف جسده الطعام، ورحل سريعًا بكرامة.
لو بقي على قيد الحياة وسألته: ماذا لو زرت قبور الآخرين؟ لانفجر من الضحك وسألني: هل تعرف أسماءهم؟ فالاسم هوية وملكية غالية، والقبور خرائط وخرائطنا متنقلة. وكانت تلك الخرائط مثقلة بالمفارقات، تستهلّ باتجاه مرغوب، وتنغلق على اتجاه صادم، يمزّق الرغبات في الطريق، أو يبدأ بتمزيقها قبل المسير.
سألت الناقد المصري الكريم محمود أمين العالم في تسعينيات القرن الماضي، عن قبر خليل السكاكيني، الذي انتخب عضوًا في المجمع اللغوي في القاهرة عام 1948م، أجاب: «مات من زمان، سنبحث عنه». كان البحث صعبًا عن قبر اللغوي الفلسطيني المقدسي، الذي كان يقول: «لو ترك الناس القدس جميعًا، لبقيت فيها وحدي»، مرددًا في سره: «إن مقبرة البطل هي مهد الشعب». جاءت ساعة النكبة، وكان المربي الشهير ينوء بثقل العمر (1878 – 1953م) ورعب مرض ابنه الوحيد، فترك القدس في اللحظة الأخيرة ولجأ إلى القاهرة، مبتعدًا من «مهد الروح» إلى قبر لم يتوقعه.
علّمني شعوري، بعد النكبة، أن أفصل بين الموت المكتمل، الذي يقع على فرد بعيد من العائلة، لن نزور قبره، والموت الناقص الذي يحسم فردًا قريبًا منا، ونزور قبره حين نشاء، كما لو كان في القبر القريب بعض من صفات الراحل وأصداء ضحكاته. وكان الموت المكتمل يتفوّق دائمًا على الموت الناقص، موكلًا إلى «ذاكرة العائلة» أن تستدرك النقص، من دون أن تجعل زيارة القبور متاحة. غير أن صورة الموت المكتمل صدمتني، حين علمت العائلة، بعد عشر سنوات من النكبة، أن عمتي الوحيدة التي رفضت الرحيل وتمسّكت بحيفا، قد رحلت. وسألت نفسي: كيف يكون موتها كاملًا، وهي لم تغادر الوطن؟ جاء الجواب سهلًا: ما ينطبق على غير الفلسطينيين لا ينطبق على الفلسطينيين، الذين يرون في زيارة القبور فعلًا يعبِّر عن الوفاء، ومجابهة النسيان.
ماذا لو زرت قبور الأقربين؟ السؤال مشروع وإمكانية تحقيقه تحتاج إلى معجزة.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مارس 1, 2018 | سيرة ذاتية
وكل غريب للغريب نسيب. قال أبو حيّان التوحيدي، الذي كان غريبًا بين الغرباء.
عرف الصبي اللاجئ أنه مختلف، حين طلب المعلّم من التلاميذ الغرباء أن يرفعوا أصابعهم، وأدرك حقيقة الغرباء، وهو ينصت إلى حكاياتهم المسائية في غرف مستأجرة، ويعيش أقدارهم المتحوّلة إلى حكايات. سأذكر لاحقًا تناسل الحكايات التي تأتي بها الحياة المتغيّرة، وتعمل «النظريات الأدبية» على معالجتها بصيغ ثابتة.
كنا في تلك البلدة المعلّقة في الفضاء غرباء، لم يتوقعوا ما وصلوا إليه، وأنسباء جاؤوا من قرى الجليل المتجاورة، الغريبة الأسماء حينًا: الجاعونة، فرْعِم، المغار، الجِشّ، والأليفة الأسماء حينًا آخر: عين الزيتون، التي اسمها يدل على ما فيها، والصفصاف بنساء جميلات تقصدهن القرى المجاورة، ولوبيه التي اعتقد أهلها أن كثرة سكانها تجعلها مدينة. وكثيرًا ما تصوّرت هؤلاء الغرباء بشرًا حُشروا في موقع ضيق مرتفع، يدفعهم خارجه، يسقطون أو يتعلقون بالهواء.
