مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

أصوات أطياف قريبة قضايا وشهادات بكتاب

أصوات أطياف قريبة قضايا وشهادات بكتاب

صدف سعيدة هي تلك التي تعطي الإنسان أصدقاء يعلمونه بسلوكهم، يحاورهم في الوقت المتاح، يقتربون ويبتعدون ويستقرون، بعد رحيلهم، في الذاكرة. جاءت صدفتي من لقاء طويل مع الروائي عبدالرحمن منيف والمسرحي سعد الله ونوس. أنجب اللقاء صداقة ممتدة، وطدها تعاون ثقافي عنوانه: «قضايا وشهادات»، كتاب ثقافي دوري، صدر منه ستة مجلدات، وسابع أخير احتفى بسعد الله بعد رحيله.

أذكر عبدالرحمن يأتي مبتسمًا يصاحبه اقتحام أنيس، واضح الخطوة كعسكري قديم، أنيق بلا تكلف، تتلامح لفته كلما اقتربت، فإذا جلس قال: «يا قوي» ويضحك عاليًا. لم أعرف أن كلامه المتضاحك يحجب غضبًا دفينًا إلا بعد صدف لاحقة. بعد تعبيره المرافق له: «يا قوي» كان يتذمر من «أخبار وقحة»، يمحوها سريعًا بكلام عن «الشُّغُل»، يشير إلى رواية جديدة تنتهي بعد أسابيع معينة، ويأتي تحديده دقيقًا. قال لنا مرة: «إن شخصية الإنسان من طريقة عمله»، ولم يقل: إن حياته عمل متواصل تنقصه الراحة. حين سألته قبل رحيله بأيام، في بيته القائم في المزة، جبل في دمشق، عن الصحة والعمل، حدق في الفراغ وأحكم الغطاء على ساقيه.

سعد الله ونوس

بعد رحيل سعد الله ونوس، كتب عبدالرحمن، أو أبو عوف كما كنا ندعوه، عن: «لوعة الفَقْد». أسر لي مرة في لحظة حزن: «رحيل سعد الله كسرني». بعد رحيل الاثنين كتبت عن «انحسار الضوء» الذي أعقب غياب أديبين لامعيْنِ وصديقين يعلمان غيرهما القيم بسلوك نزيه.

لم يكن في مظهر ونوس ما يتقاسمه مع عبدالرحمن. هادئ الحركة أقرب إلى البطء متذمر لأسباب متجددة، واهن الصوت يرى الكلام الصباحي مشقة، ولا يعترف بمجيء النهار إلا بعد الخامسة عصرًا. تكامل في شخصيته مثقف نقدي متطلب وفنان يتابع حياة الناس ويسائل تاريخ الأشكال الفنية. كان في قامته الناحلة، المتوجة بذؤابة رمادية، وفي وجهه الشاحب المحدق في الفضاء، ما يرسم صورة فنان رومانسي استقرت فيه شهوة إصلاح العالم.

يحضر الآن فعل «كان» كما يريد. ابتعد الصديقان وذهبت «قضايا وشهادات» إلى الصمت، وانتهى حوار طويل عن معنى الكتابة، أخذ مكانه حوار متقطع مع الأطياف. «جماليات الكتابة قابلة للتأجيل»، كان يقول عبدالرحمن مشدودًا إلى «الهنا والآن»، حيث «الهنا» عوالم عربية موزعة على ماضٍ لا تحسن قراءته وحاضر لا تسيطر عليه، «والآن» زمن تنفقه السلطات في مراقبة الرعية. كان سعد الله يعلق ساخرًا في لحظات الصفاء: «الكتابة فعل لا ينتظر مكافأة ولا يعد بالتغيير»، فإن تصاعدت سخريته أضاف: «أرجو ألا نشبه في رغباتنا آخر الموهوك»، مشيرًا إلى قبيلة شجاعة من «الهنود الحمر» أزاحها ظلم التاريخ عن وجه الأرض. كان الحوار المتضاحك يطول، أحيانًا، فيشده عبدالرحمن بجملة جادة: «لا تعني الشجاعة النصر، إنها استمرار التحدي لأمر غير مقبول». لم نكن نتحدى أحدًا، ولا قِبَلَ لنا بالتحدي، بل نذكر بأفكار عادلة قال بها سابقون علينا، ورحلوا وظل الظلم مقيمًا.

حين جاءت إلينا فكرة «الكتاب» الذي أشرفنا عليه، بحثنا عن عنوان متقشف لم تستهلكه المجلات العربية: الطليعة، المسيرة، التقدم، النهضة،…، وغيرها من عناوين تعد بتحويل العالم. قال سعد الله ليكنْ: «قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري». تابع: كتاب عن «قضايا» العالم العربي الذي يتقهقر عما كان عليه قبل مئة عام، و«شهادات» تدل على أن ما سنقوله قال به غيرنا، وسقطت أقوالهم في «المزايدات الأيديولوجية»، ولامسها النسيان. أكمل: ليكن العدد الأول عن طه حسين. فهذا العام يصادف مرور قرن على ميلاده 1889م.

هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة

احتفت أطراف ثقافية عربية متعددة، آنذاك، بمئوية ميلاد صاحب كتاب «الأيام»، حتى بدا اقتراحنا تزيدًا لا ضرورة له. أضاء سعد الله اقتراحه قائلًا: البدء بطه حسين أشبه بالإعلان عن هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة. لذا جاء في تقديمه للعدد الأول: «الأمر محض صدفة، فلو صدر هذا الكتاب منذ أن فكرنا بإصداره منذ سنتين، لكان طه حسين موضوع ذلك العدد، وكذلك لو تأخرنا في إصداره سنة أو سنتين أخريين…، لا يرمي هذا الكتاب إلى مد الاحتفالات باحتفال جديد، بل يأمل أن «يَسترد» طه حسين ضوءًا وعونًا في هذه الظلمة التي نتخبط فيها،…».

قصدنا «بالاسترداد» تخليص فكر «السيد العميد» مما علق به من تزوير وتشويه. فقد اختصره بعض إلى «فرعونية» وتبعية للاستعمار قارئين، خطأ، كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، اختزله آخرون إلى كفر وإلحاد وعلمانية، وهو الذي دافع عن عدالة الإسلام دفاعًا لا مزيد عليه، وانشغل «علماء زائفون» في تشويه عقيدته، فصار يهوديًّا ومسيحيًّا وشيوعيًّا، وصهيونيًّا، ولم يرَ بعض المتكسبين في موروث حسين كله إلا نثر كتابه «الأيام» الذي هو «تحديث للبلاغة الأزهرية» لا أكثر. الجدير بالذكر أن «حسين» دافع عن القضية الفلسطينية، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مقالات صحفية متتابعة، جمعها حلمي النمنم في كتاب عنوانه: «طه حسين والصهيونية»، صدر عن دار الهلال عام 2010م. والحريّ بالذكر أيضًا أن تسفيه طه حسين، شخصًا ومعتقدًا ومعرفة، تحول إلى صناعة رائجة في سبعينيات القرن الماضي، كما لو كان إسقاط فكره ردًّا وحيدًا على هزيمة 1967م.

لم يكن طه حسين، بالنسبة لنا، صوتًا تنويريًّا عربيًّا متسقًا، ابتذل فكره «تنويريون سلطويون»، إنما كان مشروعًا ثقافيًّا عقلانيًّا متكاملًا، غايته مجتمع عربي مستقل يؤمن بحقوق المواطنة، ينعم فيه المواطنون بحقوق وواجبات متساوية. فاستقلال وطني لا يبني مجتمعًا عادلًا لا ضرورة له، وتعليم مدرسي يطرد أمية القراءة بأمية التفكير يفضي إلى مجتمع لا يحسن القراءة ولا التفكير معًا. بل إن استقلالًا وطنيًّا لا حداثة اجتماعية فيه «أسوأ من الاستعمار الذي سبقه»، كما جاء في الصفحات الأولى من كتاب حسين: «مستقبل الثقافة في مصر». بدا لنا مشروع حسين قديمًا وجديدًا في آن، أجهضه زمنه، ووصل إلينا في دراسات وكتب، وإن كان ما استجد بعد «الاستقلال الوطني» أكثر خرابًا وقتامًا من الزمن الذي سبقه.

أسهم في العدد الأول مثقفون من بلدان عربية عدة، وزعناه على مقولات ثلاثة: العقلانية، إذ خلق العقل ليفيد الإنسان ويحميه، والديمقراطية، فبلدان يحكمها مرجع وحيد فوق القانون تعيش خارج الأزمنة الحديثة، والحداثة التي تعني تطورًا يفرق بين الأزمنة. تميز «الكتاب» في صفحاته خمس المئة والخمسين بمقدمة ونوس التي صبت نقدها على «أعلام ثوريين» وصفوا حسينًا «كاتبًا إقطاعيًّا»، جاء من الريف واحتواه نظام ملكي، ومفكرون من النظام الناصري الذي دفعت «محرماته» بالسيد العميد إلى الصمت. أُغلق الكتاب، وليس بلا قصد، بقصيدة للعراقي الشهير محمد مهدي الجواهري ألقاها في «مأدبة أقامها الوفد المصري برئاسة طه حسين حين حضر مهرجان المعري في سوريا عام 1944م، وحثه فيها على زيارة العراق». اختار منيف القصيدة محتفيًا «بقلم عربي قديم» احتفى بذكراه مصريون وسوريون وشاعرًا «عَلَمًا من الحاضر»، يؤكد وحدة العرب الثقافية.

