إحسان عباس: إنسان من معرفة وبصيرة ومحبة

إحسان عباس: إنسان من معرفة وبصيرة ومحبة

ارتبطت صور الراحل د. إحسان عبّاس بذاكرتي بمناسبات ثلاث: زيارتي الأولى منزله، القريب من حديقة الصنايع في بيروت عام 1978م. كان الجو ربيعًا. وحضوره الأنيس في لجنة تحكيم جائزة القاهرة للرواية العربية عام 2002م. كان الجو خريفًا والراحل رئيسًا. وصورته في شرفة منزله في عمّان في الطور الأخير من حياته. كان الجو مختلطًا يسيطر عليه الشتاء. ثلاث مناسبات في ثلاثة أمكنة وأزمنة متداخلة، أنطقت «الفلسطيني القديم» بحركات غير متساوية. لكل طور من حياة الإنسان وجه يحتضن ما سبقه ويسخر منه.

زرته لأهديه كتابًا صغيرًا ظننت، وأنا أكتبه، أنني أنجز «سِفرًا ثمينًا»، يشرح العلاقة بين الدين والطبقات الاجتماعية، ويخلص إلى نتائج تحرّر عقل القارئ من أوهامه. أنساني الوهم أنني أقدّم كتابًا صغيرًا لعالم كبير من حبر وورق وجَلَد، كتب وترجم وحقّق عشرات المخطوطات والكتب، عَلَم في مجال التاريخ والأدب، ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأميركية، وأستاذ مرموق تطلّع إلى جيل من الباحثين على صورته، ذلك أن «صور الأمير من نباهة الذين يخلفونه» كما قال الإيطالي ميكيافيللي. وقدّم ترجمة فريدة لرواية «موبي ديك».

قال بعد ترحيب: «هذا كتاب صغير الحجم كبير الفائدة»، ابتسم بعد قراءة إهدائي وأضاف: «هل تسمح لي أن أصحّح خطأ نحويًّا وقع سهوًا في إهدائك الكريم؟». نظرت إليه بخجل، كما لو أن كتابي تضاءلت صفحاته من جديد. أشفق من تلعثمي وسارع إلى القول: «نحن على أية حال متساويان، فلسطينيان في لبنان، أحدهما من قرية في قضاء صغير، وأنا ولدت في قرية عين غزال، نحمل لقبًا أكاديميًّا، وأدركتنا معًا حرفة الكتابة».

توقف وابتسم وتابع: «لكنّ بيننا فرقًا واحدًا: أستطيع أن أصوّب خطأً نحويًّا بسبب صحبة مع اللغة العربية طويلة، تختلف عن صحبة هيغل وديكارت وماركس، الذين آثرتَ صحبتهم على صحبة سيبويه والهمذاني والجاحظ». ختم القول بابتسامة استحالت قهقهة.

كان في وجهه ألفة وافرة سيترجمها، لاحقًا، بجد أقرب إلى الهزل، وبهزل ثاقب الأحكام وبرضى، في ساعات الرضى، يطلق ضحكًا عفويًّا كأنه الصهيل. أكمل الستين من عمره، ببنية أقرب إلى السنديان، يتوّجها رأس أشقر الشعر، حافظ على مواقعه، ووجهه «أحمر» امتد في رقبة حمراء على جسم يميل إلى القصر.

سيقول د. فهمي جدعان، صاحب كتاب «أسس التقدّم في الإسلام»، في ندوة عن إحسان عباس أقامتها مؤسسة شومان في عمّان: «كنّا ندعوه أيام الصبا: الصبي الأحمر المتفوّق؛ إذ كان فريدًا في لونه بين التلاميذ».. أما تفوقه فتقاسمه مع مجايليْه: إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ولد ثلاثتهم عام 1920م وانصرفوا، بأشكال مختلفة، إلى الأدب. وزعتهم نكبة 1948م على أكثر من أزمة ومنفى، وعرفوا المنفى مرتين: خسران ماضٍ أمين احتضنهم، والتوجه إلى مستقبل أثقله القلق. بقي «حبيبي» في الوطن المصادر قريبًا من «أيام العرب»، كما كان يقول، وسيتذكّر إحسان «رموز الأزمان المنقضية» في سيرته الذاتية: «غربة الراعي» 1996م، المستهلّة بشجن موجع يسائل جدوى القراءة والكتابة، ويقيم فرقًا بين المثقف المختص وبين «المثقف الفرح» المشغول بتوزيع صوره على وسائل الإعلام الجماهيرية، والرسمية.

كان الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي قضى في السجن قبل أن يصل إلى الخمسين، قد أعطى ملاحظات «كونية» عن الثقافة والمثقفين في «كرّاسات السجن»، أفرد فيها حيّزًا للمثقف الريفي الأصول.

قرأ في الأخير صفتين متلازمتين: «التجمّل الاجتماعي الذي تترافد فيه الشهرة وجاذبية اللقب والتبيّن على العامة، والجهد في تجسير المسافة بين المثقف والسلطة الحاكمة، والتعرّف على وجهها ومعاشرتهم». نأى د. إحسان عن الصفتين؛ آثر العزلة والاعتكاف، وسخر من الألقاب، ورأى في التقشّف فضيلة؟

زرته في منزله في عمّان، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة لقاء حول: «موقع الرواية الأردنية في الرواية العربية»، أسعدني الحظ في التكلّم تحت إشرافه. أذكر من الزيارة حديثه عن «اختلاف المدن واختلافات الهواء، وأن هواء المدن من طبائع أهلها، وأن أفضل المدن ما يبعث هواؤها على الاعتكاف». وأذكر صوتًا خافتًا يعرف أنه لم يقرأ لوسيان غولدمان ولا رولان بارت وقرأ لوكاتش وباختين، وأنه حلم طويلًا بصياغة نظرية في الرواية، لولا مشاغل التراث التي وزّعته على قديم، لا يأتلف ووقائع الرواية.

جواز سفر يفتح دروب السعادة

لم يكن سعيدًا وهو طالب دراسات عليا في جامعة القاهرة، كما قال، أبكاه سقوط فلسطين، وأرهقه عسر الحال وتشتّت العائلة بلا معيل. غابت عنه رموز الأمان «فحمل علمه» وقصد جامعة الخرطوم، وعثر مصادفة على جواز سفر، يعتقد «بعض الكرام» أنه يفتح دروب السعادة ويفضي إلى الجنة. وصل إلى السودان متأبطًا أحزانه، فوضع كتابًا عن «أبي الحسن البصري»، المتصوّف الزاهد بالحياة، وآخر عن «أبي حيّان التوحيدي» الذي قال: «الغريب هو من كان غريبًا بين الغرباء». حين ألمحت إليهما مرة قال إحسان ضاحكًا: «الغرباء كالمتصوفة يعرف بعضهم بعضًا، وجدت فيهما انتسابًا وهوية، فمن قصد العلم لذاته ذهب إلى أرواح خيّرة، وبعد أن ضاعت فلسطين ضاع معنى الحقيقة وغدت الكآبة هوية».

استعاد صورته البعيدة في سيرته الذاتية: «غربة الراعي»، راجعًا إلى قرية مسالمة أُخرج منها ولم تخرج منه. أيقظت ذاكرته طفلًا كان بيته وراءه وينحدر نزولًا، ينعطف يَسْرة ويَمْنة، ويقف أمام مزبلة كأنها رابية. ما يفاجئ القارئ الجملة اللاحقة: «لو كان ذلك الطفل في ذاك الزمان يعرف معنى الرموز لأدرك أن جميع طرق الحياة تفضيو إلى مزبلة».

يصادر الاستهلال السيرة ويجعلها صفحة بيضاء، ذلك أنها قالت ما تريد من السطور الأولى، واستبقت ما تبقى تعليقًا، يسجل وقائع الحياة البسيطة ويدع «العالم الداخلي» جانبًا. كأن تأمل الوجود واستحضار الطفل القديم للإنسان يجعلان الشهرة والجوائز والمناصب والألقاب شأنًا خفيفًا عارضًا.

في صباح يومي خريفي ودود اقترح محمود درويش أن نزور د. إحسان، ما ذكر اسمه إلا وكان مصحوبًا بلقبه العلمي، وبنبرة اعتذارية عن تقصيره في زيارته. كان ذلك قبل نهاية القرن الماضي بسنوات قليلة، والشاعر يتهيأ لإعادة إصدار مجلته «الكرمل». كان في اللقاء ما يدعو إلى حديث عن الشعر والشعراء والنقد والإبداع والسلطة والثقافة… بيد أن المتوقع لم يقع. اندفع العجوز السبعيني في حديث عن مآل الفلسطينيين وخيباتهم وعثارهم الذاتي والعربي، وعن الشهداء والتضحيات والاغتيالات، وعن بؤس مضى ولن ينتهي. كان الشاعر ينظر إلى العجوز الغاضب حزينًا، قال: «في كل فلسطيني قصة، وفي كل قصة حكايات مؤسية». أجاب العجوز: «ولنا ذاكرة مثقوبة»، وطلب درويش من د. إحسان إجراء حوار شامل لمجلته التي ستعاود الصدور.

سألت إحسان في الحوار الطويل الذي قمت به بالتعاون مع الشاعر الفلسطيني الفطين مريد البرغوثي: لماذا تفضي جميع دروب الحياة إلى مزبلة؟ قال: «ما الذي يزعجك؟ في جميع البلدات والقرى مزابل، والمطلوب أن تكون على الهامش لا في المركز، فمركز القرار لا يعقل أن يكون في مزبلة»، وضحك. اعتدل في جلسته وتابع بنبرة أخرى: «قصدت الشقاء في تحصيل الصدق والوصول إلى الحقيقة، معظم القادة، كبارًا كانوا أم صغارًا يكذبون، والحقيقة تطرد إلى المنفى مثلنا وتموت».