كان النهار المدرسي يأتينا بألقاب غير مستحبة وبحكايات صادمة، في انتظار أمسيات الغرباء، التي يحتشدون فيها كبارًا وصغارًا، وينشرون حكايات عن ماضٍ قريب، مدركين، أن في استذكار الماضي استراحة للغريب. كنت أنصت إلى ما يقال تاركًا تأويل الحكايات لأزمنة قادمة. كانوا في أمسياتهم، التي تقصّر المسافة بين الأعمار والقرى، يتسامرون ويتصايحون ويتشاكسون ويتآيسون ويتضاحكون، إلى أن ينطق واحد منهم، لا تنقصه «الفخامة الكاذبة»: سترى. لا يلبث أن يعطفها على كلمات عن الحرب والعرب والعودة، وعن عدالة تستقدمها المآثر العربية. كنت أغفو وأتوزع على غموض خانق وأستدفئ، بالغرباء المتكوّمين في الغرفة وبصراخ أطفالهم. كانت أمي، في ساعات الفراغ، تسخر من الرجل وفخامته الفارغة، وتستعمل «سترى» بأشكال مختلفة. وكانت هناك عجوز مجللة بالسواد، تستخف بالرجل وكلمته وتقول صارخة: رأينا الرحيل والبيوت المشتعلة وعساكر اليهود وشبابًا يموتون، ولن نرى أسوأ مما رأيناه، ولا حاجة بنا إلى «ستراكم» الكريمة.
مواجهة الغربة بحكايات عن الوطن
كان المجتمعون مساءً يواجهون غربتهم بحكايات عن الوطن ويختمون قصصهم المتنوعة بصوت أقرب إلى الدعاء: «سقا الله»، حيث قطر السماء وحضور الله وأعين تقول ولا تقول، ونظرات يكسوها الابتسام إلى «أسعد» الشاب الضامر، الذي ينتسب إلى عائلة «سقا الله» الفلسطينية. كانوا يستنجدون، في غرفة ضاقت بهم، بما يتذكرونه، والذاكرة سجل الروح، ويتركون لأيامهم الحزينة القادمة حكايات لم تولد بعد.
الشاعر، الذي لم يكن شاعرًا، هو أول الحكايات الحزينة. كان يسبقه صوته ويأتي البيوت نهارًا، فارع الطول مكتحل العينين، حليق الذقن، خمسينيًّا لا يذكر ولدًا ولا زوجة، أنيق اللباس بكوفية وعقال و«قمباز» رمادي وحزام أسود عريض، وله صوت جهير. يفترش الأرض ويُخرج من جيب داخلي مجموعة أوراق، ومن جيب خارجي صغير قلم «كوبيا»، يمر عليه بلسانه ويدقق الكلمات، ويستهل قوله بغضب: «باعوا البلاد واشتروا كراسيَّهم»، ويضيف ما يضيف ويكرّر استهلاله، إلى أن يتعب ويطلب كأسًا من الماء، ويعيد الأوراق إلى جيبه ولا ينظر في وجه أحد. وما أن ينظر إلى الأعلى ويقول: «فلسطين بوابة السماء»، حتى يكون خارج البيت. كانت الغرف لا تتسع لغضبه الكسير. أقلع «أبو محمود»، هكذا كان يدعى، فجأة، عن زيارة الآخرين، وغاب وأصابهم الفضول، وعثروا عليه.
غرفة ضيقة، عارية من الأثاث، على جدارها صورة «عبدالقادر الحسيني»، افترشت أرضها أوراق وكتب، تتدلى من سقفها جثة هائلة، مال رأسها إلى اليمين، التف حول العنق حبل، وعينان مفتوحتان ولسان لم تفلح الكوفية في حجبه. شنق أبو محمود نفسَه، وترك وراءه غضبًا وقصيدة لن تكتمل. أنقذ الرجل ماضيه من بؤس حاضره، وأنقذ صوته من صراخ لن يفضي إلى مكان. كنا حين نمر أمام داره، بعد رحيله، نختنق بالأسئلة ونشعر أن للموت رائحة بيضاء. أراد الغاضب اليائس أن يرسم معاناتنا، وعانى وهو يرسمها، فحمل أوراقه ومعاناته وآثر الرحيل.
ما زلت أذكره، بعد عقود، واقفًا كشجرة، وأراه شجرة التهمها الحريق.