جسرت موضوعات الكتاب المسافة بين ماضٍ قريب يراوح في مكانه وراهنٍ لا يقوى على التقدم إلى الأمام. اختار ونوس صفحات من كتب حسين شاركه فيها عبدالرحمن، توسع فضاء الكتاب النظري: «العلم والدين»، من كتاب «من بعيد» 1925 -1935م، الأدب والتاريخ من كتاب «في الشعر الجاهلي» 1926م، وصفحات من: «حديث الأربعاء» 1923م، و«مرآة الضمير الحديث» 1949م، وخامسة وسادسة… أضاءت الصفحات- الوثائق، أو «الشهادات»، فكر حسين في جوانبه المختلفة، ومثّلت دعوة إلى تأمل اجتهاداته، تحاوره و«تستعيده»، بعد أن كاد يُبتسر في تزوير جاهز منقطع عن الحقيقة.

لم نكن نقصد تنزيه طه حسين عن الخطأ، ولا تمجيد صوابه وخطئه، وهو نهج يوائم التسلط والمتسلطين. كان المقصود استعادة نقدية لمشروع حداثي منهجي، بقي مفردًا في الفكر العربي الحديث، جمع بين مراجعة الماضي وتوحيد التعليم والديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي وتحرر المرأة والانفتاح على معارف «الآخر» واستقلال المؤسسات العلمية… ولعل مبدأ المشروع الثقافي- الاجتماعي، وهو ما أخذ به طه حسين، هو الذي أتاح لنا أن نقرأ فكره موحدًا، وأن نطمح إلى «كتاب» يوحّد بين أسئلة الفكر النظري وقضايا الواقع الاجتماعي. استرشد «كتابنا» في مجلداته اللاحقة بمقولات: العقلانية، الديمقراطية، الحداثة القائلة، في التحديد الأخير، بدولة وطنية الوسائل والغايات. فلا وجود لوطن إلا بمدرسة وطنية لا تفصل بين المعارف والحاجات الوطنية.

اشتق كتاب: «قضايا وشهادات» موضوعاته من حاجات الواقع العربي المعيشة، عملًا بقاعدة «الهنا والآن»، بعيدًا من تجريد أكاديمي زائف الموضوعية، وحياد فكري ينتمي إلى الحسبان التجاري والمنافع الشخصية. بيد أن «تشاطر» المتكسبين بالكتابة، كما أنصار «العطارة الفكرية»، أنزل بالكتاب تجريحًا وتسفيهًا فتحول عندهم إلى هزيمة مقنعة ولواذ باسم شهير هزم بدوره. «فالماركسيون الذين تداعت فلسفتهم، التمسوا العون لدى عقلاني ليبرالي مهزوم». الطريف أن «المتشاطرين» افتقدوا إلى «هوية فكرية» واضحة؛ ذلك أن منهجهم ينصاع إلى تحولات الفصول.

أراد كتابنا أن يكون ذاكرة «للفكر النهضوي» الذي أُسقط ولم يسقط وأن يدافع عن أطروحة فكرية لا يجوز التخلي عنها: لا يدعو إخفاق الأفكار العادلة إلى التنكر لها، فهي صحيحة في ذاتها، لا فرق إن انتصرت أو هزمت، حال مقولات: الشرف والأمانة والصدق… بين الصحيح الثابت والمفيد العارض مسافة لا تجسر. وكنا نستذكر جيلًا من المثقفين العادلين: الجزائري مالك بن نبي، والتونسي الطاهر حداد، واللبناني رئيف خوري، والمصري سيد درويش… لم نفصل بين ذاكرة الفكر النهضوي، الممتد بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين، وذاكرة ما كنا ندعوه بكثير من الرضا: ذاكرة الثقافة الوطنية.

اللغة اليومية وصناعة الإذعان

كنا نتحاور طويلًا في عناوين الموضوعات القادمة. يقترح عبدالرحمن: هل انتهى زمن الدولة الوطنية؟ يجيب سعد الله: الأمر قيد التداول ويقترح: مظاليم الأدب، وأسارع إلى موضوع ثالث: اللغة اليومية وصناعة الإذعان. غير أن الموضوع الأعلى صوتًا هو ما اقترحه سعد الله. كان يذكرنا، ونستذكر معه، الروائي العراقي غائب طعمة فرمان، المبعد والبعيد في منفاه الروسي، والأردني المهاجر: غالب هلسا الذي غطت بساطته اليومية على روايته الطليعية شكلًا ومنظورًا، والمصري الراحل الدائم اللطف والابتسامة محمد البساطي في اقتصاده اللغوي المدهش… وكان لنا، أو كان لي، لحظات من الرضا الحالم. كأن أتصور ونحن نستقبل الأموات في «كتابنا» أننا نكتب معًا، ونحتج على تدهور عربي يضني المتطلع إليه.

وكثيرًا ما كنا نحاور الأموات ونسأل ساطع الحصري عن وحدة القومية العربية واللغة، وقسطنطين زريق وتفاؤله باسترجاع فلسطين «قريبًا» وكثيرًا ما تعجبتُ من طه حسين وهو يمحو التاريخ العربي من تاريخ مصر، ويعين «البحر الأبيض المتوسط» حاضنة أوربا «لمصر الحديثة». وعابثت في سري سلامة موسى، «المربي التنويري»، وهو يشرح، مرتاحًا، صفات «السوبرمان» -الإنسان الأعلى- بداروينية تقترب من السذاجة.

عبد الرحمن منيف

شكل «الآخر» الممثل في الغرب حضارة وثقافة واستعمارًا، بعدًا داخليًّا في سياسة الكتاب الثقافية. كنا نترجم ما يتفق مع الكوني والعقلاني وما يأتلف مع عالم عربي يحتاج إلى الجديد الفكري. نترك القارئ العربي مع حداثة عربية مجهضة ومع «حداثة الآخر» التي سيطرت على الدنيا. تضمن المجلد الثاني في جزئه الأول وثائق فكرية عربية متعددة. الطهطاوي، أديب إسحاق، محمد حسين هيكل، أدونيس، جبران خليل جبران، وحوارًا فكريًّا قديمًا بين مصطفى صادق الرافعي والدكتور محمود عزمي. انطوى الجزء الثاني على صور الحداثة في المجتمعات المتقدمة معبرًا عنها بدراسات: فالتر بنيامين والاستنساخ الآلي، مارشال بيرمن: التحديث أمس واليوم وغدًا، إدوارد سعيد والتعليم الجامعي المغلق، فريدريك جيمسون والمجتمع الاستهلاكي.

صَوَّرَ «الكتاب» الذي لم يعش طويلًا، أبعادًا من جماليات الصداقة وإخلاص الأحياء للأموات وتكامل الثقافة الإنسانية التي تعترف بوحدة العقل الإنساني وبتساوي البشر. حمل آثارًا من سعد الله ونوس الهاجس بالمُخْضَعين الذين يعيشون أقل ولا يتاح لهم الكلام وبمظاليم الأدب، وعلامات من عبدالرحمن منيف المشدود إلى «الهنا والآن» المتطلع إلى عالم لا سجون فيه والكاره لصناعة الإذعان واسترقاق الأرواح.

ظهر المجلد الأول من «قضايا وشهادات» في خريف 1989م، وتوقفت عن الصدور بعد أعوام أربعة.

في وداع إلياس فركوح.. حين ترى إلى صديق ينطفئ

في وداع إلياس فركوح.. حين ترى إلى صديق ينطفئ

«ما العمر إلا ليلة كان الصباح لها جبينه»، وما الصباح إلا حفنة من وقت يتصرّف بها القدر كما يشاء.

جمعَنا مكتبُه صباح اليوم الأخير من حياته، بعد انتظار شهور فرضه وباء قوي الإرادة طويل الإقامة. بدأ اللقاء أنيسًا دافئًا، انتهى شجنًا بارد الأطراف بعد ثلاث ساعات، توّجه رحيل أخير، لا لقاء بعده ولا اجتماع.

جاء إلياس مبتسمًا أنيقًا، كما عهدته، في تمام العاشرة، قال: لا أحد في المكتب وأمامنا فسحة من الزمن، ومرض كورونا المخيف لا يخيفني، ستحدّثني عن كتابك الذي لا ينتهي عن نجيب محفوظ، وأحدّثك عن عزمي على إعادة تأسيس «دار أزمنة» وأنا في الثانية والسبعين. طموح وافد تغذّيه الخبرة وتجبر عليه الحياة. قال جملته وعلت وجهه ابتسامة، واختلس نظرة إلى صورة غالب هلسا المستقرة أمامه. نظر إلى صورة الروائي الراحل، وبدأ حديثًا عن دار نشر أسّسها قبل ثلاثين عامًا، غدت جزءًا من حياته.

صورة هلسا التي أمامنا مكتوب عليها: «رحل ليبقى» تسرد حكاية قديمة عن شغف البقاء وإرادة الفناء القاطعة. بدأ الروائي الذي فارق الحياة في دمشق عام 1989م، مرتاحًا، ينظر إلى الأمام وعلى وجهه آثار ابتسامة. كان إلياس يختلس النظر إلى الصورة مبتسمًا، كما لو كان ينظر إلى وجه قديم اطمأن إليه، وتجهر نظرته المقتضبة بالألفة والأمان. وحين انتبه إلى انتباهي إلى حضوره الموزّع على صورة الروائي الراحل وبوح الأصدقاء في لقاء مرتقب قال: كثيرًا ما رغبت أن أكون امتدادًا له، وكثيرًا ما شعرت أنه ممتد في حياتي.

سألته: من أين جاءت الرغبة والشعور بالامتداد؟ توقعت إجابة آتية من أحلام الكتابة وشقاء التماثل، لكنها جاءت من جهة أخرى معمورة بالأخلاق ومعايير الفضيلة، ترجمتها كلمة غامضة واحدة: المناقبية. كلمة أربكتني أضاءها المتحدّث سريعًا: «أخلص غالب للكتابة، وأعطى، شابًّا، قصصًا قصيرة مدهشة، وأخلص لروايته وأنجز عملين كبيرين: «الضحك» و«الخماسين»، وأخلص لذاته واختار المنفى من دون أن ينفيه أحد، وأخلص لطفولته وصباه وسجلهما في روايته «سلطانة». أدركت أن «المناقبية» وحدة الكتابة والنظر، تنشد الحقيقة وتزهد بالإعلان والمصلحة.