الحقيقة دفنت في الوطن

والأرجح أن صوفيته المضمرة وإحساسه العميق بالظلم في أساس ذلك التعبير المشبع بالتشاؤم، وإيمانه بأن الحقيقة دفنت في الوطن، وأن وجودًا قتلت فيه الحقيقة أعلى مدارج الاغتراب. أراد أن يكون كما كان صبيًّا في فلسطين: «راعيًا»، وكما كان قبل المنفى وبعده: «غريبًا». وما سيرته الذاتية إلا عناق بين غربة متجددة وزمن آخر مضى. غربة فسيحة طاغية تتجاوز الزمن وتخلع عنه وقاره المحتمل.

ماذا تذكر عن غسان كنفاني؟ سؤال لا بدّ منه بسبب صداقة ربطت بين الطرفين. أجاب: أحببت فيه فلسطينية صادقة أيقظت موهبته، وشعورًا بالكرامة أمضّه عار المنفى فواجهه بطرق مختلفة، وإحساسًا مرهفًا يجعله يفهم المقصود بلا كلام. سمع ما لم أقله عن روايته «رجال في الشمس»، قبل نشرها، وعاد بعد أسبوع ليقول: والآن هل وصلت الرسالة؟ أراد أن يكون مفردًا في مجموع، وأجهده تعدّده.

اقترنت صورة إحسان عباس حين قابلته عام 1978م، بضحكة عالية كأنها صهيل. خبا الصهيل بعد اثنين وعشرين عامًا، كان في المؤتمر الأول لجائزة القاهرة للرواية العربية، يجلس على كرسي متحرك، عجوزًا أنيقًا له وقار، تسير إلى جانبه د. وداد القاضي الباحثة اللامعة في الدراسات الإسلامية. جاء من عمّان وجاءت من الولايات المتحدة، كانا يمضيان معظم الوقت معًا في زمن رحل، يبحثان ويتحاوران ويكتبان ويدرّسان في الجامعة الأميركية في بيروت، وبينهما صداقة رفيعة، صداقة المعلّم والمريد، كانت أصغر منه عمرًا بكثير. أشرفت، بمناسبة عيد ميلاده الستين، على كتاب جماعي عنوانه: «… الذي سرق النار». سألت نفسي: « ما الذي سرق الزمن السعيد، وما الحكمة من توزيع التآلف على أقاليم الاختلاف؟». كان الجواب، أو ما يشبهه، في تلك المزبلة الرابية المحتشدة بالرموز التي شهدها إحسان، صبيًّا، ولم يدرك الأسباب.

بعد أن توزّعت إقامتي على دمشق وعمّان وثالثة بلا عنوان، كنت أزور إحسان، بين حين وآخر. كان قد دخل في ثمانينياته، أنظر إلى شرفته قبل لقائه، وألتقط من المشهد الصورة الثالثة، التي أكملت صورتين سابقتين. تقع عيني على العجوز الأليف وراء قضبان العمر، مسترجعًا، ربما، صورة أخيه الأصغر، بكر، الذي رحل قبله وكان تَوْءَم الرُّوح، يسخران من النقد الأدبي العربي المعاصر. يقول العجوز: «استنفد النقاد أسماء النقد، فلم لا نضيف إليها النقد الأدبي النباتي، فالعمل الأدبي نبتة مباركة»، ويضيف أخوه: «ليست الفروق بين النبات والحيوان كثيرة، فلم لا توسّع النقد بنوع جديد، النقد الأدبي الحيواني»، ويغرقان في الضحك، هامسيْن بأسماء لا أعرفها على أية حال. سألت د. إحسان عباس في زيارة أخيرة، بوحًا طليقًا أسأل فيه ما أشاء. زمّ شفتيه كما يفعل أحيانًا وقال: «هيّا إلى الأقلام والأوراق، شريطة أن تذيع الحوار بلا رقابة». احتفظت به إلى اليوم ولم أنشره، كان العجوز الجميل على سجيته ناطقًا بما يذاع، وبما لا تجب إذاعته. أذكر دعابة لا هزال فيها، مستهلّها حكمة مريرة: «لو كان على الأرض الكثير من المثقفين لهلكت»، و«القليل من القناعة يجعل من المثقف إنسانًا»، و«القناعة تأتي من الروح وتضيق بها كتب المثقفين»!!!

علّمني إحسان عباس احترام اللغة، وفضيلة المتواضع العارف، وأخلاق الكتابة، ولم أستطع تعلّم الهزل الجاد والجدّ الهازل، المكسوَّيْنِ بالبصيرة وحقائق الحياة.

حين توفي عام 2003م، شعرت أن جمالًا من هذا العالم انطفأ، وأن بيته في فلسطين سقط عليه سواد جديد.

الفيلسوف الغريب: بريق الشهرة وسخرية الأقدار

الفيلسوف الغريب: بريق الشهرة وسخرية الأقدار

الشاب اللبناني الريفي، المنتمي إلى طلاب باريس الثائرين -1968م- شخصية تحتفي بها الذاكرة بترحاب كبير. كان يعد أطروحة دكتوراه عن «ثورة جبل عامل في لبنان القرن التاسع عشر»، يمتدج الثورات في جميع الأزمنة، وينظر إلى المتحلّقين حوله شاعرًا بالرضى. يأتي مساء إلى مقهى «المدينة الجامعية» محملًا بالكتب مردّدًا أسماء أعلام الفكر الفرنسي في ذاك الزمان. أقرب إلى القصر بمعطف واسع كثير الجيوب، تتوالد منه كتب حديثة الصدور، يراصفها على الطاولة ويقول بفخار: هل رأيتم معطفًا أوسع من مكتبة؟

الشاب اللبناني الطيب، الطويل الشعر، كان يتوقف لحظة، ويخرج من جيبه كتابًا من جزأين هاتفًا: هذا أعظم الكتب في طبعته الكاملة: «قراءة رأس المال» للفيلسوف لوي آلتوسير، أحد آباء «ثورة الطلبة»، التي ستعود أكثر قوة.. الكتاب الذي صاحبه الهتاف رمادي الغلاف عليه رسم لطير، يحيل على حكمة إغريقية، أصدره الناشر اليساري: فرانسوا ماسبيرو (طبعته الأولى عام 1965م)، الذي لم يكن يعترف بالبوليس الفرنسي البرجوازي، و«نهب» الطلبة «الثوريون» كتبه وقادوه إلى الإفلاس.

اللبناني الطيّب الذي وصل باريس قبل ثورة الطلبة بعامين ولم يرجع إلى بلده، قال لي بوقار مصطنع: «الفيلسوف المعلّم» له محاضرة يوم الاثنين في «مدرسة التجهيز العليا»، شارع أولم قرب البانتيون -مرقد العظماء- الساعة الثالثة، موضوعها: «العقد الاجتماعي عند جان جاك…». استزدته بفضول فأضاف: «روسو، جان جاك روسو»، الذي شبّه به آلتوسير جان بول سارتر حين علّق على رحيل الأخير. كان في المدة الممتدة من ثورة الطلبة إلى منتصف السبعينيات مشهد فكري فرنسي متعدد المراجع، توزّع على الماركسية والبنيوية والفوضوية والوجودية ونزعة «عالم ثالثية»، استذكرت فرانتس فانون وجيفارا، وتعاليم الصيني ماوتسي تونغ وماركسية «التروتسكيين» التيار المسوّر أبدًا بمثقفات جميلات،….

كان للفيلسوف الماركسي آلتوسير، في تناقضاته الكثيرة، موقع واسع في المشهد الفكري الواسع. كان عضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي الموالي لموسكو، بلغة ذاك الزمان، وشديد النقد للشيوعيين الفرنسيين، كارهًا أشد الكره «للرفاق السوفييت»، عدَّهم الأكثر محافظة ورجعية في العالم. يعطف على تعاليم «الرفيق ماو» والثورة الثقافية الصينية ولا يرتاح إلى «الماويين» الذين يضعفون «كفاح الطبقة العاملة». ولم يكن يرى في التروتسكيين «عملاء للبرجوازية»، بلغة غيره، وهو المدافع عن «صراع النزوعات في الفكر». أخلص هذا المفكّر القلق، الذي أرهقه تردّده المستمر على المصحات النفسية، لأفكار ذاتية ترى الحقيقة نسبية وتعدُّ بعض تعاليم «آباء الماركسية» حماقات ماضية. ربط بين الفكر النقدي والأزمة اللازمة لاستمراره، وعيّن الأزمة مكونًا أساسيًّا لماركسية لا تريد أن تموت.

لوي بيير آلتوسير

لم أهمل نصيحة الشاب اللبناني، من دون أن أدرك أن «محاضرات آلتوسير» لا تشبه غيرها. وصلت متأخرًا بلا تأخير؛ بسبب زحام منع كثيرين من الجلوس. كانت قاعة المحاضرة في الساعة الثانية والنصف كاملة الحضور، والقاعة التي تسبقها مزدحمة بجمهور وقوفًا، و«الدَّرَج» المفضي إليها يزاحم فيه الذكورَ إناث أكثر عددًا، وساحة «المدرسة الشهيرة» «تناثر فيها طلاب فاتهم الاستماع إلى «الفيلسوف». في هذه الساحة، وكما جاء في مذكرات الفيلسوف، غرفة صغيرة منعزلة، كانت تجمع بين آلتوسير والموظفين الشيوعيين في اجتماعهم الحزبي. وإلى هذه الساحة سيخرج الفيلسوف صباح يوم الأحد -16 نوفمبر 1980م- صارخًا: قتلت زوجتي، «قتلت زوجتي»، قبل أن ينتهي إلى «سانت ـــ آن» مستشفى الأمراض العقلية، بعد أن عصف به اضطراب نفسي تاخم الجنون.

