بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مايو 1, 2021 | سيرة ذاتية
كان في هيئته شيء من الغموض، وجه مصريّ السمرة لا يحيل على المدينة، تسكنه كآبة وابتسامة دافئة، ومظهر متقشّف تقوده مشية متباطئة وقلب كثير الأسرار. وكانت رواياته مرآة لهذا الغموض المجتهد الباحث عن لغة مريحة. أفصحت عن روحه روايته الشهيرة «الزيني بركات»، التي وصفت أقفاصًا تكسر الروح، وأدرجت في سطورها جملة توجع القلب نطق بها «تلميذ» أفزعه «بصّاصو» السلطة الحاكمة: «اقتحموني وهدّموا أسواري». لازمتني الجملة طويلًا إلى أن التقيت جمال الغيطاني، للمرة الأولى في دمشق الثمانينيات المنقضية وسألته: «ما الذي حلّ بذلك التلميذ الذي طارده خوفه؟» أجاب ضاحكًا: «إنه أمامك، دخل السجن وخرج منه وكتب رواية عن المستبد برأيه، كتبت عنها «حضرتك» أكثر من مرة».
محمد إقبال
أكملنا السير إلى سوق الحميدية والمسجد الأموي وقصر العظم في دمشق القديمة. كان ينظر إلى واجهات حوانيت السوق الدمشقي بتمهّل وانتباه، كأنه يرسم ما يراه. قلت بلا قول: «إنها فتنة القديم عند أديب. يضع الحاضر بين قوسين وتفتنه الأصول»، لكنه سارع وقال: «براعة التجّار من خبرتهم في توزيع ألوان بضائعهم المتعارضة، التي تشدّ الانتباه وتوسع المكان. طبائع التجّار من عمر المهنة التي يزاولونها…». سألته ما العلاقة بين الألوان والطبائع؟ أجاب ضاحكًا: «الطبائع ألوان، ولكل لون طبعه، فبين الأزرق الصافي والأحمر القاني، اختلاف كبير». أكمل. «لا تنسَ يا صديقي أنني عملت بالصباغة فتيًّا، واختبرت الألوان، وعملت بالنسيج وتعلّمت توازن الألوان، بلا فلسفة ودراسة. وشغلني معنى التوازن طويلًا، ولا يزال، أكان ذلك في النظر إلى أسلوب الحكم أم في الكتابة الروائية».
حين وصلنا «مقهى النوفرة»، الذي ينفتح عليه باب المسجد الغربي، تأمل المكان وقال: «لكل مدينة قديمة هامش تمتد فيه». كان المقهى حتى عهد قريب، مركزًا لحكّاء شعبي، توارث مهنته من زمن الخليفة معاوية، الذي عهد إلى الحكائين بتقريظ فضائله، يعلنون عن ألوان حكمته، مثلما يعلن تجّار السوق عن جودة بضائعهم بألوان تزيّن مداخل حوانيتهم. سألت جمالًا مشيرًا إلى «التجليات»، وكنت قرأت جزأها الأول: «كيف تصالح بين مفهوم الأصل، وهو دينيّ الدلالة، والرواية، وهي جنس أدبي حداثي؟ جاء جوابه بلا ارتباك: يمكن أن يكون التصوّر الديني حداثيًّا، بل علمانيًّا؛ تأمّل مثلًا أفكار الباكستاني محمد إقبال والشيخ المصري خالد محمد خالد الذي كتب «لكي لا تحرثوا في البحر». للمتخيّل أبوابه المتعددة ومنها الباب الديني. والرواية على أية حال تقوم على الشكل، وهو مشتق من تعددية الحياة، ومن موقع الإنسان في الخطاب الروائي، الذي هو ديمقراطي بامتياز. وسواء كان في «الزيني بركات» تناصّ مرجعه قديم، وهو كتاب «تاريخ مصر المشهور ببدائع الزهور في عجائب الدهور» للمؤرخ المصري محمد بن أحمد ابن إياس، أو تناصّ مرجعه الإنجليزي والتر سكوت، فإن القول- الرواية يتمحور حول إنسان واضح الاسم والمعيش والهموم. ولعل أولوية القول الروائي على زمنه هي التي تسمح للروائي بمقابلة شخصيات حقيقية بأخرى متخيّلة، طالما أن النص الروائي تفاعل متوازن بين اللغة والتاريخ والمتخيّل.
لم يكن الغيطاني، بعد ما قال، بحاجة إلى سرد سيرة «الزيني بركات»، الذي تولّى منصب حسبة القاهرة عام 912هـ، ووصل إلى منصب والي القاهرة عام 914هـ، وجمع بين يديه ألقابًا عديدة بعد ست سنوات، ولا التذكير بأنه استقدم إلى روايته حكايات من المقريزي وأخرى من تجاربه الذاتية في الحياة، بل أراد، أول ما أراد، تباين أحوال الإنسان المرعوب في زمن مستبد، ورسم الرعب المكتفي بذاته بشخصية مدويّة الصوت هائلة الخطوة، هش داخلها ويحتاج إلى ثناء الحكائيين في المقاهي العامة.
معنى الهوية وقلق الروح
سألت الغيطاني، في أكثر من لقاء؛ لماذا عملت على تقديم اقتراح روائي جديد يغاير اقتراحات مصرية تضمّنت الواقعية والرمزية والحساسية الجديدة؟ «لم أتعمّد شيئًا»، أجاب، «إنما وصلت إلى ما أقنعني زمني بالوصول إليه». أسهب في الحديث عن الوعي المأزوم ومعنى الهوية وقلق الروح الصادر عن وحدة الهزيمة والاستبداد: «الوعي لا يرحل عن زمنه إلى آخر مضى: أحقيقيًّا كان أم متخيّلًا، إلا إذا ضاق بزمنه وأعجزه التعبير الصريح. فكل رحيل زمني تقمُّص، يلبس فيه من ارتحل أرواحًا قديمة، معتبرًا أن روح زمنه مريضة». وتابع: «الوعي المأزوم وعي بهوية أضاعت مكانها، والتمست روحًا بعيدة تشدّ أزرها». و«الكتابة هوية لها زمن أصلي، لا يجب فقدانه، يوحي بالطمأنينة ويقصي الضياع واللهاث وراء آخرين لهم هوية مختلفة، ومنتصرة…».
سألته، وهو يرشدني إلى مساجد القاهرة القديمة، من أين جاء احتفاؤك بمفهوم الأصل وتطبيقه في الكتابة الروائية؟ ولماذا الشغف بالقديم وتأكيده منظورًا للحياة؟ توقّف، أولًا، أمام مدينته الأثيرة: القاهرة، وهو الذي ولد ونشأ فيها، وعرف القديم والجديد منها، درس تاريخها حدّ الاحتراف وانجذب، كمحفوظ، إلى قديمها، دون أن يكتفي به. «القاهرة مدينة معقدة متعددة الطبقات لا تكفّ عن التبدّل»، قال: «تناولت حياتها في القرن السادس عشر في الزيني بركات، ورجعت إلى أحيائها الشعبية المكتظة بالفقر والطيبة واللامتوقع في «حارة الزعفراني»، التي تجعل من الهمس والإشاعات مادة للحياة، وأشرت إلى ما أصابها من خراب متأخر في «رسالة المصائر في البصائر»، وتابعت تحوّلاتها إلى زمن «الشركات المتعددة الجنسيات» في «حكاية المؤسسة…». وهي في الحالات جميعًا تعطي إحساسًا قويًّا بالتاريخ… أنا قاهريّ الروح والبصيرة، التاريخ كامن في كل جزء منها، يلازمك وأنت تتجوّل في حارة صغيرة، وفي ضحكات الفقراء وإفصاحهم عن التعب، وما مساجدها المتنوعة الصامدة والمتصدّعة، إلا شواهد على وقائع، تقترح الروايات وأساليبها المتنوعة…».
بيد أن حضورها الأكبر يتكشّف في «الأهرامات»، التي تفصل بين العارض والمؤقت والأصيل الثابت والأبدي في جلاله: «من هنا جاءت قناعتي بأن الأهرامات كانت تمثّل، ولا تزال، استمرارية الزمن. تعطي المصري الرغبة بالبناء، ليشعر بالديمومة وتجاوز العدم. إن الأهرامات هي التعبير القوي عن مركزية السلطة، لكنها، في الوقت نفسه، مجلى الزمن الكوني، ما يجعل منها صورة عن البناء الذي يتحدّى الزمن وفلسفة كونية في آن». سألته، بعد أن تداخل العقلي والعاطفي في كلامه: «هل هذا ما دفعك إلى كتابة «متون الأهرام؟ وإذا كانت فلسفة، فما هي فلسفتك المشتقة منها؟».
نصل إلى ما تدعوه «حضرتك» مفهوم الأصل، قال، وأضاف، سؤالك عن إمكانية التصالح بين القديم، الذي يلامس القداسة، وحداثة الكتابة الروائية. ثم أجاب الغيطاني بوضوح لا تلعثم فيه: «إذا كان ما خارج الأهرام مؤقت وعرضة للزوال، وكانت الأهرام ثباتًا يتجاوز الزمن، فإن في الثابت، الذي لا يتحوّل، حداثة مستمرة، تحتضن الرواية وتفيض عليها، وتستدعي أجناسًا من الكتابة حاضرة وأخرى لم تحضر بعد…». كان في كلامه شيء مما قال به الشاعر الفرنسي بودلير، حين مايز بين العارض اليومي وذاك الذي يستعصي على الزمن تغييره. ما يجعل دور الفن الحوار مع الزمن والتصدّي له،…
لم يكن، الغيطاني، مشغولًا بما قال به بودلير وغيره من دعاة الحداثة. كان مرتاحًا إلى روحه القاهرية، والبحث عن أشكال كتابية، لا فرق إن كانت روائية أو غيرها، تُوائِم طبقات القاهرة الزمنية المتعددة. ساوت كتابته بين كلمة «الرواية» و«الكتاب» و «السِّفْر» و«الدفتر»، كما لو كان يهتدي بمرجع نظري لم يقع عليه غيره، اعتبر الأهرام مركزًا للعالم ومجلى فريدًا لديمومة مفتوحة. كان نجيب محفوظ، بعد مرحلة فرعونية مؤقتة، قد عاد إلى قاهرة القرن العشرين، وأراد الغيطاني سرد أحوال المدينة في جميع الأزمنة. وما كتاباته المتوالدة، التي أذابت الرواية في «دفاتر التدوين» و«متون الأهرام» إلا آية على شغف بمدينة عميقة الذاكرة ألزمت الروائي بتنويع كتابي يتقاطع مع كتابة محفوظ ويختلف عنها.
