بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | يناير 1, 2023 | سيرة ذاتية
مبتدأ الكتابة ملصق شهيد فلسطيني ذاب اسمه في غيره، ورحلت صورته مع راحلين، احتفظ أهلهم بصورهم وغمرها الغبار، ربما، في أرشيف ابتلعته الأيام.
ومبتدأ الكتابة مقدمة، هكذا علّمنا قدماء العرب من الكتّاب، تجلو القول وتشكر السامعين، لها نهاية تصطنع «عبرة» وتناشد الذاكرة إرجاء النسيان. في مقدمة الكتابة عن الملصق سؤلان: هل تخلق اللغة أسماء مواضيع كانت تجهلها أم إن حاجات الإنسان اليومية تزوّد اللغة بكلمات جديدة؟ لماذا أصبحت مفردة «الملصق» من مفردات الفلسطينيين السائرة؟
جاء بكلمة الملصق العمل الوطني الفلسطيني، في منتصف ستينيات القرن الماضي، وتوالد التنظيمات الواعدة بتحرير فلسطين. بعضٌ اكتفى بالكلمتين الأخيرتين مبدوءة بصفة: «جبهة»، وآخر آثر التحديد فأضاف إلى الكلمات الثلاثة رابعة: «الديمقراطية»، وخامس احتمى بالعروبة وارتاح إلى صفة «العربية»، وسادس توسع في طموحه وألحق بالجبهة نعتًا لا بدّ منه: «الثورية»… كان لظهور الملصقات أسبابها المتعددة: الإعلان عن ميلاد جبهة انفصلت عن أخرى تنقصها الثورية، الاحتفال بتأسيسها بعد مرور عام، تذكير بوقائع فلسطينية لا يجب أن تموت، تستهل بالمجازر وتنغلق بمجازر أخرى،… والسبب الأكثر شيوعًا نشاط وطني توّج بالشهداء…
كانت الملصقات كما وعتها ذاكرة زمن مضى ترجئ العزاء، فالشهداء يتناسلون، ولتوالدهم شكل البداهة، ولصورهم المتكاثرة ما يصادر النظر إليها. وللشهداء من يبكيهم بحرارة، بدءًا بأرملة شابة يروضها الزمن وتتابع حياة شقية، أو ناقصة الشقاء، وانتهاء بأم لا تفلح معها وساطة الزمان، في مآقيها دموع سهلة وفي صدرها «صورة» وعلى جدار بيتها صورة أوسع. ولكل شهيد حزن يلازمه، أو يزامله، منذ أن يغادر عتبة بيته ويعد غيره بعودة سالمة، تخلف الميعاد وتبدل معنى الانتظار. وكثيرًا ما يكون في صورة الشهيد، التي افترشت صورة شهيد آخر، مفاجأة شائكة، كأن تظهر فجأة على غير انتظار، فنقول: رأيته في الأمس ووعدني بلقاء قريب… وكان أنيق الروح…
ملصق الشهيد، الذي أيقظ الذاكرة كتابةً، له مناسبة ومكان وحكاية امتدت في حكايات. عابث الزمن الملصق وتطاير في الهواء، وبقي منه شيءٌ في جيوب الذاكرة، والحكايات قرضها الزمن واستبقى منها صدى، وحافظ المكان على حاله، لم يكن مكانًا فلسطينيًّا.
أذكر مع الملصقات شارعًا قصيرًا، ليس بالشارع تمامًا، حوّلته الأقدار نشرة إخبارية فلسطينية موجزة، تذيع جدرانه كفاح «التنظيمات» بملصقات ملوّنة أو متقشفة اكتفت بالأسود والأبيض. فالمساواة تتجلّى في الموت لا في مقام الشهداء، ولا أحزان الناظرين إلى صورهم.
الشارع القصير المنفتح على جدران الملصقات الراحلة كان فضاؤه يطرح سؤالًا متشحًا بالسواد: إلى أين يذهب الشهداء؟ يتوافدون مع صور، تحتضنها الجدران أيامًا، ويعالجها التداعي فتتدلّى، يقتلعها الهواء، تسقط، ويأتيها ما يصيّرها نثارًا يتبدّد في الهواء. وقد يسأل الوعي الشقي: هل يساوي مآل الشهداء ما صارت إليه «ملصقاتهم»؟ لا يتنازل السؤال عن كلمة: الكرامة وهمس الأرواح المتأسية.
ظلم الزمن وأغلال الوجود
على جدار «الجامعة العربية» في بيروت، الواسع البياض، الذي ينتهي إليه الشارع القصير كانت العين تحدّق في صور الشهداء، تقارن بين الأعمار، يصدمها شاب نحيل الوجه أسمر الملامح ضئيل الابتسامة انتقل إلى «رحاب ربه» وهو في السادسة عشرة من عمره، وتعاجلها صدمة ساخرة، فالذي انتقل إلى «رحاب ربه» قام بدورة تدريبية، في دولة صديقة، لمدة ثلاثة أشهر وما يزيد… والزائد هو ظلم الزمن وأغلال الوجود ومصاير تتقافز في الهواء ثم تغيب. وكثيرًا ما كانت تتلبّسني وحشةٌ خانقة وأنا أمرّ على صور الشهداء ليلًا، أستفسر عن قبورهم وأمنياتهم الأخيرة قبل أن يسلموا الروح ملاحقين بسؤال عادل يثير الشجن: لماذا يقاتلون من أجل وطن لم يولدوا فيه ويعطون أرواحهم في سبيل أرض عرفوها من حكايات أمهاتهم؟ كان عنف المنفى يمدّني بالإجابة يوطدّها بؤس المخيمات وعصا الدركي القبيح الذي يتهم اللاجئ قبل أن يراه ويؤكد الاتهام بلطمات لن يحاسبه عليها أحد. لم أكف أبحث عن الإجابة في “الكتب” التي تعنّف الظلّام ولا تفعل لهم شيئًا.
مؤنس الرزاز
الشارع القصير المفضي إلى الجامعة العربية، يدعى «أبو شاكر»، لطيف المعشر، تسبغ عليه «الطالبات» أنسًا أليفًا، يَسرنَ بتؤدة كأن لها أريجًا، يتبادلْنَ ابتسامات الصباح مع شباب يتقنون الانتظار. والطالبات الليّنات السير يَقْصُدنَ شهادة معترفًا بها متقشفة التكاليف، فانْتَسَبْنَ إلى جامعة الإسكندرية واكتفيْن بفرعها في بيروت، تكسوهنّ تعليقات الأصدقاء بدفء مستريح. كأن يقول الراحل العزيز عز الدين المناصرة: «اتقوا الله في قلوب العذارى فإن قلوبهن هواء». يردّ عليه الكردي سليم بركات «على العذارى أن يتقين الله فينا، وبيننا وبينهن حبل من شوق ومسد». أما الراحل مؤنس الرزاز، صاحب رواية «كاتم الصوت» فكان يكتم صوته معتصمًا بخجل واضح الأسوار. وكان ابن غزة الشاعر الراحل معين بسيسو المديد القامة الصقيل الأناقة، يكتفي بالابتسام قائلًا: «يمكنكم الغداء في بيتي إذا سمح لكم الوقت»، من الجميل أن يلتقي في بيتي ثلاثة شعراء وناقد. يجيبه عز الدين: على شرط ألا يكون الناقد مدفوع الأجر، ينظر إليه بسيسو مستفزًّا لا أجر عندنا إلا حرية القول. كان معين بسيسو في ذاك الوقت اشتهر بجملة تستنكر الصمت المقهور: «أنْت إن قلتها تَمت، وإن لم تقلها مُتْ، قلها ومُتْ».
كان كلام الأصدقاء ينعش النهار برذاذ الرضا قبل أن تمر عيوننا على «متحف الشجاعة والدموع». كان الشاعر عز الدين الخليليّ الروح الرمانسي التمرد يسخر من الشارع القصير فيقول: «يا أخ، لو سمحت إلى أين ينتهي شارع «أبو شاكر»، وهل نحن الآن في أبي شاكر من تحت أم من فوق، وما العلاقة بين هذا الشارع العظيم والشكر؟». كنا نستدفئ بوجوه الصداقة وبكلمات متقاطعة، تسخر من أسماء «مشهورة» لا نتلفظ بها، نضع السخرية جانبًا، نحدّق في «عيون الشهداء» التي عرضتها الملصقات بكرم باذخ على الملأ… كثيرًا ما شعرت أن عين الشهيد تتسع وهو ذاهب إلى الشهادة، وأن صورته في الملصق ليست صورته تمامًا، أُخذت على عجل أو أنه تعجّل في النظر ونسي الابتسامة.
للملصق الذي بدأتُ به الكلام حكاية، غفت في الصدر طويلًا. وأيقظتها الكتابة وبقيت ناقصة. قال الصديق اليساري:
«إن تنظيمه قام بعملية عسكرية في شمال فلسطين وإن مؤتمرًا صحفيًّا عامرًا يقيمه التنظيم في مركزه في الفاكهاني». الفاكهاني الذي لم أكن أعرف مصدر اسمه كانت تتكدّس فيه مكاتب تنظيمية فلسطينية مختلفة مكشوفة ومستورة معًا، استمرت حتى خروج «المقاومة» بعد صيف 1982م، تاركة في العراء مخيمي صبرا وشاتيلا، «منجم الفدائيين»، اللذين أشهرتهما مجزرة ضاق عدد ضحاياها على الملصقات أكانت ملوّنة أم كساها سواد المناسبة.
