«مدينة أقرب إلى الحلم، لا سلطة تراقب الناس، ولا مخبرون يحفرون في قلوب البشر، ضيقة واسعة، ومحاصرة مفتوحة». كلمات قالها الروائي غالب هلسا، ونحن نمشي في زقاق، قطعت عنه الكهرباء، في مدينة بيروت. كانت الحرب التي عطّلت السلطة لا تزال قائمة، وغالب قادمًا من بغداد التي رُحِّل إليها من القاهرة عام 1976م عاش فيها ثلاث سنوات.
لم أكن التقيت غالبًا، الذي بدا طفلًا كبيرًا، نسي لغته الأولى واعتنق اللهجة المصرية. كنت قرأت روايته الأولى «الضحك» التي ترجم فيها الاغتراب أكثر من مرة، وروايته «الخماسين» التي وصفت معتقلًا سياسيًّا، استجار من التعذيب بالسماء، وأطلق صراخًا نفذ من الجدران والنوافذ ومرّ بساحة السجن وتسلق الهواء مستعطفًا قمرًا ساطعًا في ليلة باردة. لم أكن أذكر غالبًا، قبل أن أراه، وبعد أن رأيته، إلا تذكّرت «سجينه المعذب» الذي ضاقت به الأرض وانفتح على الفضاء. سألته بعد اللقاء عن سجينه، أجاب: عرفته شخصيًّا، خرج من المعتقل ودخل في صمت طويل، لازمه حيث ذهب.
كان لهلسا وجه طفولي مليء، حافظ على قسماته الأولى، وشعر أقرب إلى الحمرة، ومشية مندفعة تصدم الهواء وتتطلع إلى فوق، يدعمها كتفان عريضان يلازمهما، صيفًا وشتاء، معطفٌ لا يتغيّر.. له صوت هادئ لا يرتفع إلا مصادفة، وسيجارة عصية على الانطفاء، وجهه البشوش وجملته الأليفة: «نشرب القهوة معًا!!»، التي تتبعها بعد ابتسامة عابرة، إشارة إلى الروائي الفرنسي أندريه بلزاك، الذي «قتلته أربع مئة ألف فنجان من القهوة»، كما لو كان غالب قاسم بلزاك كتابة الرواية والتآلف مع الموت في آن.
دخل الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة، وحافظ على براءة لا تغيب، وعرف السجن وشغف بالسياسة واختلف إلى منافٍ عربية متعددة، ولم يغادره وجهه الطفولي. ولعل هذه الطفولة المستقرة زرعت فيه محبة للناس وخشية منهم، يؤثر الصمت ويخاصمهم كتابة ويوغل في الخصام ولا يتجاوز الكتابة، حال موقفه من جبرا إبراهيم جبرا وحنا مينة و«أدب المقاومة»، وهو الذي مايز بين «الأدب الثوري» و«الثورة في الأب»؛ إذ الأول شعارات تذوي قبل غروب الشمس وفي الثاني عمل في الأشكال وسجال مع النصوص المبدعة.
غالب هلسا مشاء يوغل في التذكار
غالب هلسا
كان في تجواله الطويل، وهو مشّاء بامتياز، يوغل في التذكار، يبدأ بماعين حيث ولد عام 1932م، ويتوقف ويذكر أمه بجملة مبتورة، ويمر على امرأة جميلة العينين، لاعبته طفلًا، وغازلها شابًّا، وحلم بها كهلًا، كأنها امرأة الأحلام يراها القلب ولا تبصرها العينان. وقد يوغل في الحديث عن بيت مهجور عبث فيه صبيًّا، ويمر على بائع مصري بسيط يساهر النيل ويسهر معه غالب ويتساهران مستذكرين فتاة جامعية تجلس نهارًا وحيدة على شاطئ النيل، ربما كان في الفتاة المستوحدة شيء من شخصية «نادية»، التي داعبها في روايته «الضحك».
أفسح للذكريات مكانًا في روايته «البكاء على الأطلال»، واستدعى في مجموعته «وديع والقديسة ميلادة وآخرون» طفلًا فضوليًّا يمتعه الكلام ويتأذى من الصمت. كان يبدو، إن بسط يديه على ركبتيه ونظر إلى البعيد، إنسانًا من ذكريات يحلم بما كان ويجعل حاضره حضنًا لما تولّى مناجيًا «سلطانة»، عنوان روايته الأثيرة، الشابة الفاتنة التي تصد الزمن. كان يمشي معنا ويعد بأنه سيعيش «مئة وعشرين عامًا»، وهو الذي لم يبلغ الستين، توفي في 18/12/1989م. ربما عذوبة الذكريات هي التي دعته إلى أن يقول بشجن ذات مرة: حين أرجع إلى أمي أصبح شابًّا.
ومع أن الذي تسكنه طفولته يرغب عن المخاطرة، كان غالبًا عاشقًا لمواقع الخطر مؤمنًا، ربما، أن الموت لا يحسم الأطفال. كان يمر ببيتي، خلال الهجوم الإسرائيلي الواسع على بيروت صيف 1982م، في عز الظهيرة، مرتديًا معطفه، يمسح عرقه ويطلب ماء ويردّد بلهجته المصرية: الطقس حرّ قوي. إذا سألته: أين كان؟ استكمل عفويته، وأجاب: «أتفقد الشوارع، فارغة تمامًا، خوفًا من الطائرات»، ويتهيأ للخروج قائلًا: «أريد أن أتفقد الرفاق المرابطين على البحر». وكان رفاقه «شعراء» مقاتلين، لا يعرفون عن السلاح إلى القليل، اختاروا هامش الحياة وندّدوا «بالقيادة الرسمية»، أشرف معهم على «مجلة الرصيف» التي تثني على الحرية وتسخر من الانصياع. لست أدري إن كان يتفقّد أمكنة الخطر أم يفتقد طمأنينة تساوي بين الحياة والموت. والأرجح أنه كان يحدّق في الطائرات المغيرة ويحاور قلبه هازئًا بعالم آثم لا سبيل إلى إصلاحه.
المنفى يسلب غائب طعمة سهولة الكلام
غائب طعمة فرمان
ما ذكرتُ غالبًا إلا وذكرت روائيًّا عراقيًّا أَلِفَ البساطة والمنفى يُدعَى: غائب طعمة فرمان. حين زار بيروت عام 1981م أردنا، أنا وسعد الله ونوس، أن نجري معه مقابلة لصحيفة السفير كان سعد الله مسؤولًا عن قسمها الأدبي، فوجئ الرجل وقال مدهوشًا: «مقابلة معي، معي أنا، هل أنا جدير بلقاء أدبي، ناقد ومسرحي كبير؟». التف بأعضائه وبدا خجلًا، كأنه لم يكتب رواية: «النخلة والجيران»، التي حظيت بتقدير كبير، قبل زمن، ولا رواية «خمسة أصوات»، التي احتفى بها الفلسطيني غسان كنفاني، ولا أنجز ترجمة رائقة لأعمال أنطون تشيخوف وغيره من الأدباء الروس. كان أديبًا حقيقيًّا، تصرفت حياته به ولم يتصرف بها كما أراد، وسلبه المنفى المتواتر سهولة الكلام.
طلب قبل الحوار أكثر من كوب ماء، ومسح نظارته وقال: «جاهز عيني، بس أبغي أن لا تكون الأسئلة صعبة». بدا بأناقته الرسمية عجوزًا يدخل مسابقة لم يتهيّأ لها. سأله أحدنا: كيف تقرأ علاقة الأيديولوجيا ببنية العمل الروائي؟ أذعره السؤال وأجاب بعد حيرة: «أيديولوجيا، أيديولوجيا! أن لا أفهم الكلمات الكبيرة، أكتب ما تهمس بي روحي وأترك قلمي يكتب كما يريد». كان قد أصدر حديثًا عن دار الآداب روايته «ظلال على النافذة»، استعاد فيها بغداد قديمة ورسم «ظلالها»، مدركًا أن المنفى أقام بينها وبينه ستارًا كثيفًا. سأله سعد الله: «كيف تكتب عن مدينة لم ترَها منذ زمن؟» أجاب: لا أصف وجوه البشر وضوضاء الشوارع إنما أكتب، أولًا، عن روح المدينة التي تسكن روحي، وتخاطب الأرواح خاصة أن بعض الذين عرفتهم ما زال على قيد الحياة، ولا يبخل علي بالرسائل والصور. غابت عني أشياء كثيرة، أكتفي اليوم بالشميم». اختلج صوت العراقي الطريد وطلب «ما يبلّ به الريق».
كان الرجل يتذكّر، وقد وهن بصره، يدرك أن مواقع الصبا خالطتها الأطلال، ويسكب على الأطلال ألوانًا معتمة. وكإنسان مرت به غفوة قال: «أكتب عن أصوات بغداد كما استقرت في الذاكرة، لا أتخيل الأطلال، بل عما أرغب أن يظل هناك». نسي، ربما، أن وراء الرغبة المقموعة يتمادى الاغتراب، وأن تصوير العسل لا يجلب الحلاوة إلى الفم. سألته: «كيف تكون روائيًّا واقعيًّا، وتتمسك بماضٍ اجتاحه التحوّل؟». غضب عندها وقال: «إن كل الأدب الكبير أدبٌ عن الزمن المفقود». لكنه ما لبث أن ابتسم مستسلمًا وقال: «ربما لم أعد واقعيًّا، كما كنت، ربما دفعني المنفى إلى واقعية جديدة. انتظرا، على أية حال، روايتي القادمة: «المشتهى والمؤجّل». لم يدرك أن المشتهى هو المؤجّل، وأن المؤجّل يوافيه الأجل قبل أن يصل، وأن الضباب سيكون بطل رواية قادمة دعاها: «المركب».