لقاء مع الأستاذ في عَوّامة على النيل
في زيارة إلى القاهرة، في تسعينيات القرن الماضي، بمناسبة «مؤتمر الرواية»، همس جمال في أذني: «مفاجأة. هذا المساء نلتقي الأستاذ، فلا ترتبط». التقينا محفوظًا في عَوّامة على النيل، بصحبة الروائي يوسف القعيد الذي نفذ إلى جوهر السلطة العمياء في روايته «يحدث في مصر الآن». كان في اللقاء بين الروائيين الثلاثة ألفة عفوية «منضبطة»، تذكّر بأب وأبنائه، بمعلّم ومريديه، بهرم ناطق يحفّ به مرشدون نجباء. وكان للروائي العجوز حضور واسع الأرجاء، كما لو كان ذاب في الهواء أو ذاب الهواء فيه، ترجمته قهقهته المتصادية الأقرب إلى «تعليق سياسي لاذع»، وتلك الجملة غير المتوقعة: «ساعة السيجارة يا جمال»، وينظر جمال إلى ساعته ويمدّ إلى الأستاذ «بسيجارة كنت». كان الأستاذ في «تدخينه» ملتزمًا «بالساعة» لا برغبته في التدخين. خطرت لي في أثناء اللقاء جملة لا تصيب دائمًا: «كثيرًا ما يحاول الأبناء تعليم آبائهم»؛ ذلك أن عفوية محفوظ مع الروائيين أعلنت عن أبناء فرحين بأبيهم وأب يعلّم أبناءه ويتعلّم منهم.
سرد الغيطاني في كتابه «نجيب محفوظ يتذكّر» مسار الروائي صبيًّا يتفرّج على الجموع الغاضبة في ثورة 1919م، وتلميذًا في عائلة لا تحتفي بالكتب، وطالبًا في الجامعة يتابع دروسًا في الفلسفة ولا تفوته محاضرات قسم التاريخ. لكنه أنطق أيضًا ذاكرة المكان، الذي يسبقه أصحابه إلى الموت ويعود ليلتحق بهم؛ ذلك أن الأمكنة تموت أيضًا. حين ماشيتُ الغيطاني في القاهرة القديمة أشار إلى المكان الذي ولد فيه نجيب محفوظ وغادرته عائلته لاحقًا، إن مخزن أحمد عبدالجواد، بطل الثلاثية، في مكان غير الذي وضعته فيه الرواية، وإن المقهى المنخفض عن سطح الأرض، الذي كان يجلس فيه كمال أحمد عبدالجواد، قامت فوقه بناية حديثة.
بيد أن معرفة جمال بتاريخ القاهرة، وإلمامه الشامل بجماليات مساجدها القديمة، يثيران الإدهاش والفضول. فهو لا يكتفي بتحديد مدة إقامة المسجد، وتبيان الأسباب التي دعت إلى بنائه، إنما هو مختص في شرح مفاصل البناء وعلاقاته باتجاهات الضوء ودلالة ألوان الزجاج ومعاني النوافذ الصغيرة والكبيرة واختلاف المعنى بين النافذة والدائرة، ولما تسبق باب الخروج نافذة أو تتلو باب الدخول دائرة… يعطف الخطوط والزخارف على هندسة البناء وينتهي إلى فلسفة إسلامية في الخطوط والزخرفة، كما لو كان في مساجد القاهرة الأثيلة «أهرامات» أخرى تخرج الفلسفة بالتصور الديني للعالم.
حين زرت جمالًا في مكتبه في «أخبار اليوم» -أخبار الأدب- فوجئت بانضباطه وشدّته، يسأل عن كل تكليف إلى أين انتهى، يصرخ ويقرّع وقارب الزجر ويؤكد، في النهاية إن «الشغل عاوز كدة»، وإنه يجب أن يكون كما تأمل أخلاق المهنة بأن يكون. وتساءلت حينها: من أين يأتي الوقت الكافي لهذا الأديب الشامل، الذي يعالج المقالة السياسية والقصة القصيرة والرواية والمذكرات الشخصية، ويسافر ما استطاع السفر، ويكون خارج الناس ومعهم، وحريص على «إعادة كتابة رواياته بخط جميل»؟ أراني النسخة المنجزة من روايته «حكاية الخبيئة»، وعجبت للخط الجميل الذي كتبت به، الأقرب إلى الزخرفة، لا شطب فيه ولا محو ولا ما يضير العين. إنه التبييض الثاني؛ قال.
قبل أن يغزوه المرض، كنت سألته مساعدة في «أمر بحثي»، كان المرض قد توغّل وتغوّل، لكنه كان يصرّ على «رسائل هاتفية» سريعة تطمئن أنّ الأمر يسوّى بعد رحيل المرض. لم يرحل المرض وغاب صديق عزيز، على غير توقّع.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مارس 1, 2021 | سيرة ذاتية
كان للشاعر، في صبانا، هالة توطّدها الصحف، وللصحف هالتها أيضًا، تتسع إن كانت قاهرية صادرة عن «وادي النيل». وهالة الشاعر عندنا، نحن الشباب آنذاك، تزداد إن كان فلسطينيًّا ينظم «مآسينا» شعرًا، ورائدًا لا يكذب أهله. وكان عز الدين المناصرة شاعرًا «منّا» اعترف به المصريون، يضيف جديدًا إلى غضب «أبي سلمى» وتأملات إبراهيم طوقان، الذي رحل شابًّا، وعَدَّه محمود درويش الأفضل بين شعراء فلسطين قبل النكبة. كبرت هالة عز الدين حين عرفنا، ونحن في بداية الدراسة الجامعية، أنه كتب شعرًا ولم يكمل الخامسة عشرة من عمره، نشره عام 1961م وهو الذي وُلد عام 1946م.
التقيته، للمرة الأولى، في بيروت الحرب الأهلية، ربيع 1975م، حيث رعب القذائف والرصاصات الطائشة وتقاتل طرفين، يشرف عليهما ثالث يزوّدهما بالسلاح ويمعن في القهقهة. كنتُ أتهيّبُ لقاءَ الشعراء ولا أشعر بمسرّة، «مبدعين» من نوع خاص أراهم، تلازمهم غرابة تثير الفضول ولا تعثر على جواب. والشعر، عربيًّا، كما قيل، جاء من «وادي عبقر» والشعراء عباقرة، لم يقنعني السبب ولا النتيجة.
توقّعت أن أرى في عز الدين، أو «عزّ»، كما كنا ندعوه في بيروت، «العبقري المنتظر» وأن تلحق بي الندامة وتوقعت، أكثر، أن ألتقي الشاب الشهير مع «سيارة» وآثار نعمة. غير أن «عز» كذّب ظني، بل سحقه سحقًا، فهو الضاحك البسيط المتذمّر لسبب والناظر، أبدًا، إلى الانعتاق لسبب أيضًا، الشاعر الموفور الألفة، كأنه ليس من الشعراء، تلازمه السخرية ملازمة السوار للمعصم والشفتين للأسنان. سخرية لا تَرَف فيها ضاقت بعمل «إعلامي»، يملؤه الفراغ، وبعاملين ضاقوا به، وهو الذي لا يحسن الانصياع ولا يطيق القامات المتناظرة.
كان إذا ذكر موقع عمله يقول: «أبو شاكر من فوق» قرب الجامعة العربية، ويكمل سخريته ليقول «أبو شاكر من تحت»، إن أردتَ، ولم يكن يرتاح إلى الموقعَين، ويتشوّق إلى عمل مفيد يربطه بمدينة «الخليل». كان فيه صورة المثقف المغترب، الذي أبعدته «الإدارة الرخوة» عمّا أراده وحرصت إرادته أن يظل متكاملًا. أو صورة الصبي الذي سرّح نظره في فضاء البحر الميت، الذي أطلت عليه في زمن غنائي قريته «بني نعيم»، وضاق بجدران «المكتب» وشخصياته الأكثر ضيقًا. لعله سخر في قصيدته القصيرة «مكتب» من مسؤولين توهّموا اتساع النظر.
كان يبدو لي، وهو يشير إلى نكبة متقادمة و«هزيمة قادمة»، شاعرًا جوّالًا هربت منه قصيدة لم يكملها، فلاحًا أسمر اللون ينتظر المطر، أو حالمًا متدفق الكلام أضاع مدينته الأولى. قال لي في اللقاء الأول: أعمل في «صحيفة الثورة»، ونطق بكلمة «أعمل» متعاجبًا، وأعاد نطقها بحروف متقطعة الأوصال. أكمل: لن تراني فيها طويلًا، فالعملة الرديئة تقهَر العملة الجيدة، وإدارة الرداءة تضيق بأنصار الحقيقة. ألجأته الرداءة، بعد حين، إلى السفر إلى بلغاريا حيث حصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة صوفيا عام 1981م. لاحقته الرداءة، أثناء دراسته؛ ذلك أن «الوطنية المتعالمة» كثيرة الأبناء.