معين بسيسو
أذكر المكان الذي لم يكن فلسطينيًّا ورُحِّل عنه الفلسطينيون و «المؤتمر الصحفي» اللائق بمناسبة وطنية مكلّلة بالدم والفداء والخطابات الهادرة التي يجدّد بها «التنظيم» عهده بمواصلة الكفاج «حتى النصر». وأذكر كلام «قادة التنظيم»، الذي أعلن عنه أكثر من ملصق، ولا أذكر «ملصق الخطابات»، فالكلام، للأسف، ليس له ملصق، حتى لو كان بليغًا.
الناطق الأول حيّا التنظيم وشهداءه بنبرة صاخبة، أعلن أنهم «أبناء التنظيم» برهنوا أن الابن على صورة أبيه، كما التلميذ على صورة معلمه، الناطق الثاني أعلن بدوره، بصخب أقل، أن ابن التنظيم الطليعي طليعي كتنظيمه، وأكد المتحدث الثالث بكلام مثقف أن «ابن التنظيم لا يكذب تنظيمه»، فهما قلب واحد لجسم متكامل الأطراف، وأن من شبّ على فكرة الفداء يسير إلى واجبه واثق الخطا…
ومع أنني اختلفت إلى مكتب التنظيم غير مرة واختلفتُ مع أسلوبه في الكلام غير مرة صدمني تكرار صفة «ابن التنظيم» أكثر من مرة. تساءلت: إذا كان التنظيم أبا الشهيد فما الذي يتبقى «لأبيه القديم»، الذي تعهّده بالرعاية من ميلاده إلى شبابه، وهل يتحدث عنه بلغة خطابية رنانة؟ وهل تتكلم عنه «الأم الثكلى» بلغة مثقفة أم بتعديد مشبع بالدموع؟
خمسيني كأنه جزء من جدار
كنت وأنا أنصت إلى الخطباء الثلاثة أنظر إلى ذلك العجوز الخمسيني وقد تكوم في الزاوية هادئًا كأنه جزء من جدار، يمر الناس أمامه ولا يتزحزح، صامت بليغ الصمت كما لو كان فقد صوته قبل أن يأتي، متواضع اللباس عيناه غائبتان يسيل منهما دمع لا يرى، شاحب الوجه وفي شحوبه انكسار، ورأس ترتجف ولا ترتجف، كأنها تصحو من ضربة ترجّ الرأس ولا تدميه، ناحل غارق في ذاته ويداه لا أثر لهما، لفهما الصمت أو لم تتعودا على الحركة، يغطي رأسه «بكوفية» فلسطينية فبدا مغطى الرأس مكشوف الروح.
افترشت صور الشهداء الثلاثة الجدار الذي يواجهه، والجدارين اللذين عن يمينه ويساره، وكانت عيناه الباكيتان بلا دموع تحدقان في الصور المنشورة، يغمضهما ويرحل بعيدًا إلى عالم داخلي لا يسمع أصواته إلا هو، يرد عليها باختلاجات الوجه أو بعينيه المرتجفتين انطوى فيهما بكاء لا صوت له.
هيّأت نفسي، تخفّفت من الزحام، فمعشر الإعلاميين وشباب التنظيم سدوا الطريق، دنوت منه وسألت: هل تريد شيئًا أو تنتظر أحدًا؟ صحا من غفوته وازداد رجفان عينيه، شد قوامه واستخرج من داخله صوتًا شاحبًا وحرك يده، التي لا تتحرك، وأشار إلى الجدار: أريد صورة الشهيد الذي في المنتصف، ملصق واحد لو سمحت، هذا الملصق المكتوب في أسفله: أحمد، إنه ابني، استشهد مع الذين استشهدوا، كان قائد العملية ثم غادره صوته. تصوّرته لا يبيع القهوة بقروش قليلة، بل يوزع البكاء مجانًا.
عز الدين المناصرة
أخذ والد الشهيد ملصق ابنه ومضى. مشى هادئًا وقد ازداد ظهره انحناءً، كما لو كان في الملصق الورقي ما لا يقوى على حمله، عمرٌ من الذكريات والأماني وصور وأطياف ودفاتر وأقلام وكراريس تكوّمت مع الابن الراحل في بقعة من «شمال فلسطين»… لاحقت نظراتي خطواته المتكسرة، يقف وينظر إلى الملصق، تتسارع خطواته، يقف وينظر إليه من جديد. تخيّلته يحضنه مع أحزانه، لفّه بعناية، ظل يمسك به وانسلّ بين الجموع.
سألت نفسي بعد أن ابتعد الأب: ما عدد آباء هذا الشهيد الموزّعين على الثورة والتنظيم وألوان البلاغة والتمرد في كل مكان؟ من المحقّق أن أباه الوحيد هو ذاك المرتجف العينين الذي لا يُحسن الكلام ولا تحريك اليدين، ربّاه وعايشه وتبادل معه الملامة والنصح والدموع. ومن المحقق أن أباه أيضًا هي خيمته الفقيرة التي علّمته الفرق بين المهانة والكرامة.
تذكّرت الشهيد أحمد يقترب مني، يحمل مجلة ويضع على صدره «نجمة حمراء» يسألني: ما القراءة التي تنصحني بها يا «دكتور»؟ أجبته -لحسن الحظ- على الإنسان أن يقرأ ذاته وما يريد الوصول إليه، أمّا الكتب فهي منشورة على قارعة الطريق، قوامها حبر وورق وتجارة.
أجابني الشهيد الذي اختُصرت حياته في ملصق وبلاغة ثلاثة خطباء: أتذكّر من الكتب جملة غسان كنفاني: «الإنسان الذي فاته اختيار ميلاده لا يفوته اختيار موته». أشكال الموت كثيرة، ولا أدري إلى اليوم إن كان كلام غسان صحيحًا تمامًا، وهو الذي لم تدعه الحياة اختيار ما شاء.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | نوفمبر 1, 2022 | سيرة ذاتية
ما تستدعيه الذاكرة يأتي ناقصًا، يتسامح الإنسان معها إن كان المستدعى جميلًا.
كانت سيدة فلسطينية متقشفة المظهر والكلام، موفورة الكرامة والوطنية. دعتني إلى لقاء في القاهرة عن غسان كنفاني. كان ذلك اللقاء القاهري بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على اغتيال غسان في يوليو عام 1972م. ولم يكن الحضور في إحدى قاعات «المجلس الأعلى للثقافة» غفيرًا. تحدثتُ عن رواية «رجال في الشمس» التي أعلن فيها غسان عن كراهيته لفلسطينيين ارتضوا «العار»، حملوه معهم إلى المنفى وبحثوا عن أطياف وطنهم بين الرمال، عثروا على موت مهين منع عنهم نعمة القبور.
توفيق صالح
كان المخرج المصري الراحل توفيق صالح أخذ عن رواية غسان فلمه: «المخدوعون»، قبل أكثر من ثلاثين عامًا. أخذتُ على الفلم نهايته التحريضية التي لا تتفق مع منظور الرواية، تلك النهاية التي ترجمها المخرج بضجيج تتصادى فيه الجملة الشهيرة: «لماذا لم يقرعوا جدران الخزان»، التي وصفت غَفْلة هاربين انتهت جثثهم إلى مزبلة. كانت الجملة محتشدة بالغضب والنقمة والتنديد بالوعي الضليل.
بعد أسئلة تضمّنت إجابات ذاتية راضية، وقف إنسان جالس في الصفوف الخلفية وقال: «أتفق مع ما قيل عن نهاية فلمي، ففيها إضافة «بيروقراطية» قبلت بها ورفضتها معًا، ففي طيّات الضجيج لحن واهن حزين لا يُسمع إلا بمشقة. أنا مخرج الفلم: توفيق صالح». أليف الوجه معتدل القامة بسيط الأناقة أذكره، تبادلنا جملًا قليلة وافترقنا وتواعدنا على لقاء. كنتُ شاهدت جميع أفلامه وهي ستة أولها «درب المهابيل» 1955م، حضرته أكثر من مرة، ما زلت أعتبره أفضل أفلامه وأحد الأفلام العربية «الواقعية» الأكثر صدقًا وإتقانًا. استقر في خاطري لسببين: أرشدني إليه «معلم الرياضيات» الذي كان يبدو تلميذًا بين المعلمين ومعلمًا نبيهًا بين التلاميذ، نبيل السلوك واضح العبارة. عاد السبب الثاني إلى مُلصق الفلم الذي افترش لوحًا خشبيًّا واسعًا، احتضن وجهي ذكر وأنثى متباعدين وتوسطه وجه ملتحٍ غاضب ترفع يده عصا طويلة يهدّد بها الهواء. تساقط المطر طويلًا على المُلصق، كما أذكر، تراخى وتمدّد واقترب من التداعي.
وسّع صالح «الحارة المصرية الشعبية» الضيقة المساحة بشخصيات متعددة المِهن، ووسّع عالمها الإنساني بطبائع إنسانية متنوعة. لم يشتق صالح واقعيته من مقهى ولغة فظّة و«فتوّات» متجهمة، إنما قرأها في عوالم المحرومين الواسعة المتناقضة، التي تنظر إلى الأرض باحثة عن قرش مفقود، وترفع رأسها مبتهلة إلى السماء.
جاء توفيق صالح، في اليوم التالي، في موعده، على الرغم من زحام القاهرة. ابتسم ونظر إلى ساعة كبيرة تتصدّر فندق «شيبرد». كانت الساعة الثانية عشرة تمامًا. قصدنا مقهى على النيل، أثنيتُ على «مواعيده الدقيقة»، وذكر بالخير شكري سرحان، الذي عمل معه في ثلاثة أفلام، وصفه بالرصانة، ولفظها بالفرنسية، واحترامه الدقيق للزمن. وأبدى أسفه لتوقف التعاون بينهما. قال: «شعر شكري بالخديعة بعد فلم: المتمردون، المأخوذ من رواية صلاح حافظ. كان عملًا فنيًّا سياسيًّا وأعطيته «السيناريو» متقطعًا، ولم يكوِّن عن الفلم صورةً متكاملة. لم تنظر السلطة الناصرية إلى الفلم بالرضا. لم أتقصد خداعه جاء الأمر كما جاء «وبقيت صداقتنا قائمة…»».