سألناه عن شخصيات أحبها في روايتين قديمتين «النخلة والجيران» و«القربان». أجاب: «العجوز الخبازة التي توقظ الديكة قبل أن تستيقظ ماتت في الواقع، ولم تمت في الذاكرة»، أما الحائرون في الرواية الثانية فحيرتهم القديمة أهون من حيرتي القائمة. لا يوجد عندي أبطال منتصرون والأدب الصادق موضوعه الخيبة». ترجم كلام «غائب» شقاء منفى متوالد، وضع رغباته خارجه، وطوّح بخارجه إلى مكان مجهول وعبّر، في الحالين، عن اغتراب ينهش جسد الإنسان المغترب. كان غالب هلسا كلما التقى أنثى في بيروت عاجلها بدعوة خجولة: «إيه رأيك في فنجان قهوة»، وكان غائب يشرب قهوته وحيدًا.
الطاهر وطّار
تقاسم غائب وغالب أطيافًا بغدادية وهدوءًا متواضعًا، على خلاف الروائي الجزائري الطاهر وطّار، الذي يبدأ مبتسمًا ويخلّف وراءه رمادًا. التقيت الأخير مع غالب في «دار ابن رشد» ـ كانت في نهاية كورنيش المزرعة ـ لصاحبها السوري سليمان صبح الناحل البشوش الذي ينسى الأسماء ويستعيض عنها جميعًا بكلمة «هذا الواحد». ويطلق ضحكة صاخبة. سلم غالب وانصرف، وترك وطّار يتحدث عن روايته «الحب والموت في الزمن الحراشي»، ويسلم مخطوطته للناشر السوري، ويتابع الحديث بعربية فصحى مبرأة من اللهجة الجزائرية.
قال وطّار: إن روايته الجديدة جزء ثانٍ لروايته: «اللاز» التي حظيت بانتشار واسع، واستكمال لروايتيه: «الحوات والقصر»، وهي أسطورة شعبية و«الزلزال» التي ناصرت «الثورة الزراعية» وانتصرت لها، وامتداد لمجموعته القصصية «الشهداء يعودون هذا الأسبوع». حاورته بعد قراءة روايته الجديدة، بدا ممتلئًا بذاته فخورًا بما أنجز، يتقبّل المديح بمسرّة، ولا يقبل النقد إلا على مضض.
سألته هل يعتبر «اللاز»، ويعني «الآس» عند لاعبي الورق، بطلًا إيجابيًّا، بلغة ذاك الزمان، أجاب مسرعًا: بكل تأكيد. قلت: لكنه لم ينتصر وظهر مهزومًا بين مهزومين، ردّ قائلًا: «إن ما يبدو مهزومًا في لحظة، يرجع منتصرًا بعد حين، ومثال ذلك ظاهر في روايتي «الزلزال»، التي سجّلت انتصار الثورة الزراعية وهزيمة الأعداء الطبقيين هزيمة أخيرة». لم أدرِ، حينها، إن كان يتحدث باسم «حتمية تاريخية مجردة»، أم باسم سلطة سياسية حاكمة، ترى في انتصارها الذاتي نصرًا للجزائريين جميعًا. بدا الروائي مقتنعًا بما يقول، موقظًا في ذهني أسئلة عن الفارق بين الوهم والتخييل، وعن سطوة «الأيديولوجيا الحزبية»، التي تسبغ على المتوهم أبعادًا حقيقية، وتلك الحتمية التي كانت، في ذاك الزمان، «فلوكلورًا» يرضي قدرية فقيرة.
دفعتني «إيمانيّته الذاتية» إلى مواجهته بنرجسيته المفرطة الساخرة في روايته إلى جانب «الحب والموت في الزمن الحرّاشي»، التي كتب فيها أن «التاريخ سيعطي اسمه مكانًا إلى جانب أراغون وإيلوار وماركس وأنجلس….». قلت له: هذا استكبار لا يجوز، فأجاب محتدًّا: «يجب أن تقرأ روايتي من وجهة نظري، ونظر الجزائريين جميعًا، لا من وجهة نظر برجوازية…». تساءلت في سري حينها: إن كان الانتساب إلى السلطة يفضي إلى العماء؟ وهل في هذا الانتساب ما يمحو المسافة بين روائي ومسؤول بيروقراطي محوّط بالعسكر والعسس؟ وهل هناك من مثقف حقيقي لا تلازمه الكآبة والشعور بالإخفاق؟ بعد إخفاق «الزلزال الوهمي» واقتراب الجزائر من حرب أهلية جاء وطّار برواية جديدة: «الشمعة والدهليز»، خلع فيها تفاؤله واكتفى بضباب الفكر والكتابة.
حيدر حيدر
يُفسد اختراع الواقع النظرَ والكتابةَ، ويملي على المثقف معادلات فاسدة الحلول، ويزيحه من عزلة نبيلة إلى عراء عالي الضجيج، ابتعد منه الروائي السوري حيدر حيدر، الذي عاش في الجزائر وعرف أهلها، وأدرج ما عاش وما عرف في رواية متشائمة المنظور: «وليمة لأعشاب البحر»، أغلقت صفحاتها بوحش أسطوري الأذى يدعى: السلطة القامعة. اختار حيدر، المثقف الساخر العصبي الطباع، أُنس البحر ليلًا، وامتلأ بصمته وضجيجه، وأدرك أن في الصمت حقيقة، وأن الائتلاف معه يستقدم ما هو حقيقي. بعيدًا من الغبطة كان، يلتف بعزلته ويسعى إلى تجويد الكتابة، وينتقل من كتاب إلى آخر موسعًا حواره الذاتي. ويكرر جملة عن الفقد والاغتراب: «ذهب الذين أحبهم، وبقيت مثل السيف فردًا». ولم يكن الفرد الذي يشبه السيف، إلا صديقًا كريمًا وروائيًّا حالمًا يمشي وراء كتابة، لا تشبه غيرها، كما كان يقول.
عاد حيدر، بعد سنوات إلى قريته وبنى مسكنًا بسيطًا على البحر، وعاجل الموت غالب هلسا في دمشق، ودفن غائب فرمان في ضواحي موسكو، واستقر وطّار في أرض بلاده. لكلٍّ كان حلمه وطبعه، والطبائع تتغير، والأحلام تتحوّل إلى أثير.
في ماضٍ ابتعد، كنا نذهب أيام الجمعة إلى بوابة الصالحية في دمشق، نلتقي باعة كتب قديمة، ونتصفح مجلات تفترش الأرصفة. كان صديقي الكردي، الناحل الذي يميل إلى الصمت، يحدق في المجلات طويلًا إلى أن تقفز يده إلى مجلة متقشّفة الغلاف، صفراء الورق كأنها بالية تدعى: الطريق. يخون عندها صمته ويردّد فرحًا: «الشمس تشرق يا رفيق!». ويشتري أعداد المجلة المنزوعة الغلاف، ويهدينا عددًا. أسس هذه المجلة المهندس اللبناني أنطون ثابت 1941م، وحملت على عاتقها الهجوم على الفاشية والدفاع عن الاتحاد السوفييتي وتبني شعار الاشتراكية. وكان يكتب فيها بأسلوب أنيق أديب ذائع الصيت يدعى: رئيف خوري، كان عليه أن يختار عام 1948م بين الولاء لفلسطين ورفض موقف الاتحاد السوفييتي، واختار فسلطين مواجهًا «أممية مفترضة».
حين وصلت بيروت عام 1974م، بحثت عن مكتب مجلة الطريق استقبلني إنسان أنيق متعثّر الكلام، كما لو كان يعتذر عن فعل مسيء لم ينتبه إليه. قال: أنا نزار مروّة «مسؤول المجلة إلى حين»، أعطاني عددًا أخيرًا، قفزت إليه يدي مثلما فعلت يد صديق راحل، ذات مرة. كان الغلاف مختلفًا شكلًا وإخراجًا وورقًا عمّا كان، لا صفرة في أوراقه ولا ما يشير إلى «البلى». تحدث رئيس التحرير «المؤقت» عن انفتاح المجلة على قضايا الأدب والفن والثقافة ودخل، وهو المربِك المرتَبك، إلى عالم الموسيقا العربية والغربية، كما لو كان من أهل الاختصاص. سألته: «هل هناك من موسيقا ملتزمة، وكيف يكون دارسها ملتزمًا؟»، قال: «الفن قيد، وأهم شروط الفن ليس الحرية بل القيد؛ إذ من دون ضوابط ومن دون قواعد لا وجود للفن». لمح في وجهي دهشة، فتابع: «أتحدث عن قيود الصنعة، أما الالتزام الحقيقي فلا يعرف القيود». عرفت لاحقًا أن نزارًا عالِم في الموسيقا، ترك بعد رحيله المبكر دراساتٍ متعددةً، أشرف على إصدارها المفكر السياسي كريم مروّة، الذي بذل جهدًا متواترًا كي تبقى مجلة الطريق على قيد الحياة. وعرفت أيضًا أنه ابن المفكر الشهير حسن مروّة.
حوار القيد والحرية
أعادني حديث نزار مروّة عن حوار القيد والحرية إلى قول الإيطالي أنطونيو غرامشي: «الفن معلم من حيث هو فن لا فن معلم». حين طرحت سؤال دور الأدب والفن على «والد نزار»، بعد أن زرته في بيته أجاب بصوت هامس: «شعاري دائمًا وحدة المعرفة والصالح العام». كان البيت، القريب من «الرملة البيضاء» المحاذية للبحر، مزيجًا من التقشف والأناقة، أخذني إليه محمد دكروب الذي أشرف مع الأستاذ حسين مروّة، في نهاية خمسينيات القرن المنطوي، على مجلة قصيرة العمر، واسعة الأثر عنوانها: «الثقافة الوطنية»، عبّرت عن «توصيات مؤتمر الأدب العربي»، الذي انعقد في دمشق عام 1954م.
