حكاياتي مع رواية موبي ديك

حكاياتي مع رواية موبي ديك

سألتُ الأستاذ الراحل إحسان عباس النصحَ في القراءة، قال بلا تردد: اقرأ رواية هِرمان ميلفل: موبي ديك، فهي من أجمل ما قرأت لغة، ومن أعمق الروايات منظورًا وفلسفة.

يروقني فيها بعدٌ فلسفيٌّ مزدوج المستوى ولغة كثيفة تأمر بالاجتهاد ومعاودة المساءلة. عمل بطل الرواية البحار العصابي المبتور الساق على اغتصاب الطبيعة، محاولًا ترويض طبيعة عذراء لا تروّض؛ ذلك أن الحوت الأبيض الذي طارده وجه من وجوه الطبيعة، ينصاع إلى قوانينها ويُعرض عن رغبات إنسانية آبقة ممتلئة بالشر، ولا تدري.

توهم البحار، الذي أعماه غروره أنه يعاقب الشر، جاهلًا أن الشرّ يقوم في نواياه لا في علاقات الطبيعة السليمة. وتراءى البعد الآخر في بحّار شائه الطبيعة يقود بحارته إلى الهلاك، متوسلًا لغة خطابية وقطعة من ذهب ثبتها، لامعة، على عمود الشراع. أدرك آخاب بحدسه الشرير، أن الخطابة المتقنة الكلام خدعة سهلة، لا تملأ البطون وترضي العقول الفارغة. وأن في الذهب قوة تخلق الانصياع والخضوع إلى الإرادات المستبدة.

أقنعني البعدان الفلسفيان في رواية موبي ديك بقراءتها بإمكانياتي المتاحة، وبملاحقة طبعاتها المتواترة، فاحتلت حيّزًا من «مكتباتي» التي توزّعت، غصبًا، على أكثر من مكان ومدينة لو تحررّتُ من استبداد المكان والزمان لكان عندي الآن من تلك الرواية، التي ترجمها إحسان عباس، ما يشبه المكتبة. ترجمها إحسان بفكره وعقله وروحه، وأثنى على الترجمة، طويلًا، الراحل غسان كنفاني.

إحسان عباس

«عثرتُ» على الرواية في المرة الأولى عام 1956م، في المكتبة العمومية في دمشق. أستذكر صديقًا معي في الصف السابع، انتهى الآن أستاذًا جامعيًّا في إفريقيا؛ ذلك أننا رأينا الرواية في المرة الأولى معًا وسبقني إلى شرائها واعدًا تعويض «الخسارة» بطبعة جميلة لرواية «جزيرة الكنز»، لروبرت ستيفنسون. غير أن الزمن كان معي كريمًا، ورجعت فاشتريت «الطبعة المغدورة» بعد مرور عشرين عامًا وأكثر.

كنت أتهيأ لمغادرة باريس نهائيًّا في أكتوبر 1974م، عائدًا إلى بيروت حين قررت أن ألقي «نظرة وداع» على المكتبات الصغيرة التي تحاذي نهر السين. مكتبات تجمع القديم والجديد، الكتب الناقدة والمجلات النافذة… رأيت هناك كتابًا أليف الغلاف، «يغمزني» ويدعوني إلى صحبته. كان الكتابُ هو: رواية موبي ديك، تواطأت معه، جديدًا كان يبدو، رخيص السعر رخصًا «مهينًا». اشتريته «بفرنك» واصطحبته إلى البيت فرحًا، لم أضعه في حقيبة الملابس، تركته في كيس ورقي مستقل تحت نظري خشية الفقدان. تذكرت عندها صديقي القديم، الذي لن أراه ثانية، واعتبرت الرواية تحية متأخرة من رفيق اشتاق إليه. وحين رجعت إلى بيروت كانت هناك ترجمة الأستاذ إحسان عباس، سميكة، أنيقة، صدرت عن: «دار مكتبة الحياة»، إذا لم تعبث بي الذاكرة. لم أكن عندها التقيت الأستاذ «إحسان»، تلمست آثاره في انتظار نصائح وصداقة قادمة.

ظل يتأمل الكتاب كما لو كان يحرسه
ويطرد عنه الأرواح الشريرة

زارني في بيروت، التي سأقيم فيها خمس سنوات، صديقًا من أيام الطفولة، تسكعنا في «جنيف الشرق الأوسط» آنذاك، ومررنا «بالروشة»، صخرة العشاق اليائسين، كما بدت لي، وبالجامعة الأميركية المطلّة على البحر، التي درس فيها «قادة الشرق الأوسط» ذات مرة، وسرنا الهوينى في «شارع الحمرا»، الذي لم تهلك هالته بعد، وألقينا التحية على أكثر من مكتبة، ليس آخرها «مكتبة صايغ».

الصديق القديم «وليد»، هذا اسمه، أعجبه مدخل مكتبة افترشته أغلفة كتب كثيرة، بالعربية والفرنسية والإنجليزية. لم يقاوم فتنة الكتب فدخل ودخلت معه، وصادف أن وقف أمام «موبي ديك»، طبعة متميزة زيّنتها رسوم «ريكول كِنْت»، بالأبيض والأسود. ظل يتأمل الكتاب كما لو كان يحرسه ويطرد عنه الأرواح الشريرة… فتركته وعدت إلى بيتي مضطرب الطويّة، كما يقول البلغاء. حين رجع الصديق، الناحل الطويل القامة، إلى البيت، بوجه راض وابتسامة متخابثة، تقدّم مني ووضع أمامي رواية ميلفل ببحارها المبتور الساق الذي عالجته ريشة الرسام الأميركي «كِنْت»، فبدا أكثر طولًا وأوسع تجهّمًا، وقال: نظرتُ إليك وأنت تغادر المكتبة وشعرت أن جزءًا من روحك ظل إلى جانب الرواية، فأبيت إلا أن أشتريها وأضعها بين يديك، فهذا من أصول الصداقة الصادقة…