واقعية لا ترتاح لها السلطة
استكمل كلامه وقال: «إن واقعيتي لا تلائم «شباك التذاكر» التجاريّ المعيار، ولا تنظر إليها السلطة براحة، ولا أنظر بدوري إلى المعايير السلطوية براحة». تابع حديثه مساويًا بين الفن والحرية، وبين وظيفة الفن والارتقاء بالقيم والعين السينمائية. تحدث طويلًا عن صداقته مع نجيب محفوظ وسألته: هل ما يقال عن دقة تعامل محفوظ مع الزمن أسطورة أم حقيقة؟ أجاب: كل فنان حقيقي، يحترم الزمن والحياة، فزمن الفنان محدود وما يتطلّع إلى تحقيقه غير محدود، الزمن لا يخدع أحدًا والإنسان الذي لا ينتبه إليه يخدع ذاته…».
صلاح أبو سيف
قال صالح: أفلامي ستة: درب المهابيل، صراع الأبطال، المتمردون، المخدوعون، أخذ فيها جميعها شكري سرحان دور البطولة، وفلم يوميات نائب في الأرياف، وزقاق السيد البلطي، وتوقف عن الكلام مدة. تابع من جديد قائلًا: «لا تُفسر أعمالي القليلة بالكسل وتبذير الوقت، بل بإدارة بيروقراطية تتطيّر من «السينما المفكِّرة» والوعي الاجتماعي الصحيح… كانت تميل إلى «التصالح» بين الطبقات، بالمعنى المبتذل، ولم أقتنع في حياتي بتصالح بين من يأكل أكثر من اللازم وذاك الذي يصارع الحرمان ويحصل على أقل من حاجته». أثنى على الأديب يحيى حقي حين كان مسؤولًا عن قطاع فني أو أدبي، لم أعد أذكر، ولامس سلوك الراحل «صلاح أبو سيف» بشيء من العتب، ولم يتوسّع في الكلام.
سألتُ الراحل الكريم: هل شعرت في حياتك الفنية بالحرمان أو بغيرة من أحد؟ أجاب: نعم للجزء الأول من السؤال ولا للجزء الثاني منه. صمت وشرد وبلَّل منديله بالماء البارد، وقال: كان طموحي أن أحوّل «ثلاثية نجيب محفوظ» إلى فلم سينمائي، أنجزت السيناريو وتقدمت به إلى الطرف المسؤول أكثر من مرة ورُفض أكثر من مرة. أدركت مبكرًا أنني غير مرغوب بي في بيئة إدارية تقوم على التعظيم والتصغير بغير حق. هناك فرق بين التكسّب الفني، وابتسم، والبحث عن الحقيقة بطرق واقعية. ذكر الإيطالي روبرتو روسليني وفلمه «روما مدينة مفتوحة».
بعد أن مسح وجهه بالماء البارد من جديد ضحك وتابع: الغريب أن «محفوظ» الذي أخذتُ «درب المهابيل» عن قصة له، وشارك في كتابة السيناريو، لم يعجبه فلمي لسنوات، وعاد وغيَّر رأيه لاحقًا. استأنف الكلام كأنه استيقظ: هل تدري أن فلمي «المخدعون»، الذي هو عن القضية الفلسطينية، انتقل من صمت إلى صمت ومن لا مبالاة إلى إعراض، ولم يُعرض في مصر حتى الآن. بل لم يُشر إليه إلا بعد عرضه في بلدان غير عربية وتقدير النقاد له؟ بهذا المعنى يا سيدي شعرت بالحرمان ولم أشعر به معًا. لكأنه كان مفترضًا أن يُعترف بي خارج بلدي كي أنتزع اعترافًا من «بعض بلدي». أثنى على الراحل يوسف شاهين ثناءً لا اقتصاد فيه، لم أشعر بالغيرة من أحد، أعرف معنى التنافس وأكره الغيرة فهي ضعف أخلاقي. السينما كالرواية تنشد الحقيقة بالصور واللغة والموسيقا والألوان. سأل فجأةً: هل شاهدتُ فلم «دورسو إيزولا» للياباني أكيرو كورساو؟ سألته: لماذا؟ أجاب: إنه آية على فنان لا يساوم على الحقيقة.
قلتُ له وضوء الشمس ينحسر عن النيل والقيظ متواتر النشاط: ماذا تعمل هذه الأيام؟ أدرّس في المعهد السينمائي كما من سنين. وأقرأ روايات عن فلسطين، عثرت على رواية صالحة رسمت وجع الفلسطينيين وحفاظهم على أحلامهم: رواية ليحيى يخلف عن المنفى والصراع معه والردّ عليه. حين أردتُ أن أتركه قال: لكل إنسان منفاه والمنافي ليست متساوية.
مضطهدون يعيشون حياتهم كمعركة
كلما تذكّرت لقاءاتي مع صالح سألت: كيف استطاع أن يحوّل حيًّا صغيرًا في «درب المهابيل» إلى عالم إنساني فسيح؟ كانت تلك اللقاءات تستنطق السينما المصرية، فأسأل: لماذا أفضل ما أعطته جاء من أنصار «الواقعية»، لا بمعنى «المدرسة الفنية» الفقيرة المعنى، بل من تعاملٍ مع الواقع المصري جمع بين المعرفة المستنيرة والصدق الفني والدفاع عن مضطهدين يعيشون حياتهم كمعركة؟ كنت أستذكر «صلاح أبو سيف»، الذي كان يُخرج فلمًا كل عام مؤثرًا الكيف على الكم، ويوسف شاهين المدافع عن الحق الفلسطيني والباحث عن أشكال فنية متجددة، قارئ السياسة في الفن وقارئ الفن في تجاربه السينمائية.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقبل رحيل «أبو سيف» بستّ سنوات، قابلته في دمشق في مكتب إعلامي فلسطيني بصحبة الراحل عمر أميرالاي. بدا لي موظفًا قديمًا مهمومًا يفتش في أرشيف متعدد الطبقات، ينفض عنه الغبار، ويدفع به إلى فضاءٍ مشمس محتشد بالبشر، تلازمه حقيبة عادية «مدرسية»، إن صحّ القول تمتلئ بملاحظات عن أفلام قديمة وأخرى قادمة وتجربة في الإخراج عمرها أربعون عامًا.
قال أبو سيف، ونحن ننتقل مشيًا بين دمشق القديمة والحديثة: «السينما فن عن الناس ومن أجل الناس»، تتمرد على الفضاءات المغلقة الراكدة، وتتنفس بقضايا السائرين إلى العدالة. في فلمي الواقعي الأول «الوحش»، في مطلع الخمسينيات، خرجت إلى الريف المصري، حيث المنهوبون ينتظرون من يحميهم، وتضاريس الحياة تتسع «للوحش» والمخلوقات الآدمية. رصدت العلاقة بين الإقطاعي الجاف الروح وقاطع طريق لا روح له. وفي فلم «الفتوة» ذهبت إلى «سوق الخضار»، من حيث هو موضوع ومجاز فني، وصوّرت الصراع بين محتكري القوت والذين يقتاتون بعرقهم، وكان «شباب امرأة»، الذي رفعته تحية كاريوكا إلى قمة عالية، مرآة لتداخل الأحياء الشعبية القاهرية و«استئجار الأقوياء» لحاجات البشر الصغار الصغيرة.
لا نعيش بالفن الخالص وحده
سألته: «كيف جمعت بين أعمال فنية رائدة التجديد وأفلام هابطة نلمح فيها «أبو سيف» بصعوبة؟». أجاب: علمتني الحياة أن أعيش لأكون قادرًا على ممارسة «فني»، وضحك وقال بلسان يغمط حتى «السين» قليلًا: لا نعيش بالفن الخالص وحده. فقبل أن أحقق فلمي: «الزوجة الثانية»، وهو من أعمال «أبو سيف» المتجددة الشباب، كان عليّ أن أقبل بأفلام «هابطة»، كما تقول، علمًا أنني أهادن ولا أقبل أبدًا بأفلام هابطة. أُخرج كل عام فلمًا واحدًا، كما يجب ألا تنسى أنني في شبابي كنت «قريبًا» من أنصار «الحرية والعدالة». الإنسان يكبت أحلامه ولا يتنازل عنها، وهو ما حاولت أن أقوله، فنيًّا، في فلم: البداية، حيث «الملكية الخاصة مصدر الشرور».
يوسف شاهين
لا أنسى جملته: «أنا أعمل وأدكّن ما أتطلع إلى تحقيقه». فلا أحد يمتلك شيئًا إلا إذا استطاع أن يبيعه، الموهبة تتوهج ولا تباع، والعمل في السينما يصطدم بالرقابة والمنتج وبمتطلّبات «شباك التذاكر» الثقيلة. وينتظر صدفًا سعيدة. إلى جانب المستشفى الإيطالي، في طلعة المهاجرين في دمشق، والليل قد توغّل في مفاصل المدينة قال أبو سيف: «في الحقيبة التي أحملها سيناريو عن فلسطين عمره ثلاثة عقود، سمعت وعودًا كثيرة ولم ألتقِ بطرف لا يخلف وعده». كان لتوفيق صالح حرمانٌ لازمه إلى أن رحل عام 2013م، وكان لـ«أبو سيف» حرمانه، غادر عالمنا عام 1996م وبقي «السيناريو المعتقل» قابعًا في حقيبته.