حسن مروّة
كان مروّة الأب، حين التقيته المرة الأولى، جاوز السبعين، وراؤه تاريخ كتابي في لبنان والعراق، معتدل القامة وأنيق من غير متكلّف، يضع نظارة طبية، يشي وجهه بعمره، حنون الملامح كعجوز قرويّ كثير الأحفاد، وله دراسات شهيرة عن الواقعية. سألته: «هل يبدأ الأديب من الواقع أم من الواقعية»؟ كان في كلامه البسيط ينفي ما هو أحادي ونهائي، وفي صوته الخفيض ما ينكر الإجابات المغلقة، يتكئ على كلمات مختصرة تستهل بفعل «أظن»، تتبعه ربما، ويتلوها «من الجائز»، ويكملها «من المحتمل…» إلى أن ينفجر محمد دكروب ضاحكًا ويقول: «لعل وعسى أو لعسى»، وينظر إلى نزار مروّة، الذي يتأبط خجله صامتًا، ويقول: «من الأرجح»…. لم يكن هؤلاء المثقفون يؤمنون بالاختلاف، بقدر ما كانوا يردون عن أنفسهم تهمة «الانغلاق»، أو ما كان يدعى: الدوغمائية.
أذكر اليوم عن حسين مروّة الذي اغتاله الفكر المتعصب في ربيع عام 1989م، صفتين: التهذيب الفائق الذي يحض على السلوك المهذب، والتسامح إلى حدود الإحراج، كما لو كان يقول: لا يتعرّف المثقف بثقافته، واسعة كانت أم محدودة، بل بسلوك مثقف. وفعل «ثَقُفَ» يعني صقل بلغة العرب. من حق الأديب الراحل عليَّ أن أسرد حكايتين: نشر في جريدة النداء، في شتاء 1978م، ربما، مقالًا عنوانه: العلم والأدب، فصل فيه بينهما فصلًا متعسفًا، أو فصلًا لم أرضَ عنه، دفعني إلى الرد عليه. كان في ردي شيء من الحقيقة، وكان فيه أكثر أشياء من التطاول والادِّعاء، حمل بعض «الأنصار» على رد عنيف أقرب إلى التنديد. في مقابل ذلك اتصل بي الأستاذ مروّة وقال: «في مقالك طزاجة فكرية جديرة بالحوار والاعتراف». نقدت بعد ذلك، مفهومه للواقعية في دراسة نشرت في مجلة «الكرمل» ـ 1981م – اتصل بي بعدها، وقال: «طلب مني معهد الإنماء العربي دراسة عن الواقعية، واقترحتك بديلًا عني، فأنت تحمل أفكارًا جديدة». تعامل حسين مروّة معي بمعيار الأبوَّة والخبرة والمسؤولية والرضا المرتاح عن الذات. كان قد أنجز كتابه الكبير «النزعات المادية في الإسلام»، الذي أثار حوارًا واسعًا، وأعطاه موقعًا رائدًا في مجاله.
ضوضاء ضاحكة الكلمات
كانت ابتسامته تسبقه إنْ اقترب غدت قهقهةً، فإن وصل أصبحت ضوضاءَ ضاحكة الكلمات، أو «ضحكًا من الروح مليئًا بالعافية»، بلغة رئيف خوري. كان دائم الضحك ومستقر الهموم ويدعى: محمد دكروب. ربطتني به صداقة منذ أن أصبح مسؤولًا عن مجلة الطريق في منتصف السبعينيات الماضية حتى فارقها، أو فارقته. «استكتبني» كثيرًا، مرة بإلحاح ومرات «بالموْنة»، بلغة اللبنانيين. وتآلفت مع نقده وتقويمه وصرت أسأله: «كيف المقالة يا أبونا»، ويجيب: «ستصبح يومًا أبًا لي ولكن أكثر وسامة، ولا أنصحك بالعمل في مجلة فقيرة، فالعمل فيها يكسر الظهر ويرهق العينين».
وُلد محمد دكروب عام 1929م في مدينة صور، وترك المدرسة قبل نهاية المرحلة الابتدائية، وأصبح كاتبًا معروفًا. دعاه أهل بلدته «ابن صور العصامي»، زاول مهنًا عديدة مثابرًا على القراءة، ودعا نفسه وهو يعمل في مجلة الطريق «سمكري الأدب»، يقوم بالقراءة والتصحيح والتنقيح والإخراج ومتابعة المطبعة والاستكتاب ومتابعة مستكتبين «متبرعين»، يلبُّون، «السمكري الأنيس» قبل رسالة مجلته. بدأ حياته «سمكريًّا» في دكان أخيه، يصلح كل شيء ويقرأ في أوقات الفراغ كتب مصلحين أقنعوه برسالة الأدب، سرد حياتهم حين أحسن الكتابة في كتب متعددة: «خمسة روّاد يحاورون العصر، شخصيات وأدوار، الذاكرة والأوراق، وجوه لا تموت»… كان يكتب ويتذكر «وجوهًا» حاورها، لا تبدأ برئيف خوري ولا تنتهي بمهدي عامل، تسعفه رسائل قديمة من زمن «الثقافة الوطنية»، أرسلها إليه: يوسف إدريس ونجيب سرور ومحمود أمين العالم…، ولقاءات مع محمد مهدي الجواهري ولطيفة الزيات وغسان كنفاني و«شعارات حسنة الضوء والقيافة»،… وكثيرًا ما كان يستعيض عن فعل «نلتقي» بفعل «نتياءس»، وكان رغم ضحكه المتدفق محقًّا في يأسه. أدمن على ضحك خارجي وأسًى داخلي حتى رحل عام 2013م.
محمد دكروب
كان مثل كثيرين منا دائم الحديث عن «مشاريع جليلة» قادمة، أجهدته وأرهقت غيره وسقطت في سبات عميق. حدثني أكثر من مرة عن مشاريعه الروائية: «أنا الآن بصدد إكمال رواية بدأها صديقي محمد عيتاني قبل أن يموت»، «وأنا الآن بصدد رواية عن ازدهار وموت ساحة البرج في بيروت»، «وأنا الآن ألملم ذكرياتي في صور في رواية قبل أن تغيب الذاكرة…». كانت وراءه أزمنة واضحة وأمامه زمن من غبار أحنى ظهره وأضعف بصره وأبطأ خطوه، وأبقى أوراقه عن طه حسين قريبة من الشلل. حين كنت أشاكسه عجوزًا سائلًا: «الشمس تشرق يا رفيق؟»، كان يجيب بضحك هامد ويقول «الله يسامحهم». وتظل «هم» الشاكية معلقة في الفضاء. وبقيت هذه المعابثة قائمة بيننا حتى رحل. كانت تطارده قضايا الحياة اليومية، الموزعة على المرض والإحباط، وكان يطاردها بسخرية مريرة.
حكاية وحده بأسمائه الثلاثة
كانت ابتسامة دكروب تحتجب إن مرّ على اسم صديقه مهدي عامل، وجه آخر من وجوه مجلة الطريق ودعاة «ثقافة الصالح العام». كان الأخير حكاية وحده، غريبة مميزة غرابة أسمائه الثلاثة: مهدي يضعه على كتبه ودراساته، وحسن حمدان لتلامذته في الجامعة، وهلال بن زيتون، يوقع به قصائد متأملة يكتبها بعد عناء النهار واعتدال الليل، كما كان يقول. أراد في أسمائه المتعددة أن تكون له أكثر من حياة: حياة لمعرفة نظرية تضبط حركة الكون، وحياة لتلاميذ ثائرين يدفنون القديم، وحياة للورد والأغاني ومؤانسة الأصدقاء. استعاض دكروب عن فعل التقى بفعل تياءس، وجعل مهدي عامل من اللقاء مؤانسة، كما كان يقول، قبل أن تنهي حياته رصاصة أخرى، في مايو 1989م، وهو يركض صباحًا على شاطئ البحر. كان قد جاء إلى دمشق قبل شهرين وشيّع حسين مروة بكلمات مدوِّية: «استنصرته قضيته فنصرها، وسننصر قضيته كما نصرها». ولم ينتصر في النهاية إلا الموت، الذي تسلل إلى حسين مروّة في بيته وسابق مهدي على شاطئ البحر وأخذ مكانه في السباق.
أنجز مهدي دكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، وحمل معه لحية سوداء ورجع إلى بيروت، كتب وساجل وانتقل من اجتماع إلى آخر بلحية رمادية، وخرج بكتاب مقاتل: «نمط الإنتاج الكولونيالي»، وحَّد فيه بين التحررين الوطني والاجتماعي، وآمن «بصناعة التاريخ». كان ممتلئًا بسحر النظرية، التي تشرح الواقع وتروّضه وتعيد صنعه، وتقيم علاقة دافئة بين المثقف الإيماني والتاريخ، كما لو كان الأخير مثقفًا متمردًا بدوره.
مهدي عامل
كأن يأتي قلقًا، يجلس ويمسح نظارته، ويقول بنبرة لبنانية جنوبية: «عندي كلمتيْن»، تتناسلان في حديث طويل ينقد إدوارد سعيد ويعرّج على أدونيس ويثني على صديقه المسرحي الجزائري كاتب ياسين، ويحاور الدكتورة يمنى العيد في قضايا النقد والرواية والأدب ويعد بدراسة شاملة عنها، ويعرض أفكارًا صائبة عن الطائفية والقومية والقضية الفلسطينية وقلق الأسلوب. فإن أجهده الحديث ترك اللغة العربية جانبًا وانزاح إلى فرنسية طليقة، تترجم شعر محمود درويش و«مصائب» حركة التحرر في العالم العربي ويقف، واعدًا، باستثناء الحديث مرة قادمة. ينظر إلينا ضاحكًا ويعتذر عن ضيق الوقت ويدعونا لتناول «الفراكة» في بيته، وهي طعام لبناني جبلي، قوامه برغل، كان يحسنه ويفتخر بإتقانه. سألت مهدي مرة: «هل ستشرق الشمس يا رفيق؟» وكانت الماركسية في أفول فأجاب: «النظرية تقول بذلك ولا تكذب».