ولد آلتوسير في السادس عشر من شهر أكتوبر 1918م في الجزائر، والده كان غائبًا من تسعة أشهر- رعاه جدان فقيران لأمه، تابع دراسته العليا لامعًا وانتسب إلى «المدرسة الشهيرة» في باريس، غدا «عميدها» وأستاذًا فيها، وأعطته حين كان طالبًا «شقة صغيرة»، لازمته فيها زوجته هيلين، التي تكبره بأحد عشر عامًا، إلى اليوم الذي «مسّد فيه الفيلسوف عنق زوجته، واختنقت من دون أن يدري». لم يصمت عن مأساة، تداخلت فيها الكارثة بالفضيحة. سجّل دقائقها كاملة في سيرة ذاتية، عدد صفحاتها ضعف أي كتاب آخر له، عنوانه: «المستقبل يدوم طويلًا»، ترجم إلى أكثر من عشرين لغة.

جاء في الفصل الأول من الكتاب: «هذه هي التفاصيل الدقيقة، كما وعتها الذاكرة جلية وبلا نقصان، سأقول متى وكيف: هذا هو مشهد القتل كما عشته…». التزم أمام الآخرين بإظهار الحقيقة. أنهى سرد مشهد القتل وسيرة القاتل في ثلاث مئة وخمسين صفحة، انتهى منها خلال شهرين بعد أن برّأه مرضه، وحرّره من جريمة وقعت عليه ولم يهجس بها. أراد من الآخرين أن يحاكموه بعدل، وأن يقاضيه المستقبل بلا تحيّز وتزوير، وألا ينظر إليه «مريدوه» باتهام مرذول.

آية عبقرية غامضة

لم أنسَ نصيحة الطالب اللبناني الريفي، ذهبت ثانية إلى محاضرة «المعلّم» قبل ساعتين. اخترت فرحًا مقعدًا في منتصف القاعة، مطمئنًا إلى يوم لن يغادر الذاكرة. انتظرت النظر إلى الفيلسوف، نظرًا خلقته ذاكرة الشباب المنسرحة، التي تخيّلت المفكّر الذي يستثير «المريدين» قبسًا من معرفة، آية عبقرية غامضة، تبهر «رومانسيين» يصيّرون الوقائع إلى قصائد. انصرفت، حال دخوله، إلى تأمل ملامحه: شعر رمادي فضيّ ربما، يميل إلى الطول برأس كبير وجبهة عريضة وعينين عميقتي الزرقة يسكنهما غموض، التصق بهما جفنان يشدّان عينيه إلى محجريهما، شعر كثيف بسيط اللباس بلا رابطة عنق، أنف يبرز إلى الأمام قليلًا ومسحة حزن تغطي وجهه أو تحوّم فوقه.

الفيلسوف الذي أشرف على سلسلة كتب عنوانها: «نظرية»، قليل الكتابة تضجره «النظرية»، أصدر كتبًا صغيرة الحجم ساجل فيها آخرين، قدّسوا «ماركسية الآباء»، ورضوا عن الاتحاد السوفييتي ورضي عنهم، وعدُّوا غيرهم «تحريفيين»، من كلمات ذاك الزمان، ووضعوا آلتوسير في مقام محيّر، لا هو بالتحريفي الذي ينكر ماركس وتعاليمه، ولا «بالصراطي» الذي يقدّس الأفكار، إنما هو «ستاليني» جديد صالح بين الماركسية والبنيوية مصالحة تسيء إلى الطرفين. وواقع الأمر أن الفيلسوف الذي رحل في الثاني والعشرين من أكتوبر 1990م لم ينجز «دراسات أكاديمية»، كان يجتهد في «مداخلات نظرية» يمليها السياق، تصحح السياسي الخاطئ بالنظري الصحيح، وتكسّر عنق النظري الملتوي الذي يخشى النقد ويؤثّمه.

قادته أولوية السياسة على النظرية إلى تعريفات غير مألوفة: الفلسفة هي الممارسة النظرية؛ إذ التساؤل الفلسفي فعل وممارسة، والفلسفة هي الصراع الطبقي في النظرية، سياسة أخرى تنشد انتصار الطبقة العاملة. قاده إيمانه بالأفكار الصحيحة إلى رفض مقولة الاغتراب الهيغلية الأصول، ذلك أن هيغل جاء قبل ماركس ولا يدعو إلى ثورة. وسخر من مصطلح «عبادة الشخصية» الذي فسّر به السوفييت «الظاهرة الستالينية» وتندّر على منظور ساذج يقسم العلم إلى برجوازي وبروليتاري، وطالب بسياسة جديدة توطّد النقد العارف ولا تسعى إلى السلطة، ففي الأخيرة ما ينزع إلى الثبات، ولا يرى الواقع بصيغة المتعدد. أعاد آلتوسير بناء «ماركسيته» مستفيدًا من جهود فرويد، رائد التحليل النفسي، وتعاليم غاستون باشلار فيلسوف العلوم، ومفهوم البنية الذي أفاد بعض علماء الأنثروبولوجيا، وتابع قراءة أدب «بورخيس»، الأرجنتيني الأعمى الذي فتنته حكايات ألف ليلة وليلة.

هذا رأس ليس كرؤوس الآخرين

أذكر بحنين: المعلّم الذي غدا أسطورة معروفة سوداء الأطراف، كما لو كانت شهرته وجعًا لا يعالج مبهم العنوان: العبقرية والجنون. كان يوم الاثنين من شهر أكتوبر -1972م خريفي الأناقة منفرج الابتسام، توسّطته محاضرة عن «جان جاك». حيّا آلتوسير التلاميذ، أشعل سيجارة، فكلمات عن الفلسفة السياسية في فرنسا القرن الثامن عشر، فالفرق بين إنسان الطبيعة وإنسان المجتمع، وعن «الاغتراب» منطوقًا بالفرنسية والألمانية. كان يقرأ جملًا من كتاب حمله بيده اليسرى، يتابع تدخينه، يسير بين مقاعد الحضور، يعود إلى «المنصّة» ويشعل سيجارة جديدة. أذكر صوتًا متمهلًا ترافقه حركات من يده اليمنى، وجبهة عريضة واسعة بارزة صدمت «القابلة» عند ميلاده فقالت: «هذا رأس ليس كرؤوس الآخرين»، كما جاء في سيرته الذاتية. بعد زمن ستقول أخته: «لوي حالة خاصة، إنه مختلف عن غيره». كان في اختلافه شقاء وراحة هاربة: «هذا هو الحيّز الذي عشته. في المحصلة قاتلت طويلًا وحظيت بلحظات قليلة من السلام والراحة». كلام جاء في رسالة إلى زوجته «هيلين».

الفيلسوف المنسوجة روحه من تناقضات لا تنتهي، أطلقت شهرته ست مئة صفحة نشرت بين 1959م و 1968م فلسفة جديدة لم يألفها الآخرون. صدر له بعد رحيله دراسات «نظرية» وزّعت على أكثر من كتاب، إضافة إلى كتابين كبيرين من «رسائل الحب»، الأول «رسائل إلى فرانكا» مترجمة إيطالية تبادل معها عشقًا طويل العمر (1961: 1973م) شهد عليه ثماني مئة صفحة من القطع الكبير، والثاني من سبع مئة صفحة: «رسائل إلى هيلين»، الزوجة الطيبة القليلة القامة، التي مسّد عنقها صباحًا وقادها إلى «موت هادئ»، من دون أن يدري.

الفيلسوف الأشهر بين فلاسفة القرن العشرين، بلغة الفرنسي بيير هنري ليفي في تقديمه الطويل «لرسائل إلى هيلين»، صرع مآله شهرته بقسوة فاجرة. أوردت محاورته فرناندا نوفارو في كتاب «حول الفلسفة»، الذي عرض فيه أفكاره المتأخرة، كلماته الآتية: «أضجرتني العزلة مساء، غادرت البيت ومشيت قليلًا فتعبت، جلست أمام الباب، استيقظت صباحًا متفاجئًا، نمت خارج بيتي من دون أن أدري، فقد نسيت أن أتناول الدواء». اختزن ما كانه وما أصبحه في عينين عميقتين وجفنين متلاصقين يثقلان عليهما.

الصديق الراحل ميشيل بيشو، عالم اللغة وصاحب «نظرية الخطاب»، المقرّب من الفيلسوف وتلميذه، أتاح لي لقاء مع آلتوسير في مطعم صغير في الحي اللاتيني. جلست موزعًا على الفرح والمفاجأة، حرّك «غليونه» وسأل: «هل ستصلون إلى شيء؟». أربكني سؤال لم أستوعبه، أعاده: «أنتم الفلسطينيون ماذا تنتظر قضيتكم من كفاحكم المسلّح، وهل سياستكم معقولة التسلّح؟». أجبت بكلام غائم. هزّ رأسه وقال: «المهم ليس إشهار السلاح، بل ميزان القوى الصادر عنه. القضايا العادلة تحتاج إلى سياسة صحيحة طويلة المدى، لا تنصاع إلى رغبات تظن نفسها عادلة…».

