جابر عصفور.. الموزَّع بين سلطة الثقافة وثقافة السلطة

جابر عصفور.. الموزَّع بين سلطة الثقافة وثقافة السلطة

من الناس مَن يرحلون وتظل أصواتهم معنا. لها أصداء محملة بالصور والذكريات، إن كانوا أصدقاء، لمدة تطول أو تقصر، ومن هؤلاء: جابر عصفور. ولكل صديق كان معنا ورحل مدخل واضح العبارة، يقودنا إلى عالميه الداخلي والخارجي، كأن نذكر ابتسامته وطريقة كلامه وصورته وهو يصرخ بآخرين أو يُلقي عليهم برقة تحية الصباح. لم يكن جابر من هؤلاء، كان مفردًا بصيغة الجمع، تتزاحم في شخصه عوالم مختلفة: الأستاذ الجامعي، رئيس تحرير مجلة ثقافية مرموقة، صاحب القلم الموزع على صحف وكتب متعددة، المترجم المشغول بقضايا أدبية راهنة، يحاور زمانه وقضاياه وهو الليبرالي الكاره للتعصّب، المسؤول الثقافي الرسمي الرفيع المقام، وزير الثقافة الذي يخاصمه التوقيت السليم، الصوت الثقافي الشهير النافذ تتساقط عليه الجوائز ويحاط بأكثر من تكريم، وينظر إليه كثيرون بحسد لا اقتصاد فيه….

كان جابر متعددًا في أصواته ونفوذه وصوره الإعلامية…. والمتعدد يختصم حوله الآخرون، يُرضي بعضًا ويثير سخط بعض آخر، والمتعدد يدفع إلى أكثر من تأويل ومقارنة، يوقظ التجريح أو الرضا، والمثقف المتعدد تتوزّع عليه أكثر من صفة، أكثرها صدقًا وتهذيبًا: المثقف الإشكالي، أو الخلافي، المحاصر بنقد مشروع وباتهامات تنقصها النزاهة…

آثار واضحة القسمات

بعض المثقفين يحمل اسمًا يتلوه فراغ، وبعض مثل جابر عصفور، له آثار واضحة القسمات، كأن يكون إداريًّا واسع الفاعلية، يجمع المثقفين العرب ويقترح «جائزة القاهرة للرواية العربية». ويحقق مشروعًا طموحًا «للترجمة»، أو يختصم مع مراجع دينية نافذة ويُدرج اسمه بين «ضالين» جديرين بالعقاب، ويتعهّد بالرعاية مجلة أدبية تعمّر طويلًا تدعى: فصول. بدأ «ناقدًا أدبيًّا» وصار علمًا ثقافيًّا واسع الانتشار، يعرفه العاملون في النقد، ويتعرّف الإنسان العادي إلى صورته في الأجهزة الإعلامية. كان جابر متعددًا له آثاره، عرفَت جامعة القاهرة محاضراته وعرفت مقالاتِهِ جريدةُ الأهرام وصُحُفٌ ومجلات عربية عديدة، وحاضر في العواصم العربية جميعًا، أو كاد، وفي الجامعات الغربية، وبينه وبين النقاد، أعربًا كانوا أو غير عرب، أواصر متينة… أسهم في التعريف بالثقافة التنويرية المصرية وانتسب إلى طه حسين ويحيى حقي وسهير القلماوي ونصر حامد أبو زيد ومحمد مندور، وأضاء الشعر المصري الحديث وأنجز أكثر من دراسة وازنة….

التقيته للمرة الأولى في مؤتمر، أشرف عليه، عن: طه حسين عام 1989م. كان موزعًا على أكثر من حوار ولقاء ومكان، ينظم في حضوره وغيابه «المحاضرات» وما يحتاج إليه المؤتمرون، ويكرّم الحاضرين بكياسة رسمية و«بلطف شعبي»، ويحجب إرهاقًا يستبد به بين حين وآخر.

قالت لي آنذاك الراحلة المصرية رضوى عاشور: «يتعَب أكثر من اللازم وعنده مرض القلب»، وقال الراحل سيد البحراوي: «يعمل مع غيره ويوزّع المسؤوليات ويتابع العمل كما لو كان وحيدًا»، وقال الراحل نصر حامد أبو زيد: «الصديق جابر ينجز عمله وعملنا وعمل الذين يعملون معه بإخلاص…». كان ذلك قبل «تكفير» أبي زيد وذهابه إلى المنفى، وقبل أن يحكي لي، في ركن من دمشق، بشجن يطول، عن صداقة طويلة مع جابر.

كان جابر ينظم ويتكلم ويصغي ويساوي بين الحضور، أكان المتحدث يوسف إدريس الذي بدا في مؤتمر مفرط الأناقة، أو أنور عبدالملك الذي اكتفى بتعليقات مفيدة، أو أستاذًا جامعيًّا يفرط في الكلام ويطلب منه جابر، حازمًا، أن يتوقف عن رغاء لا نفع منه.

كنتُ قد تواصلت معه قبل اللقاء به، إذ اقترحنا عليه، سعد الله ونوس وعبدالرحمن منيف وأنا، أن يكون معنا في هيئة تحرير الكتاب الثقافي الدوري «قضايا وشهادات»، ووافق بلا تردد. كان اللقاء في المؤتمر الخاص بطه حسين مناسبة ليشرح منظوره للعمل ويقترح «برنامجًا تصاعديًّا»، كما قال، يجمع بين موضوعات «الحداثة العربية» وحداثة الفكر الغربي، وعودة محسوبة إلى «التراث»، وأكد دور الترجمة مستشهدًا بطه حسين. رسم ما دعاه «سياسة ثقافية متوازنة»، دفعه حسّه العملي إلى الابتعاد من «أحلام المثقفين»، وغادرنا بعد «العدد الأول».

الشعبي والوطني والبيروقراطي

أتاح لي لقائي الأول مع الدكتور جابر عصفور التعرّف إلى جوانب من شخصيته المركبة المتعددة الأبعاد. اصطحبني إلى مطعم على النيل «سي هورس» قائلًا بشيء من السخرية: «هذا مكان يرضي الرومانسيين». لم يبدُ رومانسيًّا، ولم يكن فيه ما يمت إليهم بصِلة، بدا مصريًّا عفويًّا يعشق الحياة ويتبسط في الكلام مع البسطاء. وحين أعادني إلى «الفندق» مساءً كشف عن «وجه فلاحي كريم»، إذ اشترى ما أحتاجه وما لا أحتاجه مرددًا «ما تنساش أننا إخوات». أما في المساء، وكما سيفعل في مرات لاحقة، فأخذني إلى «الحسين والسيدة زينب»، بصحبة ابنته الوحيدة، التي سيبكيها طويلًا إثر مصادفة عاثرة، وصديقة عمره الدكتورة هالة فؤاد. في منطقة «خان الخليلي» تنفس «الروح الشعبية» بلا اقتصاد، مازحًا منطلقًا عفوي الحركات، بعيدًا من «موظف بيروقراطي» يسوس «موظفيه» بشدة يبرّرها «بضرورة إنجاز العمل»، بحرص وبلا نقصان.

من اللقاء الأول إلى اللقاء الأخير، الذي كان في القاهرة قبل ثلاثة أعوام، تقريبًا، استقرت في حافظتي شخصية مركبة، تحتفي بالمتاح وتنظر إلى ما يجب أن يكون، امتزج فيها، بأقساط مختلفة، الشعبي والوطني والبيروقراطي وفتنة بالسلطة، لا فرق إن كانت ثقافة تفضي إلى سلطة أو سلطة خالصة تثني عليها الثقافة وتداعبها بصوت هامس أو بكلام جهير.

ولعل الافتتان بالسلطة، سواء احتاج إلى تعريف أو بقي خارج التعريف، هو الذي أقام فصلًا لا يقبل التجسير بين ما كانه طه حسين وما أراد أن يكونه جابر عصفور، وهو الذي كان يزيّن مكتبه في المجلس الأعلى للثقافة بصورة كبيرة «للسيد العميد». فقد رأى حسين في سلطة الثقافة مرجعًا لفرض الثقافة على السلطة، بينما آثر جابر عصفور أن يطرق، بنعومة، أبواب السلطة بأصابع مدثرة بقماش ثقافي. والفرق بينهما قائم في «السياسة»، أو «قضايا الشأن العام»، كما كان يفضل جابر أن يقول، فالأول كان يعاين السياسة في قضايا الحياة جميعًا وينقد ويهاجم ويشتبك، وكان الثاني يتلمّس السلطة في قضايا الحياة جميعًا، فينقد ويهاجم ولا يضير السلطة في شيء، إن لم يعتقد أنه يقف معها، ويكتب مدافعًا عنها، حال حديثه، في المؤتمر الأخير للرواية العربية في القاهرة عن «الإرهاب»، واقتراحه أن يكون: «الرواية والإرهاب» موضوع المؤتمر القادم، دون أن يشير إلى معنى الرواية، التي تبدأ بالإنسان اليومي وتنتهي به، ولا أن يقرأ العلاقة الضرورية بين الإرهاب وعِلل الواقع المستعصية.

كان بذكائه الخارق قادرًا، إذا أراد، أن يضع الظاهر خارجًا وأن يمضي إلى الجوهري، كأن يعتبر يحيى حقي ناقدًا أدبيًّا متميزًا، ويستذكره باحترام كبير، وأن يضع دراسة سعيدة عن محمد مندور، أفضل ما كُتب في هذا المجال، وأن يرتاح إلى فوز عبدالرحمن منيف بجائزة القاهرة للرواية العربية، في الدورة الأولى، وأن يطلب في اليوم الأول من زيارته لدمشق أن يزور بيت «نزار قباني»، وأن يقول: «إن شهرته الإعلامية جنت على قيمته الإبداعية»، وأن يعترف بأن قصائد محمود درويش الأخيرة «شَهْدٌ مقَطّر»، وأن يثني على حداثة الروائي الراحل إدوار الخراط…..