اختلف عنهما يوسف شاهين، الذي أجريت معه حوارًا طويلًا نشرته مجلة «الهدف» في حلقتين -على ما أذكر- كان له خصوصيّته، يتحدّث في السياسة ساعات، مبتدئًا بالشأن المصري وحالات الرئيس مبارك، يضع يديه، بعصبية ظاهرة، على ساقين لا تكفان عن الحركة، سيجارته لا تنطفئ، يمسح شفتيه بلسانه بإيقاع دائب منضبط، يكثر من الحديث عن «العمل النقابي» ويثني على شجاعة تحية كاريوكا، ويعلن عن إيمان بالقضية الفلسطينية لا اقتصاد فيه.
كان في هيئة يوسف شاهين ما يميّزه من غيره، طليق الحركة، سريع الكلام، كأنه مُطاردٌ بالزمن، أقل تطلّبًا وأكثر تطلّبًا من غيره في آنٍ. كان له بدوره واقعيته تجلّت في «ابن النيل»، و«الأرض»، و«باب الحديد»؛ أفلام جمعت بين خصوصية مصرية وأبعاد فنية عالمية وخطاب نقدي يحلم «بإنسان مستريح». قال ناقدٌ سينمائي شهير: «السينما هي فديريكو فلليني والباقي أشرطة». لو رأى القائل أعمال «أبو سيف» و«شاهين» و«توفيق صالح» لَمَا قال ما قال. رحل هؤلاء الثلاثة وأنابوا عنهم أحلامهم. والأحلام تعيش طويلًا.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | سبتمبر 1, 2022 | سيرة ذاتية
هل في رحيل الأخيار ما يربك الزمن، أم إن رحيلهم يربك الروح ويستقدم الغبار؟
الراحل المقصود رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، والزمن العاثر. توَسّع نفوذ قاتليه وتمدّد. يذكرني الفنان القتيل بيوم متجدد الحضور، توالد مرتاحًا واستقر طويلًا ولم يؤرقه أحد. يوم من «حزيرانات» متشابهة من أيام 1982م، ليله بهيم ونهاره ترعاه الطائرات، كأنها سرب من الجوارح الكاسرة في يوم ربيعي، تجعل البقاء في البيت خطرًا والخروج منه أشد خطرًا. كان «جيش الدفاع الإسرائيلي» يحيط بيروت يقصف، لاهيًا، ما اقترب وما ابتعد ويخرج سالمًا، ويعلم الناس خشية النظر إلى السماء. كان الإسرائيليون في ذلك الصيف الحار يستكملون «عملية سلام الجليل»، العملية واضحة الآثار، والسلام المنشود مجهول التعريف، ولا يزال معناه مجهولًا إلى اليوم.
قرع إنسان، على غير انتظار، الباب ليلًا، سأل عن سعدالله ونوس، المسرحي السوري العامل في جريدة السفير، ذلك الناحل الذي يُؤْثر الغربة في جميع الفصول. لم أعرف إن كان الطارق صادق الغَرَض أم كان يهرب من ليل يرهق الروح. تخففت من حذري وسرت والظلام والطارق والشوارع الفارغة وهسيس الليل وصمتًا منضبط الخطوات وقصدنا سعدالله في «قسمه الثقافي». كان المكان قريبًا والزمن مجهول المسافة والطارق ذاب في ملابسه وغدا جزءًا من الظلام.
سعدالله كان هناك، جالسًا أمام شمعة، فلا كهرباء، يقاسمه الضوء الشحيح صوت ساخر يضحك ويتضاحك ويردّد صفة: «أولاد الشلّيتة» تشي، بلا خطيئة، برسّام الكاريكاتير فهي أثيرة عنده، كما لو كان قد اخترعها واحتكرها. و«أصحاب الشلّيتة» عند صاحبنا هم الذين يمقتون صدقه ويرمونه بكلام أقرب إلى اللهب، وهم الذين يسخر منهم برسومه ويعرّض برذائلهم بلا اقتصاد.
سألته ذات مرة بجدية منقوصة عن معنى «صفته الأثيرة» فقال: «شوف يا صاحبي، أنا لست مثقفًا، ولا أميل إلى المثقفين إلا صدفة، لم أكمل تعليمي المتوسط، وإنْ أصبحت رسام كاريكاتير فبفضل غسان كنفاني، وعليك أنت «المثقف الأكاديمي» أن تبحث في بحور اللغة عن فعل شلّت». لم أبحث عن معنى الفعل وقست معه الفعل على غيره، ولم يكن له «بالفضيلة» صلة، اعتبرتُ «شلّت» رسمًا كاريكاتيريًّا من رسوم ناجي.
تحالف ناجي، البسيط الكلام واللباس الأليف الحضور، مع براءته كَبُر معها وصاغت تفاصيله، حماها واحتمى بها، وظن أنها تكفيه وتطرد الأذى. ما كفاه كان فنه وسخرية متدفقة وعفوية لا تأتلفُ مع أصحاب الأقنعة، نسي أن البراءة قرينة الأبرياء، وأن لغيرهم رقابًا غليظة وأخلاقًا من صفيح، يعوّضون فقرهم الروحي «بأزلام» على صورتهم لهم مسدسات مستورة ومكشوفة.
رحّل أصحاب الرقاب الغليظة ناجي بعد عام 1982م من بيروت إلى الكويت، وزادوه ترحيلًا من الكويت إلى لندن، وأسلموه إلى حاملي «كواتم الصوت» الذين أطلقوا عليه رصاصًا اقتلعه من هذا العالم وأرسل به إلى مقبرة. أنهت رصاصات النفوس الموتورة حياة ناجي، ولم تنهِ رسومه، وأظهرت أن صفة «أولاد الشلّيتة» لم تكن كافية، وأن الفنان القتيل اكتفى بها تأدبًا.
ملامح الهزيمة القادمة
في ذلك الليل البعيد، الذي مرّ عليه ثلاثون عامًا، كان سعدالله وناجي يتساهران ويرصدان ملامح الهزيمة القادمة، يتبادلان همًّا مستجدًّا ويلامسان همومًا قديمة، والليل قد استقوى وجاوز نصفه. كان المسرحي، يحدّق في قلقه وكان الفنان الفلسطيني يلتف بهواجس وبكلام مرير ويحطّ على بيوت «مخيم عين الحلوة» في صيدا. كان سعدالله ينام دون أن يغفو، ويغفو مفتوح العينين، وكان ناجي يطرد قلقه بتنهدات ضاحكة، وبضحك تنازعه التنهدات. لم يكن هناك ما يسرّ ولا ما يقال، ولا ما يمنع الهزيمة الجديدة وتهجير فلسطينيين من جديد. قال ناجي: رسمت لوحات خمسًا، يستطيع مسؤول التحرير أن يُرضي الرقابة، وأن يختار واحدة منها، فأنا أرسم ما يطفو فوق روحي، ولا أحسن تربيع الدائرة. وعليّ الآن أن أرجع إلى صيدا، ساعة سير في الظلام، لا «حواجز وطنية» هذه الأيام وجنود الاحتلال يستعجلونني قائلين: «أسرع يا ختيار»، ففي شَعْري المبكّر البياض ما يوحي بالشيخوخة، ولا نضرة في الوجهِ: «مَنْ غاص مخيمهُ في روحه غادرته النضارة». لم يكن في حال سعدالله ما يثير الفضول، قلق بطبعه يزوره النوم بعد توسّل، ينام في مكتبه أو في فندق مجاور. ما يوقظ الفضول والأسى «مشوار ناجي»، السائر من مدينة إلى مدينة في ضواحيها مخيم، ومن ظلام مستتر إلى عتمة مكشوفة، لا أمان إلا الصدفة إن كان في الصدفة ما يشبه الأمان.
أشاطرك جزءًا من الطريق قال، أما رسومي الخمس التي أثارت استغرابك فجزء من مهنتي، فأنا لا أسكت على الخلل، ورسومي مرحّب بها إن كانت «محايدة» وأنا لا أعرف الحياد، و«الفنان المحايد تاجر ينتمي إلى الفن زورًا». تابع ناجي: أظن حين أموت سأترك ورائي عشرات الآلاف من رسوم الكاريكاتير، فربع ما أرسم يقبله الرقباء والباقي ينتهي إلى دروج النسيان، أجهد نفسي بالعمل ولا أنتبه إلى ما تبقى، تتعهّده الصدف…
تخيّلته يبتعد وحيدًا يؤنس عزلتَه بإيقاع قدميه ورسومه القادمة، لفّ قامته بالذكريات ودفء العائلة وهاتف الكبرياء. تضيء كرامتُه طريقَه وينير دربَه ببريق عينيه، يعتكز إرادته ويبادل صبيّه الفني «حنظلة» المؤانسة والكلام، ويعدهُ بحذاء يمنع عنه الأذى. تصورت ناجيًا وقد غاص في ظلام الليل يعاتب اللجوء والسماء البعيدة، ويسأل روحه الصبر ويشدّ قدميه إلى الأمام.
بصيرة تتكئ على الحياة
ذهبت إلى جريدة السفير ضحى اليوم التالي مدفوعًا بالفضول وسائلًا الاطمئنان. كان ناجي يرسم ويبني صورة جديدة، يُنطق الحقيقةَ بقلم أسود اللون وبورقة بيضاء وبصيرة تتكئ على الحياة. قال ضاحكًا: «وصلت إلى هنا في الثامنة، سالمًا ذهبت سالمًا رجعت، عانقت الأولاد والعائلة، وألقيت تحية الصباح على المخيم وساكنيه واطمأنيت ]واطمأننت[ على الذين يطمئنون علي»… «بيننا عِشْرة عمر يا خال وتجارب مشتركة وأحزان متبادلة».