فوجئت وفرحت واضطربت وحضنت الرواية كصديق عائد من السفر وتذكرت صديق المراهقة -محمد عمر فاروق البزرة- الذي انتهى إلى إفريقيا أستاذًا جامعيًّا لمادة الكيمياء، وقلت في نفسي: لو كان الصديق البعيد معنا لوجّه تحية إلى صديقي الصادق الذي أراحه من عتاب قديم. وشعرت أن الرواية صديقة الصديقين، تهمس في أذن أحدهما بفرح وتعبّر لثانيهما عن امتنان عميق طليق الكلمات. وتساءلت عن معنى الأفراح الصغيرة الجليلة التي توزع الفرح على أرواح نقية لا تعبأ بالمال والسلطة وتلهج سعيدة بعلامات المودّة. سألتُ عندها عن الفرق بين برودة القيود ودفء الحرية، ولماذا انصاع البحارة إلى أوامر بحّار يسوقهم إلى الموت، وعثرت على الجواب في: الخوف من المتسلطين الذين يتحدثون بأيديهم وعيونهم وأرجلهم ويكتفون بإشارات قاتلة، لا هي باللغة العاقلة ولا بحركات الوجه المستريحة، وعرفت آنذاك لماذا يتكلّم المستبدون بأجسادهم، ولِمَ توقظ الأرواح السليمة رهافة اللغة وتحترم القواميس المتوارثة… وقلتُ: هل يعطل الاستبداد اللغة، كيف يشوّهها ويشوّه المتحدثين بها؟ وهو ما أشار إليه الفلسطيني روحي الخالدي في كتابه الذي ظهر في أول القرن العشرين، عنوانه: «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو».

ما زلت أذكر كيف استقبلتُ الكتاب المزيّن بالرسوم، الذي حمله الصديق القديم إلى صديقه في بيروت. تأملت غلاف الكتاب الخارجي، مسحته مرتين، وداعبته مرتين، وبحثت له عن مكان مرتفع في البيت يعلن عن حضوره ويومئ إلى قيمته فبدا موضوعًا جميلًا تعلوه قداسة. كان كتابًا وصار زائرًا كريمًا، وكان سلعة للبيع والشراء وغدا شيئًا متعاليًا لا نقترب منه إلا بعد غسل اليدين.

عدت إلى دمشق بعد بيروت والتقيت الصديق الراحل الدكتور صادق جلال العظم، كان أستاذًا للفلسفة في جامعة دمشق، لا يكترث بلباسه ويركب سيارة «رقيعة» لا مكان لها بين السيارات «العالية»، ويردد ضاحكًا: إنه تسامح النبالة، فقد كان فخورًا بانتسابه إلى عائلة عريقة ثرية يمحو نبلها الأخطاء الصغيرة والكبيرة.

أطلق صادق، كعادته، ضحكة مجلجلة، تسبقها سخرية وتتلوها سخرية، وقال: عندي في الجامعة مجموعة طلبة تحضّر أكثر من «دكتوراه» في أكثر من موضوع، مراتب هؤلاء الطلبة عالية، بل شديدة العلو، في الحياة المهنية والاجتماعية. لو التقيتَهم لسرّك بعضهم ولأمضّك بعضٌ آخر لا يعبأ بالعلم ولا بديكارت وسبينوزا، فهم مأخوذون «بالتجمل الاجتماعي» الطريف، حيث التاجر يلفظ بشكل مغلوط اسم «فرويد» قبل أن يقرأ أعماله، أو يلعن «هيغل»؛ لأنه يقيم في ألمانيا الغربية لا ألمانيا الشرقية صديقة العرب، وقد تجد من لا يعرف الفرق بين أفلاطون وأفلوطين.

الصدفة في التاريخ

كان من بين هؤلاء «الطلبة» شخص دمث رفيع الأدب يتعامل مع الفلسفة بجدية غير مألوفة، اختار موضوعًا عويصًا عن «الصدفة في التاريخ» سألني، بعد أن تعرفت إليه، أن أقدم رأيًا في موضوع أطروحته، بعد أن أثنى عليَّ الدكتور صادق و«اتهمني بالجدية!». أراد الطالب «العالي المقام» أن يشكرني على ما تقدمت به، قال: أنا لا أهتم بالأدب والروايات وقد جاءني أحد معارفي بهذا الكتاب الملون الهائل الحجم، كما ترى، وأرجو أن تقبله وأنت الذي تهتم بالأدب والفلسفة معًا.

لم تقع عليّ صدفة من التاريخ، وصُدفهُ موجعة غالبًا، بل أصابتني صدفة مرجوّة أضافت إلى «مكتبتي الصغيرة الخاصة برواية ميلفل» طبعة جديدة، عالية المقام أيضًا، من موبي ديك استقرت بين طبعات أخرى، وبدت الطبعة الأكثر أناقة و«هيبة» أيضًا. ذكرت عندها «الولع بالكم» ولم أكن راضيًا، ذلك أن المطلوب، منطقيًا، الاحتفاء بالكيف والإعراض عن الكم الذي يفضي في حال «النفوس الدنيئة» إلى السطو والسرقة والعبث بما يخصّ الآخرين.

كان من صدف التاريخ القاسية أن أترك دمشق، فجأة، وأن أدع مكتبتي نهبًا للغبار والضياع والنهب المنظم، وأن أتأسى على رواياتي الأثيرة مثل: «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، والطبعة الأولى من رواية طه حسين «دعاء الكروان»، وأن أفتقد الطبعة الأولى الإنجليزية لرواية همنغواي: «العجوز والبحر»، التي اشتريتها عام 1955م من مكتبة تائهة بين أحياء دمشق، ورواية جون شتاينبك: «رجال وفئران» التي تعود طبعتها إلى عام 1937م، وأن أفتقد طبعة قديمة من رواية الإنجليزي غراهام غرين: «الأميركي الهادئ»، ورسائل بين صفحات الكتب كنت ضنينًا بالبوح بأسرارها.

بدت لي مكتبتي القديمة- الجديدة في العاصمة الأردنية متشحة بالسواد، أخذت منها كُتبًا إلى دمشق، ولم أكن صادقًا بتعويضها عمّا فقدت. كان بين المفقود رواية: موبي ديك. أردت أن أردّ إلى الرواية- الصديق بعض الجميل الجديرة به، وتذكرّت مباشرة طبعتها الفرنسية في سلسلة «بِليّاد» عند غاليمار، الطبعة الأكثر أناقة وحظوة وأمانة فلها مقدمة ضافية، صفحات مبرّأة من الخطأ.