انجذب إلياس إلى ما أراد أن يكونه، هجس بصدق «غالب»، اقتفى أثره في الحياة ولم يُحاكِهِ أدبًا. أعرب عن إخلاصه في قصته القصيرة ـ الطويلة: «أسرار ساعة الرمل»، التي تجاور أفضل ما كتبه القصّاصون العرب، وحاور «مناقبية غالب» في رواياته الذاهبة من شكل إلى آخر؛ إذ الشكل في «أعمدة الغبار» يغاير ما أعلنت عنه «أرض اليمبوس»، والشكل الأخير يختلف عنه في «غريق المرايا»… والشكل في روايته غير المنجزة واسع الاختلاف عمّا سبقه. لكأنه في روايته التي لم تكتمل روائي لا نكاد نعرفه، جمع بين الساخر الشعبي و«دنس الحياة» الطليقة، والرغبة في السخرية من ذاته ومن ظواهر البشر.

لم أشعر بروحه فرحة ومبتهجة بقدر ما كانت عليه وهو يتحدّث عن عمل لن يكتمل، هجس به سنوات: «سأفاجئك هذه المرة، وسأفاجئك كثيرًا، لن يتعرّف القرّاء عليّ إلا بصعوبة… في هذا العمل إلياس جديد…». لم تكن روحه المبتهجة تنتظر إعجابًا من أحد، كان يلبي نزوعًا داخليًّا، وقناعة تخبر أن أخلاقية الأديب من إتقان عمله، وأن مناقبه من صدق وحبر وورق وكتابة فوق كتابة، وحوار مع الذات طويل…

الذي لا يلفت إلى ثناء ولا يعبأ باستنكار

سألني ذات مرة: «من هو الأديب الأخلاقي يا حضرة الناقد؟» قلت: هو الذي يعلّم غيره من الأدباء، من دون قصد، شيئًا جديدًا عن الكتابة الأدبية. أجاب إلياس: أخطأت القصد، فأنا لا أريد أن أعلّم أحدًا. لا أحاكي أحدًا ولا يحاكيني أحد. قلتُ: هو الذي يكون أخلاقيًّا داخل الكتابة وخارجها، يحترم الكتابة ويحترم صورته بين القرّاء. قال: ربما أصبت، وتابع: «الكتابة فعل حميم، كالحب، يطلب لذاته، لا يلتفت إلى ثناء ولا يعبأ باستنكار. الأديب الحقيقي مسكون بمثال، لا فرق إن عرفه أو بقي مضمرًا. والأخلاق رضا عن ذات تجتهد في الصواب، مأواه الروح ولا ينظر خارجًا».

تذكّرت وأنا أنصت إلى صديقي الراحل إعجابه بالمصري إدوار الخرّاط وعمله المرهق في اللغة، واختلافه عنه أيضًا. كنتُ أقول: أحترم للخرّاط ثقافته وجهده، ولا أستسيغ «لغة الكهّان»… كان إلياس يقول: تختلف ذائقة القرّاء باختلاف ثقافتهم. لا إبداع بلا اختلاف، وإدوار الخرّاط أديب مختلف نزيه… وبالغ الدماثة أيضًا، قابلته أكثر من مرة في القاهرة».

قال في لقائنا الأخير وهو يختلس النظر إلى صورة هلسا مرة تلو مرة: «هل تعلم أنني لم ألتقِ غالبًا أبدًا؟ قرأته غير مرة، وفرض عليّ تنقّله المستمر بين عمّان وبغداد والقاهرة وبيروت ودمشق مسؤولية غامضة، تُشرح ولا تُشرح في آن، فكتبتُ عنه وعرّفت بقيمته في الأردن، ونشرت «دار أزمنة» رواياته جميعًا…». جمع إلياس، قبل عامين، قصص غالب القصيرة في مجلّد واحد. طلبت منه أن أقوم بتقديمها. هكذا قرأت من جديد إبداع غالب في بداياته، تلك المدهشة الشاهدة على «موهبة مصقولة». كان محمود درويش يقول: الإبداع من موهبة صقلها العمل.

صوت إلياس خفت قليلًا

شعرت أن بعض التعب أصاب إلياسَ في الحادية عشرة والنصف. لكنه استأنف حديثه عن غالب، وقال: «في احتفاء كتّابنا الأردنيين بروايته «سلطانة» شيء من المبالغة المتقصّدة. يتخذون من ذكرياته عن طفولته وصباه دليلًا على منفى قسري، وهذا ليس صحيحًا، وبالمناسبة فإن «سلطانة» ليست أفضل أعماله، ولم تعجبني روايته «ثلاثة وجوه لبغداد»، أخفق فيها التجريب، وما زلت أعتبر «الخماسين» روايته الأكثر اكتمالًا، ظهرت الأخيرة عن دار «الثقافة الجديدة» في «قاهرة» السبعينيات في سلسلة كان يشرف عليها الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي ربطته بغالب صداقة طويلة.

لاحظتُ أن صوت إلياس خفت قليلًا، يمسّد شعره بحركة عصبية، وغدا كلامه متقطّعًا، وأن شيئًا من عدم الراحة غطى وجهه. أطفأ «التكييف» وفتح النافذة وتابع الكلام: «مجلة خليجية طلبت مني المشاركة في ملَفّينِ مخصصيْن لغالب هلسا وتيسير سبول، اعتذرت في البداية، وأقنعت نفسي بالمشاركة في النهاية؛ إذ لا يجوز ألّا أشارك في الكتابة عن روائيين أردنيين… لا شيء عندي ما أضيفه إلى ما كتبت عن غالب منذ زمن».

صار وجهه شاحبًا، تلامحت حبّات عرق على جبهته، نظر إلى النافذة وقام ووقف أمامها، كما لو أنه شعر بأن الغرفة ضيقة قليلة الهواء… طلبت منه أن يرجع إلى بيته. أجاب: تعب صغير ويزول. ترك النافذة وجلس قرب باب الغرفة، تلفّت يسارًا ويمينًا، كما لو كانت الغرفة تنسحب منه أو ينسحب منها. جلس في مواجهة صورة غالب هلسا تمامًا. توزّع علينا جو من الضيق والقلق حاصره إلياس بابتسامة منقوصة، وجملة جاهزة: «تعب صغير ويزول، أعرفه منذ زمن، يأتي جامحًا ويرتدّ خائبًا». لكن التعب استبعد الخيبة وأصرّ على الظفر.

كان بطبيعته هادئًا مقتصد الكلام ويؤثر الصمت أحيانًا. يتابع شواغل ذاتية ومخطوطات الدار المستجدة، التي كان يقرؤها بعناية. كنت أراقب أحواله وأنا جالس أمام طاولة منفردة، تتيح لي القراءة والكتابة في زياراتي الأسبوعية المتعددة الأغراض. وكثيرًا ما كنا نتقاسم الكلام عن كتاب أعجب به. يفتح صفحاته ويقرأ أسطرًا ترضي ذوقه الأدبي، يؤطّرها، أو يعلّم عليها، بقلم رصاص، ويثني على الترجمة الجيدة. كان يجدها، غالبًا، في ترجمات سبقت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، يجدّ في البحث عنها ويفرحه العثور عليها إلى حدود الطرب.

رأيت إلياس فركوح، للمرة الأولى، في ندوة عن الرواية الأردنية، عقدت في عمّان أواخر القرن المنقضي. أهدى إليَّ روايتيه: «أعمدة الغبار» و«قامات الزبد» وانسحب، إهداء بلا كتابة، نحّى الشخصي سريعًا واختصر اللقاء في كتابة وقراءة مفترضة وجملة «سعدت بالتعرّف عليك». بدا لي أنه يقول: الأديب الحقيقي يتعرّف بأدبه ويترك شخصه بين الجموع. لم أتبيّن ملامحه إلّا بعد سبع سنوات، التقيته مصادفة، حدّثني عن «دار أزمنة»: «فيها كل ما تحتاجه» قال.

انتبهت إلى صوته الهادئ وأناقة بسيطة وحرارة في العينين والكلام. بدا لي كتلميذ مدرسة ثانوية جمّ الأدب جميل الأناقة. سأعرف لاحقًا أنه درس صبيًّا في القدس، يوناني الجد مع قرابة سورية، قضى مدة في بيروت الحرب الأهلية، تقاسم فيها مع مؤنس الرزّاز صداقة طويلة صيّرها إلى حديث إبداعي بين الأحياء والأموات في كتابه «رسائلنا ليست مكاتيب»، سرد فيه أحلامًا واسعة عاجلها الانحسار، وحوارات طويلة اغتالها الموت، وطموحات حلوة المعشر معتلّة النهاية. قال عن مؤنس ذات مرة: «أرهقته طموحاته ورغبة طليقة في الحياة، لم تروّضه الحياة ولم يروّضها، وأتعبته حواراته مع أعمال روائية كبرى، فحمل كتبه وهواجسه وقامته النحيفة ورحل»… أضاف مبتسمًا: «وكان أردنيًّا نبيلًا وعروبيًّا صادقًا».

استغرق إلياس في صمته، كأنما استسلم إلى وجع لا يبارحه، يطرده بعينيه وبيديْن لا تلبيانه، يرتسم على صفحة الوجه معذّبًا… نسي كلامه قبل ساعات ثلاث عن عزمه الماضي في تجديد دار نشره وهو في الثانية والسبعين، ونسي رواية جميلة ستغدو يتيمة، وغفل عن مشروع بحثي عنوانه: مخاتلة السرد والسرد المخاتل، قوامه أعمال هلسا وتجربته الروائية الذاتية، كما قال، و«موقع الشر في أعمالهما معًا»، شر لا تجريد فيه، يتراءى في شوارع الحياة، وعلى الأحياء أن يقاوموه؛ لأن عليهم أن يقوموا بذلك.