«أرجو ألّا يكون الوقت متأخرًا»، يقول هذا وهو يزورني بلا ميعاد، في بيتي القائم في كورنيش المزرعة، في بيروت الغربية. يأتي بوجه ضاحك وفي فمه سيجارة ويسارع إلى القول: المطلوب، كما أعتقد، الحفاظ على نظافة البيت. يمسح الغبار، ويقرّب منه «مطفأة سجائر»، ويكمل تدخين سيجارته ويطفئها في الموقع الخطأ مردّدًا: الاعوجاج لا شفاء له. لكن لاعوجاجي أسبابه، كما تعلم يا صاح!! أردّ عليه: أنا أتعامل مع الصحافة، ولست عاملًا في صحيفة ثورية… وأطلب منه قراءة قصيدة، مقابل اعوجاجه الذي لا يستقيم.
الخليلي الأصيل
أطلب منه قراءة قصيدته: «يا عنب الخليل»، التي كتبها في القاهرة -1966م- كان في الطلب ترحيب به، وهو الخليلي الأصيل، الذي أشهر عنبًا لا يحتاج إلى من يُشهره. لكل مكان مقدّس ثمر يحيل إليه، أو له رمز واضح الملامح. كان في نهاية القصيدة بيتان حفظتهما، مع غيري، منذ زمن: «خليلي أنتَ يا عنب الخليلي الحرّ لا تثمر. وإن أثمرتَ كن سُمًّا على الأعداء، لا تثمر». كان «عز» إذا قرأ مقطعه الرابع في القصيدة: «ومَرْمَرَنا الزمان المرّ يا حبي، يعزّ عليّ أن ألقاك… مسبيّة»، يقول: اعذرني ففي لساني عوَج، ويقول: «ومرمرنا الزمان المرّ يا مرمر» مستعيضًا عن الراء بالغين، يطلق ضحكة عامرة، وينهبها بعينين حائرتين، كما لو كانت فلسطينيّته «المُرّة» تأبى عليه استذكارًا ترافقه قهقهة.
نوح إبراهيم
«إننا نعيش كفلسطينيين بالذاكرة ومعها، إن سقطت تساقطنا معًا». هكذا قال لي، ذات زيارة مفاجئة، في «دارة الفنون» في عمّان. لم أكن رأيته منذ عقدين، ربما، وإن كان حاضر الصورة في كلام أصدقاء من دمشق، وجمل كريم مروّة، اللبناني الذي أعطى كتاب «المثقفون الفلسطينيون وقضية الحريّة»، وملاحظات الراحل الكبير الدكتور إحسان عباس، عن «اجتهاد عز الدين في موضوع الحداثة» الجدير بأكثر من حوار، وفي حديث الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطّار. ذلك أن المناصرة عمل طويلًا في الجزائر، ولقي الترحيب والتكريم،… وكان حاضرًا في ذاكرتي بجهده الثقافي الموزّع على الشعر والنقد التشكيلي والسينمائي، وعلى موقف وطني لا يفصله عن شعره، ولا ينفصل شعره عنه. كما لو أن عينيه تشيخان، وقلبه الفلسطيني عصيّ على الراحة والشيخوخة.
كانت ثقافته تفيض على طريقة كلامه، وكثيرًا أفادني في كلامه الثقافي العفوي، الأقرب إلى الارتجال، في أكثر من لقاء. حدّثني عن صلاح عبدالصبور ومحمد عفيفي مطر وتيسير سبول، فإن رجعت به الذاكرة، فلسطينيًّا، إلى الوراء، مرّ على ذكر مطلق عبدالخالق، شاعر حداثي فلسطيني من الروّاد، ونوح إبراهيم الشاعر الشعبي الذي أنشد ثورة 1936،…
قلت له مرة: تحتفي ذاكرتك بالشعراء قبل غيرهم، أجاب: الشعر حرية أفقها مدينة فاضلة. تذكّرت حينها، عبدالقادر الحسيني ينشد الشعر، عائدًا من دمشق يوم الإثنين -نيسان 1948م- ليستشهد مدافعًا عن القدس يوم الأربعاء، وسألت: ما الذي كان ينشده مقاتل ذاهب إلى استشهاده يا «عز» أجاب: كان يقارن بين الموت الكريم و«ضيافة الجبناء». استعاد سريعًا صورة الأديب الأردني تيسير سبول، صديقه اليومي لسنوات أربع، أطلق رصاصةً على رأسه في خريف 1973م. كان حديثه، وهو يرسم صورة صديقه، مزيجًا من الغضب والأسى، كما لو كان واقفًا على أطلال قريته «بني نعيم»، يتطلع إلى ما وراء البحر الميت ويتعلّم الحوار مع الريح.
صورة المثقف المغترب
قرأت فيه، مرة، صورة المثقف المغترب، يعايش الناس ويحتفظ بأسراره مصاحبًا جملة واضحة غامضة: لن يفهمني إلا الزيتون. كان زيتونه مجاز الوطن الذي أكمله غسان كنفاني بعنوان قصصي: «أرض البرتقال الحزين». رأيت في عز الدين، بعد حين، صورة تداخل صورته الأولى: المثقف النقدي المتعدد. ينقد ما تآلف عليه المثقفون الفلسطينيون بنظر آخر، تباطنه عين القلب، ويوحّد بين النظر السياسي والزيتون «الكنعاني» القديم المدثّر بالأسرار.
سألني مرة، وهو يمسك بمطفأة السجائر «ويبدّد رماد سيجارته في الفضاء: ما الذي يقصده صديقك الماركسي مهدي عامل بعنوان كتابه: نمط الإنتاج الكولونيالي؟ قلت: أظن المقصود أن الاستعمار الذي هندس بنية المجتمعات العربية رحل بحضوره المباشر وترك «البنية» تنوب عنه. هذا ما دعاه مهدي عامل: نمط الإنتاج الكولونيالي. هزّ رأسه موافقًا، وقال: لكأنه ينفذ من الظاهر إلى الجوهر، ولا يرى إلا حقًّا. قلت لماذا لا تسأله وهو الأليف «المتناثر» في أكثر من مكان؟ إن لغته صعبة وموجّهة إلى «الفلاسفة» أمثالك، أجاب، وأنا أقرأ الدكتور حسين مروّة بسهولة. وهو فيلسوف أوضح قوله بمعارف تاريخية. كان «أبو نزار»، أي الأستاذ مروّة، وهو لا يعرف الفرنسية، أخبرني أن المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك أثنى على «عز» في كتاب صدر له حديثًا: «الألسن العربية اليوم». فاجأت عز الدين بالخبر، تضاحك وردّ ساخرًا: «الحمد لله الذي جعل مستشرقًا فرنسيًّا شهيرًا يعترف بفلسطيني يعمل في «أبو شاكر من تحت»، ولا يحظى باعتراف مكتب إعلامي ضيّق توهَّمَ ذاته دولة.
كيف أحوالك يا عز الدين؟ سألته في لقاء أخير جاء مصادفة في عمّان، أجاب: أعمل في جامعة اختارتني ولم أخترها، وأكتب شعرًا يوقظني من النوم، وأعيش مع عائلتي مرتاحًا، يشاكسني البعض، بلا سبب، وأنقد بعضًا لسبب، وأشتاق إلى مرابع الطفولة والصبا، القائمة وراء الأفق، تزورني حين تريد، ولا أزورها حين أريد، وأمسح عن الذاكرة حكايات الآخرين الصغيرة.
كنا معًا قطعنا شوطًا طويلًا في مضيق الكهولة، تساقط ما تساقط دون أن ننتبه وانطفأ ما أطفأه الزمن، وتداعى ما أرهقته الأيام. بقي عز الدين في ذاكرة القلب كما كان، يصل ساخرًا متدافع الكلام ويمضي هادئًا، يردّد أغنية قروية في زقاق بيروتي معتم. بعد حين أرسل لي، مشكورًا، أعماله الشعرية الكاملة، وهي عدة مجلّدات، ضاعفت ما عندي من دواوينه. كنت أقرؤه شاعرًا متميزًا متعدد الطبقات مجدّدًا في الأسلوب واللغة والمنظور، وحداثيًّا قبل أن تشغله قضايا الحداثة الشعرية، ومؤسسًا لمشروع شعري فلسطيني، بلا ضفاف، لم يأتِ غيره به.
ظاهرة شعرية فلسطينية كبيرة
سألني محمود درويش في ساعة بوح: ماذا ستكتب لنا في العدد القادم من «الكرمل»؟ قلت أتابع الكتابة: «في الذاكرة الوطنية الفلسطينية». قال: كتبت آخر مرة عن معين بسيسو، فلماذا لا تكتب عن عز الدين المناصرة؟ قلت: إنه من الأحياء أطال الله عمره، قال: أعرف، لكنني أعتقد أن فلسطين أعطت شاعرين كبيرين، رحل طوقان مبكرًا، وبقي عز الدين، وهو ظاهرة شعرية فلسطينية كبيرة. إنه أهم ما عندنا اليوم. ورمى بجملة سريعة: «كنت أتمنى أن يكون واعيًا، أكثر، لمشروعه الشعري» سألت نفسي، بلا حيرة، أين يضع محمود نفسه في هذا الترتيب؟ وعثرت على إجابة غامضة.
محمود درويش
ولعل عفوية المناصرة المتسائلة المحايثة له هي التي وضعته خارج مصطلح «شعراء المقاومة»، الشائع في السبعينيات الماضية، ولم تدرجه بين «شعراء المناطق المحتلة»، الذي جاء به غسان كنفاني. لم يكن هنا ولم يكن هناك، كان يتأمل، صامتًا «حداثة خاصة به» وسؤال «كنعانيا المتحدّة»، الذي يضم فلسطين وجوارها العربي. كان يطوّر «خربشاته الشعرية»، كما كان يقول، قاصدًا ما هجس به منتهيًا، دون أن ينتهي، إلى «قصيدة النثر الرعوية»، التي نشر «مطالعها» في صحيفة «المساء» المقدسية عام 1959م. جرّب وأمعن في التجريب ووصل إلى «كنعانياذا» – 1983م، التي باطنت تجريبًا شعريًّا طويلًا قبل الوصول إليها. وكان يسير إلى تجريبه وحيدًا.