لكنه ما لبث أن نطق بكلام استقر في ذاكرتي إلى اليوم: «شوف يا صاحبي، لا يزبط ]ينضبط[ نهاري إلا إذا استيقظت صباحًا على حياة المخيم، ألقي التحية على بيوته المتداخلة وأسلّم على حاراته الضيقة، وأتنفس هواء المخيم وروائحه العطنة ]الصنّة، قال[، أتضاحك مع عجائزه وأسمع نقيق أولاده وأنظر إلى ملصقات جدرانه المكسوّة بصور الشهداء وأتبادل مع الصبايا همسات بريئة… عِشْرة سنوات «يا خال»، واعترافٌ بفضل لا يمكن إنكاره، علمني المخيم ما أترجمه رسمًا، ومن زواياه الرطبة تأتي تعليقات أوزعها على الصور، ومن حدس البسطاء تجيء رؤيتي، المخيم مدرسة بلا كتب ولا معلّمين يحسنون الانصياع. ومن تجاربي فيه تشكلت هويتي. أنا فلسطيني ابن مخيم فلسطيني، أعرف تحوّلاته وصبره وصموده وأسباب انتمائي إليه…».
عبّر كلام رسام الكاريكاتير عن بلاغة المضطهدين، الصادرة عن إحساس صادق يترجمه الكلام عفويًّا. أما الكلام بلا إحساس صنعةٌ قديمة أتقنها المتزعمون، قبل الرحيل عن فلسطين وبعده. والمتكلمون بلا إحساس أطلقوا النار على ناجي في وَضَح النهار.
كان ناجي يحكي ويقلب البصر في الداخل والخارج، يشرد كما لو فاتته صورة وتلمع عيناه حين يجدها ويستأنف ما انقطع، ويظل المخيم حاضرًا في الكلام، يحنو عليه فهو مأوى وملاذ و«لمّة المقهورين»، ويعود ويزجر مخيمه غاضبًا فهو صورة عمّا آل إليه الفلسطينيون الذين كان لهم ذات مرة بيوت وكروم وكرامة وأحلام متوالدة. وعلى الرغم من قبول ونفور كان الفنان الراحل يعانق، صامتًا، مخيمًا مجازًا يعلم اللاجئ ضرورة الرفض والحق في العصيان. كان في المخيم ما يبرهن على لجوء وهزيمة، وكان فيه مقاومة وإرادة في الحياة، إرادة عالية الصوت، دفعت بأصحاب نفوذ، ينتسبون إلى العروبة، يشعلون النار بأكثر من مخيم، ويعلمون أهله الجوع والعطش.
إذا مالت الذاكرة إلى السرد أَنْسنت مخيم «ناجي» ووزعته على طرفين، يبدو عجوزًا عطوفًا، تارة، ترسّب في وجهه الصبر والذكريات ويظهر، ثانيةً مخلوقًا بشع القسمات دفع إلى استصغار اللاجئين وهوانهم. مكان على هامش المدينة يبدو «كعورة» يسكنه الذين فارقتهم الراحة.
تداخل هذان البعدان وأفضيا إلى صفة «أولاد الشليتة» في احتمالاتهم المختلفة، فهم الذين نسوا أسباب اللجوء وتجرّؤوا على اللاجئين، وهم الذين سطوا على حقوقهم وسرقوا «الحليب المنزوع الدسم» ـ حليب إعاشة ـ وهم هؤلاء ناقصو الرجولة يصفعون ابن المخيم قبل التعرّف عليه، حال «الدركي» الذي يكون شيئًا خارج المخيم ويغدو «مسؤولًا مهيبًا» إذا دخله، يستمد رجولته الكاذبة من هؤلاء الذين ظلمهم «التاريخ».
مسافر ببطاقة بلا عودة
للأقدار الجائرة محاسن غير متوقعة. بعد بيروت 1982م ذهبت إلى دمشق ووصلت منها إلى بودابست، و«رُحّل» ناجي إلى الكويت وسُفّر منها، عمدًا إلى لندن. كان مسافرًا ببطاقة بلا عودة، وحيدة الاتجاه، أقلّته إلى ظلم جديد واستراحة من الحياة. التقيته، وهو ذاهب إلى حتفه، في بيت رضوى عاشور ومريد البرغوثي في بودابست، قال ساخرًا ومعابثًا وشاكيًا: «شايف شو عملوا فينا أخوات الشليتة»، سمعتها منه للمرة الأخيرة، فارقتها الأصداء الضاحكة التي كانت تنشرها في زمن سبق، وحوّم فوقها أنين بلا صوت.
في قاعة «الجامعة العربية» في بيروت- الفاكهاني، أثنى، ذات مرة، مسؤولٌ كذوبٌ، يخطئ بالعربية والإنجليزية، على موهبة ناجي الفنية، تعهّد أن يرسله إلى «أعلى المعاهد الفنية في روما»، ردّ عليه ناجي بكلمة من خمسة حروف وأضحك السامعين. وفي زيارة إلى تونس في ربيع 1981م، أراد وفد تلفزيوني أن يسأل ناجي عن «أحوال الضيافة»، وقهقه ناجي قائلًا: «الفاتورة لا تساوي المديح المطلوب، إنها تُشبه هذه الأغنية الهابطة الصادرة عن هذا الراديو… يا ولد أريد حقائبي الآن والعودة إلى صيدا»….
اعتقد ناجي، أن العين تقاوم المخرز، وأن الحق يصرع أرتال المرتزقة المسلحين. لم يكن يدري أن صنعة الاغتيال تردي الألوان والرسامين وشمس النهار وقضية عادلة. تطاير جسد غسان مزقًا في الهواء، وافترش جسد ناجي الأرض، تكوّم على ذاته وترك خيطًا من الدم يسيل على الأرض، يصرخ بأن هناك جريمة، لم تفلح «الإسكوتلاند يارد» في التعرّف إلى مرتكبيها إلى اليوم. في زمن الأرواح الحيّة كان يتدافع الناس على فضح القَتَلة، وفي أزمنة الخراب يصير القاتل المعروف أحجية.
لفظ ناجي روحه بعد نزع طويل، قال أحدهم، وكان شاعرًا عاش في مخيم: «إنه يشبه القطط وله سبعة أرواح». لفظ الشاعر المفترض روحه قبل مصرع ناجي، سقطت منه وهو خارج من مأدبة، ولم ينتبه أنه صار مأدبة أخرى زهيدة الثمن. دفن ناجي في «قبر فلسطيني» في أرض إنجليزية يتقن أسيادها البلاغة والخديعة. فلولا وعد بلفور لما انتهى ناجي إلى مخيم، ولولا تداعي قيم المتسلّطين لما وريَ التراب في قبر شريد. ولولا «أولاد الشليتة»، بصيغة المفرد والجماعة لبقي مع عائلته ورسومه وفتنة الخطوط.
علّق ناجي، رسمًا على جملة امرئ القيس الشهيرة: «اليوم خمرٌ وغدًا أمرٌ»، فأصبح الغد أكثر خمرًا وأقل أمرًا، وفقد اليوم الذي يليه الذاكرة واستقر في السديم، ثم تدحرج إلى مكان لا تعرفه الأرواح الكريمة.
تتجلى الأعمال الروائية الكبرى في نهاياتها، يتكامل جمال الشكل واتساق المعنى. تقرأ حياة ناجي العلي الكبيرة في نهاية جمعت بين الرفض والعصيان، والإبداع والكرامة ردّت على سياق مطأطئ الرأس مذاقه كالحنظل.
هامش: في هذه الأيام يكون قد مرّ على رحيل الفنان الفلسطيني المغدور 35 عامًا.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | يوليو 1, 2022 | سيرة ذاتية
ما زلت أذكره واقفًا في بقعة شحيحة الضوء يتّقي المطر بمعطف مطري وتمسك يده حقيبة مدرسية، ستبدو امتدادًا ليده أو تبدو يده من دونها مبتورة. يعود ذلك المساء إلى سبعينيات سعيدة من القرن الماضي. وأذكره في وداع أخير متلعثم الكلمات في «مصحة» في مدينته مونستر شاحب العينين مخذول الصوت منكمش القامة. بين اللقاء الأول والوداع الأخير صور وفرح وبوح وأحلام وعشرون عامًا، وأكثر من حوارٍ ولقاءٍ وفراق.
كان المطعم الجامعي، المجاور لجامعة تولوز، يغلق أبوابه في الثامنة، تقف على بابه عجوز أليفة الوجه أنيسة الوجود، تستعجل تلاميذ متباطئين؛ كي لا تفوتهم وجبة المساء. كان مطعم «الكلو»، هكذا يُدعى، يقبل بأرقام مزدوجة: تلميذان أو أربعة على طاولة واحدة، تشرف عليه أربع نساء شاركن في مقاومة الاحتلال النازي، قبل ثلاثين عامًا، يعاملِنَ التلاميذ بأمومة دافئة، ويُقدِّمنَ طعامًا كريم المذاق.
اقترب مني وقال بنبرة مبتلّة: يمكننا تقاسم طاولة أخيرة. على الطاولة مسح نظارة طبيّة، عدستاها دائريتان ضيّقتان، وقال: أنا ألماني اسمي: فيرنرغلنغا وأضاف بابتسامة متلكئة: فيرنر بالألمانية معناه «المحارب». بدا أشقر الشعر أقرب إلى الطول عريض الوجه بفم بارز نظيم الأسنان افترش وجهًا واضح الشحوب، يكمل قامة ناحلة، استقرت في منتصف أنفه ندبة ظاهرة، كأنها أثر لعراك أو صدمة غير متوقعة. حين رفع نظارته أعلن عن عينين حزينتين مسكونتين بزرقة عميقة هادئة، وبحيرة غامضة الأسباب. أعاد نظارته، التي مسحها أكثر من مرة، وقال: عندي منحة دراسية فرنسية وأعدّ دراسة عن: «النقد الأدبي في المنهج البنيوي». كان ينطق الفرنسية بنبرة باريسية خالصة.