حين دخلت مكتب مجلة الطريق للمرة الأولى عرّفني نزار مروة، في نهاية اللقاء، على وافد جديد، متميّز الصوت والنحافة، ضامر الملمح كثيف الشعر يدعى: إلياس شاكر أشرف على «الطريق» ذات مرة، وأشرف عليها في طورها الأخير، في مطلع الألفية الثالثة… قال في لقائي الأول معه: «سأعرفك على تحولات بيروت الثقافية»، وسار معي طويلًا في اللقاء الأخير وقال: «سأعرفك على تحولات بيروت التجارية». بقي كما كان، ثابت النحافة والالتزام، طلب مني دراسة عن رئيف خوري، وقال: احتفظت لك في مكتب المجلة بكتابين جديدين عن «رئيف». وأظن أن هذا الإنسان الرقيق المخلص لنحافته وأفكاره هو الذي أشرف على طباعة كتاب رئيف: «ثورة الفتى العربي»، الذي وجّه تحية إلى ثورة فلسطينية قديمة (1936 – 1939م)، اختنق صوتها بين أصوات أخرى. كان هؤلاء جميعًا، من دكروب إلى حسين مروّة ومهدي عامل، يرون في رئيف نموذجًا للفكر الحر وثبات الموقف، سقطت عليه، في الحقبة الستالينية، تهم كثيرة، رجمت رفيقًا للحقيقة.
تظل الذكريات الحالمة عزيزة على قلوب المهزومين. تعبر هذه الكلمات خاطري كلما تذكرت تلك المجلة المنزوعة الغلاف، التي أخذتها من صديق كردي ذابت عظامه في التراب. بعد غياب طويل عن دمشق، حملتني قدماي إلى بوابة الصالحية، باحثًا عن أطياف وصور وحقائق، نظرت حولي طويلًا، بقيت يدي ساكنة في جيبي، ولم أرَ إلا الأرصفة.
كان أهل بيروت يدعون ذلك المكان الضيق «بالفاكهاني»، والفلسطينيون المشدودون إلى الأمل يسمّونه: «مركز القيادة»، والساخرون منهم يلقون سجائرهم في الفضاء ويقولون: «إمبراطورية الفاكهاني». كنا ندخله من جهة تطلّ على البحر «دوّار الكولا»، ونتجه إلى مكتبة «دار الطليعة»، التي افترشت واجهتها مجلة «دراسات عربية»، وكتب نظرية تمجّد التمرد، وترسل تحيات إلى ثورات منتصرة وأخرى «مغدورة». وعلى مسافة قليلة من المكتبة، كان يقوم «مقرّ الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفسطينيين»، يتردّد عليه مثقفون شباب يتأبطون الأوراق والأفكار، وأدباء عرب انجذبوا إلى شعارات «الإمبراطورية». كان «الزائر»، إن خلّف المكتبة وراءه، يصل إلى مخيم صبرا، بجدرانه الطينية العامرة بالشعارات، وبصور سوداء الأطراف، تحيي شبابًا ذهبوا إلى فلسطين واستقروا في ترابها.
في مقر الاتحاد، وفي ربيع 1975م، قابلت للمرة الأولى الأديب جبرا إبراهيم جبرا، بدعوة من رئيس الاتحاد يحيى يخلف. كان الأديب متوسط القامة، أقرب إلى الطول، بسيط الأناقة، رحب الوسامة، في عينيه لمعان يصرّح بالاختلاف. كنت مرتبكًا محاصرًا بالحرج؛ بسبب دراسة عنوانها: «فلسطيني جبرا بين الوهم والواقع»، نشرتها آنذاك في مجلة «شؤون فلسطينية»، تعاملت مع الروائي بلغة من خشب اختصرها ناقد مغربي بصفة «مشانق الأيديولوجيا».
وقفت منكمشًا مقموع الكلام، متوقعًا جفاءً وتجاهلًا أو عتبًا، غير أن الروائي، الذي ولد في بيت لحم 1920م، فاجأني بضحكة مجلجلة قائلًا: «أنا برجوازي، يا صاحبي، ولا أعرف عن حياة اللاجئين شيئًا؟ خدعتك صوري، ربما، فأنا عشت طفولتي وصباي في «الخُشَش»؛ هل تعرف معنى «الخُشّة»؟ إنها الغرفة الصغيرة البائسة التي تعافها الروح». لم يكن الأديب قد كتب سيرته الذاتية «البئر الأولى»، المستهلة بعائلة فقيرة، تؤويها «خُشّة»، يتلكأ الضوء في الدخول إليها، وتنفذ الشمس إليها على استحياء، ويجتاح المطر سقفها ويجبر قاطنيها على الانزواء في الزوايا. «أنا برجوازي يا صاحبي؟». وضع جبرا الجملة في وجهي، مازجًا بين الضحك والحقيقة.
جبرا إبراهيم جبرا
بعد أن غادرنا المكان وغادرني الإحراج سألت جبرا: «ألا تعتقد أن أبطالك الروائيين بطل واحد، يتشبّهون بك أو ترسمهم على صورتك؟» طلب سيجارة ومشى متمهلًا وأجاب بابتسامة لا تفارق وجهه: «إنني لا أحاكي أبطال رواياتي، هم ربما يقلدونني»، وتابع: «الإنسان في النهاية محصلة حياته: نحن الرومانسيين، وأنا رومانسي، نقلّد آباءنا ويقلدنا أبناؤنا. وعلمتني الحياة أن أكتب ما أنا…» أقنعتني ابتسامته أكثر من كلماته. وسألته: لماذا يلتبس بطلك الروائي بالإنسان الكامل، يسعى إليه الانتصار قبل أن يسعى إلى الانتصار؟ غادرته ابتسامته، وقال:«اسمع، الفلسطيني محاصر في الوطن والمنفى، عدوّه قادر وأنصار عدوّه أكثر قدرة، وعيشه حيثما كان لا تسامح فيه. كيف سيقاتل هذا الفلسطيني، المتروك لأقداره، إن لم يكن إنسانًا يمتد من القدس إلى السماء، وكيف سيرجع إلى فلسطين إن لم يكن مزيجًا، غير مسبوق، من صفات الأنبياء ومزايا الإنسان المتفوق؟». قلت متباطئًا: هذا بطل تجود به الأحلام، لا الواقع، أجاب حاسمًا: لا أعتقد. رأيت في جبرا، الذي سألتقيه مرات في مدينة عمّان، التواضع الأنيق وجمالية التسامح والاحتفاء بمسرات الحياة البسيطة، حال مطر يهمي في الربيع، وأنثى جميلة العينين تلتفت إلى الوراء. لم أستطع أن أقنع نفسي بإيمانيّته المحدثة عن فلسطيني يشبه الأنبياء، وقدس لا تتخلّى عن أهلها، وقرأت روايته «السفينة» عدة مرات.
أذكر منه حديثه الدامع عن «كلية النجاح» في القدس، حيث الأساتذة مرايا لبطله «وليد مسعود»، لا تنقصهم الوسامة والأناقة وسرعة البديهة، ولا الكلام الهادئ الذي يروّض ما يبدو صعبًا. كان معه في الكلية تلميذان، لهما عمره تقريبًا، أحدهما بارع في الرياضيات اسمه إميل حبيبي، سيجذبه الأدب ويشهره «متشائله»، العمل الروائي الساخر الأقرب إلى الفرادة في الأدب العربي الحديث، وثانيهما الدكتور إحسان عباس، الذي أصبح ناقدًا ومؤرخًا مرموقًا للأدب، وأشهرته ترجمته لرواية هنري ميلفل:«موبي ديك».
قوي البنية أقرب إلى قصر
لم ألتقِ الدكتور عباسًا في مقرّ الاتحاد، همس لي أحدهم مرة أنه لم يفز في انتخابات «الاتحاد» الأولى، فأقلع عن المحاولة. كان في الهمس كلام مريض لا يليق بمؤرخ للأدب. زرته في منزله القريب من «حديقة الصنايع». كان آنذاك رئيس قسم اللغة والأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت. قوي البنية أقرب إلى القصر، أشقر الشعر مضيء الوجه. إنسان ذهبي اللون أقرب إلى الحمرة، كما وصفه صديق محبّ. بشوش له قهقهة كأنها صهيل، تلازمه بديهة سريعة تداخلها سخرية فرحة، لا تؤذي أحدًا.
بدا وهو جالس في غرفة عمله إنسانًا من كتب، باحثًا جلودًا يأنس إلى مخطوطات قديمة، ويسائل كتبًا لم تصل بعد. سألته: لماذا اختار الأدب مهنة ورفيقًا في الحياة؟ قال متمهلًا: «الأدب الحقيقي يغسل الروح، واللغة البليغة تنفذ إلى القلب والعقل. ترجمتُ «موبي ديك»؛ لأنها تتسع لكل هذا وتزيد، وترجمتها أيضًا لأنها رسمت بحذق بالغ ربّانًا عصابيًّا مستبدًا قاد بحّارته إلى الهلاك». تابع: «كانت ترجمة الرواية إجهادًا ممتعًا، أتاح لي أن أقرأ ثراء اللغة العربية في مرآة رواية أميركية، وأن أنظر إلى بلاغة الإنجليزية في مرآة اللغة العربية».