بيد أن ذلك الذكاء الخارق لن يمنع عن جابر جملًا تائهة كأن يقول: «أنا أصرف على منصبي بدلًا من أن يصرف منصبي عليّ». إذا كان منصب الإنسان لا يغطي نفقات حياته فما الحاجة إليه؟ أو أن يقول: «السلطان الحقيقي هو البعيد عن السلطان» ناسيًا، ربما، أن بين المثقف التقليدي والسلطة أكثر من علاقة، وإلا لما غدا وزيرًا! ربما كان فيه توق إلى مثقف مستقل يحاور الحياة والكتب ويخرج على الناس بأفكار تثير الحوار، وهو الذي حدثني طويلًا عن رغبته في إنجاز دراسة عن «بلاغة المهمشين» وأخرى عن لغة الأكاديميين الاحترافية المتيبسة. ولهذا أثنى كثيرًا على دراسة وحيدة نشرتُها في مجلة «فصول» عنوانها: «ثقافة الاستبداد واستبداد الثقافة»، أعلن لي مرتاحًا: «إن دراستك عاملة الهوايل»، سألته مدهوشًا لماذا؟ أجاب: إنها تنقد السلطات والمثقفين الذين يظنون أنهم سلطات وتسخر من «المبدع الصانع الذي يظن نفسه إلهًا».

الطفل والصبي والشاب

لست أدري ما الذي جعل هذا المثقف اللامع القوي الشخصية الشديد الذكاء قريبًا من «المثقف الريفي»، الذي تحدث عنه الإيطالي أنطونيو غرامشي، والذي له صفتان: التجمّل الاجتماعي والسعي إلى الشهرة بين الناس، وبناء جسور مع السلطة لها طابع القداسة، تقنع الناس بأنه يقف فوق غيره وآية ذلك موقعه في جهاز السلطة. تحدث الإيطالي عن «مثقف الجنوب الإيطالي» القريب من الفلاحين، ومايزه من مثقف الشمال في المدن الصناعية. بيد أن تساؤلي تراجع حين تذكرت «ابن خلدون»، الذي أضفى على العلم «حيادًا رصينًا» وطه حسين الذي غدا «وزيرًا» مرتين لتحقيق مشروعه الشهير القائل: «العلم للناس كالماء والهواء» لم يهادن السيد العميد السلطات الحاكمة ولم يعبأ بعقوباتها، واضطر إلى الجوع والتقتير في زمن «حكومة صدقي» الكاره للحريات… بقي موقف ابن خلدون، العالم النبيه، يثير الحيرة والتساؤل لدى بعض، ويقيّم بعض آخر «علمه الجديد» ولا يذكر غيره. وكان لجابر مشروعه الثقافي وطريقة الدفاع عنه.

في وجه الإنسان وجوه، يقول الرومانسيون، ولو أكملوا لقالوا: خير الوجوه تعشق الأطفال والزهور. في زيارة لجابر إلى عمّان خرجت معه وعائلتي قال: أريد منطقة بلا ضوضاء لا تجذب المارة. وما إن تلامح شارع ضيق استقرت في نهايته أشجار بيضاء الورود حتى قال جابر: هناك، ومشى سريعًا وقطف «قبضة من الياسمين» وتبادل معها همسًا طويلًا، ذكرني بزيارته إلى بيت نزار قباني في دمشق، الذي جذبه فيه جماله القديم وأريج ياسمين انتشر في الفضاء. وعندها أخرج من جيبه حافظة أوراق وأخذ يقول لابنتي، بوجه فرح، هذه «صورة حفيدي».

ما زلت أتذكره «مقرفصًا» ينظر إلى صورة حفيد، أو حفيدة، كما لو كان الحفيد إنجازه الأكثر جمالًا. تقلّص عندها حجمه في ناظري، وغادر الألقاب وأوامر «المجلس الأعلى» واختُصر في طفل بريء، ضاق بالشهرة والعادات البيروقراطية. تذكرتُ عندها حكايته عن جابر الشاب النحيل الذي قابل يحيى حقي في مجلة «المجلة» وأثنى على ما كتب، وعُدت وراءً إلى صبي وسيم يسأل بركة الوالدين.

كان جابر وفيًّا لأصدقائه، قدر المستطاع، عادلًا مع مثقفين لم يكونوا جميعًا عادلين معه، قفز بعضهم إلى مناسبات عارضة (رفْض صنع الله إبراهيم لجائزة الرواية)، وأغلظ عليه القول بلا سبب. لم يكن جابر يقوم إلا بعمله، يساعد الذين يستطيع مساعدتهم، ويلبي ما يتيح له منصبه حينًا، وينساق إلى ما يريده طموحه حينًا آخر، شارد الحسبان مفتونًا بلقب لن يضيف إلى «مزاياه العلمية» الشيء الكثير. بل إننا إذا تجردنا في الحكم والتمسنا بعضًا من موضوعية تحدثنا عن عظمة جابر عصفور ومأساته؛ عظمة تتراءى فيما أنجز وأراد تحقيقه، ومأساة تصدمه بالطريق ولا يستطيع حيالها شيئًا، وذلك في بلد احتَلت فيه السلطة، منذ أيام الفراعنة، فضاءً واسعًا، كما قال لي جمال الغيطاني، ذات مرة، مسهبًا في توصيف «رؤساء مصر» وصورهم في الذاكرة الشعبية.

يستطيع المثقفون، أعربًا كانوا أو مصريين، أن يتوقفوا أمام: تناقضات جابر عصفور، التي ترفعه إلى مقام النسر أو تهبط به إلى مستوى العصفور الدوري. غير أنه من المحقق أن أحدًا منهم، مهما تكن حمولته الثقافية، لن يمثّل في الحياة الثقافية العربية ما مثّله جابر، أو يقدر على إنجاز ما أنجزه. في غياب جابر عصفور، يخسر بعضٌ صديقًا وأنا منهم، ويفقد تلاميذه أستاذًا طليق اللسان جميل البيان، وتفقد الحياة الثقافية العربية عقلًا فاعلًا متواتر النشاط.

أوجاع الغريب ومصاعب الغربة

أوجاع الغريب ومصاعب الغربة

ما الفرق بين غريب اختار غربته سعيًا وراء جديد في عالم وجوهه الاختلاف والتنوع والثقافات المتعددة، وغريب رُحّل عن عالمه الأليف وقُذف به إلى فضاء يجهله؟ ما وجوه الاختلاف بين إنسان ضاق بالحرمان في وطنه وآثر هواءً نظيفًا في مكان آخر، ولاجئ أُخرِج من وطنه على غير إرادة منه؟ ما معنى الغريب الواقف فوق هامش عالم لا عدالة فيه، انتظر، طويلًا، عدلًا لن يأتي؟

نجيب محفوظ

أسئلة متشكّية فاجأني بها، ذات خريف، إنسان رقيق الحال، ناحل واسع العينين، شاحب له وجه ملاك، فتح عينيه على آخرهما منتظرًا إجابات تطفئ قلقًا في صدره. أربكني عن غير قصد، ووضع روحي أمام ما تعرفه وتتقي الحديث عنه، وأيقظ أطيافًا تحاشيتها في خريف العمر. لماذا أخشى حديث الغربة وأهاب النزول داخلي وأبتعد من زيارة ذكريات لها طعم تجارب صدمتني غير مرة؟

اقتصدْتُ الإجابة وقلت للسائل: لك أن تقرأ رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» التي سردت مآل غريب باحث عن العدل صيّره زمنه المريض ضحية، طُورِدت طويلًا. ولك أيضًا أن تعرف رواية ألبير كامو عن: «الغريب» الذي ضاق بكلام الآخرين وزهد بإلقاء نظرة أخيرة على وجه أمه الراحلة. والأقرب إلى سؤالك رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» عن لاجئين فلسطينيين تاهت خطاهم وبحثوا عن نعمة مفتقدة أوْدت بهم إلى الهلاك.

نظر السائل إليَّ باحتجاج عاتب وقال: ما قصدت بأسئلتي الاغتراب في الرواية، قصدت أحاسيسك الذاتية المباشرة التي لا تتخفّى وراء مهنة الكلام. أجبت وقد تخفّفت من ارتباكي: إن الغربة تنهش بعنف هيئة الغريب، يخاف وينكمش وينزوي ويتضاءل ويتقلّص وينحسر ويلوذ بما لا يرى. فلا غريب إلا بالخوف الذي يلازمه، ولا غريب إلا وحمل اتهامه وصمت، ولا غريب إلا باستضعافه واستغفاله واستقواء آخرين عليه، لا فرق إن تمتعوا بوطن حقيقي ودولة وعلم، أم كان لهم ما يشبه الوطن والعلم ودولة تلقّنهم فصاحة الصمت قبل قليل الكلام.

لا تاريخ للغريب!

الغربة تجربة طفولة سقطت في الطريق، والغريب الجوهري، الذي طالت غربته، فقير المفاجأة، فما عاشه كهلًا عرفه صبيًّا، وما ذاقه شابًّا لاحقه إلى بدايات الشيخوخة، كأن الزمن فراغ لا وجود له. والغريب الحقيقي، يا سيدي، يخشى المجهول قبل وصوله إليه، لا يمنع عن ترحيله أحد واستقراره احتمال واللاإقامة مرجعه الأكيد، ولهذا انتشر الفلسطينيون في أنحاء الدنيا. لا بلد قريبًا كان أو بعيدًا إلا وتعثر فيه على فلسطيني يسرد حكايات رحيله الأخير.