وقف أخيرًا مستجمعًا شتات إرادته، نطق بكلمات عن الألم وأشخاص يحبهم، نظر إلى الأعلى وتنفّس «وصيّة» استقرت بين «أعمدة الغبار».

وحدة الثقافة والكتابة الروائية

أذكر عنه اعتزازه بقصته «أسرار ساعة الرمل»، التي جاءت كعمل منتظر، ومنظوره إلى مراوغة الوجود وثقل «اللايقين» الذي سجّله بإشارات متعددة في روايته «أرض اليمبوس»، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، وجهدًا لا مساومة فيه في توليد أسلوبه اللغوي تكشّف في روايته «غرق المرايا». وأذكر دفاعه عن وحدة الثقافة والكتابة الروائية، والعلاقة العضوية بين الأديب الحقيقي والشأن العام: «إنسان لا يهتم بالشأن العام مخلوق نافل فائض عن الحاجة»، ومقته لـ«النميمة الثقافية»، ذلك أن على المثقفين أن يحوّلوا خلافاتهم إلى قضايا ثقافية،… وأذكر إعجابه بالكتابات النظرية لهنري ميلر، التي يتصالح فيها الحكم الأدبي ومحبة الأصدقاء وحكايات الحياة اليومية.

في يوم الأحد أصرّ أن نلتقي يوم الأربعاء الذي تطيّرت منه طيلة حياتي، وفي يوم الأربعاء، جاء قبل الموعد بربع ساعة، وفي مكتبه يوم الأربعاء تحدّثنا، في العاشرة، عن هواجسنا، وتوقفنا في الحادية عشرة أمام أصدقاء رحلوا، ومررنا في الثانية عشرة على مشاريعنا الكتابية القادمة، وفي الواحدة اجتاحه ألم يكدّر الروح لا صوت له، وفي الواحدة والنصف، تقريبًا، هربت منا «نون الجماعة»، ورجعت إلى البيت وقد خسرت صديقًا عزيزًا، عرفته عشرين عامًا وقاسمني لطفه واجتهاده ومكتبه وكلماته الأخيرة، وذكريات نظيفة موجعة.

أذكره تلميذًا ثانويًّا، هامس الصوت مصفّف الشعر لطيف المحيّا، يركض سعيدًا في شوارع القدس. لاحق مثالًا لا يعرفه غيره، حاوره وتعلّم منه، ودعاه إلى «دار أزمنة»، وبرهن أنه روائي متجدّد، أكان ذلك في بلده، أم في فضاء الكتابة العربية.

إحسان عباس: إنسان من معرفة وبصيرة ومحبة

إحسان عباس: إنسان من معرفة وبصيرة ومحبة

ارتبطت صور الراحل د. إحسان عبّاس بذاكرتي بمناسبات ثلاث: زيارتي الأولى منزله، القريب من حديقة الصنايع في بيروت عام 1978م. كان الجو ربيعًا. وحضوره الأنيس في لجنة تحكيم جائزة القاهرة للرواية العربية عام 2002م. كان الجو خريفًا والراحل رئيسًا. وصورته في شرفة منزله في عمّان في الطور الأخير من حياته. كان الجو مختلطًا يسيطر عليه الشتاء. ثلاث مناسبات في ثلاثة أمكنة وأزمنة متداخلة، أنطقت «الفلسطيني القديم» بحركات غير متساوية. لكل طور من حياة الإنسان وجه يحتضن ما سبقه ويسخر منه.

زرته لأهديه كتابًا صغيرًا ظننت، وأنا أكتبه، أنني أنجز «سِفرًا ثمينًا»، يشرح العلاقة بين الدين والطبقات الاجتماعية، ويخلص إلى نتائج تحرّر عقل القارئ من أوهامه. أنساني الوهم أنني أقدّم كتابًا صغيرًا لعالم كبير من حبر وورق وجَلَد، كتب وترجم وحقّق عشرات المخطوطات والكتب، عَلَم في مجال التاريخ والأدب، ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأميركية، وأستاذ مرموق تطلّع إلى جيل من الباحثين على صورته، ذلك أن «صور الأمير من نباهة الذين يخلفونه» كما قال الإيطالي ميكيافيللي. وقدّم ترجمة فريدة لرواية «موبي ديك».

قال بعد ترحيب: «هذا كتاب صغير الحجم كبير الفائدة»، ابتسم بعد قراءة إهدائي وأضاف: «هل تسمح لي أن أصحّح خطأ نحويًّا وقع سهوًا في إهدائك الكريم؟». نظرت إليه بخجل، كما لو أن كتابي تضاءلت صفحاته من جديد. أشفق من تلعثمي وسارع إلى القول: «نحن على أية حال متساويان، فلسطينيان في لبنان، أحدهما من قرية في قضاء صغير، وأنا ولدت في قرية عين غزال، نحمل لقبًا أكاديميًّا، وأدركتنا معًا حرفة الكتابة».

توقف وابتسم وتابع: «لكنّ بيننا فرقًا واحدًا: أستطيع أن أصوّب خطأً نحويًّا بسبب صحبة مع اللغة العربية طويلة، تختلف عن صحبة هيغل وديكارت وماركس، الذين آثرتَ صحبتهم على صحبة سيبويه والهمذاني والجاحظ». ختم القول بابتسامة استحالت قهقهة.

كان في وجهه ألفة وافرة سيترجمها، لاحقًا، بجد أقرب إلى الهزل، وبهزل ثاقب الأحكام وبرضى، في ساعات الرضى، يطلق ضحكًا عفويًّا كأنه الصهيل. أكمل الستين من عمره، ببنية أقرب إلى السنديان، يتوّجها رأس أشقر الشعر، حافظ على مواقعه، ووجهه «أحمر» امتد في رقبة حمراء على جسم يميل إلى القصر.

سيقول د. فهمي جدعان، صاحب كتاب «أسس التقدّم في الإسلام»، في ندوة عن إحسان عباس أقامتها مؤسسة شومان في عمّان: «كنّا ندعوه أيام الصبا: الصبي الأحمر المتفوّق؛ إذ كان فريدًا في لونه بين التلاميذ».. أما تفوقه فتقاسمه مع مجايليْه: إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ولد ثلاثتهم عام 1920م وانصرفوا، بأشكال مختلفة، إلى الأدب. وزعتهم نكبة 1948م على أكثر من أزمة ومنفى، وعرفوا المنفى مرتين: خسران ماضٍ أمين احتضنهم، والتوجه إلى مستقبل أثقله القلق. بقي «حبيبي» في الوطن المصادر قريبًا من «أيام العرب»، كما كان يقول، وسيتذكّر إحسان «رموز الأزمان المنقضية» في سيرته الذاتية: «غربة الراعي» 1996م، المستهلّة بشجن موجع يسائل جدوى القراءة والكتابة، ويقيم فرقًا بين المثقف المختص وبين «المثقف الفرح» المشغول بتوزيع صوره على وسائل الإعلام الجماهيرية، والرسمية.

كان الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي قضى في السجن قبل أن يصل إلى الخمسين، قد أعطى ملاحظات «كونية» عن الثقافة والمثقفين في «كرّاسات السجن»، أفرد فيها حيّزًا للمثقف الريفي الأصول.

قرأ في الأخير صفتين متلازمتين: «التجمّل الاجتماعي الذي تترافد فيه الشهرة وجاذبية اللقب والتبيّن على العامة، والجهد في تجسير المسافة بين المثقف والسلطة الحاكمة، والتعرّف على وجهها ومعاشرتهم». نأى د. إحسان عن الصفتين؛ آثر العزلة والاعتكاف، وسخر من الألقاب، ورأى في التقشّف فضيلة؟

زرته في منزله في عمّان، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة لقاء حول: «موقع الرواية الأردنية في الرواية العربية»، أسعدني الحظ في التكلّم تحت إشرافه. أذكر من الزيارة حديثه عن «اختلاف المدن واختلافات الهواء، وأن هواء المدن من طبائع أهلها، وأن أفضل المدن ما يبعث هواؤها على الاعتكاف». وأذكر صوتًا خافتًا يعرف أنه لم يقرأ لوسيان غولدمان ولا رولان بارت وقرأ لوكاتش وباختين، وأنه حلم طويلًا بصياغة نظرية في الرواية، لولا مشاغل التراث التي وزّعته على قديم، لا يأتلف ووقائع الرواية.

جواز سفر يفتح دروب السعادة

لم يكن سعيدًا وهو طالب دراسات عليا في جامعة القاهرة، كما قال، أبكاه سقوط فلسطين، وأرهقه عسر الحال وتشتّت العائلة بلا معيل. غابت عنه رموز الأمان «فحمل علمه» وقصد جامعة الخرطوم، وعثر مصادفة على جواز سفر، يعتقد «بعض الكرام» أنه يفتح دروب السعادة ويفضي إلى الجنة. وصل إلى السودان متأبطًا أحزانه، فوضع كتابًا عن «أبي الحسن البصري»، المتصوّف الزاهد بالحياة، وآخر عن «أبي حيّان التوحيدي» الذي قال: «الغريب هو من كان غريبًا بين الغرباء». حين ألمحت إليهما مرة قال إحسان ضاحكًا: «الغرباء كالمتصوفة يعرف بعضهم بعضًا، وجدت فيهما انتسابًا وهوية، فمن قصد العلم لذاته ذهب إلى أرواح خيّرة، وبعد أن ضاعت فلسطين ضاع معنى الحقيقة وغدت الكآبة هوية».