رولان بارت
أجبته: أنا من فلسطين وأحضّر دكتوراه عن: «الاغتراب بين ماركس وهيغل»، أسأل عن الإنسان الذي فقد جوهره ويعمل على استعادته وأرى معنى «الجوهر»، في الحالين، غائمًا. صرّح وجه الصديق الألماني بالرضا، وقال: «كنتُ في جامعة مونستر عضوًا في تجمع طلابي يدعم «اتحاد طلبة فلسطين»»، واختصر الأخير في حروفه الأولى U.P.S. أكمل: لم أفهم المشروع الصهيوني إلا على ضوء فلسفة الاستعمار الإنجليزي، الذي يعتقد سادته «أن الكذب بلاغة الأقوياء في الإقناع»، فلا يكذب بطلاقة إلا ذو ظهر متين، و«أن البلاغة قهر الضعيف بالحد الأدنى من السلاح». كانت قوة الصهاينة من قوة البلاغة الإنجليزية، وكان أهل فلسطين عراة من الكذب والبلاغة معًا.
قلتُ: إن مراجعي في دراسة الاغتراب هما ماركس وهيغل، لا موقع فيها لثقافتي العربية إلا إذا رجعت إلى «المتصوفة»، الذين يغسلون قلوبهم ويتطلّعون إلى الله، والدليل في دراستك أوربي الهيئة والأصول، صوته الأعلى: رولان بارت، الذي بدأ وانتهى ماركسيًّا منقوصًا. جاء صوته هادئًا: نرمّم دائمًا نقصًا بنقص ترميمه أكثر صعوبة. النقص الإنساني متفاوت الأزمنة، قال: فمقامات الحريري ترجمت إلى الألمانية من زمن بعيد، وقرأ ماركس، أو إنجلس، سيرة «عنترة العبسي» العبد المقاتل الحالم بالحرية، وتعرّف «غوته» على الآداب الشرقية وكتب «ديوانه الشرقي»، وعرّفتني القضية الفلسطينية على مأساة الحقيقة، التي تولد بين البشر وتنتهي إلى المنفى.
حياة بلا مذاق
حين سألته عن فلاسفة الاغتراب الذين يكتبون بالألمانية اليوم أجاب ساخرًا: لوكاتش هنغاري يكتب بالألمانية بأسلوب متجهم، اختصر حياته في العمل واستبقى للحياة فتاتًا بلا مذاق. حَلَّلَ الاغتراب في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي». وهناك إرنست بلوخ له رأس كجذع شجرة سنديان وصوت زائر كالأسد، وتأمل الاغتراب في كتابه ميراث من زمننا. أما إرنست فيشر، وهو نمساوي، أقرب في شكله إلى ضفدع مبحوح النقيق. تعرفه طبعًا في كتابه «ضرورة الفن». ختم كلامه بإشارةٍ إلى دراسته «تاريخ النقد الأدبي الألماني»، بمنحة من الحكومة الألمانية، يرى فيها الأدب مزهرًا والفلسفة معاناة قاحلة، ونظر إليَّ معتذرًا. الحياة ملوّنة، كان يقول، تصرّح بجمال يخطئه محترفو الكتابة ويستشهد طويلًا بفالتر بنيامين منتهيًا إلى مفارقة لم يقصدها. مارس بنيامين جمالية المساءلة وعاش تعيسًا.
حمل بنيامين في مساره مفارقات متعددة، لم يسبح مع التيار وما أفلح في السباحة ضده. عشق مرتين وتزوّج مرتين وطلق مرتين وندب حظه مرات. اجتهد في أطروحة دكتوراه عن الدراما الألمانية، نشرت بعد موته باحتفاء كبير. رفضتها في حياته جامعات ثلاث حتى عاف المرافعة عنها واستجار بالمكتبات، مكتفيًا بحياة متقشفة، «بائسة»، كما قال غير مرة. أجبرته النازية على الانتقال من برلين إلى باريس، ولم يرتح إليه الفرنسيون وزجّوه في «معسكر للمهاجرين الألمان»، وانتقل مجددًا منها إلى تولوز. ولأنه كان يرى الشر في كل مكان تابع إلى مارسيليا، حيث التقى سريعًا ابنه الوحيد ونسي توديعه، مسرعًا إلى الحدود الإسبانية، حيث لم يسمح له القائمون على شؤونها بالعبور. وصل إلى «بورت- بو» البلدة الإسبانية وقد نزف جهده وأمله وأغلق أبواب الحياة، فابتلع يأسًا قاتلًا، وانتحر في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1940م، وله من العمر ثمانية وأربعون عامًا. دُفن بعد يومين في مقبرة كاثوليكية، استؤجرت لمدة خمس سنوات، ولم يعثر على رفاته أحد. كان موته تعليقًا شاملًا على حياة تبدأ بالحلم وتنتهي بعذاب يقترب من الجحيم.
مخطوطات بنيامين الأخيرة
تذكر ليزا فتكو، في مذكرات نشرت عام 1980م، أن حقيبة «بنيامين الأخيرة» كانت تحتوي على أوراق ومخطوطات لم يعثر عليها أحد. وتذكر صديقته الآنسة «غورلاند»، التي اقتفت مساره الحزين، أن ما تركه وراءه من أوراق ومخطوطات حُرِقَت كي لا يضع «الجوستابو» يده عليها. ويعرف دارسوه أن دار النشر الألمانية «تسور كامب» أصدرت أعماله عام 1992م في أربعة عشر مجلدًا، أنجزها فقيرًا شحيح الاستقرار. واعترفت الشرطة الإسبانية أنها عثرت في محفظته على قدر قليل من المال غطى «تكاليف قبر مؤقت» في منطقة غريبة لا يعرفه فيها أحد.
جورج لوكاتش
لازمته مفارقاته المتجهمة حتى النهاية، ولفظ أنفاسه في بقعة نائية، وهو الإنسان المديني وعاشق المدن، التي كرّس لها نصوصه الأكثر جمالًا وإدهاشًا، بدءًا بـ«صور الأفكار»، وصولًا إلى أخرى عن: «برلين، موسكو، مارسيليا، فايمار، وبداهة باريس» العاصمة الثقافية، التجارية، والسياسية للقرن التاسع عشر…»، التي خصصّ لها أعماله الفلسفية ابتداءً من 1928م حتى اللحظة الأخيرة من حياته. رأى بنيامين في المدن تكثيفًا كاملًا للحياة في وجوهها المتعارضة، إذ الشاعر يحدّق في الجموع، والرسام يلتقط صورًا متحركة، وللبَطَر مكانه ولجامع الأسمال موقعه أيضًا، وفي جوار النهر مكتبات متعاقبة، والمخازن محتشدة بسلع «تغمز» الناظرين إليها. كما لو كانت المدينة تُؤَنْسِنُ الأشياء وتُحوِّل البشر إلى بضائع. ولعل علاقات المدينة، القائمة على البيع والشراء، هي التي اقترحت على بنيامين دراسته: «العمل الفني في زمن الاستنساخ»، حيث «الصور المفردة» تتكاثر بأدوات تقنية.
«على العقل أن يكون مفيدًا، أن يعقل الحاضر والماضي وما سيأتي». هكذا قال بنيامين، دون أن يدري أنّ موظفًا إسبانيًّا فاسدًا يبحث عن «رشوة» سيدفعه إلى الانتحار، ويقضي على عقله أن يكفَّ عن التساؤل.
فالتر بنيامين عليل النجم معتّل الأقدار، طارده مآلٌ مفترس كمخبرٍ كاسر يتلهّى بتكسير أصابع الأطفال وإلقاء المتفجرات على الحدائق والمكتبات. هجس طويلًا بإنقاذ التاريخ من الهلاك وأهلكه التاريخ المستبد عندما أراد. ربما كان القلق الذي يقطر دمًا هو ما شدّ إليه صديقي الألماني الذي اقتلعه مرض السرطان من الحياة وهو في الرابعة والأربعين.
آثار صديق
كان فيرنر يحتفي بجديده من لباس وطعام وآمال ويقول بالألمانية: (دي موتر): الأم التي أرسلت إليه ما احتفى به. هذه الأم، التي جاءت من برلين إلى مونستر، عند وفاته، حملت قمصانه وورثت كلبه «يوكو» وعادت إلى برلين. انفصلت أمه عن أبيه وهو في الخامسة من عمره، آثر الأب البقاء في برلين الشرقية وتعاليم ماركس، واختارت الأم برلين الغربية واصطحبت معها ابنها النجيب. كان الابن يهمس باسم الأب همسًا يخالطه العتاب، ويرفع صوته باسم الأم كأنه نشيد، وينطق باسمه «المحارب» ناظرًا للسماء.
عشق فيرنر الحياة والصداقات وتنوّع المعرفة وحلم بمستقبل أكاديمي «متأخر»، متين الأركان. فبعد الطالب «الممنوح» ودراسة النقد الألماني، درس النقد الفرنسي بمنحة جديدة، استكمله ببحث عن «دانتي»، بمنحة إيطالية ثالثة قادته إلى أخرى في لندن مع موضوع جديد: «صور تشكّل الرواية في العالم الثالث». لم يشأ منحة «خامسة»، قصد صديقه «روجيه» في الكاميرون ودرس ثقافة بلده، وجاء من إفريقيا إلى دمشق مع زوجته الألمانية «كريستيانا»، أكبر منه عمرًا، اعتبرها السعادة المنشودة في طورها الأعلى، بعد أن طلق زوجته الإنجليزية -الشابة التي فتنه جسدها- وارتاح إلى جملة متفائلة: «الحب الحقيقي يعيد بناء الأزمنة».