إنجازه الكبير الثاني، قبل ترجمة ميلفل أو بعدها، كان كتابه الجامع: «تاريخ النقد الأدبي عند العرب»، حين سألته عنه ابتسم، وقال: «سأعطيك سرًّا. بعد جهدي البحثي الطويل وجدت أن العرب لا نقد لديهم. بل إن صميم كتابي كشف عن ذلك…». قلت: كيف وأنت العارف بتاريخ الأدب العربي كله؟ أجاب سريعًا: «لم يعرف العرب الفلسفة، أو لم يعترفوا بها. ولا نقد من دون نظر فلسفي معه».
إحسان عباس
كنت أعرف أن كنفاني كان مقرّبًا إليه، فسألته ما مواقع القوة في شخصية غسان ومواطن ضعفه؟ قال بعد أن شرد قليلًا: «قوته في قلقه المسؤول، وكان ضعفه في اندفاعه وراء كل جديد. حين أعطاني «رجال في الشمس»، قبل طباعتها، شعرت بالرضا وقدمت ملاحظات قليلة. رد على ملاحظاتي بصمته وحمل روايته ومضى. عاد بعد أسبوعين بقلق مستريح، وقرأت الرواية من جديد، ولم أجد ما أقوله. رأى غسان في الكتابة، من البداية قضية حياته، وعطفها على قضيته الوطنية، وهجس بأدب يخص الفلسطينيين دون غيرهم، فما عرفوه لم يعرفه غيرهم. كان إنسانًا من أعصاب ونباهة وتعب، ورغبة في بناء أدب يختلف عن المألوف….، هجس بأدبه القادم طويلًا وبحث عن أدوات تصيّره واقعًا…».
أذكر الدكتور إحسان، اليوم، عجوزًا نبيلًا جالسًا في شرفة ضيقة في عمّان، بشوشًا، علا وجهه التعب، يترجم خفقان عينيه ما لا يريد قوله، وقد اطمأن إلى وصف غريب: «أنا جوّال في جغرافيا المعرفة، نظرت هنا وهناك سريعًا، وانتظرت لحظة موائمة لم تأتِ». كان في كلامه تواضع وتعب وزهد صريح، وهو الذي أثرى المكتبة العربية وختم حياته بسيرة ذاتية «غربة الراعي»، يضيء عنوانها روحه الجميلة المتقشفة، تحدث فيها عن «رموز الأمان» في قريته الفلسطينية «عين غزال».
المؤمن بصراع الطبقات
الفلسطيني الثالث: الذي ألتقيته في بيروت: معين بسيسو، الشاعر والمسرحي والإعلامي، المؤمن «بصراع الطبقات» وباقتراب «المدينة الفاضلة». صادفته قرب «اتحاد الكتّاب» في يوم مطير، ألجأني إلى زاوية تعصم من البلل. جاءني صوته خشنًا غزّاويّ اللهجة: «أين أنت يا خال، لا نراك إلا صدفة؟». كان يقف جانبي، واسع الطول، تناثر شعره الغزير على جبهته، زاده معطفه الرمادي الطويل طولًا، رفع شعره المبتل وقال: «بيتي قريب».
أشهره، مبكرًا، كفاحه الوطني في غزة. كان يقود، وهو المنتمي إلى عائلة عريقة، مظاهرات في السابعة عشرة من عمره، يوزّع الهتافات وينشد قصائد تحريضية جمعها، لاحقًا، في ديوانه: «الأشجار تموت واقفة»، استلهم عنوانه من بابلو نيرودا أو ناظم حكمت، أو من هؤلاء الذين «أسسوا القصيدة المقاتلة»، كما كان يقول. ووطّد شهرته بترحال قسري أخذه من غزة إلى القاهرة، حيث عرف «السجن الناصري»، ومن الأخيرة إلى بغداد، فغزة من جديد، والكويت فدمشق فبيروت، وأكثر من سفر إلى موسكو أنهاه بكتاب غريب العنوان: «الاتحاد السوفييتي لي».
تخيلته وقد غسله المطر قامة ـ شجرة أوراقها التحدي والكلمات الغريبة، يقول صارخًا: «إن لم تقلها تَمُتْ، وإن قلتها مُتّ، قُلْها وَمُتْ». بعد الوصول إلى بيته قال ممازحًا: «أنت على مائدتي، والشعراء يستضيفون الإنسانية على موائدهم، تفعل ما أفعل، والشاعر لا يعصي كلامه أحد». كشف عن كرم جاوز حدّه، وعن قهر مكتوم وروح بعيدة من الرضا، تريد عالمًا آخر. مات في لندن، بعد أن غادر بيروت مع غيره في خريف 1982م موتًا غامضًا، ولم يبلغ الستين. تساءلت وأنا أرصد حركاته إن كان غضبه قاده إلى الشعر، أم إن صورة الشاعر في وجدانه توقظ الغضب وحسًّا بالكبرياء. سألته: ما معنى الشاعر عند معين بسيسو، فأجاب: «الشعر نور العالم من دونه تصبح البشرية عمياء»، وأكمل «الشاعر حامل الحقيقة يمقتها الجلّادون والمتكسّبون والعملاء والمتاجرون ببلاغتهم»، «هو صوت الشعب النقي ورفيق المطر وأنيس حقول البرتقال…».
معين بسيسو
بعد أن كسا وجهه رضا طارئ استظهر كلامًا أقرب إلى الشعارات: «إن الشعراء من عائلة واحدة، وإن القتلة من عائلة واحدة»، «ينظر الشاعر إلى القمر وهو يشير إلى الرغيف»، وأكمل: «إن الأرانب لن تكتب الشعر»، كما لو كان الشعر من اختصاص الأسود. كان يحتفي بقصائده الغاضبة ويهجو شعراء يعرف أسماءهم، ويطردهم من عوالم القصيدة إلى حظائر الأرانب والدجاج، ويرفع بيده ديوانه «فلسطين في القلب».
قلت له: بين قصائدك وروايات جبرا تشابه في البداية والنهاية والمنظور: منفى فشقاء فوقوف فاستعداد للعودة إلى الوطن. ردّ بانفعال «ما الخطأ في ذلك، ما دام لنا حكاية واحدة وهدف مشترك ونتقاسم الأمل وتآمر العملاء وأنصاف العملاء وظلم ذوي القربى،… لا مشكلة في تشابه الموضوع، بل في تناوله، أنا مع الكلام الصادر عن العين والأيام القادمة، المؤسس على كتابة مقاتلة»… عليك أن تقرأ قصيدتي الجديدة التي عنوانها: «القصيدة». ألمح إلى قصيدة فريدة، يحسن كتابتها وحده من دون الآخرين ولم تنشر بعد.
أمام مكتبة الطليعة كان يقف «شعراء الرصيف»، المتمردون على العادات و«السلطة»، من بينهم شاعر أشيب الشعر طويل يميل وجهه إلى الشحوب يدعى: علي فودة، قاوم الهجوم الصهيوني صيف 1982م، وأصيب، وقرأ نعيه قبل أن يفارق الحياة ثم أخذه الموت ويده على صحيفة تمجّد الرصيف وترثي «طائرًا» رحل.
على سطح لقاءات الفسطينيين كان يطفو ظلم عابث ينظر حوله ويحدق في الظلام: فلسطيني ولد في الجاعونة وأهله في دمشق يلتقي، سعيدًا، في بيروت، بروائي وسيم وُلد في بيت لحم، ويرجع إلى بغداد، ويزور ناقدًا وُلد في عين غزال ومرّ بالسودان والعراق، وانتقل لاحقًا من بيروت إلى عمان، ويحاور شاعرًا طويل القامة، أضناه الترحال واحتفظ بلهجة غزَّاويّة لا غشَّ فيها، ومات في لندن.
كنا في صيف 1970م خمسة طلاب في تولوز، فلسطينيين غرباء، تُقرِّب بيننا فلسطينُ وتزيد الغربةُ قرابةَ الوطن قربًا. وكان في السياق فرح يَعِدُ الطلابَ الخمسة بأن فلسطين أمامهم، وبأن المفقود راجع إلى أهله. كنا نجتمع مرة في الأسبوع في المدينة الجامعية، نحمل كتبًا عن ماضي الوطن ومستقبله، وكان أربعة منا يُؤثرون ديوان محمود درويش «عاشق من فلسطين» على غيره، يقرؤونه ويحفظونه غيبًا، ويتدربون على إلقاء قصائده، معتقدين بأن الإلقاء الناجح، يجعلهم شعراء.
كنا نعطف قصائد الشاعر على مقاومة فلسطينية صاعدة، آنذاك، ونبارك شاعرًا من الجليل حدّث عن أرض «أورق فيها الحجر»، وكثيرًا ما كان يردد بعضنا: «عيونك شوكة في القلب توجعني، وأحميها من الريح»، ويترجم الكلمات بيديه وعينيه. نجتمع في قاعة كبيرة، كأنها مسرح، غطت جدرانها شعارات ثورية بلغات متعددة. كان الزمن لا يزال قريبًا من ثورة الطلبة في باريس عام 1968م. وعلى خلاف أصحابي كنت أقرأ، إذا جاء دوري، صفحات من «العاشق»، رواية غسان كنفاني غير المكتملة، التي وصف فيها فلاحًا يمشي فوق النار، يحكي مع الأرض وترد عليه الريح بحنان كبير.
تعرّفت إلى محمود درويش في بيروت، بعد عودتي من فرنسا، في مركز الأبحاث الفلسطينية، في شهر آذار عام 1975م. كانت له غرفة في الطابق الأخير واسمه، آنذاك، يظهر في الصفحة الأولى من مجلة «شؤون فلسطينية»، بشكل لا تخطئه العين: يشارك في التحرير محمود درويش، كما لو كان اسمه امتيازًا للمجلة، التي يشرف عليها الدكتور أنيس صايغ، قبل أن يكون امتيازًا لشاعر يفتخر به الفلسطينيون.