استعاد صورته البعيدة في سيرته الذاتية: «غربة الراعي»، راجعًا إلى قرية مسالمة أُخرج منها ولم تخرج منه. أيقظت ذاكرته طفلًا كان بيته وراءه وينحدر نزولًا، ينعطف يَسْرة ويَمْنة، ويقف أمام مزبلة كأنها رابية. ما يفاجئ القارئ الجملة اللاحقة: «لو كان ذلك الطفل في ذاك الزمان يعرف معنى الرموز لأدرك أن جميع طرق الحياة تفضيو إلى مزبلة».

يصادر الاستهلال السيرة ويجعلها صفحة بيضاء، ذلك أنها قالت ما تريد من السطور الأولى، واستبقت ما تبقى تعليقًا، يسجل وقائع الحياة البسيطة ويدع «العالم الداخلي» جانبًا. كأن تأمل الوجود واستحضار الطفل القديم للإنسان يجعلان الشهرة والجوائز والمناصب والألقاب شأنًا خفيفًا عارضًا.

في صباح يومي خريفي ودود اقترح محمود درويش أن نزور د. إحسان، ما ذكر اسمه إلا وكان مصحوبًا بلقبه العلمي، وبنبرة اعتذارية عن تقصيره في زيارته. كان ذلك قبل نهاية القرن الماضي بسنوات قليلة، والشاعر يتهيأ لإعادة إصدار مجلته «الكرمل». كان في اللقاء ما يدعو إلى حديث عن الشعر والشعراء والنقد والإبداع والسلطة والثقافة… بيد أن المتوقع لم يقع. اندفع العجوز السبعيني في حديث عن مآل الفلسطينيين وخيباتهم وعثارهم الذاتي والعربي، وعن الشهداء والتضحيات والاغتيالات، وعن بؤس مضى ولن ينتهي. كان الشاعر ينظر إلى العجوز الغاضب حزينًا، قال: «في كل فلسطيني قصة، وفي كل قصة حكايات مؤسية». أجاب العجوز: «ولنا ذاكرة مثقوبة»، وطلب درويش من د. إحسان إجراء حوار شامل لمجلته التي ستعاود الصدور.

سألت إحسان في الحوار الطويل الذي قمت به بالتعاون مع الشاعر الفلسطيني الفطين مريد البرغوثي: لماذا تفضي جميع دروب الحياة إلى مزبلة؟ قال: «ما الذي يزعجك؟ في جميع البلدات والقرى مزابل، والمطلوب أن تكون على الهامش لا في المركز، فمركز القرار لا يعقل أن يكون في مزبلة»، وضحك. اعتدل في جلسته وتابع بنبرة أخرى: «قصدت الشقاء في تحصيل الصدق والوصول إلى الحقيقة، معظم القادة، كبارًا كانوا أم صغارًا يكذبون، والحقيقة تطرد إلى المنفى مثلنا وتموت».

الحقيقة دفنت في الوطن

والأرجح أن صوفيته المضمرة وإحساسه العميق بالظلم في أساس ذلك التعبير المشبع بالتشاؤم، وإيمانه بأن الحقيقة دفنت في الوطن، وأن وجودًا قتلت فيه الحقيقة أعلى مدارج الاغتراب. أراد أن يكون كما كان صبيًّا في فلسطين: «راعيًا»، وكما كان قبل المنفى وبعده: «غريبًا». وما سيرته الذاتية إلا عناق بين غربة متجددة وزمن آخر مضى. غربة فسيحة طاغية تتجاوز الزمن وتخلع عنه وقاره المحتمل.

ماذا تذكر عن غسان كنفاني؟ سؤال لا بدّ منه بسبب صداقة ربطت بين الطرفين. أجاب: أحببت فيه فلسطينية صادقة أيقظت موهبته، وشعورًا بالكرامة أمضّه عار المنفى فواجهه بطرق مختلفة، وإحساسًا مرهفًا يجعله يفهم المقصود بلا كلام. سمع ما لم أقله عن روايته «رجال في الشمس»، قبل نشرها، وعاد بعد أسبوع ليقول: والآن هل وصلت الرسالة؟ أراد أن يكون مفردًا في مجموع، وأجهده تعدّده.

اقترنت صورة إحسان عباس حين قابلته عام 1978م، بضحكة عالية كأنها صهيل. خبا الصهيل بعد اثنين وعشرين عامًا، كان في المؤتمر الأول لجائزة القاهرة للرواية العربية، يجلس على كرسي متحرك، عجوزًا أنيقًا له وقار، تسير إلى جانبه د. وداد القاضي الباحثة اللامعة في الدراسات الإسلامية. جاء من عمّان وجاءت من الولايات المتحدة، كانا يمضيان معظم الوقت معًا في زمن رحل، يبحثان ويتحاوران ويكتبان ويدرّسان في الجامعة الأميركية في بيروت، وبينهما صداقة رفيعة، صداقة المعلّم والمريد، كانت أصغر منه عمرًا بكثير. أشرفت، بمناسبة عيد ميلاده الستين، على كتاب جماعي عنوانه: «… الذي سرق النار». سألت نفسي: « ما الذي سرق الزمن السعيد، وما الحكمة من توزيع التآلف على أقاليم الاختلاف؟». كان الجواب، أو ما يشبهه، في تلك المزبلة الرابية المحتشدة بالرموز التي شهدها إحسان، صبيًّا، ولم يدرك الأسباب.

بعد أن توزّعت إقامتي على دمشق وعمّان وثالثة بلا عنوان، كنت أزور إحسان، بين حين وآخر. كان قد دخل في ثمانينياته، أنظر إلى شرفته قبل لقائه، وألتقط من المشهد الصورة الثالثة، التي أكملت صورتين سابقتين. تقع عيني على العجوز الأليف وراء قضبان العمر، مسترجعًا، ربما، صورة أخيه الأصغر، بكر، الذي رحل قبله وكان تَوْءَم الرُّوح، يسخران من النقد الأدبي العربي المعاصر. يقول العجوز: «استنفد النقاد أسماء النقد، فلم لا نضيف إليها النقد الأدبي النباتي، فالعمل الأدبي نبتة مباركة»، ويضيف أخوه: «ليست الفروق بين النبات والحيوان كثيرة، فلم لا توسّع النقد بنوع جديد، النقد الأدبي الحيواني»، ويغرقان في الضحك، هامسيْن بأسماء لا أعرفها على أية حال. سألت د. إحسان عباس في زيارة أخيرة، بوحًا طليقًا أسأل فيه ما أشاء. زمّ شفتيه كما يفعل أحيانًا وقال: «هيّا إلى الأقلام والأوراق، شريطة أن تذيع الحوار بلا رقابة». احتفظت به إلى اليوم ولم أنشره، كان العجوز الجميل على سجيته ناطقًا بما يذاع، وبما لا تجب إذاعته. أذكر دعابة لا هزال فيها، مستهلّها حكمة مريرة: «لو كان على الأرض الكثير من المثقفين لهلكت»، و«القليل من القناعة يجعل من المثقف إنسانًا»، و«القناعة تأتي من الروح وتضيق بها كتب المثقفين»!!!

علّمني إحسان عباس احترام اللغة، وفضيلة المتواضع العارف، وأخلاق الكتابة، ولم أستطع تعلّم الهزل الجاد والجدّ الهازل، المكسوَّيْنِ بالبصيرة وحقائق الحياة.

حين توفي عام 2003م، شعرت أن جمالًا من هذا العالم انطفأ، وأن بيته في فلسطين سقط عليه سواد جديد.

الفيلسوف الغريب: بريق الشهرة وسخرية الأقدار

الفيلسوف الغريب: بريق الشهرة وسخرية الأقدار

الشاب اللبناني الريفي، المنتمي إلى طلاب باريس الثائرين -1968م- شخصية تحتفي بها الذاكرة بترحاب كبير. كان يعد أطروحة دكتوراه عن «ثورة جبل عامل في لبنان القرن التاسع عشر»، يمتدج الثورات في جميع الأزمنة، وينظر إلى المتحلّقين حوله شاعرًا بالرضى. يأتي مساء إلى مقهى «المدينة الجامعية» محملًا بالكتب مردّدًا أسماء أعلام الفكر الفرنسي في ذاك الزمان. أقرب إلى القصر بمعطف واسع كثير الجيوب، تتوالد منه كتب حديثة الصدور، يراصفها على الطاولة ويقول بفخار: هل رأيتم معطفًا أوسع من مكتبة؟

الشاب اللبناني الطيب، الطويل الشعر، كان يتوقف لحظة، ويخرج من جيبه كتابًا من جزأين هاتفًا: هذا أعظم الكتب في طبعته الكاملة: «قراءة رأس المال» للفيلسوف لوي آلتوسير، أحد آباء «ثورة الطلبة»، التي ستعود أكثر قوة.. الكتاب الذي صاحبه الهتاف رمادي الغلاف عليه رسم لطير، يحيل على حكمة إغريقية، أصدره الناشر اليساري: فرانسوا ماسبيرو (طبعته الأولى عام 1965م)، الذي لم يكن يعترف بالبوليس الفرنسي البرجوازي، و«نهب» الطلبة «الثوريون» كتبه وقادوه إلى الإفلاس.

اللبناني الطيّب الذي وصل باريس قبل ثورة الطلبة بعامين ولم يرجع إلى بلده، قال لي بوقار مصطنع: «الفيلسوف المعلّم» له محاضرة يوم الاثنين في «مدرسة التجهيز العليا»، شارع أولم قرب البانتيون -مرقد العظماء- الساعة الثالثة، موضوعها: «العقد الاجتماعي عند جان جاك…». استزدته بفضول فأضاف: «روسو، جان جاك روسو»، الذي شبّه به آلتوسير جان بول سارتر حين علّق على رحيل الأخير. كان في المدة الممتدة من ثورة الطلبة إلى منتصف السبعينيات مشهد فكري فرنسي متعدد المراجع، توزّع على الماركسية والبنيوية والفوضوية والوجودية ونزعة «عالم ثالثية»، استذكرت فرانتس فانون وجيفارا، وتعاليم الصيني ماوتسي تونغ وماركسية «التروتسكيين» التيار المسوّر أبدًا بمثقفات جميلات،….

