مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

وحدة الحوار  بين الأحياء والأموات

وحدة الحوار بين الأحياء والأموات

فيصل-دراجفـي‭ ‬الرسائل‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬مؤنس‭ ‬الرزاز‭ ‬وإلياس‭ ‬فركوح،‭ ‬ما‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬مفارقة‭ ‬حزينة‭ ‬وجميلة،‭ ‬ويُخبر‭ ‬عن‭ ‬استذكار‭ ‬واستبصار‭ ‬حميم‭ ‬متميّز،‭ ‬يواجه‭ ‬عبث‭ ‬الزمن‭ ‬القاسي‭ ‬بكتابة‭ ‬متجددة‭. ‬يأتي‭ ‬حزن‭ ‬المفارقة‭ ‬من‭ ‬رحيل‭ ‬أحد‭ ‬الطرفين‭. ‬جاء‭ ‬الموت‭ ‬إلى‭ ‬مؤنس‭ ‬مبكرًا‭ ‬وقيّده‭ ‬إلى‭ ‬الصمت‭. ‬رحل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بكتابتها‭. ‬وتصدر‭ ‬جمالية‭ ‬الرسائل‭ ‬عن‭ ‬فضيلة‭ ‬الوفاء،‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬إلياس‭ ‬فركوح‭ ‬يحمل‭ ‬ضجيج‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬صديق‭ ‬غادره‭.‬

جسّد‭ ‬إلياس‭ ‬بالكتابة‭ ‬المسافة‭ ‬الموجعة‭ ‬بين‭ ‬زمنين،‭ ‬وأخبر‭ -‬على‭ ‬طريقته‭- ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬تصرخ،‭ ‬وتهمس،‭ ‬وتحاور،‭ ‬وتشاكس،‭ ‬وتستقرّ‭ ‬فـي‭ ‬موقع‭ ‬محاصَر‭ ‬بالاحتمالات‭. ‬لكنه،‭ ‬وهو‭ ‬يستنجد‭ ‬بالكتابة،‭ ‬صرّح،‭ ‬حزينًا،‭ ‬بهشاشة‭ ‬الكائن‭ – ‬الكاتب،‭ ‬الذي‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬الأموات،‭ ‬ويعرف‭ ‬أنه‭ ‬سيلتحق‭ ‬بهم،‭ ‬فلكلّ‭ ‬كاتب‭ ‬نهاية‭ ‬تصادت‭ ‬فـي‭ ‬ذاكرته،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الكتابة،ودخل‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفارقه‭ ‬أطياف‭ ‬الأموات‭. ‬ولعلَّ‭ ‬إيمانه‭ ‬بالكتابة،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يستعيد‭ ‬بها‭ ‬صوت‭ ‬صديقه‭ ‬الذي‭ ‬رحل،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬استضافة‭ ‬الراحل‭ ‬فـي‭ ‬حقل‭ ‬الكتابة‭ ‬تضعه‭ ‬‮«‬داخل‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬ولو‭ ‬إلى‭ ‬حين‭. ‬تبدو‭ ‬الكتابة‭ ‬فعلًا‭ ‬سحريًّا‭ ‬ويائسًا‭ ‬فـي‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد،‭ ‬يردّ‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬خرج‭ ‬منها،‭ ‬ويستدعي‭ ‬قلقًا‭ ‬لا‭ ‬يُعالَج‭ ‬بالكتابة‭.‬