ورث الغرباء عن «الشاعر» حكايته وورّثوا غيرهم حكايات لا تنسى. كان هناك ذلك القصير الأكرش، الصغير العينين، المتضاحك إلى حدود السذاجة، الذي فاجأ معارفه بجمل ضاحكة: «عن قريب أرجع غنيًّا كما كنت، وعن قريب أعيش كما أريد أن أعيش»، إلى أن يصل إلى جملة عاقلة «الفقر مع الغربة لا يحتمل» و«الفقر مع الغربة غربة أخرى أشد وجعًا». كان يتكلّم عن ماشية عديدة، تركها في البلاد، أودعها عند بدوي من «عرب الهيب» المعروفين بالشهامة، كما يقول، وما عليه إلا أن يعثر على «دليل» يصحبه ويعود به، مقابل مكافأة. والتقى دليلَه المنتظر، وخرج ولم يعد. افتقده الناس أسابيع، وعثروا أخيرًا على جثة منتفخة تحت أشجار الصبّار، قرب «خطوط الهدنة»، كما كان يقال، جثة يصعب التعرّف عليها، لولا قامته القصيرة وكوفيته الفلسطينية. قال البعض: قتله اليهود، وقال آخرون: قتله الدليل واحتفظ بالماشية.
كانت مهنة «الدليل» ذائعة في تلك الأيام، تتيح لأهل القرى القريبة أن يتسللوا إلى بيوتهم وأن يعودوا منها بحوائج قليلة. بعضهم تصيبه رصاصة في الذهاب، فإن أخطأته أصابتة في الإياب، وأحيانًا كان البعض يرجع فرحًا بأشياء «سرقها» من بيته. كانت بين البلدة السورية و«الجليل الفلسطيني الأعلى» مسافة قصيرة، توهم الغرباء أنهم «جيران» لبيوتهم الماضية.
عبدالقادر الحسيني
ميراث لا يخدع صاحبه
اقتنع الفلسطيني الذي تفسّخت جثته تحت أشجار الصبار، أن ما كانه في البلاد يمكن أن يعود إليه في الغربة، وأن «الميراث» لا يخدع صاحبه. ناسيًا أن الماشية لا تصنع وطنًا، وأن الحلم بحاجة إلى مستقر. ولم يكن من حق الغرباء الاستقرار. بكاه معارفه، وبكاه خاله «المختار»، الذي كان بحاجة إلى من يبكيه. وكان الفلسطينيون في ذاك الزمان، وما تلاه، يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه ويموتون أكثر إن هجسوا بعبدالقادر الحسيني المقاتل الذي درس الكيمياء في الجامعة الأميركية في القاهرة، واستشهد على حدود القدس، وأعطى صورة واسعة عن مثقف مختلف. وكان اللاجئون أحيانًا يقعون في الغفلة، ويظنون أن ذكرى الوطن تنوب عنه، حال «المختار» الطريف الذي أدمن التجوال مساءً في البلدة السورية.
على قارعة الذاكرة، وفي زاوية من زواياها الشاحبة، أذكر «المختار» يمشي في المساء متباطئًا، سُبْحتُه في يمينه، مسربلًا بالبياض، الكوفية البيضاء و«القمباز» أبيض، والحذاء أبيض، يسايره آخر، يساويه في القصر والبياض، وإن كان بلا سُبْحة. يسيران وحيديْن، أحدهما يحرك يديه ويرفع صوته، والآخر ساكن بلا صوت ولا حركة. كانا شقيقين عقيميْن، ولكل منهما زوجات ثلاث، ولا يختلطان بأحد. ما لا أنساه صوت المختار الراعد المزلزل الذي انفجر في صبي منا، حيّاه وأراد أن يصافحه وتراجع أمام صوت المختار المدويّ: «الناس مقامات يا غبي، لا أسلّم إلا على من هو جدير بالسلام، ولا يسلّم عليّ إلا من يعرف معنى «المخْترة». كان يظن أنه من «زعامات البلاد»، كما كان يقال، لا فرق إن كانت في الوطن أو خارجه ويصرخ عاليًا: «أنا المختار يا صبي، كيف سترجعون إلى البلاد إن لم تحترموا مخاتيركم…». كان سجين أوهامه وحبيس ذاكرة مغلقة، تهجس بالمراتب في منفى ساوى بين الفلسطينيين والانكسار. عرفت بعد سنين أن المختار، الذي أصيب بالشلل، كان من «الهيئة العربية العليا»، ذات الصلة الوثيقة بالحاج أمين الحسيني، الذي كان الأهل، قبل اللجوء، يحتفون به مرددين: «الحاج أمين الحسيني إياك تلين، لا تخلي ولا يهودي في فلسطين». وظلّوا يردّدون هتافهم حتى أصبح اليهود أسياد فلسطين.