وها هي الآن الطبعة الفرنسية أمامي تستقر في غلافها الأبيض السميك، وعلى صفحتها الخارجية الأمامية اسم هِرمان ميلفل، وقد كُتب بلون أحمر، وتحته بخط أسود: موبي ديك، بيير أو الغوامض، المجلد الثالث، يقع تحته بخط أسود صغير: طبعة نُشرت بعناية دو فيليب جاورسكي، بالتعاون مع مارك أميرفيل وهيرشل باركر… وفي أسفل الصفحة الأولى بلون أحمر: مكتبة البِليّاد. غاليمار. عام النشر 2006م، وتقع كاملة في 1407 صفحة.

وقد أَسال، أو أُسأل: ما أسباب تعلّقي برواية إلى حدود الإدمان المتزمت، كأنها عادة لا يمكن التحرّر منها؟ يتناثر الجواب قدر ما يستطيع ويحتفظ بمركزه. فهي الرواية الأولى التي اشتريتها بنقود تتجاوز إمكانياتي كطالب ثانوي، تعيد إليّ ربما ذكرى صديق غاب، أحببته وافتقدته إلى اليوم، وربما تذكّرني بالسيدة صاحبة المكتبة، الرقيقة الأنيقة الأسيلة الخد، التي ما التقيتها، صدفة، إلا ذكرت الرواية وصديقي القديم، أو ربما الحنين إلى بداية دافئة ستمتد طويلًا ويصحبها التغير والاختلاف!

من المحقق أن صورة البحار المستبد الذي ساق قومه إلى الهلاك استقرت في ذهني وأحالت، بلا صوت، إلى مستبدين آخرين لم يكن لهم، للأسف، مآل البحار الموتور، الذي وقف فوق ظهر الحوت الأبيض متوعدًا متغطرسًا رافعًا صوتًا يقول: «ها أنا أوجّه إليك آخر طعناتي»، ناسيًا أن الطعنة سترتد عليه، حين يغطس الحوت في الماء ويعود إلى السطح وقد صار البحار جثة مكبلة بالحبال… ومن المحقّق أيضًا أن في سلوك البحار ما يذكِّر بالكارثة، فقد غرق وأهلك الذين معه، موحيًا بأنه المخلِّص العليم، الذي يُغرق الماء ويتأبى على الغرق كأنه واحد من صغار المستبدين الذين عاقبوا شعوبهم ألف مرة، وسقطوا أمام أعدائهم في الجولة الأولى بلا قتال، تاركين الرواية تقول: الأسرى لا يحاربون، والذي يحارب شعبه بلا شفقة يخسر قبل الذهاب إلى المعركة ويزْهد به الذباب.

انكسار الأحلام والصداقات

انكسار الأحلام والصداقات

لست أدري لم استهلّيت صبيحة هذا اليوم الحزيراني القائظ، باستذكار ثلاثة أصدقاء كنت أحاورهم، في السنة الجامعية الأخيرة، في خياراتنا الدراسية المحتملة القادمة. كنا نطوف بالكلام طويلًا، ونحطّ على جامعات باريس التي تعلّم فيها أساتذة الفلسفة الذين علّمونا، ووضعوا في أسماعنا أسماء تثير الفضول: بول ريكور المشغول، آنذاك، بقضايا الخير والشر قبل أن ينجز سفرَهُ الكبير: «الحكاية والزمن» في أجزاء ثلاثة. وفرديناند ألكيّيه المهجوس بقضايا الإنسان الداخلية التي تبدأ بالعزلة والاغتراب وتنتهي بالموت، وغاستون باشلار، الأكثر شهرة في اختصاصاته المتعددة، التي تبدأ بفلسفة الفيزياء، ولا تنتهي «بعلم نفس النار».

لم نكن نعلم أكان مقصدنا محاكاة أساتذتنا الجامعيين، أم كسر الطوق والالتحاق بشهرة الفلاسفة الفرنسيين، إرضاء لطموح شريد صادق النوايا ساذج الحسبان؟ والأرجح أنه كان في أرواحنا سرب من الأحلام، ورومانسية معرفية تلغي المسافة بين الممكن والمرغوب. وكان في تلك الأحلام ما يملؤنا بالبهجة.

فرديناند ألكيّيه

وعلى عكس هذا اليوم القائظ كان صباحي المبكّر، يبدأ بانتظار عصفوريْن أسوديْن بالغي الصغر، لا يتجاوز حجم الواحد منهما «حبة الجوز» يحطّان، عادة، على وردة حمراء، عالية العنق، بحثًا عن الرزق المتاح واستباقًا لغيرهما من الطيور. كان في العصفورين ووردتهما ما يعطي الصباح مذاق الندى والتفاؤل، فإن أخلفا الميعاد بدا الصباح منكمشًا متكسّر الأوصال.

مَنِ استذكرتهم من الأصدقاء القدامى ثلاثة، لم يقع عليهم نظري منذ عقود، أرجعوني إلى فترة منقضية كنا فيها نتبادل رسائل مكتوبة، بالشكل التقليدي، رسالة وبريد، نعبّر عن الشوق ونتمنى النجاح ونمر على جديد الكتب. اجتاحني هذا الصباح حنين إلى مكان، حنين بلا وعي، يذكّر بالحب والورق وغبطة استلام رسالة أو إرسالها، وملامح وجوه تخادع الذاكرة، وأصداء أصوات تقترب وتبتعد، وحركات بالعينين واليدين لم أعتقد مرة، أنها ستغدو أطيافًا أو قرينًا للأطياف.

تذكّرت أنّ أقربهم إلى نفسي ضاق بعالمه العربي وحمل ضيقه وهرب إلى السويد، باحثًا عن فرج مؤجّل. تمنَّيت له الفرج وأجّلت الكتابة إليه، وماطلت في التأجيل، بعد أن طلب مني أكثر من مرة اللحاق به إلى «بلاد الراحة». قلت في نفسي: الذي لا يظفر بالفرج في بلاد العرب لن يعثر على الراحة في بلاد الغرب؛ رغم أنني كنت، وما زلت، مفتونًا بكتاب برتراند راسل: «حكمة الغرب».