دخل‭ ‬إلياس‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الرسائل‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الاستذكار؛‭ ‬إذ‭ ‬فـي‭ ‬دروب‭ ‬الصداقة‭ ‬الطويلة‭ ‬ألفة‭ ‬الأسماء‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬التي‭ ‬تكسو‭ ‬النهار‭ ‬دفئًا‭ ‬وأسئلة‭. ‬تقاسم‭ ‬الصديقان‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬صديق‭ ‬ثالث‭ ‬اغتاله‭ ‬‮«‬قنّاص‮»‬‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّة،‭ ‬وتوازعَا‭ ‬دهشة‭ ‬مريرة‭ ‬من‭ ‬مآل‭ ‬إنسان‭ ‬‮«‬حُشرت‭ ‬أعضاؤه‭ ‬المقطّعة‭ ‬فـي‭ ‬كيس‮»‬،‭ ‬وتبادلَا‭ ‬مَسَرَّاتٍ‭ ‬وأفكارَ‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬قيد‭ ‬الإنجاز‮»‬‭. ‬الْتقى‭ ‬الاستذكارُ‭ ‬منافذَه‭ ‬المتعددةَ‭ ‬التي‭ ‬أطلّت‭ ‬فـي‭ ‬عمّان،‭ ‬ذات‭ ‬مرة،‭ ‬على‭ ‬مثقفيْنِ‭ ‬قومييْنِ‭ ‬يُنصتان‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬‮«‬قائد‭ ‬قوميّ‮»‬،‭ ‬أراد‭ ‬لأمته‭ ‬السلامة‭ ‬فوقع‭ ‬فـي‭ ‬الموت‭. ‬لَكَأَنَّ‭ ‬مؤنسًا‭ ‬‮«‬ولد‭ ‬بعثيًّا‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬إلياس،‭ ‬ناظرًا‭ ‬إلى‭ ‬عفوية‭ ‬إنسانية‭ ‬نبيلة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أيديولوجيا‭ ‬كبيرة»؛‭ ‬لأنّ‭ ‬فـي‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬المتحزبة،‭ ‬فـي‭ ‬لحظة‭ ‬انغلاقها،‭ ‬ما‭ ‬ينفي‭ ‬العفوية،‭ ‬ويأمر‭ ‬بتماثل‭ ‬البشر‭ ‬الذي‭ ‬يطالها‭ ‬باستقالة‭ ‬العقل‭ ‬المفكِّر‭.‬

يتراءى‭ ‬فـي‭ ‬مداخل‭ ‬الصداقة‭ ‬مكانٌ‭ ‬نظيفٌ‭ ‬أليفٌ‭ ‬فـي‭ ‬عمّان‭ ‬يُدعى‭ ‬‮«‬اللويبدة‮»‬،‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬الأب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أعدمه‭ ‬‮«‬حزبه‮»‬،‭ ‬والابن‭ ‬الذي‭ ‬وُلد‭ ‬كما‭ ‬أرادت‭ ‬له‭ ‬أسرته‭ ‬المثقفة،‭ ‬واختلف‭ ‬إليه‭ ‬‮«‬الصديق‭ ‬القوميّ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬استعاد‭ ‬الأطياف‭ ‬جميعًا،‭ ‬ووضعها‭ ‬فـي‭ ‬رسائل‭ ‬بين‭ ‬عامَيْ‭ (‬2013-‭ ‬2015م‭) ‬كتابة‭ ‬وأزمنة،‭ ‬أو‭ ‬كتابة‭ ‬فـي‭ ‬أزمنة،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أراده‭ ‬إلياس‭ ‬فـي‭ ‬كتابة‭ ‬متعددة‭ ‬المرايا،‭ ‬تُوحي‭ ‬وتشير‭ ‬وتلهث‭ ‬وتشي‭ ‬وتصرّ‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬كتابة،‭ ‬فـي‭ ‬التحديد‭ ‬الأخير‭.‬