رمى ذات مرة، سريعًا، تعبيرًا، اختصر فيه أداءه: «التجريب حرية». كان تجريبه فطينًا، يتابع ما يكتبه غيره وينزوي، مرتاحًا، ليتابع ما أراده. ما يفسّر معرفة بالشعر العربي الحديث، كما غيره. كان عارفًا بالشعر العربي القديم قدر معرفته بشعر «الستينات» المعاصر له في أصواته المتعددة: السياب، خليل حاوي، أدونيس، صلاح عبدالصبور وغيرهم، وقارئًا لمجلة شعر، ومعجبًا ببعض قصائد يوسف الخال «الجميلة المحدودة!»، كما قال ذات مرة. أتاحت له معارفه الشعرية، كما مشروعه الذاتي المتناتج، أن يكون ناقد نفسه، بعيدًا من نقد سائر، تعوزه المصداقية، يجاري السلطات الحاكمة، ويساير معارضة مفترضة، وقد يضيف إلى السلطتين «شعبوية شعرية»، رغم مفارقة القول، تلتمس إرضاء حشود، قد تعرف أسماء الشعراء، وتعرف عن الشعر قليل القليل.
أنهى المناصرة، الذي ارتقى بفن الإنشاد الشعري، قصيدته: «لن يفهمني أحد غير الزيتون»، بجمل غاضبة مستقرة: لن يفهمني الدكتاتور الطاغوت. لن تفهمني، ميليشيا الغابات. لن يفهمني، طير الليمون. لن يفهمني أحد. لن يفهمني أحد، غير الزيتون.
الغريب الذي لا يفهمه أحد يلتفّ بغربته، وتحلّق به غربته راجعًا إلى رحم ترابي يمدّه بقصيدة خضراء.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | يناير 1, 2021 | سيرة ذاتية
تعرّفتُ إلى المخرج السينمائي السوري محمد ملص قبل خمسين عامًا، وما يزيد بقليل. ستينيات القرن الماضي، كما يقال، في أواخرها، في العام الذاهب من 1967م إلى ما بعده، وما تلاه من سنوات لاحقة، لا تزال تتنفس إلى اليوم، مع لهاث لا بدّ منه، فالعمر المتراكم يصاحب التعب.
تبدو هذه الصداقة المديدة، كما تريدها الأيام، تغفو وتستيقظ وتصحو إذا استدعاها حنين أو حديث، كأن تسألني باحثة في الأدب الفلسطيني قبل أسابيع: قلتَ ـ في شذرات سريعة ـ إن صداقتك مع ملص بدأت مع الكتب، فهل ما زلت تتذكر عناوين الكتب التي تركها لك قبل سفره إلى موسكو؟ سؤال السيدة الباحثة يختبر الذاكرة ويستحضر زمنًا لا يأتي واضحًا إلا بعد استجداء.
أذكر رواية ميخائيل شولوخوف ـ أخذ ملص يلفظ الكلمة الأخيرة بعد موسكو: شولاخف «الدون الهادئ» في أجزاء أربعة بغلاف له خضرة مخادعة، وأذكر غلاف «صيادون في شارع ضيّق» للفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الموزع، ربما، على أحمر وأسود، ولا أذكر تمامًا إن كان بين الكتب مجموعة قصصية، للفلسطينية سميرة عزام التي قبضها الموت في اليوم الأول لهزيمة حزيران التاريخية، وهناك كتب أخرى محا عناوينها النسيان.
تابعت السيدة الباحثة: ما الذي دفع إلى صداقة عمرها خمسون عامًا؟ أجبتُ: تقاطع الطرق والصدف السعيدة وغموض الروح الذي يطرد صورًا ويستبقي صورًا ولا يعلن عن السبب. سألتها بدوري: لماذا اخترت ملص قبل غيره؟ أجابتْ: حدْسٌ علّمني أن الوجوه مرايا، وأن المرايا المتقابلة تخلق صداقات طويلة.
في الحديث عن الصديق السوري تستحضر الذاكرة صورتين: طريقًا من ضباب وكلمات هادئة وطريقًا طويلًا تحفّ به المرايا. الطريق الأول يتدافع فيه الشخص وما قاله في لقاءات متكررة. كان طويلًا ناحلًا مسالم الملامح هامس الصوت بوجه زاده قميص أبيض بياضًا وعينان غامضتان استقرّ فيهما كلام كثير وشيء من الحزن. هذا ما أذكره الآن، فآخر لقاء بيننا كان في بيته في دمشق، قبل عشر سنوات وسنة، وآخر حديث منذ عام، كان هاتفيًّا.
بقي الآن، ربما، على ما كان عليه، مضافًا إليه تكاليف الزمن. حنى قليلًا ولم يزاوله النحول، افترش الشيب شعره وزادت عيناه غموضًا، وانحسر السواد في ذقنه التي أطلقها قصيرة قبل عقود، واقتصد في التصرّف بالزمن، قال لي في الحديث الهاتفي: «كما تعرف يا صديقي نحن الآن نعيش في الزمن الضائع»، وصمت عمّا تبقّى.
أتصوّر صبيًّا يلهو في حارات مدينة القنيطرة، في الجولان السوري الذي كان، وأذكر نفسي في ذلك «الجولان»، الذي عشت فيه ثلاث سنوات بعد النكبة. أذكر مطرًا غزيرًا في بلدة «جويْزة» وخضرة ممتدة وأمًّا صامتة امتلأت بالانتظار، وسماء مسقوفة بالعصافير في أيام الربيع. عشنا صبية في الجولان ولم نلتقِ. تعرّفت على ما فاتني في روايته الوحيدة: «وقائع مدينة كانت تعيش قبل الحرب». خالطت الرواية، كما هو متوقع سيرة ذاتية، وكما هو متوقع أفسح لها ملص، الهاجس بالزمن وتحولاته، مساحة تتلعثم قليلًا ثم يستقيم الكلام. كانت المدينة المقصودة: «القنيطرة».
توسّطت روايته، التي قرأ لي بعضًا منها قبل نشرها، عائلة فلسطينية لاجئة «بيت الفار»، وامرأة تعجن «طحين الإعاشة»، لاهثة مرهقة، متكدّرة، تصاحب يديها ووجهها المعروق زفرات أقرب إلى الآهات. كان في الرواية صبية يلهون. كان ملص من هؤلاء الصبية، الذين لم تعلّمهم الأيام بعد الفرق بين اللاجئ وغيره. لا أستذكر صورة «امرأة العجين» إلا وجاءت معها صورة أمي الصامتة الغارقة في الذكريات.
أندريه تاركوفسكي
مجاز اليتيم
حدّثني، وهو ينظر إلى جبل قاسيون، عن أب أنجبه في طور من حياته متأخر، أغدق عليه محبة ورحل، تركه مع أم استعار من قسماتها ما تسمح به قوانين الوراثة. تصوّرتُه صبيًّا فوق كتفيّ أب يجتاز جدولًا ناعم الماء، أطلق يديه سعيدًا في الفضاء وعاد، بعد حين، مع أم متشحة بالسواد من قبر أب افترشه الريحان. ولعل مجاز اليتم هو الذي قرّبه من الفلسطينيين، ففي روح كل فلسطيني عرف اللجوء أكثر من يتيم.
رَسَبتْ في ذاكرتي، منذ عقود، جملة من فِلم الروسي البديع أندريه تاركوفسكي «طفولة إيفان»، وصفت صبيًّا يركض تحت المطر والقذائف: «كان طفلًا بلا طفولة»، يقاوم الشر ولا يستطيع أن يكون شريرًا. تصرّح الجملة بفكر فنان يرى الطفولة السعيدة حقًّا إنسانيًّا، ويوحّد بين الخير والجمال والفن الذي يحتضنهما. اعتبر ملص تاركوفسكي رفيقًا فنيًّا له، وحدّثني عن فِلمه: «المرآة»، حيث المرأة الواضحة ـ الغامضة زوج وأمّ ومعشوق وكيان يوقظ الحنين إلى زمن دافئ مديد الاستقرار.
في أطياف ملص طريق يكتنفه الضباب، يدعى: طريق المرايا. فمسار الصداقة الطويل له مراحله المختلفة، ولكل مرحلة مرآة تعكس ملامحها، بدءًا بلقاء أول في مدرسة ابتدائية دمشقية علّمنا فيها معًا، وتقاسمنا حديث السينما والكتب، ونظرنا معًا إلى قاسيون الواضح الزوايا، الذي ستُغرقه بعد عشرين عامًا بيوت عشوائية، انتهاء بحديث تليفوني تبادلنا فيه، قبل عام، رسائل بكلمات قصيرة مبتورة الأطراف، تمنينا فيها لقاء مريحًا، كان متاحًا في أزمنة منقضية. قال فيه الصديق السوري: «آه على أيام زمان، حين كنا نتحاور عندما نريد».
مرايا ملص الزمانية غائمة ومراياه المكانية أكثر تسامحًا: هضبة تنفسنا هواءها تُدعى: الجولان، عبث بها الإسرائيليون من هزيمة حزيران ـ 1967م ـ إلى اليوم. بعد الهضبة المحتلة، تأتي دمشق ومدرسة قرب مشفى المجتهد، مديرها أليف الكلام عشوائي الشكل، وحي الميدان و«ثانوية الكواكبي» التي دَرستُ فيها خمس سنوات، وأمكنة قصدها ملص «كادحًا» مضمر الأحلام. وفي حي الميدان زرت للمرة الأولى منزله، قبل سفره الوشيك إلى موسكو، وتحدّثت مع أمه في يوم شتائي، وحدّقت في عينيها ملاحقًا قوانين الوراثة. أرسل المخرج السوري، بعد إنهاء دراسته تحية أولى إلى دمشق بفلمه: «أضواء المدينة» الذي استُهل، ربما، بسيارة قادمة من القنيطرة، وانطوى على شبه سيرة ذاتية «مبكّرة» سرد لي بعض وجوهها ذات صيف.