ألبير كامو

ومع أن للغريب إيمانه الخاص فبينه وبين اليقين قطيعة، وبين ما يرغب وما لا يرغب فجوة حفرتها متواليات الأسئلة: ماذا تفعل في هذا البلد؟ من أين جئت، وهل هذا وصولك الأول إليه، ما عدد أقربائك فيه، ما اسمك الخماسي، وهل كنت في منظمة أو تنظيم؟… وناظم الكلام الغريب مع الغريب اتهامه، ودليل اتهامه نبرة زاجرة، إنِ اعتدلت غدت شفقة جارحة، أو مواساة تباطنها اللعنة، فإن خلعت قناع الشفقة تزيّنت بالحزم والإنذار والوعيد. ولإيذاء الغريب نبرة قاحلة تخنق الروح: «على أية حال أهلًا وسهلًا، وما عليك إلا مراعاة أصول الضيافة، أحضر معك، بلا تقصير، صورة عن مكان إقامتك، وصور وثيقة سفرك في العشرين سنة الأخيرة». يتلو الكلام المالح، الذي يلهب العينين، ابتسامة متخابثة تعادل «طعنة نجلاء» بلغة العرب،…

ما يعبّر عنه موظف قصير الأخلاق تكرار لما تعلّمه من مرؤوس أعلى مقامًا، اتكاء على مبدأ المحاكاة؛ إذ من لا قيم له ولا معرفة يغويه عري اللاجئ ببطولة الوهم أو بوهم البطولة. والطرفان في علاقتيهما مع الغريب، وفيّان لتعاليم «رسمية» والغريب، في علاقته معهما، يكرّر دروس الغربة: ضرورة التكيّف مع الشروط المستجدة، أكانت من مطالب «الأمن الوطني» أو من مجموعة بشرية يجهل عاداتها، والاعتراف بالجميل وحسن الضيافة والالتزام بالأعراف وقواعد النظام… ينطوي التكيّف، لزومًا، على تحمّل الاتهام الآتي من جهات مختلفة.

يتوّج وضع الغريب بقاعدة لا هرب منها: «الغريب لا تاريخ له»، بلغة عالم الاجتماع النمسوي ألفرد شوتس في كتابه الصغير: «الغريب وعودة الغريب إلى بيته»، وإن كان الشطر الثاني من العنوان لا يعني «اللاجئ» في شيء؛ لأنه لن يعود إلى المكان الذي رُحّل عنه. يفضي تغييب تاريخ الغريب إلى اختراعه، فربما يكون في جسده زوائد لا يعرفها «ابن البلد» أو أن له طعامًا يخصه، أو طريقة في الاستحمام غير مألوفة، ناهيك عن اختلاف اللهجة في الكلام، التي قد تصبح اتهامًا يستدعي: رصاصة.

ولعل اختراع تاريخ الغريب هو ما دفع جبرا إبراهيم جبرا إلى الغضب الشديد، حين قال في مقابلة معه: «إذا علا صوت في منتصف الليل قالوا: إنه صوت الغريب، وإذا كُسر زجاج بيت قالوا: إنه من أفعال الغريب، وإذا اشتبك طرفان في شجار مع ثالث كان السبب هو الغريب». و«لكن فَلْيعلموا أن هذا الغريب كان في بلده أكثر منهم أدبًا وثقافة وأحسن سلوكًا». قال جبرا، وهو المثقف الرومانسي النبيل، بما عاينه في معيشه اليومي. ويغدو الأمر أكثر تجريحًا إن اجتمع فيه الجهل وفقر الخُلُق: «لو كان فيكم خير ما تركتوا بلادكم وأتيتم إلى بلادنا»، «ولو كنتم تعرفون معنى الوطن لدافعتم عنه…». اللاجئ متهم في وطنيته، متهم إن بقي في وطنه أو خرج منه، في الحالة الأولى «خاضع جبان»، وفي الحالة الثانية متطفل لا يريد العودة إلى وطنه. وواقع الأمر أن غربته خطيئة جاء بها عنف التاريخ، ومأساة صدرت عن عماء الوجود. لذا قال لي الموظف الفرنسي: إنني آسف فلا وجود على خريطة العالم لبلد له اسم بلدك!!!

مأساة بلا عقاب

غربة اللاجئ من عماء التاريخ، أو من عتمة في الوجود، لا فرق، ما دام الظلم الواقع عليه جاء من إنجليزي يدعى «بلفور» أو من «أقارب» يشعلون النار بأطراف المخيم في منتصف الليل أو في عزّ الظهيرة. تحوّل الكلمات المعلّبة «القضية الفلسطينية» إلى تزييف حاد الأطراف، وكذا ما دعي «بالمسألة الفلسطينية»، بلغة متفاصحة، فهي في جوهرها مأساة فريدة: كان الفلسطيني، في زمن مضى، يمتد في زيتونه وبرتقاله، وغدا، لاحقًا، امتدادًا للاتهامات المتجددة. مأساة لا يُعاقب عليها أحد، لازمته طفلًا، وسارت معه شابًّا، ورافقته في خريف العمر. في كل مرحلة حكاية، وفي كل حكاية حكايات علّمتني الخشية من النزول إلى داخلي واسترجاع الذكريات الخانقة. حكايات متنوعة ممتدة من مسؤول يثير الرهبة إلى موظف صغير تتعثّر به الحياة اليومية ولا تراه.

غسان كنفاني

كان المسؤول المهيب يطارد ذبابة، إن غفا عنها قليلًا حطّت على كتفه، يطردها وتدور حوله فيطردها ثانية. بعد أن رفع رأسه رحّب وأثنى على المثقفين الذين يدافعون عن الأخلاق ولا ينسون كرم الضيافة. أطال النظر في أوراق أمامه، استعان بقلم ونظر إلى رزمة أخرى من الأوراق وهزّ رأسه مبتسمًا: «طلبك بإذن الله مقضيّ»، وداهمني فنجان قهوة جديد. بدت الذبابة معلّقة في الهواء، وكفّ السيد المسؤول عن النظر إلى كتفيه.

بعد صمت وتحديق في الفراغ تهيأت للوقوف، لكن السيد المسؤول عاجلني بسؤال لطيف وبكأسٍ من الشاي: هل زرت مكتبي سابقًا؟ وبعد النفي قال: هل تعرّفت على أحد في هذا البناء صدفة؟ قلت لنفسي هذا طور الاتهام الخفيف، وحين سأل: أصلك من أي بلد؟ قلت جاء طور الاستغفال المتسلّط، فالسيد يعرف اسمي واسم أبي ومثوى جدي الأخير ووالد جدي الذي جاء من الجزائر إلى فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر. اتسعت ابتسامته قليلًا، والذبابة كفّت عن مطاردته، وأيقنْتُ أنه أفرج عني لولا طلب جديد: «إمضاءك ثلاث مرات على هذه الورقة». تنفّست الصعداء ووقفت استعدادًا للانصراف. استأنف ابتسامة وأضاف: أنتظر منك في المرة القادمة صورًا، مجرد صور، لجوازات سفرك التي حملتها في العشرين سنة الأخيرة، الأخيرة فقط. غمرت البشاشة وجهه وبقيت الذبابة هاجعة على كتفه الأيمن. بعد الاستغفال المتسلّط يأتي الاستضعاف، ليس بإمكاني أن أرفض أو أن أحتج.

أيقظت المقابلة صورة الكهل القديم في اليوم الأول من عامي الدراسي الأول حين قال ببساطة رحيمة: «التلميذ الذي من خارج البلدة يرفع إصبعه!» داخلني شعور بالرضا الصغير والمهانة. فبعد فضول معلّم ابتدائي بسيط الهيئة واللباس ها هو يستقبلني مسؤول كثير الهواتف في قاعة تستهل بسجاد فاخر طويل وتنتهي بمأمور رفيع المقام. تلا «رفع الإصبع» القديم نبرة آمرة تسأل عن اسم: «جدي السابع». كنت في الحالة الأولى صبيًّا في السادسة من عمره، وفي الثانية كهلًا يقترب من السبعين. وكنت، في الحالين، متهمًا يطارده اسم البلد الذي رُحِّل عنه صبيًّا. بعد الاستغفال والاستضعاف جاء دور «التصغير» الذي يصيّر المتهم إلى شيء بين الأشياء.

طابور الغربة الطويل

في مطار البلد «المضيف» المحتشد بقادمين مختلفي الأقدار كنت أنطلق مسرعًا حد اللهاث لأكون أول الخارجين. ألقي التحية بأدب وأضع الدعوة الرسمية في جواز السفر وألتفتُ يَمْنةً ويَسْرةً وأنتظر الإجابة، وأصطدم بما يجب أن أصطدم به. ما إن يتعرّف موظف الجوازات على اسمي ورسمي حتى يقول كلمة واحدة: «هناك»، ويشير إلى ركن قصيّ تبعثرت فيه مقاعد وركاب قليلون. أنتظر استجوابًا أو رقيبًا يريد صورًا من جواز سفري في «المئة سنة» الأخيرة. لا شيء من هذا فمشيئة الموظف صاحب الكلمة الواحدة لا تختلف عن مشيئة سابقيه. بعد مرور أربع ساعات يسقط عليّ اسم عائلتي، وقد فقد «الشدّة» الملازمة له وكُسِر حرفه الأول: «دِراج». ينتهي الحجز المؤقت وأخرج وأسال نفسي: لماذا هذه العقوبة؟

بعد سنين جاءت إجابة سعيدة: لقد بلغت الخمسين، ومن يبلغ الخمسين لا خطر منه، لكن زوال الخطر لا يتضمن زوال الاتهام. وقلت لروحي ساخرًا: ها هو تقدّم العمر يحرّرك من العقوبة، وأعد نفسي في الستين بمعاملة أفدح كرمًا.