إلياس-فركوح

إلياس فركوح

تحيل‭ ‬شظايا‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الرُّوحيّ‭ ‬لمثقفيْنِ‭ ‬استغرقتهما‭ ‬الكتابة‭ ‬المفكِّرة،‭ ‬وإلى‭ ‬زمن‭ ‬ثقافـيّ‭ ‬سياسيّ،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مثاليًّا،‭ ‬يغاير‭ ‬ما‭ ‬أعقبه،‭ ‬ويفرض‭ ‬على‭ ‬الرُّوح‭ ‬الكاتبة‭ ‬طبقاتٍ‭ ‬من‭ ‬التأسِّي‭ ‬والحنين‭. ‬أراد‭ ‬مؤنس‭ ‬وإلياس‭ ‬كتابةً‭ ‬مفكِّرة،‭ ‬فـي‭ ‬زمن‭ ‬هجين،‭ ‬يبشِّر‭ ‬بالجديد‭ ‬ويتمسِّك‭ ‬بالقديم‭. ‬كتابة‭ ‬معاناة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التفاؤل،‭ ‬أو‭ ‬كتابة‭ ‬متشائمة‭ ‬ترتكن‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الأمل‮»‬،‭ ‬تخالطها‭ ‬إيمانية‭ ‬العمل‭ ‬وميتافيزيقا‭ ‬الإرادة‭. ‬يقول‭ ‬مؤنس‭ ‬لصديقه‭: ‬‮«‬الفعل‭ ‬هو‭ ‬الوسيلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تَقِيكَ‭ ‬الغَرَقَ‭… ‬حاوِلْ‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬متعة‭ ‬الصبر،‭ ‬ولا‭ ‬تسأل‭ ‬كثيرًا‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬صبر‭ ‬مؤنس‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يُصبَر‭ ‬عليه‭ ‬ثم‭ ‬رحل،‭ ‬وتابع‭ ‬إلياس‭ ‬المساءلة‭: ‬نَقَدَ‭ ‬الفكرَ‭ ‬الذي‭ ‬انتسب‭ ‬إليه،‭ ‬ثم‭ ‬نَهَرَه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكفّ‭ ‬عن‭ ‬تجديد‭ ‬الأسئلة،‭ ‬مقارنًا،‭ ‬بوعي‭ ‬أَسْيان،‭ ‬بين‭ ‬أحاديث‭ ‬الشباب‭ ‬فـي‭ ‬‮«‬اللويبدة‮»‬‭ ‬وألوية‭ ‬الجهل‭ ‬المتعالية‭ ‬فـي‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬تحرير‭ ‬الرسائل‮»‬‭.‬

كان‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬كل‭ ‬مثقف‭ ‬من‭ ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يكمل‭ ‬القول‭ ‬بتعليقات‭ ‬ساخرة،‭ ‬مميِّزًا‭ ‬الحِنْطةَ‭ ‬مِن‭ ‬الزُّؤَان‭. ‬لعل‭ ‬المرور‭ ‬على‭ ‬أسماء‭ ‬الكتب‭ ‬والمفكرين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬مؤنس‭ ‬يحتضنهم‭ ‬وهو‭ ‬ذاهب‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ما‭ ‬يضيء‭ ‬المثال‭ ‬الصعب‭ ‬‮«‬الهائل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه،‭ ‬وهو‭ ‬فـي‭ ‬أوائل‭ ‬عشريناته‭. ‬فحين‭ ‬كان‭ ‬فـي‭ ‬‮«‬بيرمنغهام‮»‬‭ ‬البريطانية،‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬تكامل‭ ‬رُوحيّ‭ ‬لن‭ ‬يصل‭ ‬إليه،‭ ‬يذكر‭ ‬هيرمان‭ ‬هسه‭ ‬وألدوس‭ ‬هكسلي‭ ‬وبروست،‭ ‬مسائلًا‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفلسفة‭ ‬والأدب،‭ ‬ومتوقفًا‭ ‬أمام‭ ‬كير‭ ‬غارد‭ ‬وهيدغر‭ ‬ومارلو‭ ‬بونتي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬واشنطن؛‭ ‬ليستأنف‭ ‬شغفه‭ ‬المعرفـيّ،‭ ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬نيتشه‭ ‬وبيرغسون‭ ‬وهيوم‭ ‬و«عمل‭ ‬جويس‭ ‬العبقري‭: ‬يوليسيس‮»‬‭.‬