كان للفيلسوف الماركسي آلتوسير، في تناقضاته الكثيرة، موقع واسع في المشهد الفكري الواسع. كان عضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي الموالي لموسكو، بلغة ذاك الزمان، وشديد النقد للشيوعيين الفرنسيين، كارهًا أشد الكره «للرفاق السوفييت»، عدَّهم الأكثر محافظة ورجعية في العالم. يعطف على تعاليم «الرفيق ماو» والثورة الثقافية الصينية ولا يرتاح إلى «الماويين» الذين يضعفون «كفاح الطبقة العاملة». ولم يكن يرى في التروتسكيين «عملاء للبرجوازية»، بلغة غيره، وهو المدافع عن «صراع النزوعات في الفكر». أخلص هذا المفكّر القلق، الذي أرهقه تردّده المستمر على المصحات النفسية، لأفكار ذاتية ترى الحقيقة نسبية وتعدُّ بعض تعاليم «آباء الماركسية» حماقات ماضية. ربط بين الفكر النقدي والأزمة اللازمة لاستمراره، وعيّن الأزمة مكونًا أساسيًّا لماركسية لا تريد أن تموت.

لوي بيير آلتوسير

لم أهمل نصيحة الشاب اللبناني، من دون أن أدرك أن «محاضرات آلتوسير» لا تشبه غيرها. وصلت متأخرًا بلا تأخير؛ بسبب زحام منع كثيرين من الجلوس. كانت قاعة المحاضرة في الساعة الثانية والنصف كاملة الحضور، والقاعة التي تسبقها مزدحمة بجمهور وقوفًا، و«الدَّرَج» المفضي إليها يزاحم فيه الذكورَ إناث أكثر عددًا، وساحة «المدرسة الشهيرة» «تناثر فيها طلاب فاتهم الاستماع إلى «الفيلسوف». في هذه الساحة، وكما جاء في مذكرات الفيلسوف، غرفة صغيرة منعزلة، كانت تجمع بين آلتوسير والموظفين الشيوعيين في اجتماعهم الحزبي. وإلى هذه الساحة سيخرج الفيلسوف صباح يوم الأحد -16 نوفمبر 1980م- صارخًا: قتلت زوجتي، «قتلت زوجتي»، قبل أن ينتهي إلى «سانت ـــ آن» مستشفى الأمراض العقلية، بعد أن عصف به اضطراب نفسي تاخم الجنون.

ولد آلتوسير في السادس عشر من شهر أكتوبر 1918م في الجزائر، والده كان غائبًا من تسعة أشهر- رعاه جدان فقيران لأمه، تابع دراسته العليا لامعًا وانتسب إلى «المدرسة الشهيرة» في باريس، غدا «عميدها» وأستاذًا فيها، وأعطته حين كان طالبًا «شقة صغيرة»، لازمته فيها زوجته هيلين، التي تكبره بأحد عشر عامًا، إلى اليوم الذي «مسّد فيه الفيلسوف عنق زوجته، واختنقت من دون أن يدري». لم يصمت عن مأساة، تداخلت فيها الكارثة بالفضيحة. سجّل دقائقها كاملة في سيرة ذاتية، عدد صفحاتها ضعف أي كتاب آخر له، عنوانه: «المستقبل يدوم طويلًا»، ترجم إلى أكثر من عشرين لغة.

جاء في الفصل الأول من الكتاب: «هذه هي التفاصيل الدقيقة، كما وعتها الذاكرة جلية وبلا نقصان، سأقول متى وكيف: هذا هو مشهد القتل كما عشته…». التزم أمام الآخرين بإظهار الحقيقة. أنهى سرد مشهد القتل وسيرة القاتل في ثلاث مئة وخمسين صفحة، انتهى منها خلال شهرين بعد أن برّأه مرضه، وحرّره من جريمة وقعت عليه ولم يهجس بها. أراد من الآخرين أن يحاكموه بعدل، وأن يقاضيه المستقبل بلا تحيّز وتزوير، وألا ينظر إليه «مريدوه» باتهام مرذول.

آية عبقرية غامضة

لم أنسَ نصيحة الطالب اللبناني الريفي، ذهبت ثانية إلى محاضرة «المعلّم» قبل ساعتين. اخترت فرحًا مقعدًا في منتصف القاعة، مطمئنًا إلى يوم لن يغادر الذاكرة. انتظرت النظر إلى الفيلسوف، نظرًا خلقته ذاكرة الشباب المنسرحة، التي تخيّلت المفكّر الذي يستثير «المريدين» قبسًا من معرفة، آية عبقرية غامضة، تبهر «رومانسيين» يصيّرون الوقائع إلى قصائد. انصرفت، حال دخوله، إلى تأمل ملامحه: شعر رمادي فضيّ ربما، يميل إلى الطول برأس كبير وجبهة عريضة وعينين عميقتي الزرقة يسكنهما غموض، التصق بهما جفنان يشدّان عينيه إلى محجريهما، شعر كثيف بسيط اللباس بلا رابطة عنق، أنف يبرز إلى الأمام قليلًا ومسحة حزن تغطي وجهه أو تحوّم فوقه.

الفيلسوف الذي أشرف على سلسلة كتب عنوانها: «نظرية»، قليل الكتابة تضجره «النظرية»، أصدر كتبًا صغيرة الحجم ساجل فيها آخرين، قدّسوا «ماركسية الآباء»، ورضوا عن الاتحاد السوفييتي ورضي عنهم، وعدُّوا غيرهم «تحريفيين»، من كلمات ذاك الزمان، ووضعوا آلتوسير في مقام محيّر، لا هو بالتحريفي الذي ينكر ماركس وتعاليمه، ولا «بالصراطي» الذي يقدّس الأفكار، إنما هو «ستاليني» جديد صالح بين الماركسية والبنيوية مصالحة تسيء إلى الطرفين. وواقع الأمر أن الفيلسوف الذي رحل في الثاني والعشرين من أكتوبر 1990م لم ينجز «دراسات أكاديمية»، كان يجتهد في «مداخلات نظرية» يمليها السياق، تصحح السياسي الخاطئ بالنظري الصحيح، وتكسّر عنق النظري الملتوي الذي يخشى النقد ويؤثّمه.

قادته أولوية السياسة على النظرية إلى تعريفات غير مألوفة: الفلسفة هي الممارسة النظرية؛ إذ التساؤل الفلسفي فعل وممارسة، والفلسفة هي الصراع الطبقي في النظرية، سياسة أخرى تنشد انتصار الطبقة العاملة. قاده إيمانه بالأفكار الصحيحة إلى رفض مقولة الاغتراب الهيغلية الأصول، ذلك أن هيغل جاء قبل ماركس ولا يدعو إلى ثورة. وسخر من مصطلح «عبادة الشخصية» الذي فسّر به السوفييت «الظاهرة الستالينية» وتندّر على منظور ساذج يقسم العلم إلى برجوازي وبروليتاري، وطالب بسياسة جديدة توطّد النقد العارف ولا تسعى إلى السلطة، ففي الأخيرة ما ينزع إلى الثبات، ولا يرى الواقع بصيغة المتعدد. أعاد آلتوسير بناء «ماركسيته» مستفيدًا من جهود فرويد، رائد التحليل النفسي، وتعاليم غاستون باشلار فيلسوف العلوم، ومفهوم البنية الذي أفاد بعض علماء الأنثروبولوجيا، وتابع قراءة أدب «بورخيس»، الأرجنتيني الأعمى الذي فتنته حكايات ألف ليلة وليلة.

هذا رأس ليس كرؤوس الآخرين

أذكر بحنين: المعلّم الذي غدا أسطورة معروفة سوداء الأطراف، كما لو كانت شهرته وجعًا لا يعالج مبهم العنوان: العبقرية والجنون. كان يوم الاثنين من شهر أكتوبر -1972م خريفي الأناقة منفرج الابتسام، توسّطته محاضرة عن «جان جاك». حيّا آلتوسير التلاميذ، أشعل سيجارة، فكلمات عن الفلسفة السياسية في فرنسا القرن الثامن عشر، فالفرق بين إنسان الطبيعة وإنسان المجتمع، وعن «الاغتراب» منطوقًا بالفرنسية والألمانية. كان يقرأ جملًا من كتاب حمله بيده اليسرى، يتابع تدخينه، يسير بين مقاعد الحضور، يعود إلى «المنصّة» ويشعل سيجارة جديدة. أذكر صوتًا متمهلًا ترافقه حركات من يده اليمنى، وجبهة عريضة واسعة بارزة صدمت «القابلة» عند ميلاده فقالت: «هذا رأس ليس كرؤوس الآخرين»، كما جاء في سيرته الذاتية. بعد زمن ستقول أخته: «لوي حالة خاصة، إنه مختلف عن غيره». كان في اختلافه شقاء وراحة هاربة: «هذا هو الحيّز الذي عشته. في المحصلة قاتلت طويلًا وحظيت بلحظات قليلة من السلام والراحة». كلام جاء في رسالة إلى زوجته «هيلين».