لا تكتمل حكايات الاتهام إلا بحكاية موظف يتبجّح بلغتين، يقول بعربية صلبة لحظة الاستقبال: أهلًا وسهلًا في وطنك العربي الثاني، وكيف حال الإخوة هناك، وأسخر من هناك وأقول: تقصد بهناك البلد الذي جئت منه، بلد محتل منذ عقود وأخذ اسمًا آخر!! عندها يقفز الموظف ويدور حول نفسه ويكاد يشد شعره ويتكدر وينتقل من العربية إلى الفرنسية زاعقًا: «يا ولد، هات «الباجاج»، لا دخول، أرجِعْ «الباجاج»»، وأسأل الموظف بهدوءٍ اختلط بالقهر واللامبالاة: «جواز سفري» فأنا راجع مباشرة إلى الطائرة، وسأقدّم شكوى إلى جامعة بلدك التي لا تميّز بين «الأكاديميين المحترمين» وآخرين مجهولي السيرة. الموظف الغليظ الشاربين الذي سيطرد شعبه الكريم حاكمه -الذي قال لقد هَرِمنا- عاد وقال: إنها إجراءات، مجرد إجراءات روتينية- وكان وجهه يفضح كذبه. سألته وأنا خارج: «ما معنى كلمة «بَغَاج» أو «الباغاج» باللغة العربية؟» أجاب. هل هناك كلمة بديلة أخرى لا أعرفها؟

ألفريد شوتز

صور «عملية» ثلاث للغريب: غربة الصبي احتاجت إلى «عزل أولي»، ولحق به في طور الشباب «طرد محتمل»، وفي طور الشيخوخة أحاطت به «رقابة شديدة الحراسة» ترجمتها الدقيقة: «ابتذال اللامعقول وبذاءة الحسبان».

مرّ شرطي على لاجئ في ساحة عامة رخيصة، عرفه، ربما، من حركاته القلقة، سأله عن هويته الشخصية فأجاب: نسيتها في قميصي الآخر، من دون أن يدرك أن قوله سيخرج الشرطي الفقير الملامح عن طوره، فيقول: «لاجئ، لاجئ، وله قميصان، تصوّروا، تصوّروا؟». لو كان هناك المرحوم صلاح جاهين، المصري الجميل الروح لقال: عجبي، تعبيره الشهير في «رباعياته».

يحتفظ الغريب بصور حياته كي لا تصدمه التجربة، يرى الحياة في وجوهها المتنوعة، الممتدة من شرور الحياة المكسوّة بالذباب إلى بشر آخرين، قلوبهم مضيئة لهم غربتهم أيضًا، فالغريب بالمعنى الحقيقي لا يوجد بصيغة المفرد، و«العَسَس» الذي يضطهده له صيغة الجمع أيضًا، في كل زمان ومكان. ينتمي الغريب، في تصور نجيب محفوظ، إلى عماء الوجود، وتنتشر مكاتب «المحقّقين» المتعددة الهواتف، في كل مكان، ولولا الظلام الخانق لَمَا كان للنور وتأمل السماوات معنى.

السينما: صحبة قديمة وأطياف ممطرة

السينما: صحبة قديمة وأطياف ممطرة

أذكر من فِلْم إنغمار بيرغمان «التوت البريّ»، الذي رأيته قبل أكثر من خمسين عامًا، عجوزًا يتكئ على عصا يطوف بين صِبْيَة يمسّد شعرهم ويغدق عليهم حنانًا دامعًا، ويتوقف أمام صبي سيحمل، لاحقًا، عصا وشيخوخة مرهقة. كان العجوز يستذكر ذاته، يوقظ متخيله ويعود صبيًّا، يداعب شعر إخوته في بيت العائلة القديم. أشعر الآن، وأنا أستعيد سينما الصبا، أني أشارك عجوز بيرغمان زيارته المتخيّلة، أستعيض عن الأخوة بالأفلام، وأمسّد شعر أيام خلت كان للسينما فيها مذاق الأحلام. الغرفة القديمة كانت صالة أنيقة، تجاور مقهى الهافانا، تدعى: سينما الكندي اختصت، ذات يوم، بعروض «أفلام النخبة» التي كانت تبدأ، بأفلام أيزنشتين ولا تنتهي بسينما فيتوريو دي سيكا.

المدينة التي بلغتها صبيًّا، وافدًا من قرية سورية يتقاسمها الشركس والتركمان، بدت لي، ذات مرة، مسقوفة بالرضا مكسوة بملصقات سينمائية بهيجة الألوان، افترشَت «باصات عامة» تجوب معها شوارع المدينة، تستقر في واجهات المكتبات وجدران الساحات وتتسلق أعمدة الكهرباء، وتجد مكانًا في حارات شعبية تتعالى فيها أصوات صبية لم يختبروا شقاء الحياة بعد.

المدينة التي بلغتها صبيًّا، ذات يوم، كان عدد سكانها يتجاوز ربع مليون نسمة بقليل، كما قال معلم التاريخ، الذي علّمنا أن للمدينة أكثر من اسم: جِلّق والفيحاء، وثالث نعرفه: دمشق، يعطف عليه بفخار: عاصمة الأمويين، ويضيف إليها بردى ودمّر والهامة ويذكر أحمد شوقي ويقول: شاعر مصري عظيم، أرسل «سلامًا» إلى المدينة حين أحرقها الفرنسيون عام 1945م، ورحلوا. كان مطلع قصيدته: سلامٌ مِنْ صَبَا بَرَدَى أرقُّ،… حين سألته، عن الملصقات السينمائية التي تجوب أنحاء المدينة أجاب: اقتربت عدد صالات السينما، قبل زمن قصير، من ثلاثين وتراجعت الآن إلى العشرين، تزداد عددًا صيفًا، بعضها تنفتح سقوفها على السماء – سينما الرشيد الصيفي – وتغلقها في موسم الأمطار. كان ذلك في العام الدراسي 1951 – 1952م، والاستعمار الفرنسي قد ولّى، يحتفل بيوم رحيله، في يوم شهير: عيد الجلاء.

كانت المدينة متعددة الألوان، تتجدد بتبدّل الفصول وتتباهى بألوانها؛ إذ تعددية الألوان من خصائص الجنة، كما قال المعلّم واعتبر دمشق، ضمنًا، امتدادًا للجنة، حتى اعتقدنا، نحن الصبية، أن ما يتعدّد لونه قريب من السماء؛ وأن الألوان توسّع الروح وتطلق في الإنسان شهوة المسير. كان في الملصقات المتعانقة الألوان ما يدعو الجمهور إلى الحضور ويكاثر وجوه الأفلام، فلقصص العشّاق السعيدة المآل زرقة ناطقة، و«أمير الانتقام» له لون انتصاره ورماد ضحاياه، وللجلّاد العتيد لون له نشع القبور وبكاء الأظافر المقلّعة.

وكثيرًا ما ذكرت أفلامًا بسبب ألوانها: طفولة إيفان الروسي أندريه تاركوفسكي المنسوجة من الصقيع والأسى والحرمان وطفل عاش طفولته في الأحلام. وأحلام أكيرا كوروساوا، المتداخلة الزرقة والبياض وحزن القائد الذي يناجي جنودًا دفنتهم «المعركة». وفِلْم البولوني أندريه فايدا «غابة البتولا»، الذي أرشدني إليه الصديق محمد ملص حيث خضرة الأخ الصغير المريض المتفائل تواجه ألوان الأخ السليم المجبولة من الصمت والرماد وعتمة لا ترى. الألوان الجميلة لا تضاف إلى الطبيعة فهي منها، للبحر زرقته وللغابة خضرتها وللعشق كما نقرؤه أريج يميل إلى الازدهار، وتكلّف الألوان الصناعية تخذله الطبيعة وتسخر منه العيون التي تحسن القراءة. أذكر لون العاشقة اليائسة في «جسد واترلو» الذي ابتلع جمال «فيفين لي»، وإشراق وجه عاشقة في «جين أير» أضاءه وجه «أورسون ويلز» المعشوق الذي أعطبته الصدفة وفقد البصر، وما زلت أذكر وجه عاشق مقوّض، جسّده لورانس أوليفييه، في فِلْم مأخوذ من رواية الأميركي ثيودور درايزر «مأساة أميركية»، عاشق يشكر ما دمّره وجعله متسوّلًا: «لولا شقاء العشق المبارك لما بلغت قلب الحب وعرفت أنه جدير بالفداء والفناء».