فـي‭ ‬الوقوف‭ ‬أمام‭ ‬مكتبة‭ ‬إنسانية‭ ‬‮«‬عبقرية‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬مؤنس‭ ‬يَرْزَح‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬حُلم‭ ‬ثقيل،‭ ‬يشي‭ ‬برُوحٍ‭ ‬صابرة‭ ‬حالمة‭ ‬ترهق‭ ‬صاحبها،‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الرهان‭ ‬عليه؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬للمكتبات‭ ‬تاريخها،‭ ‬وللمدن‭ ‬فتنتها،‭ ‬وللشوارع‭ ‬مصائدها،‭ ‬وللأحلام‭ ‬غوايتها‭ ‬وجحيمها‭ ‬فـي‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد‭. ‬لعل‭ ‬تلك‭ ‬الأحلام،‭ ‬فـي‭ ‬سياق‭ ‬عربيّ‭ ‬رمادُه‭ ‬أكثرُ‭ ‬من‭ ‬جَمْره،‭ ‬وفـي‭ ‬مدار‭ ‬شخصيّ‭ ‬تتعقّبه‭ ‬المأساة،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬مؤنسًا‭ ‬إلى‭ ‬طيران‭ ‬معوّق،‭ ‬كلّما‭ ‬ارتفع‭ ‬ازداد‭ ‬اضطرابًا‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬الطيران‭ ‬الطموح‭ ‬والمستحيل،‭ ‬إلّا‭ ‬مرآة‭ ‬لوعيٍ‭ ‬رومانسيّ،‭ ‬يرى‭ ‬فـي‭ ‬الكُتب‭ ‬قوة‭ ‬خالقة،‭ ‬ولالتزام‭ ‬قومي‭ ‬تحاصره‭ ‬‮«‬أرواح‭ ‬ميتة‮»‬،‭ ‬ولحساسية‭ ‬عالية‭ ‬‮«‬مغتربة‭ ‬المتكأ‮»‬‭. ‬

مؤنس الرزاز

مؤنس الرزاز

يشير‭ ‬مؤنس‭ ‬إلى‭ ‬فرحه‭ ‬‮«‬بصديقين‮»‬،‭ ‬مؤكِّدًا‭ ‬لصديقه‭ ‬إلياس‭ ‬أنَّ‭ ‬الاثنين‭ ‬عدد‭ ‬كبير،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستخفاف‭ ‬به‭. ‬والسؤال‭ ‬هو‭: ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مؤنس‭ ‬مسكونًا‭ ‬بشهوة‭ ‬إصلاح‭ ‬العالم،‭ ‬حال‭ ‬الرومانسيين‭ ‬جميعًا،‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬حدود‭ ‬اغترابه‭ ‬الرُّوحيّ،‭ ‬وهو‭ ‬يحتفي‭ ‬‮«‬باثنين‮»‬‭ ‬لا‭ ‬ثالث‭ ‬لهما؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬قوة‭ ‬الأمل،‭ ‬أم‭ ‬‮«‬التأقلم‮»‬‭ ‬مع‭ ‬خيبات‭ ‬لا‭ ‬تكفّ‭ ‬عن‭ ‬التوالد؟

لا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬الشاب‭ ‬الناحل،‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬الخجل،‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬كامو‭ ‬‮«‬الغريب‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬وأن‭ ‬يعيش‭ ‬غربة‭ ‬متعددة‭ ‬الأبعاد‭ ‬وهو‭ ‬يراقب‭ ‬فـي‭ ‬بيروت‭ ‬‮«‬رفاقًا‮»‬‭ ‬تخلَّوْا‭ ‬عنه‭ ‬فـي‭ ‬لمح‭ ‬البصر‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يقرأه‭ ‬‮«‬نصفُ‭ ‬أصدقائه»؛‭ ‬أي‭ ‬إلياس،‭ ‬بمقولة‭ ‬المسيح،‭ ‬وأن‭ ‬يقرأ‭ ‬بها‭ ‬والد‭ ‬مؤنس،‭ ‬بمعنى‭ ‬التخلِّي‭ ‬وشقاء‭ ‬الطريق‭. ‬يرتسم‭ ‬فـي‭ ‬المصاير‭ ‬الثلاثة‭ ‬معنى‭ ‬التجربة،‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬الوالد‭ ‬إلى‭ ‬مآل‭ ‬ظالم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقّعه،‭ ‬وأمّلت‭ ‬في‭ ‬الابن‭ ‬أن‭ ‬يتعهّد‭ ‬أحلامه‭ ‬بموادّ‭ ‬متقشّفة،‭ ‬واستبقت‭ ‬إلياس‭ ‬بكتابة‭ ‬متجددة،‭ ‬تَتَطَيَّر‭ ‬من‭ ‬اليقين‭ ‬والمطلقات،‭ ‬التي‭ ‬تحسن‭ ‬الهدم‭ ‬وتستولد‭ ‬السراب‭.‬