كانت حكاياتنا تصل إلى معلّم المدرسة، الذي كان معلمًا ومديرًا ومفتشًا ومسؤولًا عن ضبط التلاميذ ونظافة المدرسة. قال لنا بعد أن شنق «الشاعر» نفسه بصوت حزين: إنها جائحة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا، وإن كنا قرّبنا المعنى تقريبًا ولذنا بالصمت. وبعد رحيل «الواهم القصير» قال من جديد: إنها نائبة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا أيضًا. حدّق فينا وقال بمحبة: عليكم أن تجتهدوا في الإملاء، فلغتنا مقدّسة، وفي حفظ التاريخ… وقال أشياء عن «جيش الإنقاذ» الذي سينقذ فلسطين ويهزم اليهود. كنا نحن الصغار نفرح بكلماته، ونرى فيها سرًّا وبشارة، ونهرع بها إلى أهلنا فرحين.
جيش الإنقاذ
الحاضر لحظة ملتبسة
أمّا الأهل فكانوا يستمعون إلى كل شيء ويعودون إلى ماضيهم القريب، كما لو كان الماضي، كما سأعرف لاحقًا، زمنهم الحقيقي الوحيد. كان الماضي عندهم ما مضى وتقدّس ببعده، والحاضر لحظة ملتبسة لا يعوّل عليها، نصفها في الماضي ونصفها الآخر أضاع الطريق، والمستقبل هو الماضي المستعاد، كما يقول الرومانسيون، الذين آمنوا بأن «الحلم قوة»، وأن قوة الأحلام تستحضر المرغوب وتمدّه بالقوام. ولم يكن حلمنا الفلسطيني في تلك الأيام، إلا «سترى» الشهيرة، التي هي مزيج من الأمل والأسرار وعقيدة تؤمن «بأن الحق يعود إلى أصحابه».
سأعرف، في المستقبل الذي جاء كما أراد، أنّ المطلوب معرفة الماضي وعدم الإقامة فيه، فمن دونه يضطرب الطريق إلى المستقبل، والإقامة الطويلة فيه تزيد الطريق اضطرابًا وتلغي المستقبل. أدمن الفلسطينيون، بعد النكبة، الإقامة في الماضي وتوليد الحكايات، ولم يتكيّفوا مع ما وصلوا إليه، وشهدوا حكايات جديدة. وكان عليهم أن يصالحوا بين ما كان وما استجد، دون أن يصلوا إلى حكاية أخيرة.
وكثيرًا ما كان اللاجئون، في لقاءاتهم اليومية، يراهنون على العودة القادمة، بل يحددون السنة والشهر، ويعتبرون اللجوء رحلة عابرة أو اختبارًا ابتلى به الله المؤمنين. وعلى خلاف المتكئين على خيوط الأمل و«جيش الإنقاذ»، وله حكاياته العجيبة، كان المعلّم المقدسي القديم، الذي التحق بنا متأخرًا، يكتفي بالنظر، ويخرج عن صمته إن تصايح «المتراهنون» واقتربوا من الشجار.
غسان كنفاني
كان يستعمل كلمة «الحمقى»، ويدخل بصوت بطيء إلى «أيام الثورة» (1936 – 1939م) ويتحدث عن العنف الإنجليزي الذي كان يحرق قرية، إن انطلقت منها رصاصة ويقضي بالسجن عشر سنوات على قروي معه «سكين» ويصرخ غاضبًا: «إذا كان الإنجليز مستعدين لحرق ما كان يهدد الحلم اليهودي، فكيف سنرجع إلى «البلاد» ونحن الآن في المنفى؟ وإذا كان عساكر اليهود قتلوا بدم بارد أهل «دير ياسين» فبماذا نعود وهل يرضى «جيش الإنقاذ» بعودتنا؟ كان فيه، كما تصورت، لاحقًا، شيء من معلّم غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، الذي مات على المتراس.
كانت أحاديث اللاجئين تدور حول فردوس مفقود قريب من حال «آدم» الذي غلبه الشيطان وطُرد من الجنة وأنقذه العفو الإلهي من ضلال طويل.
تتحدث كتب الفلسفة عن الزمن في وحداته الثلاث: ماضٍ ومستقبل وحاضر ملتبس. استولد الفلسطينيون، بعد النكبة، ماضيًا يمحو ما عداه، يستهلك الحاضر ويعيّن ذاته أفقًا للزمن الآتي الذي هو ماضٍ مستعاد. ذلك أن الماضي في ذاكرة المغلوبين زمن أصيل مبارك، تخضع له جميع الأزمنة، ينصر ذاته بذاته، كما تقول الأساطير. كان اللاجئون يستعيدونه ويقولون: سقا الله، ويصطنعون الأمل هاتفين: «سترى»، التي لم تكشف عن حقيقتها حتى اليوم.
استهلكت حكايات الغرباء المتوالدة سنوات ثلاث: 1948 – 1951م.