حين بدأ التدريس في «جامعة بايرويت» الألمانية كان قد أكمل الحادية والأربعين، واستكمل «معرفة أدبية ضرورية»، كما قال. بعد عامين من التدريس غزاه «المرض القاتل» وهو لاعب الكرة المحترف، العدّاء الغطّاس متسلّق المرتفعات، المقتصد في الطعام والشراب والكاره التدخين والسهر…، القائل: «إن جمال الحياة عصيّ على التعريف»، وإن دور المثقف إقلاق «الأرواح الميتة».
شارل بودلير
خلّف بنيامين وراءه مخطوطات ضائعة وأحلامًا محترقة ودراسات تبحث عن نهاية. وأنجز دراسته الشهيرة: شارل بودلير «شاعر غنائي في ذروة الرأسمالية»، أدرج فيها تصوّره عن «الإنسان المتسكع»، الذي هو إنسان غُفْل ذاب في الجموع، حال السلعة التي يحولها السوق إلى متسكع آخر. وقصد إلى عمل واسع عن باريس قوامه «استشهادات» مأخوذة من دراسات مختلفة، أراد توليد قوله مما قاله الآخرون وترك وراءه عملًا واسعًا غير مكتمل عنوانه: «الممرات». استغرقته شوارع وحواري ومكتبات مدينة الحداثة، وعطف عليها حداثة «بودلير»، وقال: «باريس قاعة للقراءة هائلة، كأنها مكتبة يخترقها نهر السين».
كان قد أسرَّ إلى صديق أيام الشباب: «أريد أن أصبح الناقد الألماني الأكثر أهمية والأعلى مقامًا». أخذ حلمه بجديّة، وسقط عليه مكر الوجود، حاصره ومزّق دروبه وتركه منتحرًا في بلدة مهجورة. «ها أنا ألفظ أنفاسي الأخيرة بعد أن غدوت عاجزًا عن المسير». كلمات في رسالة وصلت متأخرة.
الصديق الألماني، قبل رحيله بعشر سنوات، كان يضيق بذاته، يوبّخها قائلًا: «على الذين يريدون أن يتركوا آثارًا أن ينجزوا ما يدل عليهم بنظرية تحمل اسمهم. أراد بناء نظرية الكتابة بعامة، وفي الأدب والنقد الأدبي خاصة. دار طويلًا، وسهر كثيرًا، وبحث عن نظرية في الكتابة مؤكدًا أن الكتابة ضرورة للأرشيف الرسمي الذي جعل الكتابة ذاكرة سلطوية يسجل ما قاله كل مواطنٍ وما سيقوله. على خلاف القول الشفهي القابل للتأويل، فهو كلام حر لا تقبل به «الأقبية المغلقة» وينفتح على المستقبل.
ترك فيرنر وراءه مكتبة بلغات متعددة، وملاحظات على صفحات الكتب كانت واعدة. رجع بعض كتبه إلى أمّه، قارئة الروايات، واختار والده بعض كتب ماركس وبريشت، أودعها في حقيبة وخرج حزينًا، وحمل كاتب هذه السطور كتابًا ثقيلًا صفحاته من أثير عنوانه: تأسي الصديق الحي على الأصدقاء الراحلين.
استهل المخرج الياباني أكيرا كوروساوا فلمه «دورسو أوزالا»، وقد شاهدناه أنا وفيرنر معًا، بإنسان روسي يفتش عن آثار صديق. «هنا كان قبره» قال، «مسوّرًا بالأشجار»، وكانت الأشجار عاليةٌ خضراء… ردّ عليه عابر طريق: الأشجار التي كانت هنا احترقت، ورمادها توازعته الريح ونشرته على الجهات الأربع.
بواسطة فيصل دراج - ناقد فلسطيني | مايو 1, 2022 | سيرة ذاتية
هذه مدينة يُلحقها جمالها بالسماء، نَضِرة الوجه نبيلة المحتوى. قال جملته المطمئنة ومضى، وختم اللقاء بقهقهة كأنها النشيد. كان صديقًا في أيام الشباب، تقاسمت معه الاجتهاد والأحلام وكتبًا حنونة الملمس تهجو الرأسمالية وتمدح الاشتراكية، تبدأ بكتاب أوستروفسكي: «والفولاذ سقيناه»، الذي أصمته الزمن، ولا تنتهي «بالعقب الحديدية» لجاك لندن، وتخلق من الفولاذ والحديد انتصارات قادمة. أذكر اليوم من تلك المدينة «دانوبها الأزرق»، ولغة قريبة إلى التركية لا تغوي بتعلمها، وصديقًا عراقيًّا متقشف المعيش منضبط الأناقة، وأسماء هنغارية يستثقلها اللسان، ومفارقة تقول: الذي يأنس كثيرًا إلى «بداية» الطريق تداهمه الوحشة بعد سير قصير.
كنت أتأمل النهر المتجمّد شتاء وأحدّث نفسي عن الماء المعتقل، الذي يحرّره الربيع ويعود الشتاء ليعتقله من جديد، وفي الربيع كنت ألاحق كتلًا جليدية تتدافع فوق سطح النهر، ذاهبة إلى حيث لا أعرف كأنها أحزان مهاجرة، وأتذكر معلمي القديم، الذي كان يَظْلَع في مشيته ويسألنا فرحًا: متى نحمل الماء في الغربال؟ وأشفق على طيبة المعلم وبراءة السؤال.
كان صديقي العراقي يفاجئني، شتاءً، ساعة الغروب ويسأل: هل ما زلتَ تحاور الماء المعتقل وأجيبه: أنتظر تحرّره، فليس بين دورة الفصول وسجون أنصار الظلام علاقة. يُكمل كلامه بصوت أسيان شعرًا: «هي الأمور كما شاهدتها دُوَلٌ..»، يترحّم على الشاعر الأندلسي ابن زيدون ويتابع: كنا نرفض، شبابًا، النظام الملكي، ونتضاحك مساء على ضفة دجلة. ونستعجل الثورة وافتقدنا، في زمن الكهولة، دجلة وعبث بنا المنفى، وأدركنا، في زمن الشيخوخة، أن عراقنا رحل ونحن راحلون إلى قبور مجهولة.
كان الصديق الراحل علي الشوك، الذي مات في لندن، يجمع بين العلم والأدب، أوغل في الدراسات اللغوية وعلم الأساطير، ونشر رواية «السراب الأحمر» 2007م أشبه بالسيرة الذاتية. التقيته في بودابست، لمدة عامين، بعد رحيلي عن بيروت في صيف 1982م، وحصولي على منحة من أكاديمية العلوم لدراسة «مثقف عالم الثالث». اعترض «علي» على العنوان ضاحكًا وقال: «مثقف عالم لا يكفّ عن التقهقر». كان ثالثًا وهو اليوم رابع ومستقبله خامس حافي القدمين.
قال الصديق العراقي، الذي عرف بودابست قبلي وبقي فيها بعدي: يمكن أن تنخفض درجة الحرارة في الأيام القادمة إلى ثلاثين تحت الصفر، وفي بودابست «يا معوّد» -مؤكدًا عراقيته- بيت الناقد الماركسي الشهير جورجي لوكاتش، يمكن أن تزوره. ويعود فيمزج العربية بالإنجليزية ويكمل: المدينة قسمان بودا وبست، أحدهما أكثر حداثة من الآخر، ويمكن أن تذهب إلى مكتبة الأكاديمية أو أن ترتاح في «جزيرة مارغريت»، الأشبه بغطاء أخضر مكسو بالهدوء، واسم الشارع الذي تقطنه «تشا لاغونية أوتسا»، أي: شارع العصافير…. وفي بودابست «يا معوّد» متحف الأفلام، سترى فيه ما تريد، وتوقف ليقول: يعرض الآن فلم «شارع الغروب»، فلم لطيف شاهدته by the way حين كنت أدرس الرياضيات في جامعة بيركلي، نهاية الأربعينيات، يلعب فيه وليم هولدن الممثل الوسيم الغريب الأطوار، مات في شقته السرية، ولم يكتشف موته أحد إلا بعد أيام.
كنتُ أقصد «متحف الأفلام» مشيًا، لم يكن بعيدًا من «شاعر العصافير»، تستغرقني فيه ملصقات الأفلام القديمة، كان صديقي يقول «الأشرطة»، تتراصف تباعًا، باعثة في الذاكرة أزمنة، أكثرها دفئًا «زمن المراهقة» الذي يقنع المراهق أن حكايات «الأشرطة» تتحقق في أيام مشمسة قادمة. أذكر ملصق فِلْم «جسر واترلو»، لروبرت تايلور وفيفيان لي، وأقوم بتبديل نهايةٍ تباعد بين العشاق، وملصق فِلْم «كاري» وجملة لورانس أوليفييه الموجعة: «النفاذ إلى العشق الحقيقي يجعل عذاب العاشقين تجربة سماوية جديرة بالسجود».