زمن‭ ‬يضيق‭ ‬بالثقة

تَبادَلَ‭ ‬الصديقان‭ ‬استضافة‭ ‬الرُّوح،‭ ‬فكتبا‭ ‬وتحاوَرَا،‭ ‬واحتفظ‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬بموقع‭ ‬يخصّه،‭ ‬بملاحظات‭ ‬تصوّب‭ ‬النظر،‭ ‬إنْ‭ ‬أوغل‭ ‬فـي‭ ‬الحلم،‭ ‬أو‭ ‬عاجله‭ ‬التجريد‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الصداقة‭ ‬الطويلة‭ ‬الأمد،‭ ‬فـي‭ ‬زمن‭ ‬يضنّ‭ ‬بالثقة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬‮«‬شراكة‭ ‬روحية‮»‬‭ ‬مهجوسة‭ ‬بتساند‭ ‬لا‭ ‬حسبان‭ ‬فيه،‭ ‬وبإخلاص‭ ‬لا‭ ‬يَتبدّد‭ ‬فـي‭ ‬الطريق؛‭ ‬لذلك‭ ‬تبدو‭ ‬الرسائلُ‭ ‬الممتدة‭ ‬فـي‭ ‬زمن‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الأربعين‭ ‬عامًا،‭ ‬رسالةً‭ ‬واحدة،‭ ‬ترسم‭ ‬صداقة‭ ‬لا‭ ‬تخبو،‭ ‬وتؤرّخ‭ ‬لواقع‭ ‬بليد‭ ‬الخُطا،‭ ‬يخذل‭ ‬الأحلام‭ ‬ويتقدّم‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يريد‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الصداقة‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬هدف‭ ‬يصوغه‭ ‬نَظَران،‭ ‬فإنّ‭ ‬جماليتها‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬النظرين‭ ‬المتكاملين،‭ ‬اللذين‭ ‬يتقاسمان‭ ‬قيمًا‭ ‬مشتركة،‭ ‬واجتهادًا‭ ‬لا‭ ‬يُختزل‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬مفردة‭. ‬يقول‭ ‬إلياس‭ ‬محذرًا‭ ‬من‭ ‬هشاشة‭ ‬القراءة‭ ‬و«فتنة‭ ‬الكتب‮»‬‭: ‬‮«‬غير‭ ‬أن‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬نقرأ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الكتب،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أهميتها‭ ‬ومداها،‭ ‬فتلك‭ ‬هي‭ ‬الإشارة‭ ‬الأدقّ‭ ‬التي‭ ‬تتجلّى‭ ‬فـي‭ ‬المكتوب»؛‭ ‬لأن‭ ‬فـي‭ ‬القراءة‭ ‬سطوحًا‭ ‬نافلة،‭ ‬وأعماقًا‭ ‬خصيبة‭ ‬تَبْني‭ ‬وتُرمِّم‭ ‬وتُلغي‭ ‬بممحاة‭ ‬عاقلة‭. ‬شيء‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الابتسام،‭ ‬فتلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُخفي‭ ‬وراءها‭ ‬إلّا‭ ‬الأسنان،‭ ‬تغاير‭ ‬أخرى‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬قلب‭ ‬صادق‭.‬