رومان إنغاردن

الذي ارتحل إلى السويد كان طالبًا مجتهدًا، شحيح البصر أو خافت النظر، أنجز دراسة مرموقة عن: اليوتوبيا بين ماركوزه وابن عربي، ربما يرفع عقيرته منشرحًا وهو يتحدّث عن هوسِرل ورومان إنغاردن، ويتفاخر بأنه قرأ الأخير، أو «استأجر» تلميذًا يعينه على النظر والقراءة. رأى في كتابتي الصحفية مرة إضاعة للوقت وتبخيسًا لاغتراب ماركس، الذي كان موضوع دراستي الجامعية. ونصح بقراءة جادة للمدينة الفاضلة «بين الأخير وفالتر بنيامين». وكان يعتقد أن دور الفلاسفة، وهو منهم، اقتراح مدينة فاضلة، أو «يوتوبيا»، تواجه الزمن وتظل لطيفة الإجابة. أجبته: إن «شروطنا» متقشفة في الفلسفة والاقتصاد والسياسة و«شرح حرف الواو»، أجابني: إن شجاعة الفلسفة تروّض ما لا يروّض، إلى أن روّضته «شروطنا» وبحث بجهد عن «صحيفة» يكتب فيها. لم يعثر عليها، وارتحل إلى «بلاد الراحة»، ولم يصبح مرتاحًا.

هاتفني قبل سنوات وطلب أن نكتب دراسة مشتركة عن الفينومينولوجي البولوني رومان إنغاردن، وأن «بلاد الراحة» تتكفّل بمكافأة وافية، سألته متضاحكًا: ولكن ما تعريف «المرموق» في فلسفة السيد إنغاردن؟ كفَّ عن مراسلتي وتابع حياة مرهقة، تأتلف مع متاحف الكوابيس، وتزجر الأحلام المؤجّلة.

أطروحة لم تتم

الأول الذي ارتحل إلى السويد مؤتلف مع عادة الرحيل، كان فلسطينيًّا، بدأ دراسته الجامعية في دمشق وأكملها في القاهرة. أما الثاني فكان قرويًّا من ريف دمشق، عُرف بمثابرته النموذجية، وبصوته العالي، وعينيه الجاحظتين، وبأناقة تترجم قرويته بلا أخطاء. يتفاخر، بلا اقتصاد، بعنوان أطروحته الجامعية القادمة: «المنطق المتعالي بين هوسِرل وكانط»، وبالأستاذ بول ريكور الذي وافق على الإشراف على رسالته، ويجهر مرتاحًا بعنوان دراسته، ويشدّد على الكلمات والحروف ويقول «المنطق الترانسندنتالي»، فالصفة بهذا الشكل أكثر فخامة. فإذا ملأه الرضا قال: سيماهم في وجوههم، وفي عنوان أطروحتي ثلاث علامات فارقة: «علمان من أعلام الفلسفة وصفة تجمع بينهما لا يعرف معناها إلا قليلون».

بول ريكور

التقيته بعد سنوات وسألته: ماذا فعل الزمان «بمنطقه» الذي لا يعرف معناه إلا القليلون؟ شدّ ملابسه وكان أنيقًا كما كان، وأشعل «سيجارة غلواز»، سيجارته الفرنسية المفضلة، وقال: كما تعرف أنا لا أريد بحثًا تجاريًّا، أو مدرسيًّا ضيّقًا، ولا أكاديميًّا ملفّقًا، فما أسعى إليه إضافة فلسفية لموضوعي الفلسفي؛ لذا ذهبت إلى لندن، سلخت من عمري عامين في تعلّم الإنجليزية «(تبيّن لاحقًا أنه صادق فتاة إنجليزية في باريس وقَطَرَته معها إلى بلاد السيد بلفور) أجبته: إنك لا تزال مخلصًا: لموسوعيتك المشتهاة». أجاب: إنّ لموسوعيتي الفلسفية بحثًا يطول!».

التقيته ثانية بعد أربع سنوات. وقبل أن أتكلّم أسهب في تبيان أفكار أستاذه «ريكور» وأخلاقياته التي تمنعه أن يكون عنصريًّا كبعض الأساتذة. وحين بدرت مني إشارة إلى أطروحته الشهيرة أخذ «بذؤابة الكلام»، وهي من تعابيره، وأجاب: لا شك أنك لا تزال تعرف هاجسي الموسوعي الذي يجعلني مختلفًا عن الطلبة التقليديين. لهذا تعلّمت الألمانية، لغة هوسِرل وكانط، وسافرت إلى ألمانياـ لم يذكر مدة الإقامة ولست أدري إن تعثّر هذه المرة بفتاة ألمانية، ذكر بخير الفيلسوف الألماني الشهير: كارل ياسبرز، ومرّ على أسماء لم أسمع بها. تمنيت له الخير، وسألت الله أن يوفّق «موسوعيّته» المليئة.

بعد مرور أربعة عشر عامًا على إقامته في فرنسا، قيل لي: إنه لم ينهِ الأطروحة الميمونة بعد، وأنه يعمل «ناظرًا على التلاميذ» في مدرسة ثانوية في جنوب فرنسا.

والثالث بيننا، وهو قصير القامة كبير الرأس، كان أكثرنا بساطة وراحة. التقيته مرة واحدة، تحدّث سريعًا وأعطى فكرة «غير فلسفية» عما انتهى إليه، وأوضح: أردت في البداية إنجاز أطروحة عن جهود المصري عبدالرحمن البدوي في الترجمة، دوافعها وأسبابها وتنوّعها. والدكتور البدوي، كما تعلم، يعيش في فندق في الحي اللاتيني، اللقاء به سهل وميسور، حياته محوّطة بالعزلة، مقتصد في كل شيء بما في ذلك الكلام. لكنني بعد أن تأملت حياته، وهو الذي أتقن لغات عدة وترجم ووضع أكثر من سبعين كتابًا، قرّرت أن أقلع عن مشروعي الدراسي، وبخاصة أن الحياة غمرتني بكرمها؛ إذ تزوّجت سيدة مغربية وهبها الله وظيفة مرموقة، لا تحوجني إلى العمل. ابتسم قليلًا وقال: لا أخفيك أنها تتجاوزني عمرًا، عامرة باللطف والدماثة. لم أمنع نفسي عن سؤاله: ماذا تفعل في أوقات الفراغ؟ أجاب: الحياة كلها فراغ في فراغ، وبعيدًا من مشاكل المنزل، فتصريف الفراغ في باريس أمر لا مشقة فيه. أحنى رأسه وانصرف ولم أره بعد ذلك.