كان ميشيل بيشو، الذي عرفته مدة ثلاث سنوات، يرسل شعر رأسه ووجهه، لا يعبأ بالأناقة، وله بِنية فلّاح قوية. كان يحدثني عن معلمه وصديقه ببساطة، ينبهر به ويسخط على بعض أفكاره. بيشو الذي أشهره كتابه «حقيقة البداهة»، المترجم إلى أكثر من لغة، انتحر بعد أن خنق أستاذه زوجته، قاسمه جنونه، لم يشأ أن يتركه وحيدًا، نجا المعلّم من دون أن ينجو، واستقر تلميذه في ظلام القبر قبل الأوان.

رحل المعلّم، رمزيًّا، عام 1980م، وفعليًّا عام 1990م. مُنع، بعد الجريمة، من النشر، ومُنعت الصحف من تداول اسمه، ران عليه صمت له رائحة مقبرة. على خلاف تلميذه المنتحر تابع المعلّم «قتاله» من قبره. فاجأ غيره بمخطوطات احتفظ بها نشرت من 1992م إلى 2018م، طوّر فيها فكره وانتقل من طور معروف، كان يجدّده بلا توقف، إلى طور غير معروف. تحدّث دارسوه عن آلتوسير أول، فثانٍ، فثالث، كما لو كان موته قد أعاد اكتشافه.

المآل غير العادل لإنسان عادل من وجوه الحياة الأكثر شقاء.

سجالات متقادمة كأنها ذكريات

سجالات متقادمة كأنها ذكريات

تنتمي السجالات التالية إلى عقود أخيرة من القرن الماضي، انطوت على سلب مثابر أغلق المستقبل. لحق التغيير بالزمن والمكان والمستقبل قبل وصوله. فلم تبق ملامح دمشق على ما كانت عليه، وشكل بيروت انزاح عمّا كان. تبدو تلك السجالات أطيافًا راحلة، تشبه قبورًا جرفها سيل عنيد. والذين قاسمناهم الخلاف والاختلاف غيّبهم الموت، تبقّت منهم أسماء تتسرّب، أحيانًا، من الذاكرة.

بعثت على السجال الأول ملاحظة عارضة، أصابت عملًا لإميل حبيبي أخطأ النجاح. فبعد روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، التي حظيت بتصفيق واسع، حاول الأديب الفلسطيني، الذي بقي في مدينة حيفا، أن يعطي «متشائله» اسمًا جديدًا: «لكع بن لكع». بنى روايته الجديدة بمواد تشبه ما بنى منه روايته الشهيرة، ارتكن إلى لغة تراثية صقلتها الصحافة، زخرفها بسخرية سوداء، ودعمها بإشارات سياسية، تخز العرب ولا تقتصد في هجاء الاحتلال الإسرائيلي. غير أن ما سعى إليه ضلّ طريقه، ترسّب في محصول فقير، عاينته مع الأردني غالب هلسا بلا إعجاب كبير.

إدوار الخراط

كان غالب قد وصل إلى بيروت، بعد أن أخذت به أقداره إلى مسار طويل، مرّ فيه على القاهرة، وعلى بغداد مرّتين، فدمشق وبيروت، في انتظار سفر قادم خاصمته الراحة منذ زمن طويل. سألني بنبرة متلكئة كأنها لتلميذ خجول: هل قرأت عمل إميل الأخير؟ أجابه وجهي بنفي بلا كلمات، وردّ بكلام موجز: «قلّد ما كتبه ولم يحسن التقليد». تشاركنا الرأي في حوار مشترك، اقترحته جريدة السفير اللبنانية، في أوائل عام 1978م، أوحى بتواطؤ موتور ضد أديب فلسطيني ذائع الشهرة. لم نكن ندري، حينها، أن نقدًا محدود الكلمات يمكن أن يستدعي غضبًا لافحًا، ينصف المظلوم ويحاكم الظالمين!!

ظهرت بدايات الرد في مجلة الجديد، التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح بلغة تلك الأيام بكلمات من نار بلا نور: «البرجوازيون الصغار يهاجمون رفيقنا في بيروت»؟ كان هذا عنوان مقالة كتبها المؤرخ الرصين الدكتور إميل توما. كان «الإميلان»، كما كان يقال، عضوين في الحزب الشيوعي. صدّ الرفيق المؤرخ الهجوم الذي وقع على الرفيق الروائي، اعتصما بحبل «الطبقة العاملة»، وواجها طبقة ضالة تدعى: البرجوازية الصغيرة. بدا المؤرخ اللطيف، الذي حسم حياته مرض السرطان في بودابست عام 1984م، قاضيًا عنيف الإدانة، ينكر على الذين هاجموا رفيقه معرفة الأدب والنقد، وبدا الرفيق الروائي مبدعًا معصومًا عن الخطأ، تضمن حزبيته إبداعه القويم.

ما ترسّب في الذاكرة لا يعود إلى «برجوازيين صغار»، تطاولوا على النقد الموضوعي وهم يتطاولون على رفيق روائي، ولا إلى خلاف أدبي يدور بين الرذيلة والفضيلة، بل عاد إلى ظاهرة: «القبيلة الحزبية»، التي إن اشتد غضبها دعت إلى معايير قبلية في الكتابة والقراءة، واستنفرت أفراد القبيلة للإجهاز على خصومها. لم يتبقّ، تقريبًا، رفيق يحسن الكتابة، أو لا يحسنها، إلا شارك في «معركة الحق»، مسلحًا بتهم جاهزة، تبدأ بالعماء الفكري والسياسي وتنتهي بالتآمر على الأدب المقاتل، حتى اقترب عدد المشاركين، من فلسطينيين وعرب، من العشرين أو جاوز ذلك.

قال لي هلسا ببراءة لازمته حتى رحل: «ألا ترى معي أن الرفاق يشخصنون الحقيقة، ويختصرونها في أدباء حزبيين؟ لماذا يساوون بين الاختلاف و«الشذوذ»، ويسرفون في الاتهام حتى تعييهم الكلمات؟».

ارتكن الاتهام في تلك الواقعة إلى «معايير جماعية في النقد والإبداع»، وإلى نبذ المفرد والتفريد والاحتكام إلى «واحد مجهول»، يباركه تعميم، هو تجهيل، لا فرق إن كان «الواحد» معمّمًا، أو حاسر الرأس، يطمئن إلى «مادية جدلية» مفترضة، أو إلى اتّباع موروث يجهض المفاهيم الحديثة، التي يدّعي الانتساب إليها.

انطفأ اليوم هذا «الصخب العالي الصوت»، رحل المؤرخ والروائي وتراخى ما هو «جديد»، وغاب غالب هلسا وتساؤلاته. استقر «التعميم» في مكانه، ناسيًا أن لا معرفة إلا بالخاص، وأن الإبداع يصدر من أفراد ولا ينبثق من «جماعة». يتحرّر اليوم «الصخب» المنقضي من سلبه. يتكشّف ضوضاء مبهجة، يلتفت القلب إليها بحنين.

الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»

ينفتح السجال مع «رفاق» راحلين على «رفيق» آخر، كان له جمهرة من المشايعين: الروائي السوري حنا مينه، الذي اجتهد في الكتابة وفي العيش طويلًا. وعلى خلاف الأديب الفلسطيني، الذي قلّد ذاته وأخطأه التوفيق، وتعرّفت إليه «هاتفيًّا» بصوت أجش يخالطه السعال، كان الأستاذ حنا صديقًا، بشوشًا مضيافًا حريصًا على سيجارة لا تنطفئ، قاسمته صداقة سعد الله ونوس والناقد السينمائي سعيد مراد، الذي التحق بالتراب قبل الخمسين، وسعيد حورانيه، كاتب القصة النبيه الذي اعتزل الكتابة مبكرًا. كان هؤلاء، باستثناء سعد الله، أعضاء في «رابطة الكتّاب العرب»، التي رأت النور في دمشق عام 1954م، ربما.

كان في الصديق الروائي الراحل أبعاد من شخصية «أبو زهدي الطروسي»، بطل روايته «الشراع والعاصفة»، البحّار الشجاع الذي يحب الحياة وتطربه تحيات «الجمهرة» التي تلتف حوله. دفع إلى السجال الطويل تعليق صغير، خالف رأي حنا عن «البطل الإيجابي»، نشر في مجلة الحرية التي انتقلت بعد 1982م من بيروت إلى دمشق. وكحال حبيبي الذي أوكل إلى غيره «الذود عن حياضه»، هرع مشايعو الروائي، أسوريين كانوا أم لبنانيين وعراقيين، إلى نصرته، وتكاثرت الردود وانتهت إلى كتاب: «حوار في علاقات الثقافة والسياسة»، شارك فيه هلسا والروائي السوري هاني الراهب والفنان عاصم الباشا وغيرهم. كان في الردود ما يفصل بين الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»؛ إذ للجماعة الأولى كتابها الرشيد المحدث، همسًا، عن الواقعية، والناطق جهرًا «بالواقعية الاشتراكية»، وللجماعة، المبتورة والموتورة معًا، أضاليل وعبث سمّار، يلقّنهم الليل ما يكفّره النهار.

غالب هلسا

تمثّل الطريف، الذي لا طرافة فيه، في «البطل الإيجابي» المتوالد في متواليات على صورته، ساوت بين الروائي وبحاره وبين قرّائه والبحار المنتصر، وبين الانتصار وواقعية «شجاعة» لا تخيب. كان في الاختلاف ما يطفو على سطح الأدب وفي أعماقه رغبة في الانتصار، حتى لو كان انتصارًا من حبر وورق؛ ذلك أن «الحلم الاشتراكي» بدأ، آنذاك، رحلة الأفول. وعوضًا عن مساءلة أسباب خيبته، تشبّث «الإيجابيون» بمدينة فاضلة موعودة، بحاجة إلى نقد سياسي، بعيدًا من شعارات أقرب إلى «التعزيم»، أوحت أن الحديث عن الدفء يجلب سكنًا سعيدًا. لملم الزمن أوراق المدينة الموعودة، وأشعل فيها النار، ونقل التعزيم إلى خطاب مختلف، أدمن عموميات لفظية، تفصل بدورها بين الحق والباطل.