فيصل-دراج-٢فـي‭ ‬‮«‬رسائلنا‭ ‬ليست‭ ‬مكاتيب‮»‬‭ ‬ما‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ – ‬وثيقة،‭ ‬تستعيد‭ ‬زمنًا‭ ‬مضى،‭ ‬تواجهه‭ ‬بحاضر‭ ‬تقهقر‭ ‬عنه،‭ ‬إلى‭ ‬تخوم‭ ‬الانقطاع‭ ‬تقريبًا‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مثاليًّا،‭ ‬لكنه‭ ‬قابل‭ ‬للتحمُّل،‭ ‬ولا‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬كارثة‭. ‬كان‭ ‬مؤنس‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬الأمل‭ ‬والنشوة‭: ‬‮«‬رسالتك‭ ‬بعثت‭ ‬فـيّ‭ ‬أملًا‭ ‬ضاعف‭ ‬من‭ ‬نشوتي‭. ‬1‭-‬3‭-‬1977م‮»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحدّث‭ ‬إلياس،‭ ‬بعد‭ ‬ثمانية‭ ‬وثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬غاضت‭ ‬إنسانيته‭: ‬‮«‬العالم‭ ‬يتصحّر‭ ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬يحتشد‭ ‬بجموع‭ ‬الضباع،‭ ‬ويصخب‭ ‬بعواء‭ ‬الذئاب،‭ ‬دولًا،‭ ‬وفرقًا،‭ ‬وأحزابًا،‭ ‬وأديانًا‭ ‬ملفقة‮»‬‭. ‬

ذهب‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬وأعقبه‭ ‬ورثة‭ ‬كاثروا‭ ‬أمراضه،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬احتمالات‭ ‬العلاج‭. ‬عرف‭ ‬الصديقان‭ ‬زمنًا‭ ‬عربيًّا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينهض،‭ ‬سافر‭ ‬مؤنس‭ ‬إلى‭ ‬عاصمة‭ ‬العباسيين‭ ‬فـي‭ ‬طورها‭ ‬‮«‬البعثيّ‮»‬‭ ‬الواعد‭ ‬بتغيير‭ ‬العوالم،‭ ‬والْتَحَق‭ ‬إلياس‭ ‬بمقاومة‭ ‬فلسطينية‭ ‬فـي‭ ‬بيروت،‭ ‬ثم‭ ‬نَظَرَا،‭ ‬بنسب‭ ‬مختلفة،‭ ‬إلى‭ ‬انكسار‭ ‬الأحلام‭: ‬احتلّت‭ ‬إسرائيل‭ ‬العاصمة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬ودخلت‭ ‬بغداد،‭ ‬بعد‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأميركيّ،‭ ‬إلى‭ ‬أطوار‭ ‬متصاعدة‭ ‬من‭ ‬الانتهاك‭ ‬والتدمير‭ ‬والسديم‭ ‬والاغتصاب‭. ‬يتعيّن‭ ‬ما‭ ‬كتباه،‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬سيرةً‭ ‬ذاتيةً‭ ‬جَماعيةً،‭ ‬فما‭ ‬دارَا‭ ‬حوله‭ ‬طويلًا‭ ‬ارتبط‭ ‬بالشأن‭ ‬‮«‬القوميّ‮»‬‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الاختصاص‭.‬

يتذكّر‭ ‬إلياس‭ ‬فركوح،‭ ‬فـي‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬أشرف‭ ‬على‭ ‬إعدادها،‭ ‬ويستذكر‭ ‬فـي‭ ‬آنٍ‭: ‬يتذكّر‭ ‬مناخًا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬سياسيًّا،‭ ‬تناءى‭ ‬إلى‭ ‬تخوم‭ ‬الغياب،‭ ‬ويستذكر‭ ‬صديقًا‭ ‬تقاسم‭ ‬معه‭ ‬‮«‬أحلامًا‭ ‬كتابية‭ ‬هائلة‮»‬‭. ‬تحضر‭ ‬الذاكرة‭ ‬وهي‭ ‬تزور‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬وتداعى،‭ ‬رحل‭ ‬الصديق‭ ‬وتداعت‭ ‬الأحزاب،‭ ‬ويتجلّى‭ ‬الاستذكار‭ ‬فـي‭ ‬أسلوب‭ ‬مُحوَّط‭ ‬بالحنين،‭ ‬وبدمع‭ ‬محتجب‭. ‬إنها‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬وذهبت،‭ ‬لم‭ ‬تعطب‭ ‬العقل،‭ ‬لكنها‭ ‬تركت‭ ‬فـي‭ ‬الرُّوح‭ ‬ندوبًا‭ ‬كثيرة‭.‬