كان عبدالرحمن البدوي يبدو لنا أيام الشباب معجزة، وأقل منها بقليل، تعلّم لغات عدة، وترجم إلى العربية الإنجليزي بايرون والفرنسي سارتر والإسباني سيرفانتس والألماني بريشت، وراجع ودقّق وشرح «الفلسفة الإسلامية»، وأصدر «الزمن الوجودي»، وديوان شعر عنوانه: «الحور والنور» ربما.

تحولات الأزمنة

أستذكر الأصدقاء القدامى، اليوم ويستيقظ في خاطري سؤالان، ما الذي دفعهم إلى إخفاق، أو ما يشبه الإخفاق، وكانوا ذات مرة تلامذة لامعين؟ تحولات الأزمنة، ربما هي التي سحبتنا من فترة واعدة، النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، إلى هزيمة ساحقة بعد عام 1967م، تلت «الاستقلال الوطني»، واغتصاب فلسطين، وصعود أحزاب واسعة الشعارات تطلّعت إلى «خلق العالم من جديد». أحزاب، ويا للغرابة، متنوعة الأقوال متجانسة الممارسة والسلوك، أسقطت معنى الأحزاب ودلالة السياسة والنظرية والتجديد الفكري.

السؤال الثاني ليس بالسؤال، إنما هو الإجابة عنه: يستذكر الإنسان الماضي حين يشعر أنه لن يعود ويرى في ابتعاده «فقدًا أليمًا» يغلق الأمل.

أنطون مقدسي

الإخفاق الذي عشناه «نحن المثقفين»، أو ما يشبهنا، زرع في الروح خيبة وزهدًا بالكتب والمكتبات، عبّر عنهما أساتذتنا الذين تلقوا العلم في «مدينة النور»، واجتهدنا في محاكاتهم وهم الذين حاكوا، بعد التقدّم في العمر، غيرهم من المخفقين. فأستاذنا الألمع الدكتور عبدالكريم اليافي كان في شبابه أشهر منه في شيخوخته، وهو الذي ظفر «بخمس اختصاصات علمية»، شملت الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الإحصاء وفلسفة العلوم وتاريخ التصوّف واللغة العربية… انتهى إلى إنسان «لا تفارقه سجادة الصلاة»، التي أطلقت لسان الراحل الدكتور صادق العظم بتعليقات ساخرة وجادة معًا. وأستاذنا بديع الكسم قال في شيخوخته: أنظر الآن إلى روحي ولا ألتمس عونًا من الكتب. أما الأخير «أنطون مقدسي»، المولع بأفلاطون، فقد اشتكى من ارتفاع ثمن كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، رغم ترجمته البارعة، كما «يقال».

تكشّفت جمالية الحياة، ذات مرة، في جماليات القراءة والكتابة إلى أن أشفقت علينا وأخذت بنا إلى جماليات متاحة جديدة: المطر المنهمر، مرتاحًا، في يوم ربيعي، سجالات العصافير في الصباح، بلاغة الأعشاب المزهرة، أم تحنو على صغيرها في طريقهما إلى «الحضانة»، دفء يجود به اللباس على يدين هاربتين من برد شديد، وطفل يقود جده الأعمى إلى مكان عبادة قريب.

عبدالرحمن بدوي

هل يمتع الروح كتاب عن «الوجود والعدم»، معقد الصياغة غريب الكلمات، أم عصفور بحجم «حبة الجوز» يحطّ على وردة حمراء صباحًا؟ أيبهج البصر منظر مثقف متعالم، يرتحل من قناة تلفزيونية إلى أخرى أم بقعة شمس على شجرة خضراء في الصباح؟

كنا نقول باطمئنان: تأتي الأفكار من الكتب وتحاور كتبًا أخرى، أمّا في «زمن آخر» فنقول بلا اطمئنان: ما ترسّب في ذاكرة الطفولة من أحلام يعود في زمن الشيخوخة طيفًا متواضعًا متطايرًا في الفضاء.

لستُ أدري ما الذي دفعني في يوم، بدا كغيره، إلى تذكّر أصدقاء سقطت أطيافهم في نسيان غير مقصود، يرحّل الإنسان من بئرٍ إلى آخر، ويلقي به في عزلةٍ روحية ترحِّبُ، صباحًا، بعصفورٍ منقطع عن البشر، صغير كإصبع اليد ومشبعٌ بالنقاء.

أن تحاور الرواية وأن تحاورك الرواية

أن تحاور الرواية وأن تحاورك الرواية

لست أدري لمَ أقبلتُ، مبكّرًا، على قراءة ما هو متاح من كتب الهنغاري الماركسي جورج لوكاتش، الذي يصبح في الهنغارية: لوكاش جورجي. أذكر أنني بدأت بكتابه «الرواية التاريخية»، الذي تُرجم في العراق، وتلاه آخر عن «الرواية الروسية» تُرجم في القاهرة. ولم تأتِ ترجمة كتابه الشهير: «نظرية الرواية – 1914» إلا متأخرة، قام بها مترجم مغربي حصيف، رغم صعوبة اللغة، وكنت آنذاك لست بحاجة إليها، بعد قراءته بالفرنسية.