حواجز شديدة الحراسة
وقفت أمام مكتبه وأنا أحمل معي صور أصحابي المفتونين «بقصائد غزلية» من نوع جديد، تستعيض عن المرأة بجسد الوطن. كنت قد أصبحت «باحثًا غير متفرغ»، عملي كتابة دراسة شهرية لمجلة المركز. استقبلني بنبرة محايدة، تضع مسافة واضحة بينه وبين الواقف في غرفته، كما لو كان يؤكد «بداهة المرتبة»؛ إذ يحق للشعراء ما لا يحق لغيرهم، أو «مقام الألقاب»، فهو شاعر المقاومة لا غيره. خرجت محبطًا وسألت نفسي: هل هي أصول الإدارة الناجعة، أم أن شهرة الشاعر اقترحت عليه «حواجز» شديدة الحراسة!! كان بعض الناس يتحدث عن غطرسة الشاعر التي لا تحتمل!
توقعت اللقاء الثاني أن يكون «أقل حراسة» من الأول. لكن ظني سقط في الماء؛ إذ رفع في وجهي أوراقًا وقال: «عليك أن تتعلم أصول الكتابة، قبل أن تستعرض النظريات الفلسفية». كان يشير إلى دراستي الأخيرة: «هنري كيسنغر وسياسة المناطق المتجانسة»، التي قصدت مناطق عربية تختلف في الظاهر وتتساوى في الجوهر. بلغ ما قاله الشاعر مدير المركز فقال لي: «له رأيه، وأنا مدير المجلة، ودراستك الشهرية ستظهر في موعدها». عرفت أن لقائي القادم سيكون أكثر ثقلًا، فألغيته واكتفيت بالتعامل مع الدكتور أنيس صايغ إلى أن استقال، وأخذ درويش مكانه، فاستقلت بدوري، بصمت.
محمود درويش
في لقاء لاحق، له شكل المصادفة، قال لي درويش بكلمات تنقصها «الحراسة»: لقد أسأت فهمي، فأنا أنقدُ الكاتبَ إذا اعترفتُ به، ولا وجودَ لنقدٍ يُفضي إلى مَسرَّة وتلفظ بجملة خطفًا: «نحن الشعراء قوم من الأطفال»، هجست بها طويلًا، ولم أتمثل معناها إلا بعد تجربة. لكن الجملة المحدّثة عن غطرسة لا تحتمل، عاشت معي طويلًا، وأقامت بيني وبين درويش حواجز لمدة طويلة. تذكرت الجملة بوضوح، في بداية آب عام 2008م، وأنا ذاهب إلى منزل درويش في عمّان، لألتقيه لقاءً أخيرًا، وأودعه وداعًا، كان يعرف أنه لن يتكرّر.
اتصل بي مساء يوم قائظ، يوم جمعة كان على الأرجح، قال ساخرًا: «لماذا لا تحب قهوة محمود درويش!»، كان من عادته أن يبتر كلامه، فإن استوضحه محدثه أجاب: «حس الفكاهة ضروري للحياة». قال في ذاك المساء، بحضور صديقين مقرّبين: أسافر يوم الأحد إلى باريس، وأنطلق في اليوم الذي يليه إلى مشفى في الولايات المتحدة وتابع مبتسمًا، عندي خياران لا ثالث لهما: إما الشلل، أو القيام بعملية في شرايين الساقين حظُّها من النجاح قليل، في رأي طبيبي الفرنسي. ساد صمت اختلط فيه الأسى بالارتباك. كان قد أعطى سابقًا إشارات عن مرضه الخطير، جعلته الكلمات المباشرة أكثر خطرًا. وكي يبدّد الاختناق، الذي حوّم في الفضاء، دخل إلى «مطبخه» وعاد بحبة كمثرى وقال متضاحكًا: ما تشبه هذه، قلت: هرم صغير مكسو ببياض زهري، قال: أخطأتَ، إنها أشبه بثدي فتاة في الرابعة عشرة.
خرج معي إلى المصعد، كما كان يفعل مع الجميع بعد أن تقدم في العمر، وقد اكتسى وجهه الناحل بتعبير ملتبس، وقال: نلتقي هنا بعد أسبوعين. وتدافعت في صدري كلمات تأبى الخروج. بدا لي، فجأة، وهو يرفع يده مودعًا، أشبه بطفل يستنجد بأمه، تلك التي قاسمها قهوته في قصيدة شهيرة، وتخيّلته يسأل والده: «إلى أين تأخذني الريح يا أبي».
في صور الأصدقاء الراحلين ما يشبه كيسًا مليئًا بالأقلام والأوراق وطائرات الأطفال وغيوم راحلة. لم أكن أعلم حين نفرت من لقائه الأول، في مركز الأبحاث، أن تصرّفاته قصص يبددها الزمن، أو ذكريات تستقر في كتابة متعثرة.
حين عاتبته، لاحقًا، على طريقته الجافة في الكلام، أجاب: كل إنسان من المثال الذي يتطلع إليه، يستوي في ذلك الشعراء والنقاد وأصحاب المهن اليدوية. قلت: ما هو مثالك؟ أجاب: لك أن تخمّن، وجدتني أقول: المتنبي، بقي صامتًا، فأكملت بلا تردّد: اليوناني ريتسوس، استمر في صمته، ثم قال: المثال الحقيقي للمبدع الحقيقي يظل غير مرئي، يهمس بين الحين والحين ويظل محتجبًا، وقد تغيم ملامحه في الطريق، وعندها نصبح سعداء. تابع: أظن أن لك مثالًا لا تزال تبحث عنه، لا هو من الفلاسفة ولا هو من النقاد، وأغلق كلامه بابتسامة.
تقدُّم درويش في العمر أَرْبَكَ مثالَه
وأظن أن «درويش» اعتقد في شبابه، حين نسب البعض إليه صفة الغطرسة، أنه عثر على مثاله واستراح. لكن التقدم في العمر أربك مثاله وسلب منه الراحة. في فترة متأخرة من حياته، أخذه غضب شديد، فطلب سيجارة، وهو الذي أقلع عن التدحين، وقال: ما يؤرقني أنني لم أحسن التصرف بوقتي، أهدرت جزءًا كبيرًا بلا معنى، كان من الواجب تكريسه للشعر. وأكمل: لا معنى للشهرة والمجد والخلود، فالصواب الوحيد أن أشعر أنني اقتربت مما حلمت به. وهذا لم يحصل. سألني بعد حين، وكان رائق المزاج: ما هو أجمل نثر قرأته؟ أجبت، مدرسيًّا، نثر طه حسين، فعلّق: إن كتاباته مزيج من النثر الحديث والبلاغة الأزهرية، فتابعت، مدرسيًّا أيضًا: أبو حيان التوحيدي، فعلّق من جديد: يحتاج إلى قاموس، فذهبت إلى جهة أخرى وقلت: جان جونيه في كتابه: الأسير العاشق. ابتسم أخيرًا، وقال: أرجو حين تقرأ ديواني الجديد: «في حضرة الغياب» أن تعيد النظر، وكان مرتاحًا إلى تخوم السعادة.
إميل حبيبي
ولعل فكرة المثال، الذي هو مزيج من موهبة صقلها العمل، كما كان يقول، هو ما أملى عليه أحكامًا متشددة، ربما، وهو يعاين الرواية الفلسطينية في نماذجها الثلاثة الشهيرة، كأن يقول: لو لم يَقبل غسان كنفاني أن يكون عضوًا في «المكتب السياسي» لكان كاتبًا مجيدًا، ولو تحرّر جبرا إبراهيم جبرا من فتنة الشعراء الرومانسيين الإنجليز لأعطى شيئًا مختلفًا، ولَمَا كان شاعرًا وهو يكتب رواية، وروائيًّا هو يقصد قصيدة. أما إميل حبيبي، المتضاحك الذي يضحكه ضحكه فقد وقع، كما قال درويش، في «قفص القناعة»، بعد أن كتب «المتشائل» واستراح.
لم تكن تلك الأحكام، التي يضيق بها الكثيرون من الفلسطينيين، إلا صورة عن نزاهة مستديمة، لازمت طموحًا شعريًّا ينظر إلى فوق. سألته مرة: من هو أفضل شاعر فلسطيني؟ أجاب بلا تردد: إبراهيم طوقان، كان شاعرًا لا يتكلّف في شعره، وكانت موهبته تفيض على ما كتب. وحين وصل إلى الجيل المعاصر له ابتسم وقال: عز الدين المناصرة. سألته عن سبب ابتسامته، فأجاب: للأسف، كما تعلم، إنه لا ينظر إليّ بمودة، وأكمل: إنه شاعر متميّز لا يعرف قيمته الشعرية. لم أكن على علم بما نسبه إلى المناصرة، وإن كنت أعلم أن عز الدين إنسان جميل وشاعر موهوب.
إلياس خوري
في معرض الحديث عن نزاهة محمود درويش أذكر تقويمًا شعريًّا له شكل الحكاية. كيف ترى الشاعر المصري أحمد شوقي «أمير الشعراء»، سألته ذات مرة. أجاب بشيء من اللامبالاة: تقليدي، لم يأتِ بجديد حقيقي. بعد عامين، وبلا مقدمات، قال وكأنه يستأنف حديثًا من الأمس: أحمد شوقي شاعر عظيم الموهبة، ربما أربكت شهرته شكل النظر إليه، فبدا عظيمًا لمن يعرفه وعظيمًا لمن لا يعرفه. توقف قليلًا وأضاف: كان جوابي الأول متسرعًا.