تحدّث‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألمانيّ‭ ‬هانز‭ ‬بولمنبرغ‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬العالم»؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء،‭ ‬فـي‭ ‬قديمه‭ ‬وحديثه،‭ ‬عملية‭ ‬قراءة،‭ ‬تستنطق‭ ‬وتصوغ‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الإجابات‭. ‬حاول‭ ‬إلياس‭ ‬فركوح‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬الأدب‭ ‬لغة‭ ‬منذ‭ ‬بداياته،‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬إلى‭ ‬كلمات،‭ ‬ترسم‭ ‬وتصوِّر‭ ‬وتسرد،‭ ‬مشتقًّا‭ ‬الفكر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬تصوغه،‭ ‬تنفذ‭ ‬إلى‭ ‬جوهر‭ ‬الأشياء،‭ ‬وتترك‭ ‬الكلمات‭ ‬تنسج‭ ‬المعنى‭ ‬وتشير‭ ‬إليه؛‭ ‬فلا‭ ‬معنى‭ ‬لبلاغة‭ ‬تخطئ‭ ‬موضوعها‭. ‬

لهذا‭ ‬بدت‭ ‬رسائله‭ ‬درسًا‭ ‬فـي‭ ‬الأسلوب،‭ ‬يلاحق‭ ‬العالم،‭ ‬ويصوغه‭ ‬فـي‭ ‬كلمات‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الصور‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬تُستكمل‭ ‬بهوامش‭ ‬‮«‬دقيقة‮»‬،‭ ‬تنصف‭ ‬الأشخاص‭ ‬وتلامس‭ ‬‮«‬روح‭ ‬المرحلة‮»‬‭.‬

من رسائل مؤنس إلى إلياس

من رسائل مؤنس إلى إلياس

فـي‭ ‬الاستذكار‭ ‬الذي‭ ‬يعطف‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬المدن،‭ ‬والوجوه‭ ‬على‭ ‬الأفكار،‭ ‬استبصار‭ ‬يحاذر‭ ‬الغضب،‭ ‬ويحتضن‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬وكما‭ ‬ستأتي،‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬صور‭ ‬‮«‬السادة‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬جرفتهم‭ ‬البلاغة،‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الخاضعين‭ ‬الذين‭ ‬ورثوا‭ ‬عاداتهم‭. ‬ينتهي‭ ‬الكتاب‭ ‬بقصة‭ ‬لمؤنس‭ ‬عنوانها‭: ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬النشوة‭ ‬المستحيلة‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬النشوة‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬طويلًا،‭ ‬وتهزّها‭ ‬المفارقات‭ ‬القاسية‭: ‬‮«‬فـي‭ ‬عينيك‭ ‬حساسية‭ ‬الغضب‭ ‬وقسوة‭ ‬الصدمة‮»‬‭. ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬جملة‭ ‬الاستهلال‭ ‬فـي‭ ‬قصة‭ ‬مؤنس‭ ‬عن‭ ‬استهلال‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الحصار‮»‬‭ ‬لصديقه‭ ‬إلياس‭: ‬‮«‬مدججًا‭ ‬تأتيني‭ ‬بحزنكَ‭ ‬وما‭ ‬اختزنتَ‭ ‬من‭ ‬طعنات‭ ‬أسلحة‭ ‬الزمن‭ ‬القاتل‮»‬‭. ‬

يتراءى‭ ‬ما‭ ‬أتى‭ ‬وما‭ ‬سيأتي‭ ‬فـي‭ ‬متواليات‭ ‬من‭ ‬الكلمات،‭ ‬حَدُّها‭ ‬الأَوَّلُ‭ ‬‮«‬صدمة‭ ‬قاسية‮»‬،‭ ‬وحدُّها‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬طعنات‭ ‬قاتلة‮»‬‭. ‬أغلق‭ ‬الكتاب‭ ‬فضاءه‭ ‬المأساويّ‭ ‬بما‭ ‬كتبه‭ ‬مؤنس‭ ‬عن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الكيالي،‭ ‬الذي‭ ‬اغتاله‭ ‬‮«‬أنصار‭ ‬الالتزام‮»‬‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬يتسع‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬الكبير‭ ‬لملايين‭ ‬الشهداء‭ ‬ويضيق‭ ‬بأحلامنا‭ ‬الصغيرة؟‮»‬‭.‬