وعلاقتي بالكتاب الأخير أشبه بالحكاية، واضحة البداية لطيفة الانغلاق؛ ذلك أنني استعرت منه العنوان وبعض الأفكار في فترة محددة، وزهدت بها لاحقًا. فقد ارتكن لوكاش «نظريته في الواقعية» إلى مفهوم: الصراع الطبقي في الأدب، جعله مركزيًّا، وقرأ به توماس مان وبلزاك، وأغفل: «الصراع الطبقي في القيم الجمالية»، مفترضًا أن الشكل الروائي ثابت يصيبه تغيير قليل، وأن هناك شكلًا فنيًّا مرجعيًّا لا يصحّ تجاوزه، هو ذاك الذي جاء به تولستوي وبلزاك، وكان نظره هذا «أرسطويًّا» ولم يكن ماركسيًّا. وعندما انتقل في مرحلته الستالينيّة، والأرجح أنه كان ستالينيًّا طيلة حياته، إلى ما دعي «بالواقعية الاشتراكية» لم يغيّر في نظره شيئًا، منتظرًا «تولستوي أحمر» أو «بلزاك اشتراكي المنظور».

وواقع الأمر أن دوراني الطويل حول كتاب «نظرية الرواية» يعود إلى سببين: كتبه لوكاش شابًّا، وبقي الأشهر بين أعماله الفلسفية والنقدية الأدبية. وثانيهما أنني قرأته غير مرة. لا فرق إن كنت قد نفذت إلى ما يريد أن يقول، أو بقيت «أتعيّث»، كلمة مستعارة من الأستاذ الراحل حسين مروّة، وتعني: الوضوح المجزوء، أو المتوهّم، أو ذاك القصور الذهني الذي يقنع صاحبه أنه فهم ما يقرأ دون أن يكون، لزومًا، فهم فعليًّا ما قرأه.

تعرّفت إلى كتاب «نظرية الرواية» للمرة الأولى، في منتصف ستينيات القرن الماضي في عرض سريع له في «مجلة المعرفة»: السورية، قام به السوري فؤاد أيوب، تأكدي من الكنيّة لا يساويه يقيني عن الاسم العَلَم. جذبني إليه طويلًا لغته الأدبية- الفلسفية، وكنت آنذاك طالبًا في كلية الفلسفة في جامعة دمشق، وأنصتُّ إليه لاحقًا وأنا أقرأ «لوسيان غولدمان»، ناقدًا أدبيًّا وفيلسوفًا بدوره، أشهره كتابه: «الإله المحتجب»، درس فيه أعمال الفيلسوف الفرنسي باسكال. اطمأن غولدمان اليهودي الفرنسي الروماني الأصل إلى الكتاب المذكور، طوّر أفكاره، واتخذ منه دليلًا نظريًّا لدراساته الأدبية التطبيقية، وعن أندريه مالرو خاصة.

والأساسي، في الحالين، كلمة: «نظرية» التي تعني نسقًا من المفاهيم و«الكلية»، تسرد وتشرح وتوحّد بين بداية القول ونهايته. إضافة إلى إضاءة إلى التاريخ الاجتماعي- الثقافي الذي يتيح ظهور الرواية وتغيّرات البنية واللغة. وما كان احتفائي بمفهوم النظرية إلا حلمًا «شبابيًّا» عارضًا «هجس ببناء نظرية شاملة» في الرواية العربية، عاش فترةً وطواه الزمن.

دفعني شغفي بكتاب لوكاش الشاب إلى محاولة الكتابة عنه (شبه دراسة) في سبعينيات القرن الماضي في مجلة شؤون فلسطينية. تحدّث عنها بتحفّظ الصديق محمد برّادة حين التقيته، آنذاك، في بيروت. ولعل شعورًا بالعجز الحقيقي عن تملّك «نظرية الرواية» أملى عليّ إعادة كتابتها حين نشرتها في كتاب «قديم» عنوانه: «في دلالة العلاقات الروائية» قبل أن أعود إليها، مرة أخيرة، بوضوح نقدي في مطلع كتابي: «نظرية الرواية والرواية العربية».

تعرّفت إلى عمل لوكاش الشاب بمحاولات متعددة، ودفعني بدوره، إلى التعرف إلى مساهمات ذات صلة به، حال كتاب الفرنسي بيير ماشريه: «نحو نظرية في الإنتاج الأدبي»، استلهم فيه نهج أستاذه لوي آلتوسير، أخذني إلى اجتهادات الإنجليزي تيري إيجلتون، التي اتكأت على دراسات آلتوسير وماشريه معًا، قبل أن يتحرّر منهما، جزئيًّا. بيد أن الإنارة النقدية الأكثر اتساعًا جاءت مع الروسي باختين في دراساته عن آحادية وتعددية الأصوات عند تولستوي ودوستويفسكي.

عبث البحث عن نظرية

سواء كانت المراجع فعلية أو متخيّلة، فالأساسي ماثل في أمرين يُكمل أحدهما الآخر: إمكانية قول متسق عن نظرية في الرواية العربية، كما عبث البحث عن نظرية لا وجود لها، ولا لزوم. قادني إلى الأمرين، ومنذ زمن، قراءات قديمة أكّدتها قراءة بعض الروايات العربية الحديثة الصدور، أولها رواية: زهران القاسمي: «تغريبة القافر» التي حظيت باهتمام كبير، تثير أسئلة حول نظرية الرواية العربية المفترضة، أو المزعومة! فالنظرية تقول مدرسيًّا: إن الرواية ابنة المدينة، وأنها محصلة لعلاقات اجتماعية حداثية، بدءًا بالفرد وليس انتهاءً بتعددية العلاقات الاجتماعية، بعيدًا من المراجع الضيقة كالعشيرة والقبيلة، وأنها أثر للعلوم الاجتماعية الحديثة مثل الفلسفة وعلم النفس والممارسات السياسية.

زهران القاسمي

بيد أن القراءة، أسريعةً كانت أو متأنية لرواية زهران القاسمي، تبدأ بالقرية والجبل والوادي والبئر والبراري والأمكنة المهجورة والعائلة الضيقة… حتى لو أدخلنا عنصر: «المتخيّل الروائي»، فهذا لا يضير القراءة في شيء، فهو متخيّل يبدأ من القائم المحدود، يتوسّع محدودًا دون أن يسيء إلى السرد، ويأخذ بلغة دائرية، لا تحتاج إلى التنوّع والحرية وتنتهي، مهما تكن أبعادها، إلى نص إبداعي كثيف تكمل فيه اللغةُ المتخيّلَ، ينتجان، في النهاية، خطابًا سرديًّا، لا فرق إن تعددت شخصياته، أو أخذت فيه الطبيعة الأقرب إلى التجانس، مكان المجتمع في طبقاته المتعددة، كما يفترض المنظور الروائي (النظري) في شكله المدرسي، ذلك الشكل الذي يحرّره المؤلف ويدعه طليقًا.