الفيلسوف المنسوجة روحه من تناقضات لا تنتهي، أطلقت شهرته ست مئة صفحة نشرت بين 1959م و 1968م فلسفة جديدة لم يألفها الآخرون. صدر له بعد رحيله دراسات «نظرية» وزّعت على أكثر من كتاب، إضافة إلى كتابين كبيرين من «رسائل الحب»، الأول «رسائل إلى فرانكا» مترجمة إيطالية تبادل معها عشقًا طويل العمر (1961: 1973م) شهد عليه ثماني مئة صفحة من القطع الكبير، والثاني من سبع مئة صفحة: «رسائل إلى هيلين»، الزوجة الطيبة القليلة القامة، التي مسّد عنقها صباحًا وقادها إلى «موت هادئ»، من دون أن يدري.

الفيلسوف الأشهر بين فلاسفة القرن العشرين، بلغة الفرنسي بيير هنري ليفي في تقديمه الطويل «لرسائل إلى هيلين»، صرع مآله شهرته بقسوة فاجرة. أوردت محاورته فرناندا نوفارو في كتاب «حول الفلسفة»، الذي عرض فيه أفكاره المتأخرة، كلماته الآتية: «أضجرتني العزلة مساء، غادرت البيت ومشيت قليلًا فتعبت، جلست أمام الباب، استيقظت صباحًا متفاجئًا، نمت خارج بيتي من دون أن أدري، فقد نسيت أن أتناول الدواء». اختزن ما كانه وما أصبحه في عينين عميقتين وجفنين متلاصقين يثقلان عليهما.

الصديق الراحل ميشيل بيشو، عالم اللغة وصاحب «نظرية الخطاب»، المقرّب من الفيلسوف وتلميذه، أتاح لي لقاء مع آلتوسير في مطعم صغير في الحي اللاتيني. جلست موزعًا على الفرح والمفاجأة، حرّك «غليونه» وسأل: «هل ستصلون إلى شيء؟». أربكني سؤال لم أستوعبه، أعاده: «أنتم الفلسطينيون ماذا تنتظر قضيتكم من كفاحكم المسلّح، وهل سياستكم معقولة التسلّح؟». أجبت بكلام غائم. هزّ رأسه وقال: «المهم ليس إشهار السلاح، بل ميزان القوى الصادر عنه. القضايا العادلة تحتاج إلى سياسة صحيحة طويلة المدى، لا تنصاع إلى رغبات تظن نفسها عادلة…».

كان ميشيل بيشو، الذي عرفته مدة ثلاث سنوات، يرسل شعر رأسه ووجهه، لا يعبأ بالأناقة، وله بِنية فلّاح قوية. كان يحدثني عن معلمه وصديقه ببساطة، ينبهر به ويسخط على بعض أفكاره. بيشو الذي أشهره كتابه «حقيقة البداهة»، المترجم إلى أكثر من لغة، انتحر بعد أن خنق أستاذه زوجته، قاسمه جنونه، لم يشأ أن يتركه وحيدًا، نجا المعلّم من دون أن ينجو، واستقر تلميذه في ظلام القبر قبل الأوان.

رحل المعلّم، رمزيًّا، عام 1980م، وفعليًّا عام 1990م. مُنع، بعد الجريمة، من النشر، ومُنعت الصحف من تداول اسمه، ران عليه صمت له رائحة مقبرة. على خلاف تلميذه المنتحر تابع المعلّم «قتاله» من قبره. فاجأ غيره بمخطوطات احتفظ بها نشرت من 1992م إلى 2018م، طوّر فيها فكره وانتقل من طور معروف، كان يجدّده بلا توقف، إلى طور غير معروف. تحدّث دارسوه عن آلتوسير أول، فثانٍ، فثالث، كما لو كان موته قد أعاد اكتشافه.

المآل غير العادل لإنسان عادل من وجوه الحياة الأكثر شقاء.

سجالات متقادمة كأنها ذكريات

سجالات متقادمة كأنها ذكريات

تنتمي السجالات التالية إلى عقود أخيرة من القرن الماضي، انطوت على سلب مثابر أغلق المستقبل. لحق التغيير بالزمن والمكان والمستقبل قبل وصوله. فلم تبق ملامح دمشق على ما كانت عليه، وشكل بيروت انزاح عمّا كان. تبدو تلك السجالات أطيافًا راحلة، تشبه قبورًا جرفها سيل عنيد. والذين قاسمناهم الخلاف والاختلاف غيّبهم الموت، تبقّت منهم أسماء تتسرّب، أحيانًا، من الذاكرة.

بعثت على السجال الأول ملاحظة عارضة، أصابت عملًا لإميل حبيبي أخطأ النجاح. فبعد روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، التي حظيت بتصفيق واسع، حاول الأديب الفلسطيني، الذي بقي في مدينة حيفا، أن يعطي «متشائله» اسمًا جديدًا: «لكع بن لكع». بنى روايته الجديدة بمواد تشبه ما بنى منه روايته الشهيرة، ارتكن إلى لغة تراثية صقلتها الصحافة، زخرفها بسخرية سوداء، ودعمها بإشارات سياسية، تخز العرب ولا تقتصد في هجاء الاحتلال الإسرائيلي. غير أن ما سعى إليه ضلّ طريقه، ترسّب في محصول فقير، عاينته مع الأردني غالب هلسا بلا إعجاب كبير.

إدوار الخراط

كان غالب قد وصل إلى بيروت، بعد أن أخذت به أقداره إلى مسار طويل، مرّ فيه على القاهرة، وعلى بغداد مرّتين، فدمشق وبيروت، في انتظار سفر قادم خاصمته الراحة منذ زمن طويل. سألني بنبرة متلكئة كأنها لتلميذ خجول: هل قرأت عمل إميل الأخير؟ أجابه وجهي بنفي بلا كلمات، وردّ بكلام موجز: «قلّد ما كتبه ولم يحسن التقليد». تشاركنا الرأي في حوار مشترك، اقترحته جريدة السفير اللبنانية، في أوائل عام 1978م، أوحى بتواطؤ موتور ضد أديب فلسطيني ذائع الشهرة. لم نكن ندري، حينها، أن نقدًا محدود الكلمات يمكن أن يستدعي غضبًا لافحًا، ينصف المظلوم ويحاكم الظالمين!!

ظهرت بدايات الرد في مجلة الجديد، التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح بلغة تلك الأيام بكلمات من نار بلا نور: «البرجوازيون الصغار يهاجمون رفيقنا في بيروت»؟ كان هذا عنوان مقالة كتبها المؤرخ الرصين الدكتور إميل توما. كان «الإميلان»، كما كان يقال، عضوين في الحزب الشيوعي. صدّ الرفيق المؤرخ الهجوم الذي وقع على الرفيق الروائي، اعتصما بحبل «الطبقة العاملة»، وواجها طبقة ضالة تدعى: البرجوازية الصغيرة. بدا المؤرخ اللطيف، الذي حسم حياته مرض السرطان في بودابست عام 1984م، قاضيًا عنيف الإدانة، ينكر على الذين هاجموا رفيقه معرفة الأدب والنقد، وبدا الرفيق الروائي مبدعًا معصومًا عن الخطأ، تضمن حزبيته إبداعه القويم.

ما ترسّب في الذاكرة لا يعود إلى «برجوازيين صغار»، تطاولوا على النقد الموضوعي وهم يتطاولون على رفيق روائي، ولا إلى خلاف أدبي يدور بين الرذيلة والفضيلة، بل عاد إلى ظاهرة: «القبيلة الحزبية»، التي إن اشتد غضبها دعت إلى معايير قبلية في الكتابة والقراءة، واستنفرت أفراد القبيلة للإجهاز على خصومها. لم يتبقّ، تقريبًا، رفيق يحسن الكتابة، أو لا يحسنها، إلا شارك في «معركة الحق»، مسلحًا بتهم جاهزة، تبدأ بالعماء الفكري والسياسي وتنتهي بالتآمر على الأدب المقاتل، حتى اقترب عدد المشاركين، من فلسطينيين وعرب، من العشرين أو جاوز ذلك.

قال لي هلسا ببراءة لازمته حتى رحل: «ألا ترى معي أن الرفاق يشخصنون الحقيقة، ويختصرونها في أدباء حزبيين؟ لماذا يساوون بين الاختلاف و«الشذوذ»، ويسرفون في الاتهام حتى تعييهم الكلمات؟».

ارتكن الاتهام في تلك الواقعة إلى «معايير جماعية في النقد والإبداع»، وإلى نبذ المفرد والتفريد والاحتكام إلى «واحد مجهول»، يباركه تعميم، هو تجهيل، لا فرق إن كان «الواحد» معمّمًا، أو حاسر الرأس، يطمئن إلى «مادية جدلية» مفترضة، أو إلى اتّباع موروث يجهض المفاهيم الحديثة، التي يدّعي الانتساب إليها.

انطفأ اليوم هذا «الصخب العالي الصوت»، رحل المؤرخ والروائي وتراخى ما هو «جديد»، وغاب غالب هلسا وتساؤلاته. استقر «التعميم» في مكانه، ناسيًا أن لا معرفة إلا بالخاص، وأن الإبداع يصدر من أفراد ولا ينبثق من «جماعة». يتحرّر اليوم «الصخب» المنقضي من سلبه. يتكشّف ضوضاء مبهجة، يلتفت القلب إليها بحنين.

الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»

ينفتح السجال مع «رفاق» راحلين على «رفيق» آخر، كان له جمهرة من المشايعين: الروائي السوري حنا مينه، الذي اجتهد في الكتابة وفي العيش طويلًا. وعلى خلاف الأديب الفلسطيني، الذي قلّد ذاته وأخطأه التوفيق، وتعرّفت إليه «هاتفيًّا» بصوت أجش يخالطه السعال، كان الأستاذ حنا صديقًا، بشوشًا مضيافًا حريصًا على سيجارة لا تنطفئ، قاسمته صداقة سعد الله ونوس والناقد السينمائي سعيد مراد، الذي التحق بالتراب قبل الخمسين، وسعيد حورانيه، كاتب القصة النبيه الذي اعتزل الكتابة مبكرًا. كان هؤلاء، باستثناء سعد الله، أعضاء في «رابطة الكتّاب العرب»، التي رأت النور في دمشق عام 1954م، ربما.