صحبة ضيعتها السنون

لا أستعيد سينما الصبا إلا مصحوبة بالمطر، مطر بعثه متخيّل سرّه ما رأى، خايله نقاء الأيام الراحلة واحتفى بأمطار طيبة الرائحة دافئة الملمس، ماؤها من صور تناءت وأشواق تلاشت ورغبات انطفأت وصحبة ضيّعتها السنون. ولعل هالة الأمطار المنقضية هي التي حفظت في ذاكرتي عناوين سينمائية مبلّلة بالرذاذ: «ليلة ممطرة» لعميد المسرح العربي يوسف وهبي الشغوف بالوعظ والإرشاد. و«جاءت الأمطار» فِلْم أميركي من الأربعينيات عن حب مستحيل بين الشرق والغرب، قام بالدور الأول فيه «تيرون باور» الذي رحل قبل الأوان، و«غناء تحت المطر» جمع بين طموح فنان رهيف -جين كيلي- ورقص «سيد تشاريس» المخلوقة من نسيم وأجنحة مرتاحة، و«مسافر تحت المطر»، لا أعرف إن شاهدته في دمشق أو «تولوز» الفرنسية، وإن كنت أذكر أنني كنت بصحبة عزيز لم يعمّر طويلًا. أراد أن يكون صديقًا في الأيام الممطرة، وفي أجواء الصحو والسعادة.

الصداقة الحقيقية لون آخر من المطر، مرآة لجماليات الحياة ونبل القيم، توسّع الروح وتجرج الذاكرة إنْ رحل الصديق. كان اسمه فيرنر غلينغا، بشوش الوجه أقرب إلى النحول، توزّع على النقد الأدبي وكراهية الظلم والعنصرية. أنهى دراسته العليا وفارق الحياة واعتبر السينما طقسًا حياتيًّا ودرسًا في التأمل وتبادل الأفكار. شاهدت معه في خريف 1971م فِلْم كلود سوتيه «أشياء الحياة» وسأل: هل جاء الموت إلى حياة «ميشيل بيكولي»، بطل الفلم، في شكل صدفة قاتلة، أم إن الأخير قصد الموت بسيارة مجنونة السرعة وعطف عليه مآل «غاتسبي العظيم»، رواية ف. سكوت. فيتز جيرالد، التي نُقلت إلى السينما أكثر من مرة، أخذ بطولتها في سبعينيات القرن الماضي روبرت ريدفورد…. قال لي فيرنر: «السينما فيلليني ولويس بونويل وأكيرا كروساوا والباقي أشرطة».

شاهدنا أفلام هؤلاء جميعًا في نوادي «المدن الجامعية»، في تولوز وباريس وبقي فلم فيلليني «أنا أتذكّر» نتقاسمه قدر ما نستطيع. كان فيه صور عن رعونة المراهقة وأسطورة المرأة والحنين المترسّب وحريق الزمن الذي لا يقتصد أحدًا. وكنّا في ساعات الرضا نتنافس في تلخيص مواضيع الأفلام شرط ألا نتجاوز جملتين ودقيقتين وألّا نخطئ في اسم مخرجيها، فأسماء الممثلين ووسامتهم وفتنة الممثلات الذي هو من شأن «الطلبة الصغار».

كنت أختلف معه في النقطة الأخيرة، ذلك أن الوجوه مرايا الأرواح وأن بعضها هدايا سخية من الطبيعة، كان فيرنر يسخر من الجملة الأخيرة فأصدّه بوجه «آفا غاردنر»، «أجمل حيوان في العالم» كما كان يقال، أو آتي على ذكر «لورين بكول» الأميركية ذات الأصل البولوني وزوجة همفري بوغارت. كان فيرنر يصمت إعجابًا بموقفها من «الحملة المكارثية» المعادية للفنانين الديمقراطيين خلال الحرب الباردة، وبفلمها «أن تملك أو لا تملك»، المأخوذ عن قصة لإرنست هيمنغواي وإخراج هوارد هوكس. كان يقلّد بوغارت بإنجليزيته الأميركية التي تبدو مسحوبة من الأنف أو خارجة منه على مضض.

قلق الإنسان المغترب

علّمني فيرنر المقارنة بين الأدب والسينما، قولان مبدعان بتقنيات مختلفة، يترجمان ما يُرى وترهقهما خفايا الروح المرهقة، كأن نسأل: هل تلتقط كاميرا السينمائي قلق الإنسان المغترب الذي «جوهره» خارجه وعيناه محلقتان في فراغ شريد لا تلمسان خارجهما إلا لتنفر منه ولا ينطق بجملة واضحة؟ وكيف تنفذ الكاميرا إلى دخيلة إنسان بحثَ عما أضاعه وعثر عليه، وَمْضًا، وأضاعه من جديد؟ هل تحسن استنطاق عينَيْ طفل فقدَ أمّه في الصباح أو شاب ارتدى التشاؤم ولم يسر في جنازة أمه؟ أسئلة تترافد كان يبعث بها مارشيللو ماستروياني في فلم «الغريب» إخراج فيسكونتي وفضاء الفلم المعتم «المغامرة» لأنطونيوني أو العزلة الروحية الشاملة لآلان ديلون في «ساموراي» هنري مليفل. كان الناقد السينمائي السوري سعيد مراد، الذي رحل على أبواب الخمسين، يرمّم الإجابة بمصطلح «المناخ الفني»، يضيف إلى الوجه مكانًا تبعثرَ في إشارات صوتية- سمعية تستدعي اللباس وترتيلًا موسيقيًّا موائمًا و«مونتاجًا بديعًا».

ما زلت أذكر اغتراب العجوز الإقطاعي في فلم «الفهد»، الذي أخرجه فيسكونتي أيضًا وأنطقه، متأسيًا، برت لانكستر وهو ينهر متسلقًا ضحل الروح ارتفع مقامه في زمن مريض: «كنّا في زمننا الفهود، أما أنتم فضباع وبنات آوى». كان الاغتراب واضحًا ولا يزال في الفلم السياسي حال فلم اليوناني كوستا غافراس «Z»، حيث ضحية الفاشية جسّدها الممثل- المغني «إيف مونتان» الفرنسي الجنسية الإيطالي الأصول. ودلالة الاحتلال القاتلة حتى «لو بدا أنيقًا»، كما هو حال النازي في فِلْم «صمت البحر»، المأخوذ عن فيركور، الذي أخرجه، باقتصاد مدهش، بيير ميلفل. وهناك «اللص والكلاب» رواية محفوظ التي رسمت، بألم، فقيرًا سرق مكرهًا، طاردته سلطة من اللصوص والقتلة أطلقت النار على البراءة وعلى «الصدفة» أيضًا. لبس الراحل شكري سرحان الدور الأكثر إتقانًا في مساره السينمائي، إضافة، طبعًا، إلى أدائه الرهيف في فلم «البوسطجي» المأخوذ عن قصة قصيرة ليحيى حقّي.

لم أكن من مريدي «الفلم التاريخي»، وما زلت كما كنت، ذلك أن التاريخ مِزَق من الحكايات يصنع منها «القوي» الثوب الذي يريد، ولا أفلام المغامرات التي نرى فيها «أبطالًا»، فلا أحبّ الأبطال ولا الذين يكتبون عنهم. كان لنا أفراحنا أيضًا الآتية من ضواحي الفن والغناء والرقص والهوى السعيد: وليم هولدن يراقص كيم نوفاك في فلم «نزهة»، و«قصة الحي الغربي» المحتشد بالتنافس والحب والرقص وتبادل الاتهامات الضاحكة و«سيزار وزلي» لكلود سوتيه ورومي شنايدر ومخلوقان طيبان يتقاسمان عشق أنثى وتقاسمهما العاطفة والمودة. وأذكر بالضرورة فلم جون فورد: «الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس» وقدّم صورةً عن ظلم الحياة الذي يختلس من إنسان لا يعرف القراءة والكتابة شجاعته، ويضيفها إلى متعلّم يحسن الكلام والبلاغة، وجعل منه نجمًا اجتماعيًّا وشجاعًا «لا يشق له غبار».

حين رجعت إلى دمشق عام 1978م وسألت عن الصالات التي عَرَضت «أمير الانتقام، وغرام وانتقام، والوردة البيضاء»، الفلم الأول لمحمد عبدالوهاب، أجاب الرجل ساخرًا: يبدو أنك لست من هذا الزمن، جميعها أغلقت، و«بائع الساندويش» الذي أشرت إليه ترك «المحل لأولاده واشترى محلًّا لبيع الملابس المستعملة». عرفتُ أنني أنتمي إلى زمن آخر وأنا أسأل عن صالات ترددت عليها في زمن مضى. أول فِلْم شاهدته في حياتي كان «أمير الانتقام»، أرضى طفولةً تُسعدها الأحلام، أبهجها العدل المنتصر وفارسٌ ينصف المظلومين. ما زلت أذكر منه السجن والصحراء المحيطة به ولقاء بين الفارس وعجوز عادل يلفظ أنفاسه الأخيرة «قام بالدورين أنور وجدي وحسين رياض رحمهما الله».

السينما الحقيقية ترصدُ سياقات الزمن، تُسرّعه كما تشاء، كأن تبكي جين أير -1944م- طفلةً في ميتم وترتسم على شفتيها شبه ابتسامة بعد دقيقة واحدة. أو أن نصاحب «رجل الطيور في سجن الكاتراز» (لبِرت لانكستر) من شبابه إلى شيخوخته في ساعتين. سجين واسع الكبرياء والفضول والكرامة، قتل بعدلٍ وحُوكم بلا عدلٍ وقاوم عادلًا وغدا في سجنه «عالمًا بأنواع الطيور وأمراضها وسُبل شفائها حتى اشتهر في مجاله».

الفيلسوف الفرنسي الشهير ألان باديو في كتابه «سينما» الذي نشرته Polity في لندن عام 2013م كتب: «السينما فن الأشكال، ليست فقط أشكال المكان، أو أشكالًا من خارج العالم، بل أشكال الإنسانية العظيمة في الحياة. إنها أشبه بمسرح الفعل الكوني. إنها معقل الأبطال الوحيد اليوم». ص:211. لم يقصد الفيلسوف السينما الرخيصة المشغولة بالعنف والجنس وتذليل الذاكرة، إنما قصد فنًّا، قوامه الدفاع عن الحق والجمال والقيم الإنسانية الخالدة، التي لا مكان فيها لبطولات زائفة ولا لأشكال تتنفس الخراب كما الهواء ناظرةً إلى بشر لا يرفعون رؤوسهم.