تركت مركز الأبحاث إثر استقالة الدكتور أنيس صايغ، وتسلَّمَ درويش إدارته. تركته بلا مقدمات ولا استئذان. التقيت المدير الجديد، الذي كان يضيق بالإدارة، بعد أكثر من عامين وهو يتهيأ لإصدار مجلته: الكرمل، قال حينها: أظن أنك أسأت فهمي مرة، وأظنك كنت محتارًا في استعمال «ثقافتك الفرنسية»، فأطلقتها وفقًا للرغبة لا بشكل موضوعي، حال تطبيق مقولات بريشت المسرحية على شعر توفيق زياد. لم تكن فيه فيلسوفًا ولا ناقدًا شعريًّا، كما لو كنت تشتقّ دلالة الموضوع من خارجه، علمًا أن لكل موضوع استقلاله الذاتي. فأنا على سبيل المثال «شاعر لا أحسن القيادة السياسية».
كان درويش مأخوذًا بقول نيتشه: «الحقيقة لا تحتاج إلى براهين»، فإن أراد توضيح ما يقول استشهد بجملة للإيطالي غرامشي: «الفن معلم من حيث هو فن لا من حيث هو فن معلم». أما موقفه من السياسة فلا تعوزه المفارقة؛ إذ كانت بصيرة الشاعر فيه أكثر نفاذًا من تحليلات القيادة السياسية كأن يقول قبل حصار بيروت 1982موبعده: «لو سلخنا جلودنا وقدمناها للإسرائيليين، لَمَا اعترفوا بنا أو قدموا شيئًا مفيدًا، فأنا عشت بينهم وأعرف تفكيرهم، بلا أوهام».
سليم بركات
طلب مني، لاحقًا، أن أكتب بانتظام في مجلته «الكرمل». كان ذلك أوائل عام 1981م، واستجبت له إلى أن جاء شارون «بعملية سلام الجليل» في حزيران من عام 1982م. أسهمت في الأعداد الخمسة الأولى بدراسات طويلة (الطليعة الأدبية- الواقع أم الواقعية- في الكتابة السياسية…). أفدت من التجربة الكتابية الجديد إفادة واسعة. كان درويش يومئ ولا يصرّح ويستشهد بكتابات جديرة بالقراءة، وكان إلياس خوري، سكرتير التحرير، يمزح ناقدًا وينقد مازحًا، ومدير التحرير التنفيذي سليم بركات، الشاعر النبيه واللغوي الفريد والإنسان المصوغ من التهذيب وحرارة الحياة.
اتصل بي في الأسبوع الأول من هجوم الجنرال شارون وقال: «لا تيأس، وكي لا نيأس يكون علينا أن نتياءس، وليس في التياؤس من عيب، فاثنان أقوى من واحد، والجماعة أقوى من المثنى…». قلت له: وما هو المآل؟ أجاب: نراه ونواجهه فإن أصبح صعبًا هربنا منه مكرهين، ونحن شعب أدمن المواجهة والمقاومة، وتعلّم أن ينزاح من مكان إلى آخر، منذ ربع قرن. فما الجديد؟».
في الفترة الأخيرة من حياته، كان درويش، أو «مجنون التراب»، بلغة المغربي عبداللطيف اللعبي، يواجه ويبتعد من اليأس، ويقترب من الموت ولا يطلب المواساة، إلى أن انتزعه الموت من بين قصائده، ووضعه في قبر «يطل على الكرمل».
تخيّلت بيروت، قبل رؤيتها، مدينة بيضاء مسقوفة بالنوارس، تمتد بين جبل صغير وبحر هادئ الموج، كثيرة المطابع تنشر ما يقرؤه غيرها، وتعد بالسعادة. واستمعت إلى حكايات عن «شارع الحمرا والحياة اللذيذة»، وعن صخرة يتسلقها العازفون عن الحياة تدعى: الروشة. وغالبًا ما كنت أعطف، لأسباب غامضة، الصخرة على «مصارع العشاق»، تعبير حفظته عن معلم اللغة العربية القصير القامة، وتصورت عشاقًا ينتحرون، لم يظفروا بما رغبوا فيه، ولا رضوا بالتخلي عنه، فحملوا عشقهم وأنهوا رحلة الحياة.
وصلت مطار بيروت، للمرة الأولى، ليلة الثامن عشر من نوفمبر، تشرين الثاني عام 1974م، تطلّعت إلى مستقبلين ولم أجد أحدًا، فالكلام السخي لا يُترجم حقيقة إلا مصادفة. كان الهواء كالمنعش والمدينة على «شفا هاوية»، كما كان يقال، وأطراف سياسية مختلفة الولاء، تحاربت أو ذاهبة إلى الحرب. تذكّرت، وأنا ذاهب إلى «موظف الجوازات»، غسان كنفاني، الذي اغتاله الإسرائيليون في يوليو عام 1972م، وتذكّرت آخرين اغتيلوا ليلًا، في «المدينة البيضاء»، التي تفرط بالترحيب وبإطلاق الرصاص.
وقفت أمام موظف واضح الأناقة، نهض مبتسمًا وذهب، انتظرته طويلًا وتسلّلت خارجًا، ولم يَر «جوازي» أحد، كما لو كان المبتسم يعرف قلقي وأعفاني منه. أوصلني «سائق ليل» إلى فندق في منطقة الحمرا.
سرت في صباح اليوم التالي باتجاه البحر، قصدت «مركز الأبحاث الفلسطينية»، القريب من الروشة، متطلعًا إلى لقاء الدكتور أنيس صايغ مدير المركز الذي أشهر المركز ووسّع به شهرته، وهو العالم السياسي والمفكر القومي، كما كان يقال، و«الطبراني القح» الذي اعتبر «طبرية سيدة العواصم»، في سيرته الذاتية «أنيس صايغ يتكلم عن أنيس صايغ». كان قد نشر لي في مجلة المركز «شؤون فلسطينية»، وأنا مقيم في باريس، دراسات صغيرة، منها تعليق على كتاب «إسرائيل في الضمير اليهودي»، وجّه تحية إلى «أرض الميعاد» ـ أي «فلسطين اليهودية»، التي حلم بها يهود رحلوا منذ زمن سحيق، وآخرون لم يُولَدوا بعد، ودراسة عنوانها: «الماركسية والصهيونية قطبان لا يلتقيان»، اعتبرت أن موضوعية الأولى تقطع مع زيف الثانية، قبل أن تبرهن الأزمنة أن موضوعية المعرفة وَهْم عقول بريئة، تسطو عليها كآبة لاحقة.
قال المسؤول الإداري الأميل إلى الامتلاء الذي انتهى إلى دولة خليجية: عسر مالي في المركز لا يسمح بتوظيف أحد. عاد ولطّف نبرته وقال: هذا من شؤون المدير وأشار إلى الاتجاه. كان صايغ، كما سيكون دائمًا، مقتصد الكلام: سنرى فيما بعد، قال وأعطاني كتابًا بالفرنسية: آملًا إنهاء مراجعته في أسبوع. كان الكتاب «فلسطينيو الصمت» للفرنسية المتصهينة كلارا مالرو، التي تحدثت عن شعب لا وجود له، جدير بالشفقة. بعد قراءة المراجعة نهض الأستاذ وأخذ بيدي وعرَّفَني المكتبةَ، التي كان يزوّدها بمراجع مختلفة اللغات وسطا عليها الإسرائيليون بعد احتلال بيروت عام 1982م. صيَّرَ دأبُ صايغٍ المركزَ ظاهرةً «علمية» وجعل منه مرجعًا معرفيًّا للصراع العربي- الإسرائيلي، بلغة قديمة، ينقض الارتجال وتمارين البلاغة. أشار صايغ إلى مركز الأبحاث في سيرته الذاتية، وسرد مأساة مركز توثيقي نهبه الإسرائيليون، وأسرف أهله في إهماله، حملت سفينة بقاياه من بيروت إلى اليمن ولم يستقبلها أحد، فعادت إلى تونس ومنها إلى قبرص، وتُنسَى لتضيع بين قبرص وبيروت، ويتبدّد جزء من الذاكرة الفلسطينية.
اتفقت مع صايغ أن أعمل باحثًا غير متفرغ، أُسهِم بدراسة شهرية في «شؤون فلسطينية»، أوزِّعها على قضايا إسرائيلية، تطبيقًا لمبدأ: «اعرف عدوك»، وعلى ظواهر أدبية فلسطينية، تطبيقًا لمبدأ: «اعرف نفسك قبل أن تعرف الآخرين». أفضى المبدأ الثاني إلى نقد أدبي غلب فيه التجريب المضطرب على المعالجة الواضحة، مرّ على إميل حبيبي و«متشائله»، وجبرا إبراهيم جبرا وبطله وليد مسعود، الذي تضيق به الأرض فيرفع هامته إلى السماء، والشاعر توفيق زياد، الذي كان سياسيًّا احترافيًّا يقرض الشعر التحريضي في أوقات الفراغ،… خالطتْ نقديَ الأدبيَّ، في مراحله الأولى، أوهامُ شابٍّ اعتقد أن الشهادة الأكاديمية العالية تفرز معرفة صافية، مثلما يفرز الكبد عصارته الصفراء. ومثلما كسا الزمن طموح الكتابة بطبقة من الوهم السعيد، كان على الزمن الصبور أن يزيل الوهم بالتعقل، وأن يحوّل النقد إلى مساءلة مفتوحة.