يبحث العقل النقدي عمّا هو سياسي في الصنعة البلاغية، ويصيّر العقل المغلق الزخرف اللغوي الشكلاني حقيقة جامعة. كشف مكر الزمن أن الاعتراف بالآخر فضيلة، وأن الفضيلة المعترف بها لا يحتكرها أحد، وأن العقل الطليق، يضيق بالنعوت النهائية. لم تعترف الإيمانية المتحزّبة بالمراجعة الذاتية، ونقدت «أضاليل» خصومها، دون أن تدرك أن النقد المشخص أداة نظرية سياسية، تعطف معرفة نسبية على معرفة نسبية أخرى، وأن مرجع الحقيقة هو الممارسة والأثر الملموس، لا استظهار الكراريس الحزبية.

أظهر الواقع أن المواقف الفكرية النسبية، التي تحترم الرأي ونقيضه، مقبولة عند مثقفين لا قبائل لهم، يحترمون الكتابة ولا تستدعيهم البطولة، أكانت إيجابية أم سلبية. نقدت، في تلك الحقبة النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي روايات جبرا إبراهيم جبرا «بأسلوب غليظ» في دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية عنوانها: «بين فلسطيني الوهم وفلسطيني الواقع» أو ما يشبه ذلك. كان «الرفاق» يرون ذاك الأديب الفلسطيني المستقر في بغداد «ليبراليًّا»، بلغة مخفّفة، أو رجعيًّا برجوازي الأهواء، بلغة من حطب. توقعت حين التقيته للمرة الأولى في بيروت أن يستنفر حاشيته، وكان له معجبون؛ كي يفصّلوا بين الأحكام العادلة والمعايير الجائرة. لكنه اكتفى بعتاب ساخر وبإنارات هادئة، دافعت عن الإبداع والفرديات المستقلة.

اعتبر جبرا أن الكتابة بعد من تجربة ذاتية، مرجعها ذات حرّة متعددة الهواجس والذكريات والرموز. قال ضاحكًا: «إنني أكتب عن قدس عرفها شبابي، وعن شباب حاشد بالأسرار، وبنيت «وليد مسعود» بأحلامي وبتذكّر بشر عايشتهم، وضعت فيه ما أذكر من أبي وأمي وطفولتي…»، وتابع: «لا يحق لأية تعاليم نظرية أن تكسو ذكرياتي بألوان غريبة عنها. لا يصف دقائق الجسر إلا من سار فوقه…». ولم يشر إلى جسره، وإن كنت أدرك أن جسره ذاتيته المتعددة المصادر، اجتمعت فيها أطياف طفولة في بيت لحم، وصبا مقدسي، ومعاناة اغتراب ولجوء، ومنظور رومانسي للعالم جاء من شعراء إنجليز مثل بايرون وكيتس وكوليردج، وتمثّل قصائدهم حين كان طالبًا في جامعة أكسفورد في بريطانيا.

النفس الرحيبة الأنيقة

أحال جبرا، في حديث صباحي مشمس، إلى ثقافة المكان، فلا ثقافة حقة تكتفي بالكتب، وإلى طفولة غزيرة الرموز، وإلى طفل لامع قديم أراد أن يكون أبًا لأبيه، كما يقول الرومانسيون. كان بإمكانه، دون أن يعاقب أحدًا، أن يلمّح إلى ناقد مغربي قرأ دراستي الظالمة بعنوان عادل: «قراءة جبرا ومشانق الأيديولوجيا»، لكنه أثار حوارًا أنيسًا يحتفي بالبشر ولا يقاصصهم. بعد لقاءات عدة في عمّان ومرور ثلاثة عقود، تقريبًا، على رحيله، أسمح لنفسي أن أدعوه: «النفس الرحيبة الأنيقة»، التي أسعدني اقتراح صديقي عبدالرحمن منيف بالإشراف، معًا، على كتاب جماعي أهدي إلى جبرا بمناسبة بلوغه السبعين عنوانه: القلق وتمجيد الحياة 1995م. ولد جبرا في بيت لحم عام 1920م.

«نسيم الشباب من الجنة»، قول ردّده معلمي في المرحلة الابتدائية، القصير القامة المأخوذ برائحة عطرة. كان أسلوبي في مرحلة الشباب مدّعيًا يمازجه الجفاف، صاغ مرة دراسة عن المصري إدوار الخرّاط، نعت فيها أسلوبه «بلغة الكهّان». وأخذت عليه تكرار ما يكتب وغلوّه في تجريدات تتطيّر من المعيش. كان قد أشرف على عدد من مجلة الكرمل، بعد انتقالها إلى قبرص إثر الخروج من بيروت عام 1982م كرّسه «للحساسية الجديدة»، و«تصغير» النهج الواقعي ومشاكسة منظور نجيب محفوظ، دون ذكر اسمه.

إميل حبيبي

لم أكن من أنصار «حساسية الخرّاط»، ولا شكلانيته اللغوية المتكلّفة، نقدته بلا تحفّظ غير مرة، أشدّها عنفًا في مجلة الكرمل. فاجأني صاحب «رامة والتنين» بشكل من «الحوار والاختلاف» لا عهد لي به. بعث برسالة رقيقة، جمعت بين العتب والشكوى علمتني، بعد رسائل تالية، قاعدة جديرة بالنظر: «يُقرأ المبدع في كل أعماله أو لا يقرأ». أرسل لي، كما وعد في رسالته رزمًا متلاحقة من الأوراق، تتضمن حوارات معه ومقالات قديمة وجديدة، وأوراقًا تعود إلى أربعينيات القرن الماضي حين كان عضوًا في «جماعة الخبز والحرية». تأملت تصوره اللغوي القائل، بشكل مضمر: إن اللغة خلق إلهي ومرتبة إيمانية، وإن محاكاة الإلهي جهاد شاق متواتر، أقرب إلى استغراق الصوفية في الوجود الإلهي.

استقر جبرا إبراهيم جبرا في صدري بحديثه الأنيس، واحتفظت بسلوك الخرّاط درسًا في المؤانسة. أبان الطرفان أن المبدع الأدبي من ثقافته، وأن الثقافة أُلفة وتعارف وصحبة طويلة الطريق. سايرت الأول في عمّان، تعرّفت فيه إلى «وليد مسعود»، فلسطيني من واقع وشعر، وقابلت الخرّاط في القاهرة ولمحت فيه بطله المشتهى «ميخائيل» العاشق لأنثى من ندى ونور ورغبات. نحتفظ من المثقفين الصادقين بأشواقهم، التي تقترحها الروح وتبنيها الأحلام ويدفع بها الزمن إلى ركن غامض.

كان صديقي السوري حيدر حيدر ينظر من شرفته إلى بحر بيروت ويقول ضاحكًا: «ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردًا»، كان آنذاك في أربعينياته. ما قال به نهجس به اليوم، مع فرق في الزمن، الذي «يرعب الإنسان رعبًا كاسحًا»، بلغة نجيب محفوظ في الصفحات الأخيرة من «السكرية».

سؤال أخير: لماذا يهذّب الكاتب أسلوبه بعد حين؟ هل هي التجربة التي تعلّمه ما لا يعلمه، أم إنها متاهة الزمن وأطياف الراحلين؟

يتناثر الجواب المؤرق في الصدر، كأنه شظايا جارحة الأطراف.

حين كنا نطوف في باريس قبل أن نصل إليها

حين كنا نطوف في باريس قبل أن نصل إليها

كيف نمت فينا أسطورة مدينة درس فيها أساتذتنا الجامعيون، وعاش في إحدى كنائسها إنسان شائه الخلق وصفه فيكتور هوغو في روايته «أحدب نوتردام»؟ كيف تجوّلنا في شوارعها قبل أن نزورها، وأنصتنا إلى محاضرات جامعتها الشهيرة ونحن طلاب في جامعة صغيرة بعيدة؟ أجاءت أخيلتنا من شهرة مدينة عاشت أكثر من ثورة، أم من شباب حالم ألغى المسافة بين الحاضر والمستقبل؟

كانت باريس، في ذاك الزمان، أسطورة متعددة الوجوه، ترسلنا إليها أسماء رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وبلزاك، وصفة «مدينة النور» التي استقرت في أكثر من كتاب. وكنا، في ذاك الزمان، طلابًا جامعيين نعشق الروايات ويؤنسنا فضاؤها الرحيب، ونرى أنفسنا أبطالًا روائيين، نلوذ بكتب فلسفية صعبة الأسلوب، ونعتقد أن القراءات الصعبة من علائم الحكمة، ومدخل إلى روايات جميلة الأسلوب سنكتبها ذات يوم.

قرأت في سَنَتِي الأخيرة بقسم الفلسفة، في جامعة دمشق، رواية «أديب» لطه حسين، تخيّلته طالبًا يتعكز عماء مبصرًا، يقوده من محاضرة إلى أخرى، يتعلّم الفرنسية واللاتينية، ويعوّض قصور العينين بجمالية التعلّم وتعاليم الإرادة. نظر أستاذي الدكتور عبدالكريم اليافي إلى عنوان الرواية وقال: «جميل أن تتعلّم من أعمى علّم غيره وغدا عَلَمًا، وجميل أكثر أن تتعلّم الصبر ومبادئ الأمل». كنت شابًّا قليل الصبر، يأمل الدراسة في جامعة فرنسية.