المنفى مآل حزين

المنفى مآل حزين

قاعة فسيحة باذخة المظهر، غمرها ضوء ساحب كأنه يستعجل الليل، تناثر في مداها «نقّاد» عرب جمعتهم ندوة عن المنفى، تقدموا باجتهادات مختلفة، لساعات أربع، واستحقوا الاستراحة.

كمال أبو ديب

طالعني الصديق الدكتور كمال أبو ديب ضاحكًا بسؤال مشروع: توقّعنا منك توصيفًا للمنفى الفلسطيني، وخرجت بحديث عن طه حسين، مساويًا بين العمى والمنفى، معتبرًا العمى منفى والأعمى منفيّ عن عالم المبصرين، فما الفارق بين منفى اللاجئين وغيره من المنافي؟

أجبت: المنفى يتوزّع على البشر جميعًا، ومنفى البعض أشد قسوة من غيره، وأن المنفى الفلسطيني الأكثر بؤسًا بين المنافي المتنوعة، أكملتُ: إنه إقامة في اللاإقامة، جاءت به مصادفة ظالمة، تزيحها مصادفة أخرى، يحوّم فوقها خطر وتهديد ومجهول، والأخير الأكثر رعبًا. كأنها إقامة فوق الماء، تهتز حين يشاء عدو للفلسطينيين، يراهم كمًّا نافلًا وقصف حياتهم ليست بجريمة.

وأكملت أيضًا: قالت لي التجربة إن المنفى يُعاش ولا يُعرَّف، حال الحكايات، يفيض معناها على سردها، أكان شائق العبارة، كما كان يقول معلّم اللغة العربية، أو ركيك الكلام، يحبط فضول ويجهض معنى العبارة. وتجربتنا يقصِّر عنها الكلام الشائق والركيك معًا لأنها مستمرة.

ردّ الصديق كمال: تعريف يبعث على التأمل، يختلف عن منفى طه حسين، ينقل السؤال من الحوار الممكن إلى استبطان لا يمكن القيام به، تضيء معناه حكايات اللاجئين لا المجازات وبلاغة «السيميولوجيا». استدعى هذا إلى ذاكرتي حكاية، لم تفارقها على أية حال، بعيدة بُعْد أيام الصبا الأولى، سجلها في دفتر تلميذ فلسطيني سيئ الخط، وحفظها في دفتر تقادم، غزاه التلفُ، وظل محتفظًا به، كأنه «رائد يعلّم صاحبه»، كما تقول العرب، مع شيء من الانحراف والتحريف.

لم يكن بلغ العشرين، يعمل معلمًا ابتدائيًّا في قرية مجاورة، مرتفعة باردة، «سقط في مقلاة الحياة»، بلغة غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، ليعول أمًّا وإخوة من سكان «الجليل الأعلى»، ساقتهم النكبة إلى ضواحي «القنيطرة» في الجولان السوري. فقدوا رموز الأمان وهجسوا بأمان عربي الربوع، علمتهم الأيام، لاحقًا، أن الأمان المستديم وَهْم من أوهام الفلسطينيين الكثيرة. كان محمود درويش استهلّ شعره بديوان «عصافير الجليل»، طبعه مرة واحدة وآثر نسيانه، وظل «الجليل» مقيمًا في أشعاره.

كان صديق أيام الصبا الأول، كما ألزمني السرد المنضبط أن أقول، يكبرني بسبع سنوات، من «معارف العائلة»، بلغة زمان رحل، وكانت العائلة، كما أتخيّلها الآن، ناحلة العدد والعدّة، بلغة معلم اللغة العربية القديم، تشكو الغربة وقلة الزوّار، تنشد شيئًا من الأمان، استعاضت عن رموز خضراء سابقة بهوامش الطريق. كان الصديق الذي أحرقته الحكاية يلقى ترحيبًا من أمي، تمازحه وتتبّسط معه، فبينها وبين أمه قرابة، تبادله الحكايات تكريمًا لزمن لن يعود ولذكريات تسير إلى الأفول. كنا في ذاك الزمان نقول: «بلادنا» ونتحمّل «الهجرة العابرة» كحمّى عارضة قابلة للشفاء. أذكر زياراته، وهو الناحل الأميل إلى القصر، القليلة التكاليف، موادها قصص وأمنيات، أتصوره خجولًا، يقطع المسافة بين قريتين ويحتفظ بحذائه نظيفًا، حتى تخيلت أنه يقصدنا حافيًا ما زلت أتصوره يتكلم عن «وحدة المصاب»، وأعي المعنى ناقصًا، يردده بصوت رفيع لم ينتزع اعتراف الرجولة، ويمر على عدد اللاجئين القليل في قرى الشركس والتركمان وثقل الضجر والغربة. كان يبدو عندها، بشعره الأشعث وملابسه الواسعة تلميذًا ضاق بالمدرسة وعصا المعلم العجوز القاهرة. جاء مرة، وقد دخل عمله سنته الثانية، مرتاح الوجه، كأنه يبتسم، زار أمه وأخته، وحمل إلى أمي سلامًا، ردت عليه بكلام دامع. خرج ولم نره بعد ذلك، وجاءنا «خبره».

نبهت إلى موته الكلاب

حفظ الدفتر القديم المهترئ الأطراف السطور الآتية: «مات أكرم لا كبقية البشر، مات محترقًا ببرده، انتبهت إليه الكلاب قبل البشر، شمّت رائحة «شياط» اقتربت من بيته ونبحت طويلًا. حين جاء البشر وجدوا أكرم متكوّمًا فوق «البريموس»، تغطى ببطانية، سقط وجهه فوق بريموس الكاز واحترق، انتشرت رائحة وجهه المحروق وجمعت الكلاب، ولولا الكلاب لتفحم رأسه. قال الناس: حرقه البرد، وقتلته رائحة الغاز، ونبهت إلى موته الكلاب. وقالوا: مسكين لاجئ صغير مثواه الجنة، ونشروا عن موته حكايات وتحوّل أكرم إلى حكاية…».

تعلّمت من جبرا إبراهيم جبرا في روايته «صيادون في شارع ضيق» كلمة «القتار». عندما عدت إلى القاموس، والقواميس العربية كثيرة، وجدت أنها: رائحة الشواء. وتذكرت أن معلم القرية الفلسطيني مات «مشويًّا». وهو الذي كان يقول لأمي بلهجة صفدية: «أطيب لحمة مشويّة توجد عندنا، في صفد»، وتثني على كلامه، وترتاح إلى صوته الرفيع الذي لم تعترف به الرجولة. أذكر أن سكان القرية صاروا يقولون بعد حين: «هذا رجل سيئ الحظ، يشبه حظ الفلسطيني الذي ناحت عليه الكلاب».

بكيت أكرم طويلًا في تلك الأيام، وعلمتني الأيام أن أبكي غيره، وأن البكاء مواساة للروح وبوح وكبرياء…. سأعرف بعد حين أن المنافي متعددة الأشكال، وأن أضيف إلى ضحايا المخيمات مفكرًا إيطاليًّا لامعًا يدعى: أنطونيو غرامشي، اغتاله طاغية معتوه الحركات. تذكرته لأنه جمع بين نبل الهدف وكآبة المآل، كما لو أن «أكرم» غدا مثالًا أقيس عليه أحوال المعذبين.

أذكر أنني تعرفت إلى اسم الإيطالي في السادسة عشرة من عمري في مجلة من باعة «كتب الرصيف»، الذين كانت «أوراقهم تفترش زوايا الشوارع في دمشق الخمسينات»، في أيام الجمعة والعطل الرسمية، «يتهاودون» في ثمن الكتب، فإن كان وجه الشاري مألوفًا اكتفوا بقليل القليل. كانت مجلة لبنانية لا أذكر تمامًا إن كانت «الثقافة الوطنية»، التي كان يشرف عليها حسين مروة ومحمد دكروب، أو أخرى لكنني أذكر، في الحالين، اسم شاعر لبناني الدكتور ميشيل سليمان. لفت نظري في صاحب «فلسفة البراكسس»، كما سأعرف لاحقًا، اسمه الذي تتداخل فيه حروف: الغين والراء والميم والألف، خفيفة على الأذن لطيفة الإيقاع.

كنت حفظت من «القرآن الكريم»، آية موحية بليغة قدسيّة الصياغة: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا». هكذا حفظتها من أمس بعيد إلى اليوم. حين شرح المعلم المعنى، قال: الغَرَام هو الحِمْل الثقيل، وعطفت الغرام على الهوى وتعلّقتُ بالكلمتين.

رغبة في حياة كالآخرين

الإيطالي في صورته المنشورة في المجلة بدا كبير الرأس قصير العنق، وكأنه أحدب. عرفت أن مرضًا أصاب الصبي «السردينيّ» ومنع عنه النمو. إذا عُطف اسمه على رأسه ونظّارته الطبية استثار الرحمة والتعاطف. بيد أن ما استقر في قلبي موجعًا باح به في رسالة من سجنه الطويل إلى أخت زوجته الروسية «تاتيانا ششت» -ثانيًا تخفيفًا- تأسى فيها على مصيره ورغبته الضائعة في حياة كالآخرين، مستقرة تستدفئ بالأولاد وحكايات الشتاء وزوجة قريبة.