بعد سفره إلى موسكو وسفري إلى باريس تبادلنا رسائل متتابعة، اقترح عليّ قبل سنوات قليلة نشرها في كتاب. كتب لي عن الثلج والغابات ودروس الغربة والزعيم السوفييتي بريجينف الذي يُفرط في الشراب ويتهته في الكلام، وعن معلمة اللغة الروسية الجميلة المواظبة على قراءة ديستويفسكي، ورحلة طويلة في قطار رأى فيها «الأم روسيا» التي أنطقها الروائي سولجنتسين بصوفية كثيرة الأسرار. وكتبت له عن موضوع «الاغتراب» الذي أقرأه في كتب توزّعت على الفلسفة والأدب وأفلام الإيطالي فيدريكو فيلليني وفلم الأميركي سام بكنبا «القطيع المتوحش» الذي اعتبر تصوير العنف الطليق طريقًا إلى «تطهير الروح الإنسانية». تضمنت رسائله الطويلة الأنيقة الأسلوب تأملًا تهذّبه التجربة وأعلنت رسائلي المرتجلة عن دهشة العربي الذي قرأ رواية سهيل إدريس «الحي اللاتيني»، التي «اخترعت» باريس قبل أن تراها.
راكضًا تحت المطر
عمر أميرالاي
حين زارني في باريس، شتاء 1972م، كان ناحلًا كما كان، أطال شعره قليلًا، يسأل بعينيه ويقتصد في الكلام. كان في عينيه ما يكفي لحوار عائلة فرنسية لا تعرف الروسية. استضافتنا في بيت ريفي وتبادل معها الكلام والضحك. أذكره راكضًا تحت المطر يسأل بالإشارات عن موقع صالة سينمائية تعرض فِلمًا للفرنسي «فرانسوا تروفو» ويتوقف أمام صالة قريبة من دار الأوبرا تعرض فِلم «اللهب» للمخرج الإيطالي جيل بونتي كورفو الذي تبادل معه إدوارد سعيد حديثًا طويلًا عن السياسة والسينما. طلب مني ملص أن أدعه مع فضوله السينمائي تحت المطر بعد أن زوّدته بمجلة أسبوعية صغيرة الحجم تدعى «باري سكوب». شعرت بالذنب وشعر بالحرية، ومضى سعيدًا يفتّش عن أفلام بونيويل وغلوبير روشا وفِلم رينوار الشهير «النهر». كان يعود في المساء مبتلًا مرهقًا واضح الرضا. وما رضاه إلا الاختلاف إلى صالات سينمائية تقترب من الخمسمائة تشكّل متحفًا سينمائيًّا متعدد الجنسيات.
جمعتنا دمشق بعد أربع سنوات من جديد، واجتمعنا في بيروت غير مرة، وجمعني بصديقه الأثير، ذاك الزمان، عمر أميرالاي السينمائي المشبع باللغة السياسية وتلقائية مريحة وبميل إلى «أقصى اليسار». وفي بيروت صوّر ملص فِلمًا وثائقيًّا عن المخيمات يدعى: «المنام»ـ 1987م، وعن فلسطينيين يتسلّلون في مناماتهم إلى أرض آمنة، وفلسطينيات يَسْألْنَ عن أحوال أبنائهنَّ الشهداء. وفي المنام تقف شابة لاجئة جانب نافذة تغوص في الضوء، وتصحو على أزيز الرصاص ودويّ القنابل.
سألني ذات مرة: كيف تنظر إلى المقاومة الفلسطينية؟ كان في السؤال احتجاج وتعجّب. أجبته: الظاهرة الفلسطينية مثقلة بالتجاوزات بقدر ما هي أخلاقية الأبعاد. وقلت الكرامة الفلسطينية فعل مقاتل، التفّ حوله شبّان عرب من بلاد مختلفة. قال ملص بصوت خفيض: الذين يتطاولون على القواعد المسيطرة في العالم العربي ينتظرهم العقاب. وتابع ضاحكًا: «التآمر فعل كفاحي يا صديقي»، وعقاب الفلسطينيين مستمر منذ يوم النكبة.
غير أن ملص الذي يتدافع في شخصه الفني والسياسي ما لبث أن قال: «كل شيء إذا تكامل أصبح شكلًا، فخارج الشكل يوجد السديم، فما شكل الكفاح الفلسطيني اليوم؟» قلت: لا أعرف. فالحصار المتواتر أملى على الفلسطينيين بطولة غريبة هي: «بطولة البقاء».
التمرد على القبيح
ما هو جدير بالتذكير أن المخرجَيْن السينمائيين، الألمع في العالم العربي بعامة، هجسا منذ البداية، بالتمرد على التقليدي والقبيح. بحث عمر أميرالاي عن سينما جديدة تستنطق المعيش المباشر، وسعى ملص إلى سينما تختلف في الشكل لا في الموضوع. قال لي في بداية تجربته السينمائية: اختار عمر المنهج التوثيقي للسينمائي السوفيتي «دزيجا فيرتوف»، أما أنا فأقرب إلى منهج إيزنشتين. بحث ملص عن هويته السينمائية بحثًا لازمه حتى اليوم. ولعل جهده في فهم ذاته، فهو ما يقوم به كل فنان حقيقي، هو ما جذبه إلى سينما يوسف شاهين، في طورها الأخير، وتاركوفسكي اللاهث وراء غوامض الوجود المتوالدة.
احتفى ملص «بسينما المؤلف» الذي يكتب النص ويخفيه، ويذيبه في صور متقطّعة تبني «نظرًا إلى العالم الواسع». كما هو الحال في فِلمه الأخير «سلم إلى دمشق» ـ 2014م، الذي وضع فيه مقولاته الأساسية. الصبي المتسائل والبيت القديم وأنثى أم/ حبيبية والقفز عاليًا فوق الحواجز وحوار المتضادات. جعل من اسم فِلمه سؤالًا، إذ في السلّم صعود ودرجات متتابعة الدلالات: رقة الماء وأناشيد ابن عربي والفن والعشق والتنوّع الأليف والبيت القديم، وشاب مقبل على السينما يمر على قبر عمر أميرالاي وفتاة فنها ينير الوجود، وعجوز مثقلة بالتعب والورود… ما هو قبيح يقع خارج البيت القديم، وعاشق السينما يرتقي سلمًا يفضي إلى السماء.
عاش ملص حياته يحاور الصورة السينمائية، يجمع بين المفرد والمتعدد، ويحاول أن يكون مفردًا ومتعددًا في آن.
إن ذاكرة اللقاء الأول أوضح من تفاصيله اللاحقة. كما أن ذاكرة الحكاية تتفوّق على الحكاية نفسها. ما زال ملص في ذاكرتي مرآة واسعة أرى فيها دمشق الخمسينيات الماضية وصالات السينما الدمشقية التي كان عددها آنذاك 48، والمكتبات المنتشرة في كل أنحاء المدينة، وفِلمه الساحر «الليل» الذي هو عمل فني لا يُنسى.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | نوفمبر 1, 2020 | سيرة ذاتية
صدف سعيدة هي تلك التي تعطي الإنسان أصدقاء يعلمونه بسلوكهم، يحاورهم في الوقت المتاح، يقتربون ويبتعدون ويستقرون، بعد رحيلهم، في الذاكرة. جاءت صدفتي من لقاء طويل مع الروائي عبدالرحمن منيف والمسرحي سعد الله ونوس. أنجب اللقاء صداقة ممتدة، وطدها تعاون ثقافي عنوانه: «قضايا وشهادات»، كتاب ثقافي دوري، صدر منه ستة مجلدات، وسابع أخير احتفى بسعد الله بعد رحيله.
أذكر عبدالرحمن يأتي مبتسمًا يصاحبه اقتحام أنيس، واضح الخطوة كعسكري قديم، أنيق بلا تكلف، تتلامح لفته كلما اقتربت، فإذا جلس قال: «يا قوي» ويضحك عاليًا. لم أعرف أن كلامه المتضاحك يحجب غضبًا دفينًا إلا بعد صدف لاحقة. بعد تعبيره المرافق له: «يا قوي» كان يتذمر من «أخبار وقحة»، يمحوها سريعًا بكلام عن «الشُّغُل»، يشير إلى رواية جديدة تنتهي بعد أسابيع معينة، ويأتي تحديده دقيقًا. قال لنا مرة: «إن شخصية الإنسان من طريقة عمله»، ولم يقل: إن حياته عمل متواصل تنقصه الراحة. حين سألته قبل رحيله بأيام، في بيته القائم في المزة، جبل في دمشق، عن الصحة والعمل، حدق في الفراغ وأحكم الغطاء على ساقيه.
سعد الله ونوس
بعد رحيل سعد الله ونوس، كتب عبدالرحمن، أو أبو عوف كما كنا ندعوه، عن: «لوعة الفَقْد». أسر لي مرة في لحظة حزن: «رحيل سعد الله كسرني». بعد رحيل الاثنين كتبت عن «انحسار الضوء» الذي أعقب غياب أديبين لامعيْنِ وصديقين يعلمان غيرهما القيم بسلوك نزيه.
لم يكن في مظهر ونوس ما يتقاسمه مع عبدالرحمن. هادئ الحركة أقرب إلى البطء متذمر لأسباب متجددة، واهن الصوت يرى الكلام الصباحي مشقة، ولا يعترف بمجيء النهار إلا بعد الخامسة عصرًا. تكامل في شخصيته مثقف نقدي متطلب وفنان يتابع حياة الناس ويسائل تاريخ الأشكال الفنية. كان في قامته الناحلة، المتوجة بذؤابة رمادية، وفي وجهه الشاحب المحدق في الفضاء، ما يرسم صورة فنان رومانسي استقرت فيه شهوة إصلاح العالم.