اخترت رواية طه حسين، وانكبّ طالب آخر قومي الهوى على قراءة رواية سهيل إدريس «الحي اللاتيني»، التي سجّل فيها ما عاشه في العاصمة الفرنسية. كان الطالب شغوفًا بأناقة مضطربة الألوان، عريض الشاربين قروي الأصول يتمسّك برباط العنق، كما لو كان الرباط امتدادًا لأنفه وشاربيه العريضين، ويحسد السارد على صدفه السعيدة المتوجة بالجميلات.. وكان كسارده الأثير يؤمن بانبعاث عروبي قريب، سيجبر الطلبة الفرنسيين على التعلّم في جامعات عربية. وعلى خلافه كان ثالث يساري الميول، يمسك بقلم رصاص ويقرأ رواية السوفييتي إيليا إهزنبورغ «سقوط باريس»، ويناجي نفسه أن أكثر من مدينة عربية سقطت، تنتظر روائيين يكتبون عنها، وأننا كعرب نعدُّ السقوط مقدمة للانتصار، واشتداد الأزمة شرط انفراجها الوشيك. وهو الوحيد بيننا الذي كان طالبًا احترافيًّا، تابع درسه بهدوء ودرس علم الاجتماع، أزاح الأحلام وارتضى بمهنة ثابتة… وكم كنا نفرح، نحن الثلاثة، بالصفحات الأولى من رواية إرنست هيمنغواي «الشمس تشرق ثانية» 1926م، التي تصف «بارات» باريس الليلية المتجاورة، وليلًا كأنه نهار، وبائعة هوى ترنو إلى عشاء مع جاك بيرنز، بطل الرواية الذي أعطبته الحرب. وحين تحوّلت الرواية إلى فِلْم هوليودي رأيناه أكثر من مرة، لا انجذابًا إلى بطلته «آفا غاردنر»، «أجمل حيوان على وجه البسيطة»، كما كان يقال، بل إلى شوارع «مونمارتر» المكسوّة بظلام شفيف.

رابعنا، وهو الأكثر تفوقًا، كان زاهدًا في الروايات، مستهزئًا بها، يرى المتخيل الفلسفي أرقى من المتخيل الروائي، مستشهدًا «بأنا ديكارت العاقلة»، وبالفكرة المطلقة عند هيغل، وبالوازع الأخلاقي عند كانت، ويختصر الخطاب الروائي إلى فُلكلور فلسفي فقير. يرى الفلسفة مهد الحكمة وعلمًا للعلوم والباعث الفكري على الثورة، بينما الرواية شخصيات وحكايات، تقنع بها العقول الكسولة،… وأن علينا «كفلاسفة شباب» أن ندفن الماضي، وأن نستقدم المستقبل من موروث فلسفي كوني، وأن نتمسك بصبر الأنبياء.

الناظر إلى ركن هامشي في مقهى جامعة دمشق، صيف 1969م، كان يرى طلابًا أربعة تحلّقوا حول طاولة، يحرّكون أيديهم ويرفعون أعناقهم كأنهم يتصايحون، يقلّبون صفحات كتب ويطلقون قهقهات راضية. لو مرّت عين الناظر على عناوين الكتب لقرأ: «تأملات ديكارتية» لهوسرل، الزمان الوجودي لعبدالرحمن بدوي، ماركسية القرن العشرين لروجيه غارودي، وفصوص الحكم لابن عربي تحقيق المصري أبي العلاء عفيفي. كانت الكتب، في شبابنا، كيانًا هائل القامة، أثيريّ القوام، مضيئًا، أليف الصوت، نسأله أن ينعم علينا بسره المتعالي الذي توسلناه طويلًا، وبقي سرًّا.

سيقول ثمانينيٌّ، لا يُقنع أحدًا، عرفتُه مصادفة في طور الشيخوخة: «الحمد لله الذي وقاني فتنة الكتب» ضحك وقال: قرأت هذا في كتاب. لم أكن أدري أنه قرّر أن يقرأ في سن متأخرة، بعد أن اقتنع طويلًا أن المعرفة تأتي من الأناقة الرسمية وتوسّل رضا المسؤولين الكبار.

طلبة أوكلوا الكلام إلى حركات رؤوسهم

الطلبة الذين أوكلوا الكلام إلى حركات رؤوسهم كنا «نحن»، أربعة من قسم الفلسفة، أنهوا دراستهم، وقرّروا دراسة عليا في فرنسا، تعطيهم لقبًا يساويهم بأساتذتهم. الأكثر تفوقًا وضجيجًا، وهو من بلدة خارج دمشق (كان يتضاحك ويقول: «سأقف على كتفَيِ الخرّيج الأعلى قامة»). كان كل منا يعلن عن موضوع «أطروحته» القادمة. ضبط صاحب الضجيج ربطة عنقه وقال بكبرياء: «المنطق المتعالي بين هوسرل وكانت»، وأكمل أن المتعالي هو «الترانسندنتالي»، بلغة أهل الاختصاص، وهو موضوع عويص اختص به قليلون. سألته عن دراسته بعد أربع سنوات على وصوله إلى «مدينة النور»، كما كان يقول، أجاب: ما زلت في حيثيات الموضوع، أتعلّم الألمانية، ضرورة البحث الجاد كما تعلم. ومرّت عشر سنوات بعدها، وقال: أتقدّم في الدراسة رويدًا رويدًا، وتعلّمت الإنجليزية. عرفت بعد أربعة عشر عامًا أنه يعمل في جنوب باريس مراقبًا في مدرسة ثانوية، بفضل إتقانه للغة الفرنسية وحصوله على الجنسية.

الطالب القومي الهوى اختار «أطروحة» عنوانها: «فكرة الحرية عند جان بول سارتر وأثرها على الفكر القومي العربي المعاصر». استلهم الموضوع من رواية سهيل إدريس، التي «قرّرت» عالمًا متحوّلًا، يدحر الشرقُ فيه الغربَ، ويأخذ العربُ موقعَ الصدارة. وقع بعد عامين من وصوله إلى باريس في غرام فتاة إنجليزية، وارتحل معها إلى لندن، أقنعته بأطروحة عن «مجنون ليلى وروميو وجوليت»، أقلع عنها بعد أن هجرته الفتاة، وانقطعت أخباره.

رابع الطلبة الأربعة، أي أنا، كان مشدودًا إلى موضوع: الاغتراب، الذي ظنّه محدودًا، جاهلًا أنه يفترش الفلسفة الحديثة كلها وإلى صورة الإنسان المغترب الذي انتزع منه، قسرًا، جوهره، وتطلّع إلى استعادة جوهره المفقود، في لحظة انبثاق قادمة. لم أكن أدري أن المغترب، يضلّه الطريق ويرمي عليه باغتراب متوالد لا شفاء منه. الثالث، كما أشرنا، غدا عالم اجتماع مطمئن.

كنا نهندس مستقبلًا فوق أرض رخوة، يحوم فوقها زمن مخادع، وتنتظرها أكثر من كارثة، تحوّل رغباتنا إلى مفاجآت جارحة. كانت تلك الرغبات بريئة رغم كلمات متبخترة وأذرع مرفوعة، تحاكي بوعي، أو من دونه، أساتذة جامعيين لهم هيبة العلماء، وأخلاق تبعث على التبجيل، كما لو كانوا أبطال رواية تحضّ على الفضيلة.

زمن يعبث بالأرواح

كنا فخورين بأساتذة ممتازين وننتظر أن ينظروا إلى تلامذتهم بِفَخَارٍ، لولا اختلاف الزمن الذي يعبث بالأرواح ويغيّر الأحوال. التقيت أستاذي الجليل الموسوعي الدكتور عبدالكريم اليافي بعد ثمانية عشر عامًا من سفري وقد دخل شيخوخة متصوّفة، قال مرحبًا: «إن كنت تحسن الترجمة فلك عندي أكثر من مساعدة، فأنا مسؤول في دار نشر نشيطة، وضعت تحت تصرفي وحدي سيارة. يمكن أن تترجم وتتبقى لك فلسفة الاغتراب في أوقات الفراغ». التمعت عيناه الزرقاوان الصغيرتان، وسأل: هل ما زلت تقرأ المعرّي وروايتي ألدوس هكسلي «العالم الطريف الجديد» وجورج أورويل «1984»؟ كان قد أعارني الروايتين أيام الجامعة. غمغم، وقال: إنك قرأتهما قبل الأوان وشدّ معطفه العريض ومضى. أمَّا لماذا تصوّف وبقي يكره «ربطة العنق» فشأن من شؤون الزمن، الذي يضيق بالأسئلة.

الأستاذ الشهير الآخر كان الدكتور بديع الكسم، الذي وزّع دراسته العليا على جنيف وباريس، ونشر كتابه «البرهان في الميتافيزيقا» عند «دار المطبوعات الفرنسية» في باريس، وكتابًا صغيرًا بالعربية عن «رامبو»، ربما نشره في دمشق. كان يبدو لتلاميذه دائم التجهُّم، يلقبونه «ماليبرانش» نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي الصعب الأفكار الذي كان يدرّس له بين آخرين. طلبنا منه المشورة قبل السفر، فأجاب: «الفلسفة هي الميتافيزيقا؛ تتأمل أسئلة الموت والزمن والموت واللانهائية، وما خلا ذلك علم اجتماع». وكم فرحت بحضوره مستمعًا إلى محاضرتي عن «نهاية التاريخ» بعد ثلاثين عامًا في أسبوع قسم الفلسفة في جامعة دمشق. سألني بوجه متقشّف الحركات عن الفارق بين هيغل وكوجيف وفوكوياما. لم يكن بحاجة إلى إجابة، بل كان يوجه تحية إلى تلميذه القديم. سرت معه، فقال: مكتبتي متاحة لك، الكتب كثيرة وزمن قراءتها غير متاح، وفيها شيء من سراب يخذل العينين. نظرت إليه وخمّنت أن قامته زادت قصرًا، وقد تخلى عن حقيبة الكتب التي كانت تلازمه. بعد مدة قليلة رحل.