والسؤال الأساسي: إن كانت الرواية «امتدادًا» للمدينة، فكيف تكوّنت وهي ترسم واقعًا لا علاقة له بالمدينة؟ جعل نجيب محفوظ من القاهرة، على سبيل المثال، المرجع الأساسي لروايته المتوالدة، مضيئًا بوضوح العلاقة بين الرواية والمدينة، واتخذ القاسمي من القرية متكأً لمتخيّله الروائي، وانتهى إلى عمل إبداعي يعيد النظر في دلالة «الفضاء الروائي»!

اللبناني رشيد الضعيف، الذي راكم نتاجًا روائيًّا نوعيًّا، كتب، بدوره، مؤخرًا رواية: الوجه الآخر للظل، الأقرب إلى حكايات متخيّلة تحيل، طليقة، على ألف ليلة وليلة و«كليلة ودمنة» وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها. يتلامح في عمله الروائي، المشار إليه، وجوه المتخيّل واللغة؛ العنصرين الروائيين الأساسيين، انتهى إلى «نثر كلاسيكي» بديع يرسم تعددية العوالم الطبيعية والإنسانية. إذا قفزنا فوق ما هو متعارف عليه في الكتابة الروائية، نلاحظ تأملًا فلسفيًّا لامعًا، تأملًا فلسفيًّا للوجود، لا تتضمنه «الرواية التقليدية» إلا نادرًا. كأن ينهي عمله بفصل أخير عنوانه: «دوران الأرض» تتوجّه جملة أخيرة غامضة: الأرض مدارية بما تحتضنه.

رشيد الضعيف

كاد رشيد أن يقترح للرواية تعريفًا جديدًا يقول: الرواية فضاء تكاملي طليق «تخلق الوجود وتضيف إليه أكثر مما هو موجود». نقرأ في الفصل ما قبل الأخير «ثورة العناصر» نثرًا تحرّر من «المرجعية الموضوعية»: «وإذ خرجت السماء عن صوابها، ازداد جنون الأرض وباتت مكشوفة على المفاجآت» و«أكثر ما فقد صوابه الشجر، فثار على شرطه، وثار على صمته وثباته في المكان ذاته مدى الدهر، وهجر أرضه…» أو: «ثم هدأ الكون واتضح، وسعت الطرقات إلى مآلاتها…» لا قد يهجُس القارئ هنا بتعددية العوالم، ويحاور «نثرًا أقرب إلى الشعر» وشعرًا يَتَفَلْسف يحتاج إلى أكثر من قراءة.

من المحقق أن رشيد الضعيف في عمله: «الوجه الآخر للظل» تقدّم بعمل روائي عربي لا يمكن مقارنته بغيره، نثره شعر وشعره نثر متقطع السرد وغائم الزمان والمكان، ينكر كل تعريف مسبق للرواية ويؤكد أنها كتابة تستعصي على التعاريف الجاهزة، كما لو كانت الرواية هي الحرية المطلقة القريبة من الشعر الصوفي، وأن للإنسان الحق في العيش، حرًّا، في حياته اليومية، وله حريته في أن يكتب كما يشاء. تغدو الكتابة في هذا المنظور تجسيدًا «مضمرًا» للحرية في إمكانياتها الفعلية المحتملة. كتابة تواجه كل القيود المعيشة والمحتملة، وهو ما يجعل «الوجه الآخر للظل» ظلًّا متعاليًا ينفتح على «حرية منشودة لا يمكن القبض عليها» لكأن «الظل» لدى الضعيف صورة أخرى عن «المثال» عند «أفلاطون» يلامس أطرافه الإنسان ويظل محتجبًا.

تعددية العوالم الممكنة

لا تطرح رواية الضعيف أسئلة حول «نظرية الرواية»، ولا تَعِدُ بنظرية جديدة، أو تشير إليها، بقدر ما تسائل «تعددية العوالم الممكنة»، تتخذ من «الفضاء الروائي» تجسيدًا متخيلًا لها، يبدأ بفضول الذهن وينفتح بلا نهاية، على قلق الروح، هذا القلق الذي تؤنسه الرواية، بلا شروط، ولا تقترح له بداية ولا نهاية. إن حرية «التذهين الروائي»، إن صح القول، تحرير للغة من استعمالها اليومي، ومن قيود الوجود الصغيرة والكبيرة معًا. إنها الحرية- المثال، المتطلعة إلى فضاء لا تفضي إليه السُّبل المعروفة ولا المجهولة أيضًا.

أمين الزاوي

كسرت رواية القاسمي المبدأ النظري القائل بأن الرواية انعكاس لفضاء مديني، وأظهر رشيد الضعيف أن الرواية فضاء لتأمل طليق لا ينصاعُ إلى النظريات، متحرر من بداهة: أن الرواية مزيج من التخيّل والواقع. فالأخير عند رشيد كلما تلامع تلاشى مؤكدًا أن ما يدعى بالواقع لا وجود له داخل الكتابة ولا خارجها. أما الجزائري أمين الزاوي فسلك في روايته الجديدة: «الأصنام» طريقًا آخر، يؤكد الرواية فعلًا نظريًّا حداثيًّا ومتخيلًا تضمنه اللغة، كما لو كان التخييل أثرًا للغة، تقترحه وتنشده وتبنيه.

يندفع القارئ الروائي إلى إبداع أمين الزاوي محرَّضًا بأمرين: جهده المتراكم النوعي السائر من رواية وازنة إلى أخرى أكثر إتقانًا وتجديدًا. لا مجال عند الزاوي للمراوحة والإنتاج الكمّي، فهو مشغول بكيفية الكتابة والوفاء للسؤال الصعب: لا تقوم الدلالة في اجتراح الأفكار إنما تتعين بطريقة كتابتها التي تستولد أفكارًا جديدة. كما لو كانت الكتابة تستنطق الأفكار وتستولدها في آنٍ.