يحضر الآن فعل «كان» كما يريد. ابتعد الصديقان وذهبت «قضايا وشهادات» إلى الصمت، وانتهى حوار طويل عن معنى الكتابة، أخذ مكانه حوار متقطع مع الأطياف. «جماليات الكتابة قابلة للتأجيل»، كان يقول عبدالرحمن مشدودًا إلى «الهنا والآن»، حيث «الهنا» عوالم عربية موزعة على ماضٍ لا تحسن قراءته وحاضر لا تسيطر عليه، «والآن» زمن تنفقه السلطات في مراقبة الرعية. كان سعد الله يعلق ساخرًا في لحظات الصفاء: «الكتابة فعل لا ينتظر مكافأة ولا يعد بالتغيير»، فإن تصاعدت سخريته أضاف: «أرجو ألا نشبه في رغباتنا آخر الموهوك»، مشيرًا إلى قبيلة شجاعة من «الهنود الحمر» أزاحها ظلم التاريخ عن وجه الأرض. كان الحوار المتضاحك يطول، أحيانًا، فيشده عبدالرحمن بجملة جادة: «لا تعني الشجاعة النصر، إنها استمرار التحدي لأمر غير مقبول». لم نكن نتحدى أحدًا، ولا قِبَلَ لنا بالتحدي، بل نذكر بأفكار عادلة قال بها سابقون علينا، ورحلوا وظل الظلم مقيمًا.
حين جاءت إلينا فكرة «الكتاب» الذي أشرفنا عليه، بحثنا عن عنوان متقشف لم تستهلكه المجلات العربية: الطليعة، المسيرة، التقدم، النهضة،…، وغيرها من عناوين تعد بتحويل العالم. قال سعد الله ليكنْ: «قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري». تابع: كتاب عن «قضايا» العالم العربي الذي يتقهقر عما كان عليه قبل مئة عام، و«شهادات» تدل على أن ما سنقوله قال به غيرنا، وسقطت أقوالهم في «المزايدات الأيديولوجية»، ولامسها النسيان. أكمل: ليكن العدد الأول عن طه حسين. فهذا العام يصادف مرور قرن على ميلاده 1889م.
هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة
احتفت أطراف ثقافية عربية متعددة، آنذاك، بمئوية ميلاد صاحب كتاب «الأيام»، حتى بدا اقتراحنا تزيدًا لا ضرورة له. أضاء سعد الله اقتراحه قائلًا: البدء بطه حسين أشبه بالإعلان عن هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة. لذا جاء في تقديمه للعدد الأول: «الأمر محض صدفة، فلو صدر هذا الكتاب منذ أن فكرنا بإصداره منذ سنتين، لكان طه حسين موضوع ذلك العدد، وكذلك لو تأخرنا في إصداره سنة أو سنتين أخريين…، لا يرمي هذا الكتاب إلى مد الاحتفالات باحتفال جديد، بل يأمل أن «يَسترد» طه حسين ضوءًا وعونًا في هذه الظلمة التي نتخبط فيها،…».
قصدنا «بالاسترداد» تخليص فكر «السيد العميد» مما علق به من تزوير وتشويه. فقد اختصره بعض إلى «فرعونية» وتبعية للاستعمار قارئين، خطأ، كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، اختزله آخرون إلى كفر وإلحاد وعلمانية، وهو الذي دافع عن عدالة الإسلام دفاعًا لا مزيد عليه، وانشغل «علماء زائفون» في تشويه عقيدته، فصار يهوديًّا ومسيحيًّا وشيوعيًّا، وصهيونيًّا، ولم يرَ بعض المتكسبين في موروث حسين كله إلا نثر كتابه «الأيام» الذي هو «تحديث للبلاغة الأزهرية» لا أكثر. الجدير بالذكر أن «حسين» دافع عن القضية الفلسطينية، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مقالات صحفية متتابعة، جمعها حلمي النمنم في كتاب عنوانه: «طه حسين والصهيونية»، صدر عن دار الهلال عام 2010م. والحريّ بالذكر أيضًا أن تسفيه طه حسين، شخصًا ومعتقدًا ومعرفة، تحول إلى صناعة رائجة في سبعينيات القرن الماضي، كما لو كان إسقاط فكره ردًّا وحيدًا على هزيمة 1967م.
لم يكن طه حسين، بالنسبة لنا، صوتًا تنويريًّا عربيًّا متسقًا، ابتذل فكره «تنويريون سلطويون»، إنما كان مشروعًا ثقافيًّا عقلانيًّا متكاملًا، غايته مجتمع عربي مستقل يؤمن بحقوق المواطنة، ينعم فيه المواطنون بحقوق وواجبات متساوية. فاستقلال وطني لا يبني مجتمعًا عادلًا لا ضرورة له، وتعليم مدرسي يطرد أمية القراءة بأمية التفكير يفضي إلى مجتمع لا يحسن القراءة ولا التفكير معًا. بل إن استقلالًا وطنيًّا لا حداثة اجتماعية فيه «أسوأ من الاستعمار الذي سبقه»، كما جاء في الصفحات الأولى من كتاب حسين: «مستقبل الثقافة في مصر». بدا لنا مشروع حسين قديمًا وجديدًا في آن، أجهضه زمنه، ووصل إلينا في دراسات وكتب، وإن كان ما استجد بعد «الاستقلال الوطني» أكثر خرابًا وقتامًا من الزمن الذي سبقه.
أسهم في العدد الأول مثقفون من بلدان عربية عدة، وزعناه على مقولات ثلاثة: العقلانية، إذ خلق العقل ليفيد الإنسان ويحميه، والديمقراطية، فبلدان يحكمها مرجع وحيد فوق القانون تعيش خارج الأزمنة الحديثة، والحداثة التي تعني تطورًا يفرق بين الأزمنة. تميز «الكتاب» في صفحاته خمس المئة والخمسين بمقدمة ونوس التي صبت نقدها على «أعلام ثوريين» وصفوا حسينًا «كاتبًا إقطاعيًّا»، جاء من الريف واحتواه نظام ملكي، ومفكرون من النظام الناصري الذي دفعت «محرماته» بالسيد العميد إلى الصمت. أُغلق الكتاب، وليس بلا قصد، بقصيدة للعراقي الشهير محمد مهدي الجواهري ألقاها في «مأدبة أقامها الوفد المصري برئاسة طه حسين حين حضر مهرجان المعري في سوريا عام 1944م، وحثه فيها على زيارة العراق». اختار منيف القصيدة محتفيًا «بقلم عربي قديم» احتفى بذكراه مصريون وسوريون وشاعرًا «عَلَمًا من الحاضر»، يؤكد وحدة العرب الثقافية.
جسرت موضوعات الكتاب المسافة بين ماضٍ قريب يراوح في مكانه وراهنٍ لا يقوى على التقدم إلى الأمام. اختار ونوس صفحات من كتب حسين شاركه فيها عبدالرحمن، توسع فضاء الكتاب النظري: «العلم والدين»، من كتاب «من بعيد» 1925 -1935م، الأدب والتاريخ من كتاب «في الشعر الجاهلي» 1926م، وصفحات من: «حديث الأربعاء» 1923م، و«مرآة الضمير الحديث» 1949م، وخامسة وسادسة… أضاءت الصفحات- الوثائق، أو «الشهادات»، فكر حسين في جوانبه المختلفة، ومثّلت دعوة إلى تأمل اجتهاداته، تحاوره و«تستعيده»، بعد أن كاد يُبتسر في تزوير جاهز منقطع عن الحقيقة.
لم نكن نقصد تنزيه طه حسين عن الخطأ، ولا تمجيد صوابه وخطئه، وهو نهج يوائم التسلط والمتسلطين. كان المقصود استعادة نقدية لمشروع حداثي منهجي، بقي مفردًا في الفكر العربي الحديث، جمع بين مراجعة الماضي وتوحيد التعليم والديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي وتحرر المرأة والانفتاح على معارف «الآخر» واستقلال المؤسسات العلمية… ولعل مبدأ المشروع الثقافي- الاجتماعي، وهو ما أخذ به طه حسين، هو الذي أتاح لنا أن نقرأ فكره موحدًا، وأن نطمح إلى «كتاب» يوحّد بين أسئلة الفكر النظري وقضايا الواقع الاجتماعي. استرشد «كتابنا» في مجلداته اللاحقة بمقولات: العقلانية، الديمقراطية، الحداثة القائلة، في التحديد الأخير، بدولة وطنية الوسائل والغايات. فلا وجود لوطن إلا بمدرسة وطنية لا تفصل بين المعارف والحاجات الوطنية.
اشتق كتاب: «قضايا وشهادات» موضوعاته من حاجات الواقع العربي المعيشة، عملًا بقاعدة «الهنا والآن»، بعيدًا من تجريد أكاديمي زائف الموضوعية، وحياد فكري ينتمي إلى الحسبان التجاري والمنافع الشخصية. بيد أن «تشاطر» المتكسبين بالكتابة، كما أنصار «العطارة الفكرية»، أنزل بالكتاب تجريحًا وتسفيهًا فتحول عندهم إلى هزيمة مقنعة ولواذ باسم شهير هزم بدوره. «فالماركسيون الذين تداعت فلسفتهم، التمسوا العون لدى عقلاني ليبرالي مهزوم». الطريف أن «المتشاطرين» افتقدوا إلى «هوية فكرية» واضحة؛ ذلك أن منهجهم ينصاع إلى تحولات الفصول.