قال الدكتور بديع ونحن نحاذي حديقة السبكي، يصادفني هنا الأستاذ أنطون، يعمل قريبًا في وزارة الثقافة، جعل من قراءة أفلاطون طقسًا يشبه العبادة. أذكر هذا الأستاذ يتحدّث فرحًا عن باريس، وفرحًا أكثر وهو يتحدّث عن مكتباتها، وكثيرًا ما كان يعطف عليها أسماء عرفها وهو يدرس في السوربون غدت، لاحقًا، أعلامًا في حقل الفلسفة.

قال لي وأنا بصحبة طالب آخر التمس منه رسالة إلى الفيلسوف بول ريكور: إن كنت مثقفًا «كتبيًّا» تبدأ من ساحة سان ميشيل، تنظر وراءك إلى نهر السين لترى باعة الكتب بصناديقهم المعدنية المستندة إلى جداري النهر منذ زمن طويل، مكشوفة بكتب قديمة وجديدة ومجلات مختلفة العهود، باعتها لا يساومون ولا يتأففون، إن تصفح المارَّة الكتب وأطالوا.

إذا صعدت باتجاه بولفار سان ميشيل كان عن يمينك مباشرة «ماسبيرو» ناشر الكتب اليسارية، إن أكملت الطريق وانعطفت يمينًا تصل إلى دار «بايّو» على مسافة قصيرة منها دار جاليمار، التي كان فيها مكتب لجان بول سارتر وآخر لألبير كامو، وربما ميرلو بونتي، والأخير أكثر عمقًا من غيره. وإذا تابعت السير صعودًا، ولم تنعطف إلى بولفار سان جيرمان، وصلت إلى شارع المدارس، الذي يتفرّع منه ممر ضيّق فيه مكتبة صغيرة لمنشورات جامعة السوربون، تنفتح نهايته على ساحة الجامعة، حيث عن اليسار مباشرة «دار فران»، المختصة في الدراسات الفلسفية «الثقيلة»، التقيت فيها ريكور أكثرمن مرة، حيث كنا طلابًا. في الساحة الواسعة المضيئة توجد «المطبعة الجامعية الفرنسية»، حين يطبع غاستون باشلار، كتبه المتعددة الاختصاصات.

كان وجه الأستاذ أنطون مقدسي، الذي حافظ على سيجارته بعد التسعين، يشرق وهو يذكر باريس، يزداد إشراقًا إن مر على دور النشر والمكتبات، حيث يستذكر جاليمار ولوسيان غولدمان صاحب «نحو نظرية في علم اجتماع الرواية»، الذي كان في الصف متكتّم الحضور، كما قال، واليوناني الضاحك كوستاس أكسيلوس، ويصمت قليلًا ويردد: كان من أصحابي، يعيد القول ثلاث مرات، نشر في دار «مينوي» كتابه الجديد: «ماركس مفكّر التقنية»، ويذكر المصري الراحل أنور عبدالملك ويثني على كتابه: «أيديولوجيا النهضة الوطنية»، ويكمل: نشره عند «دار أنتروبوس» القائمة في شارع راسين، القريب من ساحة السوربون. كان مقدسي، بعد أن اقترب من التسعين، يتذكّر شبابه وطموحه العلمي وتغيم عيناه، راجعًا إلى ذكريات عزيزة ليمنع عنها الجفاف. حين زرته مرة أخيرة في بيته، وقد جاوز التسعين، تحدّث بشغف عن ترجمة جديدة لكتاب أفلاطون: الجمهورية، واشتكى من
ارتفاع الثمن.

لم أدرِ، في البداية، كيف استقرت أسطورة باريس في خيال طلاب أربعة لكنني عرفت، في النهاية، كيف تمزَّقت داخل السفر الأول أكثر من سفر. بعضٌ ودَّع وطنه واستقر في جامعة إفريقية، وآخر ضاق به الحال وسقط في الطريق، وثالث اقتصد في أحلامه واغترب، ورابع أدرك أن شغف المعرفة يأتي من حرمان دائب التناسل، وأن مدن الفضيلة لا وجود لها، فالمتخيَّلُ الفلسفيُّ يَنبعِثُ من كتاب ويَندفِنُ في كتاب آخر. يتراءى بين البداية والنهاية غَبَشٌ وتجربة في المعرفة تجدِّد الإنسان وتغيِّره، حتى لو ظن غير ذلك.

أرواح فلسطينية في مهب الريح

أرواح فلسطينية في مهب الريح

ما تاريخ الفقراء إلّا حكايات تسرد معيشهم، وما معيشهم إلا انتظار يخالطه الأمل. بيد أن للاجئ الفلسطيني المحاصر في مخيم حكاية أخرى، تشير إلى نقص وغربة. يبلغ الفرق ذروته حين يفاجأ المخيم بمجزرة تحسم وجوده، حال مخيم تل الزعتر، الذي حوصر ستة أشهر، ودافع عن نفسه إلى أن سقط وعاش معنى المجزرة. كان ذلك في أغسطس عام 1976م.

كان مخيمًا على هامش بيروت، يخنقه مكانه فيكاد لا يرى، كما لو أن قبضة حديدية غرست بيوته الطينية في الأرض، إن رفع رأسه عاجلته قبضة يقظة. تكدّس فيه فلسطينيون غدوا بلا وطن منذ عام 1948م. لم يكن في حياتهم ما يسر واستمروا في الحياة، وتأقلموا مع خيارات ضيقة وتابعوا أيامهم، وحملوا السلاح، ذات مرة، وحلموا بالعودة، دون أن يعلموا أن سلاحهم «الكافر» سيقودهم إلى قبور جماعية.

لماذا قُتِل المخيمُ وكيف؟ حديث يطول، يعرف السياسيون منه وجهًا، ويعرف المطّلعون على «بواطن الأمور» أكثر من وجه، لكنّ الطرفين اتفقا على أن «الآخرين» قتلوا من أهل المخيم أربعة آلاف وأكثر. والحقيقة أن حقيقة الضحايا لا يعرفها غيرهم، تجيء متفرقة على لسان اليتامى والثكالى والناجين المتقدّمين في العمر، ويغمغم بها أفراد قاسموا الضحايا، ذات يوم، الطعام والكلام. تظل حكايات المغلوبين مؤجلة الوضوح وتبقى كتابتها الأخيرة في مهب الريح، وإن كان هناك من يسافر بعيدًا كي يسرد أكثر من حزن وأقل من حقيقة.

عرفتُ صاحب الحكاية الأولى قبل المجزرة، والتقيته بعدها مصادفة. استوقفني بجلوسه اليومي على صخرة، يعطي للناس ظهره وينظر إلى البحر، لا يميل يسارًا أو يمينًا لكأنه صخرة أخرى.. كسرت عزلته متوقعًا الجفاء، ضيّق عينيه ونظر إليّ وعلت وجهه ابتسامة مستحيلة. بدا أنه جاوز الستين منذ ستين عامًا، في وجهه بقايا إلْفَة، وأسى افترش وجهه. تفحص وجهي وقال: «ألجأني إلى هذا المكان ابني الذي خسرته، اقطع النهار معتذرًا منه. طلب مني، حين كان الخروج من المخيم لا يزال متاحًا، أن يذهب إلى بيت عمه في دمشق، ورفضت، إلى أن شاهدت طلقات تستقر في صدره. نظر إليّ ابني عندها نظرة غائمة، لا أدري، إلى اليوم، هل هي نظرة عتاب أم نظر وداع. استقرت نظرته لعنة في روحي دائمة الضجيج. استرحمت «الآخرين»، رجوتهم، توسلت إليهم، ركعت وبكيت وتوسّلت. قالوا: إنه شاب قادر على القتال، وربما كان يقاتلنا، «أكملوا عملهم»، وبقيت أنا وعجزي وحيدين. لم أشفق على عجزي ولم تشفق روحي عليّ. أخرج صورة من جيبه، كان مراهقًا مبتسمًا واسع العينين.. التقيته مرة واحدة حصد الحصار المتعدد الجنسيات الصبي وأباه. افتقدت الرجل بعد أسابيع، قالت امرأة أخذت مكانه قالت: «لازم المسكين الصخرة ليلًا ونهارًا، أقلع عن الحركة والطعام، امتنع عن الكلام وتكوّم فوق ذاته ومات، حكى مع صورة ابنه طويلًا ومات، استغفر ربه كثيرًا وسأل الرحمة ومات، بكيته وبكيت ابنه، الذي كان يصغر ابني بخمس سنوات».

أنا وابني الجريح والعتمة ورسائل الموت

كانت المرأة كهلة مترهلة حاسرة الرأس تلبس مما يلبسه الذين لا ملابس لهم، قالت: «مصيبتي مثل مصيبة الشيخ المسكين. ابني عمره عشرون سنة. كان يحارب كل يوم. عندما اشتد القتال، طلبت منه أن يبقى في البيت، قال: لا يجوز أنا فدائي، عيب ألّا أكون مع أصحابي، عيب أن يقاتلوا ولا أكون معهم. في الأسابيع الأخيرة أصبحت حياتنا لا تحتمل. بقي معي في البيت. يا ليته لم يبقَ. كان النهار موتًا ورصاصًا وغبارًا. أراد الخروج، أصابته شظية قاتلة وهو واقف على عتبة البيت. بقينا معًا أنا وابني الجريح والعتمة ورسائل الموت. في الصباح «فصل»، استشهد، لم أجرؤ على طلب المساعدة من أحد دفنته، الله يرضى عليه، في صحن الدار جانب الليمونة، «قلت لحالي الله يرضى عليه يبقى جانبي». «كنت ألقي عليه تحية الصباح والمساء وأسمعُه يكلمني، الله يرضى عليه، يطلب مني الحذر، أن أنتبه إلى نفسي ولا أذهب إلى بئر الماء – المصيدة، حيث دلو الماء يساوي عدة ضحايا. أصبحت الآن مولعة بأشجار الليمون، أسقيها وأرويها، وأصبحت أعرف أن قبور الشهداء في كل مكان، وأن أرض الدار يمكن أن تكون مقبرة». كانت تتكلّم، وتفتش في جيوبها عن شيء لا وجود له.