كان المرض قد تقدم في رئتيه، بعد أن قتله موسوليني «قتلًا منهجيًّا» لم يعدمه بل زجّه أحد عشر عامًا (1926- 1937م) في زنزانة عالية الرطوبة تستهلك صدره قليلًا قليلًا وتقوده إلى هلاك أخير «بلا ضجيج». الرجل الذي أرهق نفسه بمقالات لا تنتهي ورفض نشرها في كتب ظنّ أنه سيخرج من سجنه حيًّا، «السياسي اللامع» الذي أنشأ حزبًا عماليًّا دعاه «الأمير الجديد» اعتقد في سجنه أن رفاقه خانوه، والمفكر الذي كتب «كرّاسات السجن»، وهي عدة مجلدات، نشرت مبتورة بعد موته، فالفيلسوف الذي كان شغوفًا بتفاصيل اللغة رأى «الهيمنة الفكرية» طريقًا إلى بناء سلطة جديدة وعهد بأمرها إلى المثقفين.

كان مثقفًا مختلفًا، ساءل أحوال المثقفين ووزعهم على مقولات مختلفة: المثقف العضوي، التقليدي، الجمعي، الريفي… اشتقهم من دورهم الإنتاجي ومساهمتهم في بناء «الكتلة التاريخية»، التي توحّد مستويات المجتمع المختلفة، بعيدًا من تبسيط الراحل الكريم محمد عابد الجابري.

كان غرامشي يختصر الظواهر المعقدة في اقتصاد لغوي نجيب، كأن يقول: الفن معلمٌ من حيث هو فن لا من حيث هو فنّ معلم، أو… سياسي محترف يريد أن يضع كتابًا في الفلسفة، لا ضرورة لذلك، فلسفته قائمة في ممارساته السياسية أو أن يقول: المعرفة العالِمة تصلح المعرفة العفوية التي تصلح بدورها المعرفة العالمة.

ولكن ما الذي يجمع بين الإيطالي، الذي اكتفى في سجنه بأربعة كتب شخصية وقاموس، ومعلم القرية الفلسطيني؟ بداهة، ليست «فلسفة البراكسس»، إنما هو التاريخ الذي يتقدّم إلى حيث يشاء ولا يضبطه أحد. ولا يكترث كثيرًا بالعدل والظلم. فالأول حرقه الصراع بين الحاكم الذي يحسن التأديب والخطابة وبين المفكر الذي يستنطق علم الجمال والسياسة. أما الفلسطيني فاحترق بردًا وغربة، أحرقه رغيف الخبز في قرية باردة لا تعرف زيتون «الجليل الأعلى» وأحرقته الصدف الغاشمة. معنى نفى في «لسان العرب» تساقط. الرجل الإيطالي «تساقطت أحلامه»، نُفي عنها ونُفيت عنه، والمعلم الصغير نُفي وسقط حقه في أرضه.

الإيطالي الشهير ماكيافيللي كان يسأل: كيف تستولد إمارة جديدة من إمارة غائبة، وغرامشي كان يسأل: كيف تبني مفاهيم المثقفين مجتمعًا صالحًا؟ كفى الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت نفسه بأسئلة ترتاح إلى «متعة اللغة»، وقال: «إن دور المثقف أن يتحمل هامشيته».

المنفى حرمانٌ ونقصٌ وعجزٌ، والمنفي يعرف أحواله من نظر غير المنفيين إليه.

الطريق الطويل إلى فعل: كتَب

الطريق الطويل إلى فعل: كتَب

قال لي بنبرة مغتبطة ناصحة: إن الكتابة فن رفيع يحتاج إلى موهبة، وكبت ابتسامة تعد بكلام لاحق: يلزمك ويلزمنا جميعًا تفجير اللغة، ابتكار لغة خالصة متحررة من القواميس. كان شاعرًا بلا قصائد، وناقدًا أدبيًّا بلا نصوص، كوني الثقافة، ولا يعرف إلا لغة عربية منقوصة. وختم كلامه قائلًا: الكتابة ليست مجرد أفكار، إنها لغة. أطلق جملته ونظر في عينيّ طويلًا. ولأن الحريق يأتي من واهن الشرر، فكّرت بما سمعت، ولو بقدر، وسألت نفسي وبلا مقدمات: كيف تعلّمت الكتابة، وهل لها بدء، وكيف تختتم سطرًا أخيرًا، يكتمل أو يظل ناقصًا؟

في أوائل خمسينيات قرن مضى في مدرسة دمشقية محاطة بالأشجار، قريبة من «نهر يزيد»، في مدة تودّع الطفولة وترحّب بالصبا، كان للكتاب مهابة شيخ ستيني رحيم الصوت، يشرح معنى الروح، ويفصّل في الخير والشر، ويصف فضائل المطر، ويمرّ على مأساة فلسطين، ويأخذ شهيقًا طويلًا ليحكي لنا عن: مصارع العشاق. أعرف منتحرين، تبادلوا مع المعشوقة الثاكلة نظرتين وآهات مديدة. كنا تجاوزنا العاشرة بقليل، نوسّع أعمارنا بكلمات مأخوذة من الكتب، كأن يقول التلميذ الذي تشاجر مع غيره: «لا أتنازل عن حقي قِيدَ أُنمُلة»، وأهرع إلى مثال حفظته من كتاب الميداني: «الأمثال». كنا نحاكي لغة غيرنا، ونشعر أننا ازددنا طولًا.

في ذاك الزمن وقف معلّم، ورحل مع العمر الراحل، في «باحة المدرسة»، وأسهب في تعداد فضائل القراءة، وحدّق فينا وتلفّظ بتعبير غريب: «أبطال القلم» ترك في ذهني دهشة واسعة. تساءلت: كيف يكون للقلم بطولة، وهل هناك بطولة من حبر وورق؟ وفي ذاك الزمن، الذي أعقب سقوط فلسطين، كانت صفة البطل شائعة في الكلام، يطلقها على أنفسهم أشخاص لا يشرحون الأسباب، يستعذبون ترديد جملة منقوصة: «جيل القدر»، كنا نستعجل الزمن كي نصبح جديرين بالصفة الغامضة، ونكاثر في جيوبنا الأقلام…

جبران خليل جبران

حين سألت المعلّم عن معارك «أبطال القلم» أجاب: «إنهم يا بنيّ قادة الفكر المدافعون عن الحقيقة والفضيلة وسلامة اللغة، وهم الذين يعتبرهم «الآخرون» أبطالًا». لم تكن الحياة قد علّمتني بعد التعامل مع كلمة الحقيقة بصيغة الجمع، ولا النفور من كلمة «الآخرين»، التي تشير إلى مجموعة غير قابلة للتعيين. ترسّبت في ذاكرتي كلمات المعلّم زمنًا طويلًا، وسقط عليها الغبش بعد رحيل الطفولة والصبا. صرت أقول: الطفولة حقبة متسامحة تشهد على زمن مليء بالأسرار وتجمّل الأمكنة. بعد عقود سأبدّل القول: الشيخوخة تساوي بين الأزمنة والأمكنة وتبرهن أن العمر ليلة «كان الصباح لها جبينه».

المعلّم النحيل القامة الذي جمع بين الأقلام والأبطال وانتهى إلى السجن همس في ذهني: سأهبك أكثر من كتاب كي تصبح بطلًا. ابتسم وقال: وَهَبَ أي أعطى بسعادة. كانت الهِبة/ العطاء رواية طه حسين «أديب»، عمله الروائي الأكثر إقناعًا، وآخر لمصطفى لطفي المنفلوطي «في سبيل التاج»، مترجمة بتصرّف عن الفرنسية، ورواية جبران خليل جبران «الأجنحة المتكسّرة»، وأعدادًا من مجلتي «الرسالة» و«الرواية» اللتين كان يشرف عليهما الراحل الكريم أحمد حسن الزيات، ومن مجلة «الثقافة» للمؤرخ الأديب أحمد أمين الذي كتب: «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام»، وتوقف قبيل أن يصل إلى «الغروب».

كانت الرسالة مجلة ثقافية متكاملة، ترضي قارئًا يهتم بالنقد الأدبي، فيعثر على سجال طويل حول بدايات «المقامة» في الأدب العربي، ودور ابن دريد في تأسيسها، وآخر يطالب بنقد سينمائي، وثالث حريص على الجمع بين الحداثة والتراث، ورابعًا يقارن بين الأساليب ويرغب أن يكون «قلمًا – بطلًا» يعترف القرّاء ببطولته، التي لا تسيل دمًا ولا تشجّ رأسًا، وتهذّب أرواحًا نظيفة تعتبر التهذيب مدخلًا إلى سلامة المجتمع.

أسماء رائدة في القصة

عرّفتني مجلة الرواية، وأنا أقترب من الثانية عشرة، على أسماء رائدة في القصة القصيرة: غي دو موباسان، أو. هنري، وتشيكوف، ارتحت في ذاك العمر إلى مترجم مسؤول يدعى: محمود الخفيف الذي ترجم رواية سان أوكزوبيري «أرض البشر»، ونشرتها دار الكاتب المصري التي كان يشرف عليها طه حسين. كانت «الرواية» تختم صفحاتها بترجمة متسلسلة لأوديسّة، قام بها دريني خشبة.