أراد كتابنا أن يكون ذاكرة «للفكر النهضوي» الذي أُسقط ولم يسقط وأن يدافع عن أطروحة فكرية لا يجوز التخلي عنها: لا يدعو إخفاق الأفكار العادلة إلى التنكر لها، فهي صحيحة في ذاتها، لا فرق إن انتصرت أو هزمت، حال مقولات: الشرف والأمانة والصدق… بين الصحيح الثابت والمفيد العارض مسافة لا تجسر. وكنا نستذكر جيلًا من المثقفين العادلين: الجزائري مالك بن نبي، والتونسي الطاهر حداد، واللبناني رئيف خوري، والمصري سيد درويش… لم نفصل بين ذاكرة الفكر النهضوي، الممتد بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين، وذاكرة ما كنا ندعوه بكثير من الرضا: ذاكرة الثقافة الوطنية.
اللغة اليومية وصناعة الإذعان
كنا نتحاور طويلًا في عناوين الموضوعات القادمة. يقترح عبدالرحمن: هل انتهى زمن الدولة الوطنية؟ يجيب سعد الله: الأمر قيد التداول ويقترح: مظاليم الأدب، وأسارع إلى موضوع ثالث: اللغة اليومية وصناعة الإذعان. غير أن الموضوع الأعلى صوتًا هو ما اقترحه سعد الله. كان يذكرنا، ونستذكر معه، الروائي العراقي غائب طعمة فرمان، المبعد والبعيد في منفاه الروسي، والأردني المهاجر: غالب هلسا الذي غطت بساطته اليومية على روايته الطليعية شكلًا ومنظورًا، والمصري الراحل الدائم اللطف والابتسامة محمد البساطي في اقتصاده اللغوي المدهش… وكان لنا، أو كان لي، لحظات من الرضا الحالم. كأن أتصور ونحن نستقبل الأموات في «كتابنا» أننا نكتب معًا، ونحتج على تدهور عربي يضني المتطلع إليه.
وكثيرًا ما كنا نحاور الأموات ونسأل ساطع الحصري عن وحدة القومية العربية واللغة، وقسطنطين زريق وتفاؤله باسترجاع فلسطين «قريبًا» وكثيرًا ما تعجبتُ من طه حسين وهو يمحو التاريخ العربي من تاريخ مصر، ويعين «البحر الأبيض المتوسط» حاضنة أوربا «لمصر الحديثة». وعابثت في سري سلامة موسى، «المربي التنويري»، وهو يشرح، مرتاحًا، صفات «السوبرمان» -الإنسان الأعلى- بداروينية تقترب من السذاجة.
عبد الرحمن منيف
شكل «الآخر» الممثل في الغرب حضارة وثقافة واستعمارًا، بعدًا داخليًّا في سياسة الكتاب الثقافية. كنا نترجم ما يتفق مع الكوني والعقلاني وما يأتلف مع عالم عربي يحتاج إلى الجديد الفكري. نترك القارئ العربي مع حداثة عربية مجهضة ومع «حداثة الآخر» التي سيطرت على الدنيا. تضمن المجلد الثاني في جزئه الأول وثائق فكرية عربية متعددة. الطهطاوي، أديب إسحاق، محمد حسين هيكل، أدونيس، جبران خليل جبران، وحوارًا فكريًّا قديمًا بين مصطفى صادق الرافعي والدكتور محمود عزمي. انطوى الجزء الثاني على صور الحداثة في المجتمعات المتقدمة معبرًا عنها بدراسات: فالتر بنيامين والاستنساخ الآلي، مارشال بيرمن: التحديث أمس واليوم وغدًا، إدوارد سعيد والتعليم الجامعي المغلق، فريدريك جيمسون والمجتمع الاستهلاكي.
صَوَّرَ «الكتاب» الذي لم يعش طويلًا، أبعادًا من جماليات الصداقة وإخلاص الأحياء للأموات وتكامل الثقافة الإنسانية التي تعترف بوحدة العقل الإنساني وبتساوي البشر. حمل آثارًا من سعد الله ونوس الهاجس بالمُخْضَعين الذين يعيشون أقل ولا يتاح لهم الكلام وبمظاليم الأدب، وعلامات من عبدالرحمن منيف المشدود إلى «الهنا والآن» المتطلع إلى عالم لا سجون فيه والكاره لصناعة الإذعان واسترقاق الأرواح.
ظهر المجلد الأول من «قضايا وشهادات» في خريف 1989م، وتوقفت عن الصدور بعد أعوام أربعة.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | سبتمبر 1, 2020 | مقالات
«ما العمر إلا ليلة كان الصباح لها جبينه»، وما الصباح إلا حفنة من وقت يتصرّف بها القدر كما يشاء.
جمعَنا مكتبُه صباح اليوم الأخير من حياته، بعد انتظار شهور فرضه وباء قوي الإرادة طويل الإقامة. بدأ اللقاء أنيسًا دافئًا، انتهى شجنًا بارد الأطراف بعد ثلاث ساعات، توّجه رحيل أخير، لا لقاء بعده ولا اجتماع.
جاء إلياس مبتسمًا أنيقًا، كما عهدته، في تمام العاشرة، قال: لا أحد في المكتب وأمامنا فسحة من الزمن، ومرض كورونا المخيف لا يخيفني، ستحدّثني عن كتابك الذي لا ينتهي عن نجيب محفوظ، وأحدّثك عن عزمي على إعادة تأسيس «دار أزمنة» وأنا في الثانية والسبعين. طموح وافد تغذّيه الخبرة وتجبر عليه الحياة. قال جملته وعلت وجهه ابتسامة، واختلس نظرة إلى صورة غالب هلسا المستقرة أمامه. نظر إلى صورة الروائي الراحل، وبدأ حديثًا عن دار نشر أسّسها قبل ثلاثين عامًا، غدت جزءًا من حياته.
صورة هلسا التي أمامنا مكتوب عليها: «رحل ليبقى» تسرد حكاية قديمة عن شغف البقاء وإرادة الفناء القاطعة. بدأ الروائي الذي فارق الحياة في دمشق عام 1989م، مرتاحًا، ينظر إلى الأمام وعلى وجهه آثار ابتسامة. كان إلياس يختلس النظر إلى الصورة مبتسمًا، كما لو كان ينظر إلى وجه قديم اطمأن إليه، وتجهر نظرته المقتضبة بالألفة والأمان. وحين انتبه إلى انتباهي إلى حضوره الموزّع على صورة الروائي الراحل وبوح الأصدقاء في لقاء مرتقب قال: كثيرًا ما رغبت أن أكون امتدادًا له، وكثيرًا ما شعرت أنه ممتد في حياتي.
سألته: من أين جاءت الرغبة والشعور بالامتداد؟ توقعت إجابة آتية من أحلام الكتابة وشقاء التماثل، لكنها جاءت من جهة أخرى معمورة بالأخلاق ومعايير الفضيلة، ترجمتها كلمة غامضة واحدة: المناقبية. كلمة أربكتني أضاءها المتحدّث سريعًا: «أخلص غالب للكتابة، وأعطى، شابًّا، قصصًا قصيرة مدهشة، وأخلص لروايته وأنجز عملين كبيرين: «الضحك» و«الخماسين»، وأخلص لذاته واختار المنفى من دون أن ينفيه أحد، وأخلص لطفولته وصباه وسجلهما في روايته «سلطانة». أدركت أن «المناقبية» وحدة الكتابة والنظر، تنشد الحقيقة وتزهد بالإعلان والمصلحة.
انجذب إلياس إلى ما أراد أن يكونه، هجس بصدق «غالب»، اقتفى أثره في الحياة ولم يُحاكِهِ أدبًا. أعرب عن إخلاصه في قصته القصيرة ـ الطويلة: «أسرار ساعة الرمل»، التي تجاور أفضل ما كتبه القصّاصون العرب، وحاور «مناقبية غالب» في رواياته الذاهبة من شكل إلى آخر؛ إذ الشكل في «أعمدة الغبار» يغاير ما أعلنت عنه «أرض اليمبوس»، والشكل الأخير يختلف عنه في «غريق المرايا»… والشكل في روايته غير المنجزة واسع الاختلاف عمّا سبقه. لكأنه في روايته التي لم تكتمل روائي لا نكاد نعرفه، جمع بين الساخر الشعبي و«دنس الحياة» الطليقة، والرغبة في السخرية من ذاته ومن ظواهر البشر.
لم أشعر بروحه فرحة ومبتهجة بقدر ما كانت عليه وهو يتحدّث عن عمل لن يكتمل، هجس به سنوات: «سأفاجئك هذه المرة، وسأفاجئك كثيرًا، لن يتعرّف القرّاء عليّ إلا بصعوبة… في هذا العمل إلياس جديد…». لم تكن روحه المبتهجة تنتظر إعجابًا من أحد، كان يلبي نزوعًا داخليًّا، وقناعة تخبر أن أخلاقية الأديب من إتقان عمله، وأن مناقبه من صدق وحبر وورق وكتابة فوق كتابة، وحوار مع الذات طويل…
الذي لا يلفت إلى ثناء ولا يعبأ باستنكار
سألني ذات مرة: «من هو الأديب الأخلاقي يا حضرة الناقد؟» قلت: هو الذي يعلّم غيره من الأدباء، من دون قصد، شيئًا جديدًا عن الكتابة الأدبية. أجاب إلياس: أخطأت القصد، فأنا لا أريد أن أعلّم أحدًا. لا أحاكي أحدًا ولا يحاكيني أحد. قلتُ: هو الذي يكون أخلاقيًّا داخل الكتابة وخارجها، يحترم الكتابة ويحترم صورته بين القرّاء. قال: ربما أصبت، وتابع: «الكتابة فعل حميم، كالحب، يطلب لذاته، لا يلتفت إلى ثناء ولا يعبأ باستنكار. الأديب الحقيقي مسكون بمثال، لا فرق إن عرفه أو بقي مضمرًا. والأخلاق رضا عن ذات تجتهد في الصواب، مأواه الروح ولا ينظر خارجًا».