غلاف رسائلنا ليست مكاتيب

غلاف رسائلنا ليست مكاتيب

وطن‭ ‬يختار‭ ‬شهداؤُه‭ ‬الحياة

كُتبت‭ ‬‮«‬الرسائل‮»‬‭ ‬عن‭ ‬وطن‭ ‬يختار‭ ‬شهداؤه‭ ‬الحياةَ،‭ ‬ويصادرهم‭ ‬الموت‭. ‬حلمَ‭ ‬المثقفانِ‭ ‬الأردنيانِ‭ ‬المتميزانِ‭ ‬بوطن‭ ‬يطرد‭ ‬الضجيج‭ ‬الكاذب،‭ ‬ويستضيف‭ ‬السكينة‭. ‬استضاف‭ ‬كلٌّ‭ ‬منهما‭ ‬الآخر،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬نافرين‭ ‬من‭ ‬‮«‬كواتم‭ ‬الصوت‮»‬،‭ ‬هاجسيْنِ‭ ‬‮«‬بأحلام‭ ‬صغيرة‮»‬‭ ‬مستحيلة‭ ‬التحقُّق،‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬لها‭ ‬فـي‭ ‬متاحف‭ ‬الكوابيس،‭ ‬ولها‭ ‬بعض‭ ‬المكان‭ ‬فـي‭ ‬أرجاء‭ ‬الكتابة‭.‬

احتضن‭ ‬الكتاب،‭ ‬مثلما‭ ‬أعدّه‭ ‬إلياس‭ ‬فركوح،‭ ‬سيرتيْنِ‭ ‬مجزوءتيْنِ‭: ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬ثقافية‭ ‬لجيل‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب،‭ ‬صَالَحَ‭ ‬بين‭ ‬الغضب‭ ‬والأهداف‭ ‬النبيلة،‭ ‬وحصد‭ ‬رمادًا‭ ‬يحرق‭ ‬العيون،‭ ‬وسيرة‭ ‬أخلاقية‭ ‬إبداعية‭ ‬لأديبين‭ ‬مختلفين،‭ ‬تحتفي‭ ‬بذات‭ ‬المبدع،‭ ‬وتزهد‭ ‬في‭ ‬الشعارات‭ ‬الفارغة،‭ ‬وتعطي‭ ‬الكتابة‭ ‬تعريفًا‭ ‬لا‭ ‬يُلحق‭ ‬بها‭ ‬الإهانة‭. ‬نرى‭ ‬فـي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إلياس‭ ‬فركوح‭ ‬وشقاءه‭ ‬النبيل‭ ‬فـي‭ ‬حقل‭ ‬اللغة،‭ ‬مصرحًا‭ ‬بذاتية‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الواحد‭ ‬والمتعدد‭ ‬وبين‭ ‬النثر‭ ‬والإنشاء،‭ ‬ولا‭ ‬تلغي‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬والكتابة‭. ‬

كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬إن‭ ‬أخلاقية‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬لغته،‭ ‬وإن‭ ‬فـي‭ ‬لغته‭ ‬المبدعة‭ ‬ما‭ ‬يجسّد‭ ‬جماليات‭ ‬الحياة‭ ‬والصداقة،‭ ‬التي‭ ‬تجلّت‭ ‬فـي‭ ‬راحل‭ ‬جميل‭ ‬يُدعَى‭: ‬مؤنس‭ ‬الرزاز‭.‬

شكل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬تتجاوز‭ ‬التصنيف،‭ ‬وترى‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبيَّ‭ ‬فـي‭ ‬مسار‭ ‬الأديب،‭ ‬وتحتضن‭ ‬أخلاق‭ ‬الكاتب‭ ‬وتاريخه‭ ‬الكتابي‭ ‬فـي‭ ‬آنٍ‭.‬