قاعة واسعة مغمورة بالضوء
لم تكن مكتبة الأكاديمية بعيدة من «سكني»، أقطع جسرًا فوق نهر الدانوب فأكون أمام بناء له أبهة، وقاعة القراءة واسعة مغمورة بالضوء تجلس في مدخلها سيدة لطيفة سميكة النظارة الطبية، تختلف إلى غرفة المدخنين وتخرج منها مع ابتسامة معتذرة. في مواجهتها قسم صغير خاص بالكتب العربية، قرابة ثلاثين وأكثر من قاموس، ودعوة هامسة إلى تصفحها. من بينها «أيام طه حسين» التي وصفت تلميذًا يرعبه اجتياز الطريق، و«حصاد الهشيم» لإبراهيم عبدالقادر المازني، الذي أوجعه خروج الفلسطينيين من ديارهم، و«الشراع والعاصفة» لحنا مينه، إهداء منه بلا صورة متوجه «بوقفة عز» وسيجارة لا تنطفئ، و«سارة» العقاد، روايته الوحيدة، هجا مكر النساء وأثنى على ذكورته المتفلسفة.
شكرته في داخلي لأنه وضع في خمسينيات القرن الماضي مقدمة لكتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» في طبعة تونسية،… كنت أشعر وأنا أتصفح الكتب العربية القليلة بأنفاس آخرين ألقوا عليها السلام ورحلوا، وأن الكتب تقاسمني غربتي وأقاسمها ألفة متبادلة وأشعر بالرضا… على مقربة من السيدة السميكة النظارة طاولة زجاجية، افترشت سطحها كتب لجورج لوكاتش، بالفرنسية والإنجليزية ولغات أخرى، مختلفة العناوين، تتراصف أنيقة الأغلفة، يتوسطّها: «تحطيم العقل»، في جزأين غلافهما أزرق كامد، وأكثر من طبعة لكتابه الرومانسي المعادي للرأسمالية: «نظرية الرواية»، وكتاب من شبابه الأول «الروح والأشكال» الذي قرأ بعضٌ فيه فلسفة لوكاتش الجمالية.
علي الشوك
السيدة التي تعتذر إلى نفسها إنْ لم تدخن، وتعتذر، ابتسامًا، من الآخرين إذا دخنت، تعودت على ما أقوم به: المرور على الكتب العربية عند الدخول، وإلقاء نظرة على كتب لوكاتش لحظة الخروج. قالت لي ذات صباح أقل برودة من غيره: لماذا لا تزور بيت الناقد الكبير؟ أعطتني العنوان مع جمل مشجعة. تذكرت بيت كارل ماركس في لندن، الذي زرته في اليوم الثاني لوصولي في منطقة كأنها مهجورة، أمامه تمثال كُسِر الأنف فيه وأعيد إلى مكانه على عجل، فبدا مهجورًا ومهملًا. لا يزال على حاله ولم يلحق بفكر ماركس الإهمال. فقد تسقط التماثيل ولا تسقط الأفكار الصحيحة، التي لا تحتاج إلى تماثيل.
موائد متلاصقة في غرفة واسعة، ولا أقول قاعة، عليها كتب لوكاتش في ترجماتها المختلفة في طبعات قديمة وحديثة وأغلفة رسائل من أسماء شهيرة وأوراق كتبها بالهنغارية أو الألمانية، وبعض الصور، وصفحات من كتاب لم يتح له المرض أن يكمله ذكرتني بقوله: «على الإنسان أن يغسل ملابسه الداخلية بيديه، وألا يدع سيجاره ينطفئ، وألا يبدأ بعمل إلا وأنهاه».
بدت الغرفة الواسعة باردة، لا أصداء فيها ولا أطياف، رقدت فيها كتب متباينة اللغات أشبه بأكوام من حبر وورق، وهدوء منضبط الأطراف ولا زوار وثلاث نساء، كأنهن «واحدة» تكوّمن قرب نافذة أمامهن دفتر وقلم وحيد. اقتصدن في الكلام ثم أفرجت أفواههن عن ابتسامة أمام زائر يسأل بالفرنسية وزادت الابتسامة اتساعًا بعد عطف اللغة على جامعة فرنسية. تراجعت الابتسامة حين عَرَفْنَ المكان الذي جاء منه الزائر، الذي هو أنا، ومحت إجابات تالية الابتسامة كما لو كانت «اللغة المتحضّرة» لا تشفع لإنسان جاء من بلاد «البداوة»….
آلة من كلمات
واجهتُ سيدة النظارة، في اليوم التالي، بصمت متجهم فأجابت: وقعتَ يا سيدي على حزبيات لا على شيوعيات. أَصلَحَتِ استغرابي بإيضاح طريف: كان الرفيق بريشت، أظنك تعرفه، يفصل بين الحزبي والشيوعي؛ إذ الأول آلة من كلمات يثني على ما يعرفه وما لا يعرفه، وينفق الثناء على مشترياته اليومية، وكلما أوغل في الثناء الحزبي تنوعت مشترياته، دائم الحزبية وتسلق الكلام، بينما الثاني يدرك «صعوبات الحقيقة» كلما اقترب من الحزب ابتعد الحزب منه وابتعد بدوره من حزبه المتخيل. قالت: ربما السيدات الثلاث من جماعة «آغنش هيلر»، تلميذة لوكاتش «السابقة» التي أتقنت في السنوات الأخيرة السياحة الفكرية «الديمقراطية». أكملتُ: الحزبيون يهدمون ما قمنا ببنائه ويدفعوننا إلى «تقاعد مبكّر».
قابلني عالم الاجتماع الشهير إمري مارتون، الذي تقاعد مبكرًا، وبين يديه طفل غامق السمرة، ابتسم وقال: «ابن ابنتي المتزوجة من طبيب إفريقي». أكمل بفرنسية جميلة النطق: ما أخبار أنور عبدالملك، هل عاد من اليابان؟ قطع معابثته: كتابه «الديالكتيك الاجتماعي» عمل نظري لم يقابل بما هو جدير به من اهتمام. سوّى من جلسته واستأنف لهجة ساخرة: نظامنا الاشتراكي صحح أفكار ماركس قليلًا: فبدلًا من دكتاتورية الطبقة العاملة جاء بدكتاتورية على الطبقة العاملة، ووسّع نظرية «فائض القيمة» إلى نظرية «استباحة القيمة»، «والمثقف ضمير الشعب»، بلغة غرامشي، أصبح عندنا ضمير الصاعدين إلى مواقع السلطة، يختصرون فكر ماركس في جمل جاهزة منقطعة عن المعيش اليومي. تابع بعد توقف: يبدأ المجتمع بالانحلال حين يعامله المستفيدون منه بكراهية جاهلة. هذا لا يعني أنني متشائم فهناك، كما ترى، براءة الأطفال، والتضامن بين إنسانين من بلدين مختلفين، وفي هنغاريا كثير من النساء الجميلات اللواتي لا تتوقف «الدراسات النظرية» أمام شعورهن السوداء وعيونهن الخضراء….
قال وهو يودعني، رافعًا يد الطفل الأسمر: نصيحة لك: بلادكم فاتها قطار التاريخ، فلا ترهق روحك بأمور عقيمة المردود. تأملت، لاحقًا، جملة «مارتون» عن المجتمعات التي يعاملها المستفيدون منها بكراهية، وسألت: متى تصبح المجتمعات وطنًا، لماذا يستبيح إنسان أرضًا أعطته قيمة وألقابًا وثروة وهل هو صمت الأرض أم تسفّل الذي يقتلعون أشجارها؟
ترددت في بودابست على «مطاعم العمّال» الجيدة المستوى الزهيدة الأسعار، ومشافٍ مجانية تعاين جهات المريض الأربع، ومترو ودور للسينما وكتب زهيدة الأثمان وترددت على مسامعي أشواق هنغارية كثيرة إلى «سلع جميلة»، أكانت وهمية أم حقيقية. وسألت: هل هو طمع البشر أم فقدان النظام لمصداقيته أمام الناس؟ أم إنه الاهتمام السلطوي بالأشياء وعدم اعترافه بالبشر؟
ولعل عدم الاعتراف الذي يدع المواطنين مع أسئلتهم المخنوقة هو الذي يجعل من علبة البيبسي كولا وسامًا، يتباهى به المتفوقون، ويحشر البشر في صفوف طويلة لشراء «هامبرغر» من مكان صغير في زقاق ضيق سيئ الرائحة، ويحوّل الكلام باللغة الإنجليزية إلى سلعة ناعمة الملمس أو هدية يلاحقها الشباب والشابات، ويضمن صحة الكلام من حيث جاء.
لم يكن الصديق علي الشوك يفاجأ بشيء، احتفظ بصور عراقه القديم وعدّ «المجتمع الاشتراكي» حلمًا مؤجّلًا، بعيد الوصول. وكان الشاعر مريد البرغوثي، الذي عاش سنوات طويلة في «حي الزهور»، ينصرف إلى شعره ويردّد ضاحكًا: «سأظل صغيرًا وجميلًا»، ويُفْرِج عما كتب في شتاء بودابست حين تحضر زوجته رضوى عاشور صيفًا مع ابنها الموهوب: تميم. التقينا مرة في بيت مريد مع رسّام الكاريكاتير ناجي العلي الفلسطيني النقي الناصع في نقائه، كان ذاهبًا إلى مصرعه في لندن، كان اللقاء به وداعًا…
أذكر اليوم من بودابست أحلامي وأنا ذاهب إليها، وألوان الأحلام من دورة الفصول، وغرفة في «شارع العصافير» يحطّ على نافذتها حمام لا يخلف الميعاد، وطفلًا أسمر اللون يحاور عالم اجتماع شهير، وسيدة قرأت بريشت شغوفه بالتدخين والدفاع عن القيم، ونهرًا يفرج عن مائه في فصل الربيع، وبيت فيلسوف تعلمت منه وتمنيت لو أني لم أزر بيته، وقطع جليد يحملها «الدانوب» كأنها أحلام ذاهبة إلى مصب مجهول.