تذكّرت وأنا أنصت إلى صديقي الراحل إعجابه بالمصري إدوار الخرّاط وعمله المرهق في اللغة، واختلافه عنه أيضًا. كنتُ أقول: أحترم للخرّاط ثقافته وجهده، ولا أستسيغ «لغة الكهّان»… كان إلياس يقول: تختلف ذائقة القرّاء باختلاف ثقافتهم. لا إبداع بلا اختلاف، وإدوار الخرّاط أديب مختلف نزيه… وبالغ الدماثة أيضًا، قابلته أكثر من مرة في القاهرة».
قال في لقائنا الأخير وهو يختلس النظر إلى صورة هلسا مرة تلو مرة: «هل تعلم أنني لم ألتقِ غالبًا أبدًا؟ قرأته غير مرة، وفرض عليّ تنقّله المستمر بين عمّان وبغداد والقاهرة وبيروت ودمشق مسؤولية غامضة، تُشرح ولا تُشرح في آن، فكتبتُ عنه وعرّفت بقيمته في الأردن، ونشرت «دار أزمنة» رواياته جميعًا…». جمع إلياس، قبل عامين، قصص غالب القصيرة في مجلّد واحد. طلبت منه أن أقوم بتقديمها. هكذا قرأت من جديد إبداع غالب في بداياته، تلك المدهشة الشاهدة على «موهبة مصقولة». كان محمود درويش يقول: الإبداع من موهبة صقلها العمل.
صوت إلياس خفت قليلًا
شعرت أن بعض التعب أصاب إلياسَ في الحادية عشرة والنصف. لكنه استأنف حديثه عن غالب، وقال: «في احتفاء كتّابنا الأردنيين بروايته «سلطانة» شيء من المبالغة المتقصّدة. يتخذون من ذكرياته عن طفولته وصباه دليلًا على منفى قسري، وهذا ليس صحيحًا، وبالمناسبة فإن «سلطانة» ليست أفضل أعماله، ولم تعجبني روايته «ثلاثة وجوه لبغداد»، أخفق فيها التجريب، وما زلت أعتبر «الخماسين» روايته الأكثر اكتمالًا، ظهرت الأخيرة عن دار «الثقافة الجديدة» في «قاهرة» السبعينيات في سلسلة كان يشرف عليها الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي ربطته بغالب صداقة طويلة.
لاحظتُ أن صوت إلياس خفت قليلًا، يمسّد شعره بحركة عصبية، وغدا كلامه متقطّعًا، وأن شيئًا من عدم الراحة غطى وجهه. أطفأ «التكييف» وفتح النافذة وتابع الكلام: «مجلة خليجية طلبت مني المشاركة في ملَفّينِ مخصصيْن لغالب هلسا وتيسير سبول، اعتذرت في البداية، وأقنعت نفسي بالمشاركة في النهاية؛ إذ لا يجوز ألّا أشارك في الكتابة عن روائيين أردنيين… لا شيء عندي ما أضيفه إلى ما كتبت عن غالب منذ زمن».
صار وجهه شاحبًا، تلامحت حبّات عرق على جبهته، نظر إلى النافذة وقام ووقف أمامها، كما لو أنه شعر بأن الغرفة ضيقة قليلة الهواء… طلبت منه أن يرجع إلى بيته. أجاب: تعب صغير ويزول. ترك النافذة وجلس قرب باب الغرفة، تلفّت يسارًا ويمينًا، كما لو كانت الغرفة تنسحب منه أو ينسحب منها. جلس في مواجهة صورة غالب هلسا تمامًا. توزّع علينا جو من الضيق والقلق حاصره إلياس بابتسامة منقوصة، وجملة جاهزة: «تعب صغير ويزول، أعرفه منذ زمن، يأتي جامحًا ويرتدّ خائبًا». لكن التعب استبعد الخيبة وأصرّ على الظفر.
كان بطبيعته هادئًا مقتصد الكلام ويؤثر الصمت أحيانًا. يتابع شواغل ذاتية ومخطوطات الدار المستجدة، التي كان يقرؤها بعناية. كنت أراقب أحواله وأنا جالس أمام طاولة منفردة، تتيح لي القراءة والكتابة في زياراتي الأسبوعية المتعددة الأغراض. وكثيرًا ما كنا نتقاسم الكلام عن كتاب أعجب به. يفتح صفحاته ويقرأ أسطرًا ترضي ذوقه الأدبي، يؤطّرها، أو يعلّم عليها، بقلم رصاص، ويثني على الترجمة الجيدة. كان يجدها، غالبًا، في ترجمات سبقت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، يجدّ في البحث عنها ويفرحه العثور عليها إلى حدود الطرب.
رأيت إلياس فركوح، للمرة الأولى، في ندوة عن الرواية الأردنية، عقدت في عمّان أواخر القرن المنقضي. أهدى إليَّ روايتيه: «أعمدة الغبار» و«قامات الزبد» وانسحب، إهداء بلا كتابة، نحّى الشخصي سريعًا واختصر اللقاء في كتابة وقراءة مفترضة وجملة «سعدت بالتعرّف عليك». بدا لي أنه يقول: الأديب الحقيقي يتعرّف بأدبه ويترك شخصه بين الجموع. لم أتبيّن ملامحه إلّا بعد سبع سنوات، التقيته مصادفة، حدّثني عن «دار أزمنة»: «فيها كل ما تحتاجه» قال.
انتبهت إلى صوته الهادئ وأناقة بسيطة وحرارة في العينين والكلام. بدا لي كتلميذ مدرسة ثانوية جمّ الأدب جميل الأناقة. سأعرف لاحقًا أنه درس صبيًّا في القدس، يوناني الجد مع قرابة سورية، قضى مدة في بيروت الحرب الأهلية، تقاسم فيها مع مؤنس الرزّاز صداقة طويلة صيّرها إلى حديث إبداعي بين الأحياء والأموات في كتابه «رسائلنا ليست مكاتيب»، سرد فيه أحلامًا واسعة عاجلها الانحسار، وحوارات طويلة اغتالها الموت، وطموحات حلوة المعشر معتلّة النهاية. قال عن مؤنس ذات مرة: «أرهقته طموحاته ورغبة طليقة في الحياة، لم تروّضه الحياة ولم يروّضها، وأتعبته حواراته مع أعمال روائية كبرى، فحمل كتبه وهواجسه وقامته النحيفة ورحل»… أضاف مبتسمًا: «وكان أردنيًّا نبيلًا وعروبيًّا صادقًا».
استغرق إلياس في صمته، كأنما استسلم إلى وجع لا يبارحه، يطرده بعينيه وبيديْن لا تلبيانه، يرتسم على صفحة الوجه معذّبًا… نسي كلامه قبل ساعات ثلاث عن عزمه الماضي في تجديد دار نشره وهو في الثانية والسبعين، ونسي رواية جميلة ستغدو يتيمة، وغفل عن مشروع بحثي عنوانه: مخاتلة السرد والسرد المخاتل، قوامه أعمال هلسا وتجربته الروائية الذاتية، كما قال، و«موقع الشر في أعمالهما معًا»، شر لا تجريد فيه، يتراءى في شوارع الحياة، وعلى الأحياء أن يقاوموه؛ لأن عليهم أن يقوموا بذلك.
وقف أخيرًا مستجمعًا شتات إرادته، نطق بكلمات عن الألم وأشخاص يحبهم، نظر إلى الأعلى وتنفّس «وصيّة» استقرت بين «أعمدة الغبار».
وحدة الثقافة والكتابة الروائية
أذكر عنه اعتزازه بقصته «أسرار ساعة الرمل»، التي جاءت كعمل منتظر، ومنظوره إلى مراوغة الوجود وثقل «اللايقين» الذي سجّله بإشارات متعددة في روايته «أرض اليمبوس»، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، وجهدًا لا مساومة فيه في توليد أسلوبه اللغوي تكشّف في روايته «غرق المرايا». وأذكر دفاعه عن وحدة الثقافة والكتابة الروائية، والعلاقة العضوية بين الأديب الحقيقي والشأن العام: «إنسان لا يهتم بالشأن العام مخلوق نافل فائض عن الحاجة»، ومقته لـ«النميمة الثقافية»، ذلك أن على المثقفين أن يحوّلوا خلافاتهم إلى قضايا ثقافية،… وأذكر إعجابه بالكتابات النظرية لهنري ميلر، التي يتصالح فيها الحكم الأدبي ومحبة الأصدقاء وحكايات الحياة اليومية.
في يوم الأحد أصرّ أن نلتقي يوم الأربعاء الذي تطيّرت منه طيلة حياتي، وفي يوم الأربعاء، جاء قبل الموعد بربع ساعة، وفي مكتبه يوم الأربعاء تحدّثنا، في العاشرة، عن هواجسنا، وتوقفنا في الحادية عشرة أمام أصدقاء رحلوا، ومررنا في الثانية عشرة على مشاريعنا الكتابية القادمة، وفي الواحدة اجتاحه ألم يكدّر الروح لا صوت له، وفي الواحدة والنصف، تقريبًا، هربت منا «نون الجماعة»، ورجعت إلى البيت وقد خسرت صديقًا عزيزًا، عرفته عشرين عامًا وقاسمني لطفه واجتهاده ومكتبه وكلماته الأخيرة، وذكريات نظيفة موجعة.
أذكره تلميذًا ثانويًّا، هامس الصوت مصفّف الشعر لطيف المحيّا، يركض سعيدًا في شوارع القدس. لاحق مثالًا لا يعرفه غيره، حاوره وتعلّم منه، ودعاه إلى «دار أزمنة»، وبرهن أنه روائي متجدّد، أكان ذلك في بلده، أم في فضاء الكتابة العربية.