عبّرت تلك المرأة الثكلى عن بطولة اليأس التي جعلتها تنام مع جثة ابنها في دار واحدة، وأملت عليها أن تقاسمه الكلام بعد ما رحل. وأن تعتقد أن الابن الشهيد ينصح أمًّا تسمعه، لن يشارك في جنازتها، ولن يرجعا معًا إلى فلسطين، لكنه يحدثها باستمرار. كان في تلك البطولة اليائسة جنون عاقل يأمر المرأة بمتابعة الحياة وبمراقبة أشجار الليمون، كما لو كان في الأشجار ظلال من روح الولد الفقيد. عندما قالت لي: «مصيبتي من مصائب الشهداء…». كانت تستنجد بروح الجماعة، وبمتواليات الشهداء، التي أقنعتها أنها ليست الثكلى الوحيدة، وأن الأحزان التي تتوزّع على مجموع تغدو أقل وطأة، لولا أن كل واحد منهم يعيش حزنه الثقيل!! «لو كان لكل فلسطيني حزن أقل لطلبت شربة ماء، ولحكيت له عن شهامة ابني قبل أن يقف على عتبة البيت». تذكّرت جملة إميل حبيبي في «المتشائل»: «الحمد لله أنه صار هيك وما صار غير هيك»، قالتها أم دهست سيارة ابنها لأم أخرى، ذهب وحيدها إلى بحر حيفا ولم يرجع.

سألتها خجلًا ومستغربًا كيف: هل هناك أكثر من مصيبة عجوز دفنت ابنها الوحيد؟ لم أنتظر جوابًا، لكنها قالت: حالة جارتي تصعب على الرحمن والشيطان، رحل ابنها ولم تستطع أن تعثر على جثته. أنا الحمد لله، مات ابني أمامي، غسلت وجهه ومسحت دماءه، وانتقل إلى جوار ربه طاهرًا ونظيفًا. جارتي تقتات بالأمل تسأل كل النهار، الذي تعرفه ولا تعرفه، عن ولدها وهل لمحه أحد، وتقول: «كان يلبس قميصًا أزرق، ترك البيت دون أن يودّعني، لم أزعجه في شيء، هل صادفتم شابًّا أسمر في العشرين من عمره اسمه أحمد؟» تستمر في السؤال وتهذي مكررة ما تقول، طالبة من ربها الرحمة ومن غيرها من المساكين المساعدة إلى أن يهدّها التعب وتقع على الأرض وتجتاحها إغماءة طويلة.

من أين تأتي الحكايات؟

أضاء الخارجون من مخيم تل الزعتر، وهم أطفال وصبية وأسرار وشيوخ وعجائز وقبور لا تشبه القبور ودموع وقدر ثاكل جملة تولستوي الشهيرة: «المسرّات جميعها تختزل في حكاية واحدة ومآسي البشر تتوزّع على حكايات». أجاب بشر كالظلال عن السؤال المطمئن: «من أين تأتي الحكايات» وأجابوا عنه ببساطة فادحة تأتي الحكايات من أب عاجز قتله ندم عاجز، ومن أم يائسة رأت في أغصان شجر الليمون ملامح فقيدها، ومن أم أنفقت عزمها في البحث عن ولد خرج ولم يعد…!!

«ليست النائحة كالثكلى تقول العرب. فدموع الأم التي فقدت ولدًا تختلف عن دموع مستعارة، تتساقط تعاطفًا أو غضبًا أو حزنًا مأجورًا يمسحها صاحبها ويمشي… بقيت مدة طويلة، إلى اليوم ربما، أهجس بجملة العجوز الذي قتله الندم: «حين أصاب الرصاص ابني شعرت أن روحي لعنتني، وأنها لا تزال تلعنني إلى اليوم!!». ما الذي كان بإمكان عجوز اشتعل رأسه شيبًا، أن يفعل؟ تأكل روحُه روحَه ويشكو مصابُه إلى القدر ولا ينتظر جوابًا، فصوتُ القدر كخطواته لا ينتبه إلى أحد.

بعد مدة لمحت في الطريق عجوزًا في «كوفيّته وعقاله» شيء من الفلسطينيين، وفي مشيته المتثاقلة ورأسه المنحني ملامح من ذلك العجوز النادم الذي قهره ندمه ورحل. دفعني الفضول واقتربت منه، كلمته فلم يجب. كان يمسك بيد صبي جاوز العاشرة. أعدت الكلام بلهجة أهل صفد من الجليل الأعلى في فلسطين، توقف العجوز ونظر إليّ وقال: الحمد الله. أعدت الكلام وأعاد الكلمتين بلا زيادة. مشيت إلى جانبه فقال الصبي: جدي لا يتكلم منذ أن قتل «المهاجمون» أبي في تل الزعتر.

الصبي الذي كان ذاهبًا مع جده إلى بلدة «الدامور»، التي تجمعت فيها «بقايا» المخيم القتيل هو الصبي الذي سألتقيه بعد أشهر في «حديقة الصنايع» في بيروت وهو يبيع «اللبان» -علكة باللغة الدارجة- تبادلت معه كلمات قليلة فأجاب: الحمد الله، سألته عن جده فأعاد: الحمد الله. بعد صمت قال: أبي مات وارتاح، وبقي جدي بعده ولم يعرف الراحة. يجلس صامتًا يعاتب القدر، يغرق في صمت ويستغفر ربه ويقول: لا أحد يعاند القدر. سألت نفسي: ما الذي يدفع صبيًّا فلسطينيًّا في العاشرة إلى معرفة كلمة القدر؟ إنها أقدار الفلسطينيين، التي انتزعت فلسطينيًّا من أرضه وقذفت به إلى مخيم بائس خفيض الجدران وسقطت عليه جملة مهينة: «باع أرضه لليهود»، وأمطر قائلوها المخيم بنيران متقاطعة رافعين إشارة نصر أقرب إلى الأحجية: ما معنى النصر على لاجئين حلموا بالعودة إلى أرض أجدادهم؟ ومن أين تأتي كراهية مستضعفين جديرين بالرحمة؟ يجيب اللاجئ: حاولت ما حاولت وفقدت ما فقدت، لكن «الدهر أبى»، بلغة الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدة رثت جنديًّا يابانيًّا، أخلص لتعاليم «الميكادو»، وأخفق مسعاه. قاتل الفلسطينيون منفاهم وسقطوا في الدم والصمت. والصمت ما يسبق الخوف ويتلوه، عنوان حقيقة «قتيلة»، وهو تعطيل بعض الحواس في انتظار الفرج.

الأمل الذي تخالطه الخديعة أحيانًا

آمن «الآخرون» أن سقوط مخيم تل الزعتر أغلق الحكاية: «كانوا هنا ولم نرغب بوجودهم فدفناهم في أرض ليست لهم». ولكن لماذا؟ ما الذي جعل الفلسطيني الفقير الذي لاذ بأرض قريبة متهمًا؟ وما معنى تناسل الضحايا؛ إذ للصبي أذى يعلق به، والأب ضحية لأنه أنجب أولادًا يذكرون فلسطين، والجد ضحية وهو الذي استنشق هواء الجليل العليل وزار القدس غير مرة وانتهى إلى مخيم خفيض ورأى أولاده يذبحون. لاذ الفلسطينيون بالأمل الذي تخالطه الخديعة أحيانًا.

لا خديعة في اللغة، فالفلسطيني هو المدافع عن حقه، والشهيد الفلسطيني هو الذي ذبحه الصهاينة و«آخرون» انتماؤهم معلق في الفضاء. لا تخدع اللغة العربية أحدًا، فالمخادع هو «الآخر» الغامض الذي يعرف اللغة العربية ويذبحها. إنها خديعة السياسة أو «سياسة المتاجرة»، التي تحصل على مكافأة إن تناقص عدد الفلسطينيين، وكفّوا عن الذهاب إلى المدارس وعن التمسّك بالكرامة.

كان أستاذنا يسألنا: من أين تأتي الأحزان، وكنا صغارًا؟ ونجيب: من المرض والفقر وموت الأقرباء، فيسأل من جديد: إلى أين تذهب الأحزان؟ فلا نجيب. لم نكن آنذاك نعرف كلمة الذاكرة، ولا نعرف أن الأحزان تشبه بثورًا حمراء تنتشر حارقة فوق سطح الجلد وتتحوّل، إن طالت، إلى بقع سوداء لا تزول، تستقر وتنغرس في الذاكرة، التي من دونها لا يوجد تاريخ.

حين تحدّث عالم اللغة الأميركي اليهودي عن هجوم الجيش الإسرائيلي على بيروت، صيف 1982م، كتب منددًا بالهجوم: «إنهم يصطادون العصافير بالمدافع». كان لقتلة «مخيم تل الزعتر» مدافع متعددة الجنسيات، ولم يكن أهل المخيم سربًا من العصافير.