قال لي أنيس صايغ في البداية: «أنا أقدر الإخلاص في العمل، وأتساهل في التفاصيل». كانت الجملة مزيجًا من الثناء والنصيحة، تبعث على النقد الذاتي ولا تجهر بنقد مباشر. دفعتني، في الحالين، إلى التعرّف إلى النقد الأدبي في «النظرية الأدبية»، بدلًا من اشتقاق النقد من مقولات فلسفية مجردة، وإلى الاعتراف بالنصوص الأدبية المشخصة، قبل الركون إلى نقاد- فلاسفة، حال جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وآخرين واسعي الأسماء. نشرت، آنذاك، في شؤون فلسطينية دراستي الأولى، الغامضة، عن جورج لوكاتش. أقامتْ أولوية الإخلاص على أخطاء الكتابة بيني وبين صايغ صداقةً مسؤولة، شملت عامين في المركز 1975 – 1976م وتعاونًا قصير العمر، بعد مدة قصيرة، في مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. استقال صايغ من مركز الأبحاث احتجاجًا على «المحسوبيّة» وتقييد الحرية، فقد خلط أصحاب النفوذ بين العمل المنتج والانتفاع السهل، وتدخلوا في سياسة إدارية تضع كفاءة البحث فوق الأهواء الشخصية. ولم تكن استقالته غير المتوقعة من المركز الثاني «الوليد» إلا احترامًا لمبادئ، دعته إلى الاستقالة من المركز الأول.
لست فدائيًّا ولا بطلًا
ما زلت أذكره بقامته القصيرة وشاربه السميك وأناقته الرسمية ويده المستريحة في جيبه، التي اقتلع منها «طردٌ إسرائيليٌّ متفجِّر» أصبعين وألحق ضررًا بعينيه. حين انتبهت للمرة الأولى إلى ما ألحق به الإسرائيليون من أذًى قال مبتسمًا: «لا تتوّهم، أنا لست فدائيًّا ولا بطلًا، أنا مدير مركز يكشف السياسات الصهيونية». مهما يكن تعريف البطولة، وهو ربما الجهر بالحقيقة فقد كان أنيس بطلًا في إتقان العمل المخلص، وفي آداب المعاملة والتعليم. وكان لي بطلًا كمعلّم يرشد تلميذًا يريد أن يكون باحثًا.
كان حريصًا على صورة مكان العمل. يأتي صباحًا إلى المركز قبل غيره، يمر بحارس المركز، ويصعد الدرج متفقِّدًا نظافته، ويعرج على المكتبة ويطمئن على جديد الكتب الوافدة بلغات مختلفة، ويتأكد أن «أماكن الاستراحة» نظيفة كما يجب أن تكون، ويعهد إلى أصابعه «المتبقية» بمعاينة المكاتب، كان يتطيّر من الغبار سواءٌ أكان ذرات فوق أوراق ومجلات، أو بشرًا يهدرون الزمن ويتهاونون في الكتابة. وكان له حرص موازٍ على إنجاز العمل في موعده، يُعالِن بجدّية ومسؤولية غير مألوفتين.
لا أذكره إلا وذكرت معه صيغة كتابية ثابتة: «عطفًا على اتفاقنا…» التي كانت تستقر في رسالة تسلم باليد، تحدّد موعد تسليم العمل المطلوب وعدد صفحاته وكلماته مع ملاحظة، لمن لا يعرفونه، أن الصفحة 300 كلمة والسطر من عشر كلمات، تتبعها رسالة شكر بعد إنجاز العمل، وأخيرة تَأْمُل استمرارَ التعاون يرافقها، عادةً، العدد الجديد من «شؤون فلسطينية»، الذي يجب أن يصدر في أول كل شهر، بلا تأخير. في سنواته الأخيرة ضعف بصره كثيرًا، وأنفق أكثر على أطباء العيون، وبقي مخلصًا لطبرية وأصول المعرفة مرددًا بشجن: لا يصح إلا الصحيح.
مفكرًا طليقًا وإنسانًا متسامحًا
التقيت، ذات مرة، وأنا خارج من المركز، المفكر السوري الدكتور صادق العظم، وأعرب عن ارتياحه لصيغة «العمل غير المتفرغ»، وألمح إلى أنيس وانضباطه المتشدّد وأطلق، كعادته، قهقهة متمدّدة مشتقة، ربما، من قامته المديدة وعفويته المستديمة، التي لا يكدّرها نقد ولا يستفزها تعريض. كان يردّد مرتاحًا: «لكل إنسان رأيه، والمشكلة الكبرى بين الفكر النقدي والفكر الذي روضته العادات». أنجز صادق أطروحة دكتوراه في الفلسفة في إحدى الجامعات الأميركية، عن الفيلسوف الألماني «كانت» صاحب الكتابين الشهيرين: نقد العقل المحض، ونقد مَلَكة الحُكم. لا غرابة أن يكون النقد من مفرداته الأثيرة، وأن يضعه في عناوين كتبه: النقد الذاتي بعد الهزيمة، نقد الفكر الديني، نقد فكر المقاومة الفلسطينية،… ولعل اتخاذ النقد منهجًا في التفكير، هو الذي جعل من العظم مفكرًا طليقًا وإنسانًا متسامحًا، حرًّا بعيدًا من التكلّف، عفوي الكلام واللباس والجلوس. كان يلبس «ما تيسّر»، لا عن عوز فهو من أسرة ثرية، بل عن فخار بأصول تركية أرستقراطية تدفعه إلى القول، ولو همسًا: «يحق لأبناء العائلات العريقة أن يفعلوا ما لا يحق لغيرهم أن يفعلوه».
سألت، مرة، صادق العظم، الديمقراطي فكرًا ومنهجًا وسلوكًا: ما الذي يجعل الملتبس يهزم الواضح؟ أجاب بسؤال موازٍ: ما الذي يجعل العوام، إذا أتيحت لهم الفرصة، يتطاولون على الكرام؟ يأتي الجواب، ربما، من ذاكرة فقيرة، أو من جهل عميم، أو من فساد الأزمنة الذي يجرف كل شيء.
أذكر، اليوم، من الفلسطيني الدكتور أنيس صايغ احترام الانضباط، وآداب المعرفة، وبصيرة واسعة، وبصرًا أضعفته المخابرات الإسرائيلية، وأذكر من السوري الدكتور صادق العظم عفوية أليفة في المعيش والكلام، وصدقًا في قول الحق، وتسامحًا مع الناس، وأذكر ضحكته المتصادية بعد سنتين على غيابه… يوغل الإنسان في الذكرى حين يدرك أن ما عاشه لن يعود.
«المثقف العضوي» الشاحب الوجه
من الذين التقيتُهم في مكتبة «المركز» الباحث السوري المتميّز الراحل: ياسين الحافظ، الذي جذبه الحلم القومي وجاء من دير الزور إلى دمشق، ونقل معه مزاجًا ريفيًّا متقشفًا إلى مدينة طبعها التجارة، تعتز بها وتعتبرها بداهة إنسانية. تحصن وراء حلم دَكَّتْه هزيمة حزيران دكًّا، لم ترجع فلسطين ولا بقيت العواصم العربية سالمة. فانتقل إلى بيروت قاصدًا مراجعة الذات وتصحيح حسبانها بمعارف جديدة. كان في ذلك «المثقف العضوي» الشاحب الوجه والقليل الكلام ما يذكر بأسطورة المثـقفين، الباحثين عن خلاص الأمة، ويبتغون احترام الذات وبناء الحياة العربية على معايير عاقلة.
قرأ تجربة فيتنام وكتب عن «التجربة الفيتنامية»، وكانت فيتنام في زمن هزيمة العرب نموذجًا للثورة والانتصار، وأسهم في شؤون فلسطينية، وأنجز كتابًا عن العقلانية واللاعقلانية في السياسة مفترضًا، ببراءة، أن الثقافة تصلح المهزومين. أذكر ياسين الحافظ بقبعة تغطي رأسه في الأيام الممطرة، و«بدرَّاجة» وسيلة نقل يومية، و«بمشبكين» في نهاية «بنطاله» يسهلاّن «قيادة» دراجته. وأذكره رومانسيًّا أصيلًا، اهتدى بالأحلام، وأرهقه واقع يحتفي بالكوابيس.
بدا ذلك الزمن المتكئ على صعود «العمل الفدائي»، في سبعينيات القرن الماضي، واعدًا، تكاثرت فيه كلمات الثورة والجماهير والإنسان الجديد، وتكاملت فيه أصوات صادق وياسين وقصائد محمود درويش واجتهاد أنيس صايغ وشعارات ناجي علوش، وملصقات كثيرة لشهداء مجهولي الأسماء، لا يموتون بل يسافرون، و«كاريكاتير ناجي العلي»، الذي يقسِّم العالم إلى أبيض وأسود ويصفق لولد فقير يدعى «حنظلة»، هرب من مخيم واستشهد في مخيم مجاور، ورفع أصبعًا يأمل بالانتصار.
حسم التقدم في العمر، بنسب مختلفة، حياة المذكورة أسماؤهم، وحسم الرصاص حياة ناجي العلي، لاجئًا من بيروت إلى لندن، بعد لجوء من فلسطين إلى لبنان والكويت، واستقر في قبر في بلاد الإنجليز، أصحاب وعد بلفور. شابَ شعرُه مبكرًا، فبدا في الستين وهو في الأربعين، شاحب الوجه كان، يؤثر العزلة، دائم الاغتراب يردّد بغضب «أولاد الشلّيتة». ترجمت رسومه الساخرة غضبًا لا ينفد؛ بسبب الرقابة وحرّاس الهواء. حين زرته، ذات مرة، مع الراحل سعد الله ونوس في مكتبه في جريدة السفير اللبنانية قال: «عليّ كل ليلة أن أنجز أربعة رسوم، ليختار رئيس التحرير واحدًا منها، ولا يعترض على ما ألمح إليه، وتقبل به الرقابة التي تنشد «راحة البال». خلّف ذلك الزمن الواعد، أو بدا هكذا، وراءه ذكريات كالأطلال، أخلصت لها بعض «الذواكر»، واختصرها بعض آخر في حكايات ضاحكة عن «الرعونة والموت».