كان في الصديق الروائي الراحل أبعاد من شخصية «أبو زهدي الطروسي»، بطل روايته «الشراع والعاصفة»، البحّار الشجاع الذي يحب الحياة وتطربه تحيات «الجمهرة» التي تلتف حوله. دفع إلى السجال الطويل تعليق صغير، خالف رأي حنا عن «البطل الإيجابي»، نشر في مجلة الحرية التي انتقلت بعد 1982م من بيروت إلى دمشق. وكحال حبيبي الذي أوكل إلى غيره «الذود عن حياضه»، هرع مشايعو الروائي، أسوريين كانوا أم لبنانيين وعراقيين، إلى نصرته، وتكاثرت الردود وانتهت إلى كتاب: «حوار في علاقات الثقافة والسياسة»، شارك فيه هلسا والروائي السوري هاني الراهب والفنان عاصم الباشا وغيرهم. كان في الردود ما يفصل بين الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»؛ إذ للجماعة الأولى كتابها الرشيد المحدث، همسًا، عن الواقعية، والناطق جهرًا «بالواقعية الاشتراكية»، وللجماعة، المبتورة والموتورة معًا، أضاليل وعبث سمّار، يلقّنهم الليل ما يكفّره النهار.

غالب هلسا

تمثّل الطريف، الذي لا طرافة فيه، في «البطل الإيجابي» المتوالد في متواليات على صورته، ساوت بين الروائي وبحاره وبين قرّائه والبحار المنتصر، وبين الانتصار وواقعية «شجاعة» لا تخيب. كان في الاختلاف ما يطفو على سطح الأدب وفي أعماقه رغبة في الانتصار، حتى لو كان انتصارًا من حبر وورق؛ ذلك أن «الحلم الاشتراكي» بدأ، آنذاك، رحلة الأفول. وعوضًا عن مساءلة أسباب خيبته، تشبّث «الإيجابيون» بمدينة فاضلة موعودة، بحاجة إلى نقد سياسي، بعيدًا من شعارات أقرب إلى «التعزيم»، أوحت أن الحديث عن الدفء يجلب سكنًا سعيدًا. لملم الزمن أوراق المدينة الموعودة، وأشعل فيها النار، ونقل التعزيم إلى خطاب مختلف، أدمن عموميات لفظية، تفصل بدورها بين الحق والباطل.

يبحث العقل النقدي عمّا هو سياسي في الصنعة البلاغية، ويصيّر العقل المغلق الزخرف اللغوي الشكلاني حقيقة جامعة. كشف مكر الزمن أن الاعتراف بالآخر فضيلة، وأن الفضيلة المعترف بها لا يحتكرها أحد، وأن العقل الطليق، يضيق بالنعوت النهائية. لم تعترف الإيمانية المتحزّبة بالمراجعة الذاتية، ونقدت «أضاليل» خصومها، دون أن تدرك أن النقد المشخص أداة نظرية سياسية، تعطف معرفة نسبية على معرفة نسبية أخرى، وأن مرجع الحقيقة هو الممارسة والأثر الملموس، لا استظهار الكراريس الحزبية.

أظهر الواقع أن المواقف الفكرية النسبية، التي تحترم الرأي ونقيضه، مقبولة عند مثقفين لا قبائل لهم، يحترمون الكتابة ولا تستدعيهم البطولة، أكانت إيجابية أم سلبية. نقدت، في تلك الحقبة النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي روايات جبرا إبراهيم جبرا «بأسلوب غليظ» في دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية عنوانها: «بين فلسطيني الوهم وفلسطيني الواقع» أو ما يشبه ذلك. كان «الرفاق» يرون ذاك الأديب الفلسطيني المستقر في بغداد «ليبراليًّا»، بلغة مخفّفة، أو رجعيًّا برجوازي الأهواء، بلغة من حطب. توقعت حين التقيته للمرة الأولى في بيروت أن يستنفر حاشيته، وكان له معجبون؛ كي يفصّلوا بين الأحكام العادلة والمعايير الجائرة. لكنه اكتفى بعتاب ساخر وبإنارات هادئة، دافعت عن الإبداع والفرديات المستقلة.

اعتبر جبرا أن الكتابة بعد من تجربة ذاتية، مرجعها ذات حرّة متعددة الهواجس والذكريات والرموز. قال ضاحكًا: «إنني أكتب عن قدس عرفها شبابي، وعن شباب حاشد بالأسرار، وبنيت «وليد مسعود» بأحلامي وبتذكّر بشر عايشتهم، وضعت فيه ما أذكر من أبي وأمي وطفولتي…»، وتابع: «لا يحق لأية تعاليم نظرية أن تكسو ذكرياتي بألوان غريبة عنها. لا يصف دقائق الجسر إلا من سار فوقه…». ولم يشر إلى جسره، وإن كنت أدرك أن جسره ذاتيته المتعددة المصادر، اجتمعت فيها أطياف طفولة في بيت لحم، وصبا مقدسي، ومعاناة اغتراب ولجوء، ومنظور رومانسي للعالم جاء من شعراء إنجليز مثل بايرون وكيتس وكوليردج، وتمثّل قصائدهم حين كان طالبًا في جامعة أكسفورد في بريطانيا.

النفس الرحيبة الأنيقة

أحال جبرا، في حديث صباحي مشمس، إلى ثقافة المكان، فلا ثقافة حقة تكتفي بالكتب، وإلى طفولة غزيرة الرموز، وإلى طفل لامع قديم أراد أن يكون أبًا لأبيه، كما يقول الرومانسيون. كان بإمكانه، دون أن يعاقب أحدًا، أن يلمّح إلى ناقد مغربي قرأ دراستي الظالمة بعنوان عادل: «قراءة جبرا ومشانق الأيديولوجيا»، لكنه أثار حوارًا أنيسًا يحتفي بالبشر ولا يقاصصهم. بعد لقاءات عدة في عمّان ومرور ثلاثة عقود، تقريبًا، على رحيله، أسمح لنفسي أن أدعوه: «النفس الرحيبة الأنيقة»، التي أسعدني اقتراح صديقي عبدالرحمن منيف بالإشراف، معًا، على كتاب جماعي أهدي إلى جبرا بمناسبة بلوغه السبعين عنوانه: القلق وتمجيد الحياة 1995م. ولد جبرا في بيت لحم عام 1920م.

«نسيم الشباب من الجنة»، قول ردّده معلمي في المرحلة الابتدائية، القصير القامة المأخوذ برائحة عطرة. كان أسلوبي في مرحلة الشباب مدّعيًا يمازجه الجفاف، صاغ مرة دراسة عن المصري إدوار الخرّاط، نعت فيها أسلوبه «بلغة الكهّان». وأخذت عليه تكرار ما يكتب وغلوّه في تجريدات تتطيّر من المعيش. كان قد أشرف على عدد من مجلة الكرمل، بعد انتقالها إلى قبرص إثر الخروج من بيروت عام 1982م كرّسه «للحساسية الجديدة»، و«تصغير» النهج الواقعي ومشاكسة منظور نجيب محفوظ، دون ذكر اسمه.

إميل حبيبي

لم أكن من أنصار «حساسية الخرّاط»، ولا شكلانيته اللغوية المتكلّفة، نقدته بلا تحفّظ غير مرة، أشدّها عنفًا في مجلة الكرمل. فاجأني صاحب «رامة والتنين» بشكل من «الحوار والاختلاف» لا عهد لي به. بعث برسالة رقيقة، جمعت بين العتب والشكوى علمتني، بعد رسائل تالية، قاعدة جديرة بالنظر: «يُقرأ المبدع في كل أعماله أو لا يقرأ». أرسل لي، كما وعد في رسالته رزمًا متلاحقة من الأوراق، تتضمن حوارات معه ومقالات قديمة وجديدة، وأوراقًا تعود إلى أربعينيات القرن الماضي حين كان عضوًا في «جماعة الخبز والحرية». تأملت تصوره اللغوي القائل، بشكل مضمر: إن اللغة خلق إلهي ومرتبة إيمانية، وإن محاكاة الإلهي جهاد شاق متواتر، أقرب إلى استغراق الصوفية في الوجود الإلهي.

استقر جبرا إبراهيم جبرا في صدري بحديثه الأنيس، واحتفظت بسلوك الخرّاط درسًا في المؤانسة. أبان الطرفان أن المبدع الأدبي من ثقافته، وأن الثقافة أُلفة وتعارف وصحبة طويلة الطريق. سايرت الأول في عمّان، تعرّفت فيه إلى «وليد مسعود»، فلسطيني من واقع وشعر، وقابلت الخرّاط في القاهرة ولمحت فيه بطله المشتهى «ميخائيل» العاشق لأنثى من ندى ونور ورغبات. نحتفظ من المثقفين الصادقين بأشواقهم، التي تقترحها الروح وتبنيها الأحلام ويدفع بها الزمن إلى ركن غامض.

كان صديقي السوري حيدر حيدر ينظر من شرفته إلى بحر بيروت ويقول ضاحكًا: «ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردًا»، كان آنذاك في أربعينياته. ما قال به نهجس به اليوم، مع فرق في الزمن، الذي «يرعب الإنسان رعبًا كاسحًا»، بلغة نجيب محفوظ في الصفحات الأخيرة من «السكرية».

سؤال أخير: لماذا يهذّب الكاتب أسلوبه بعد حين؟ هل هي التجربة التي تعلّمه ما لا يعلمه، أم إنها متاهة الزمن وأطياف الراحلين؟

يتناثر الجواب المؤرق في الصدر، كأنه شظايا جارحة الأطراف.