حاولت بدوري القصة القصيرة وهربت مني في بداية الطريق. أذكر أنني كتب قصة فاجعة النهاية عنوانها: رجل القطار، ذلك الفقير الذي تسلّل ليلًا إلى قطار مسرح وسقط تحت عرباته. أذكر أنني بدأت من أو. هنري، المأخوذ بالمفارقات الضاحكة، التي مسحت مفارقاتها بدموع المنفلوطي في كتابه «النظرات». خبأت القصة اليتيمة في أحد كتب مكتبة نهبها «أصدقاء الطريق» على حين غفلة.

طه حسين

استمرت مجلة الرسالة ثلاثين عامًا، من بداية ثلاثينيات القرن الماضي إلى بداية ستينياته، كانت واسعة الانتشار، زهيدة الثمن. سألت نفسي مرة: ما مقدار الجهد الجليل الذي صرفه أحمد حسن الزيات في مجلته؟ ماذا تبقى منه وهو قلم – بطل، ماذا تبقى من مجلّته؟ لم أبحث عن جواب، فقد ردّته الأيام إلى تراب، وردّت مجلته إلى أرشيف مغبر أو إلى لا مكان، واحتضنت القبور قراءها أو معظمهم. رغبت في زمن مضى بالتعرف إلى ملامحه، وقعت على ستيني «مُطربَش» نحيف الوجه، إلى جانبه صورة كتاب عن «تاريخ الأدب العربي»، أو عن النحو والبلاغة، لم أتعمّد التدقيق، فما أردت أن أستعلم عنه رحل وأزيحت آثاره.

ذكّرني مآل الرسالة والرواية والثقافة بجملة من إحدى مسرحيات الروماني أونيسكو تكاد تقول: «وهبك الله مكتبة من ألف كتاب، وفي كل كتاب ألف صفحة، وفي كل صفحة ألف سطر، وفي كل سطر ألف كلمة… وغالبًا ما تحترق المكتبات». مكتبات طفولتي عاجلها الانقراض ولحق بها الحريق «في سنوات متأخرة»، بعد أن أضيف إلى المجلات المذكورة واحدة تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعى: مجلة الهلال.

تميّزت الأخيرة عن سابقاتها «بالصور»، سواء أكانت لكتّاب أو لآخرين يكتبون عنهم. صورة أحدهم كانت لشاب كثيف الشعر حجب عينيه بنظارتين سوداوين، حديث الملبس، يدعى: طه حسين، صورته في فرنسا أو بعد أن رجع منها إلى مصر حاملًا صفة: الدكتور، كانت له صور أخرى، شاب أزهري بعمّة وقفطان أو ما يشبههما، أشهرته سيرته الذاتية «الأيام» وشجاعة في الرأي تضع الأهواء جانبًا وتتخذ من العقل مرجعًا ما زلت أذكره، بعد قراءة «الأيام»، طفلًا أطفأ التخلّف نور عينيه، يقف أمام سياج يلاحق صورًا متلاشية سيصرفها ظلم الحياة ويستبقي عتمة خالصة، أو أن أستعيد ملامحه مقهورًا في كُتّاب البلدة مع شيخ يرمي الصبية بحذاء من مسامير وكراهية ولغة زاجرة. سيساوي لاحقًا وقد غدا وزيرًا للتعليم بين المدرسة والماء والهواء، ويحدّد معنى التعليم، فيقول: لا تعليم بلا ديمقراطية، فهو أميّة من نوع مختلف، ولا ديمقراطية بلا تعليم، فهي سخرية من عقول الأبرياء.

صور الأعمى – البصير

دفعتني صور الأعمى – البصير إلى قراءة روايته «أديب» ظهرت عام 1936م، «وهبني» إيّاها معلمي الصالحُ، حيث الأديب كما رآه حسين، حريص على الاتصال بالناس ومقاسمتهم هواجسه وأحاسيسه. فصل بين «الشيخ» والمثقف الحديث، بلغة مجرّدة أولى، أو بين العمامة والطربوش، بلغة وصفية ثانية، فأحدهما مشغول بالفقه والنحو وأصول العلم، وثانيهما ملتفت إلى اللغات القديمة والحديثة وعلم التاريخ والبحث عن «مستقبل البشر» أو «مستقبل الثقافة في مصر»، بلغة أكثر تحديدًا.

لم يكن بين صورتَيِ المنفلوطي وجبران صلة، سوى حضورهما معًا في مجلة الهلال؛ الأول مرتاح الوجه وافر الصحة يرتدي ما يرتديه أعيان الريف من غطاء الرأس ولباس تقليدي أنيق، وثانيهما أوربي اللباس واضح الشاربين تسكن وجهه نظرة متأملة مع مسحة من شجن. قرأت «عَبَرَات» الأول وأدهشني بلغة واضحة الصناعة تعيدنا إلى القاموس غير مرة، كنا نرى فيها دليلًا ومرشدًا إلى البطولة. ما حيّرني، أكان ذلك في «العَبَرَات» أو «النَّظَرَات» جهد الأديب في صناعة الدموع وتلك القسوة الغامضة التي تستدعي اليُتْم والفقر والمرض وتستبقي الموت للحظة قادمة. إنه «تصنيع الحكاية» لجمهور غفير يستعذب المآسي والبلاغة «المؤسية». من الطريف الذي لا طرافة فيه أن المنفلوطي كانت له حياة ميسورة في بيت واسع كأنه قصر جاءه من زواج عطر الراحة وثير الملمس.

كان في أدب جبران ما يهزّ الأرواح الرقيقة، ويمقت طبائع البشر الخانعة المتوارثة. تأتي عنده «الابتسامة» مسبوقة «بدمعة»، وتصفّق أجنحة العشّاق وترتطم بالأرض حال «الأجنحة المتكسّرة»، التي يعطبها أولًا رَجُل دِين فاسد، وتجهز عليها شرور الإنسان. آمن المنفلوطي وجبران بسطوة القدر، أخذ ثانيهما بصدفة لا تنتهي إلى خير، وارتاح الأول إلى حرارة البكاء. وتوازعا أسلوبين لغويين متناقضين؛ آوى أحدهما إلى القديم، واجتهد جبران في أسلوب حداثي كثير الصور.

انشغلنا «بالأفكار» وتركنا طقوس اللغة

كنا نعاين أساليب الأدباء الثلاثة التي تتكئ على اجتهاد متتابع الخطى، تعطيه الثقافة أشكاله المتنوعة، وتترجم علاقة لازمة بين الفكر واللغة. لم نلمس فيها «تفجيرًا» للغة، ولا لغة خالصة تتأذى من حكايات الحياة، ولا ذلك الادّعاء المريض. انشغلنا «بالأفكار» وتركنا طقوس اللغة للآخرين، ورأينا في الأعلام الثلاثة رغم الاختلاف، قادةً للفكر واللغة. عوّضنا عن اجتهادهم بمحاكاة مجتهدة حرّرتنا منها التجربة التي هي حديث يطول عن العمل والإخفاق، واستئناف العمل ومصالحة الممكن.

مصطفى لطفي المنفلوطي

تأملتُ في كتابة طه حسين أسلوبه المتحوّل الصادر عن ثقافة متعددة الأبعاد أمدّته، في طور من حياته، ببلاغة أزهرية أصلحتها ثقافة فرنسية جديدة الموضوعات، تحتفي بالإقناع ولا توغل في الإبهار. واعتمدت كتابة المنفلوطي على إنشاء عربي قديم ذاتي الطموح، جعله قديمًا ومختلفًا عن القدماء، وترجم جبران ثقافته المتجددة ببيان حديث. أضاءت الأساليب الثلاثة دور الثقافة في بناء الأسلوب، الذي يدور ركيكًا حول ذاته إن اكتفى بثقافة سماعية. فالكتابة من القراءة والكتابة القارئة تعتمد على مقارنة تمايز بين أسلوب وآخر، وموضوع معرفي يملي كتابة تختلف عن أخرى لها أسلوب مغاير. طرحت هذه الأساليب موضوع: الفردية المبدعة، وقلق الوعي الذي لا يختصر الحياة في موضوع وحيد، ويدرك أن الكتابة اعتراف بالذات الكاتبة وحوار مع قرّاء لا يفصلون بين الكتابة والحياة.

كان في النظر المهجوس بالمحاكاة ميل إلى ثبات أسلوبيّ فقير النظر، أملى عليه الوعي الثقافي المتغيّر تبدلًا لا هرب منه؛ إذ لكل موضوع حياتي شكل كتابته، وإذ في الانتقال من اليقين إلى المساءلة دعوة إلى كتابة متحرّرة. أعادت المساءلة الذاتية بصوت مهموس تشكيل أسلوبي بوتائر مختلفة. برهنت الأيام أن الأسلوب من جملة أساليب، ويستمر في التكوّن ولا يصل إلى صيغة أخيرة.

أدركت بعد زمن أن الأسلوب يتكوّن في عمليات الكتابة، وأن من لا أسلوب له لا شخصية له، وأن الكتابة موقعٌ لعملٍ ونظرٍ طويليْنِ، لهما شبه بداية ولا نهاية لهما.

ومع أن الاجتهاد في أسلوب ذاتي اعتراف بذات، لا تريد أن تحاكي أحدًا، فإنّ ذاكرتي القديمة لا تزال تضع أمامي ثلاث صور: طه حسين يقف أمام سياج عماه ويكتب كلمة رائية تقول: لا. تلك الكلمة القصيرة الفاضلة المتأبية التي سيكتب عنها مقالًا متكاملًا بعد عقود. والمنفلوطي «بقُمْبَازه» وعبراته المتواترة ويُبكي الناس بسبب وبلا سبب، وجبران يدعو إلى بدايات ولا يستكملها،…

تجربة في التعلّم وذكرياته، والذكريات انصياع الروح إلى أصوات ينتظرها الأفول