الأمر الثاني، الذي يستكمل الأول، ماثل في ثقافة الروائي أو الثقافة التي تعلن عنها الرواية، موحّدة بين المأثور العربي وقوة المعيش اليومي والكونية الثقافية التي تجسّر المسافة بين بول إيلوار الشاعر الفرنسي، وكاتب ياسين، الأديب الجزائري المهجوس بتثوير الكتابة والمجتمع معًا.

وثيقة نظرية

قد يكون في روايته الجديدة: الأصنام، الصادرة هذا العام، ما يجعل من الرواية وثيقة نظرية- سياسية معًا، تبدأ من السلطة السياسية وتعود إليها، شارحة معنى الاستبداد والديمقراطية، وكاشفة عن مآل الشعوب المستبدّ بها وعن هشاشتها التي تأتي بمستبد لا قيمة له يَعُدّ ذاته كيانًا نجيبًا متعاليًا. ولهذا انطوت رواية «الأصنام»، التي جمعت بين ألق الأسلوب ووحدة المفاهيم النظرية، على ثنائيات تختصر علاقة «الرعية» بالسلطة: التحرر الوطني/ الاستقلال الوطني؛ إذ في عِثَار الثاني وتداعيه ما يعطّل معنى الاستقلال ويلغي دلالة التحرر. وهناك ثنائية العقل الطليق/ والفكر المعتقل؛ إذ الأول يشرح قيمته بممارساته، وإذ الثاني علاقة اجتماعية تتسع فيها الخرافات ويتسيّد عليها «حرّاس الضمائر» الذين يحوّلون الحياة، اعتمادًا على بلاغة متدينة زائفة، إلى جملة عادات مستبدّة تغلق المستقبل.

وهناك أيضًا المواجهة بين التعصّب الصادر عن تراتب اجتماعي محكوم بالمصلحة والتسامح الذي يأخذ به بشرٌ لم يفقدوا عقولهم ولا ضمائرهم. وأخيرًا الفرق بين المرأة كشيء لا قيمة له وككيان له الحق في التصرّف بعقله وجسده ومقدّراته، كأن الفكر المظلم ينتزع من الإنسان إنسانيته مقابل عقل حواري يؤنسن البشر ويحضّهم على التفتّح والانطلاق.

يقال نظريًّا، عادة: يُنتج كل عمل روائي أيديولوجيا خاصة به، واضحة أو مضمرة. شَخْصَنَ أمين الزاوي الأيديولوجيا الروائية، ووزّعها على بشر اعتُقلوا قبل ولادتهم، وتمرّدوا على الموروث بخيار حر يُردي التربية الجاهزة، وتلك المحروسة بمتواليات من العسس والمخبرين، ومراجع دينية تختصر الدين في الربح والخسارة، وفي «ثقافة أدعية» تقاتل الحياة.

اتكاءً على ما سبق فإن القول بنظرية روائية ادعاء أكاديمي لا يستطيع الوقوف، ذلك أن كل عمل روائي جدير بالقراءة يقترح منظورًا خاصًّا به. وتنتمي تلك النظرية غالبًا إلى التطورات الفلسفية أكثر منها إلى النقد الأدبي أي أنها لا تفيد الرواية بشيء.

بين المثقف الإيماني والمثقف الهاوي

بين المثقف الإيماني والمثقف الهاوي

يقال: إن دور المثقف تغيير الواقع. والقول لا دقة فيه، فدوره، كما دور الثقافة عامةً، تغيير وجهة النظر إلى الواقع. الأفكار لا تغير إنما الذي يغير هو حامل الأفكار التي قد تكون نسبية؛ تنقد معيش البشر وأفكارهم، أو قد تكون قطعية، حاسمة؛ تؤكد «حتمية التحول»، مساوية بين رغبات الإنسان وأفكاره. يحيل ما سبق إلى عنصرين: مقولة: النظرية التي هي جملة مفاهيم عقلانية تتكئ على نسق من المفاهيم التاريخية، تمايز بين الصواب والخطأ، ومقولة: الأيديولوجيا التي هي مزيج من الوهم والحقيقة، ترسم غالبًا منظورًا شموليًّا يمس الحاضر والماضي والمستقبل وتخترع «مثقفًا رَغَبيًّا».

قيد الحقيقة المطلقة

عرف تاريخ الفكر العربي الحديث أيديولوجيات ثلاث: القومية والإسلام والماركسية، التي لا وجود لها في صيغ نقية خالصة. فالأولى منها امتزجت بعناصر دينية، ولم تتحرّر من الدين، تقريبًا، إلا في شكلها العلماني القلق. والأيديولوجيا الإسلامية، لا وجود لها في صيغة المفرد، فتأويلات الإسلام كانت، ولا تزال، متعددة، تنوس بين الثبات والتطور. أما الماركسية، التي تبدو اليوم بُقْيَا من زمن مضى، تقريبًا، فاختلطت بالعلم وسقطت في تعصّب أعمى، الدوغمائية، أي التكلّس المنقطع عن الحياة والممارسة. وواقع الأمر أن لكل أيديولوجيا دوغمائية خاصة بها، وإن كان المسيطر فيها الدينية والماركسية، فكل منها آمنت بالحقيقة المطلقة.

يفضي التصور القائل بالحقيقة المطلقة إلى نتائج مجردة: أولية الأفكار على الواقع المعيش، كما لو كان الفكر خالقًا للواقع وسيدًا عليه، أولوية «الفكر الدوغمائي» على تاريخ الأفكار، ما يساوي بينه وبين الحقيقة، وإعلاء الفكرة الثابتة على الممارسة ما يلغي فاعلية العقل، ويحوّل «النظرية المفترضة» إلى لغو ذهني لا نفع فيه. وفي الحالات جميعًا تبدو الحقيقة، المطلقة قيدًا يقدّس الحتمية، كما لو كانت تعاليم إيمانية ومقدسة. ولهذا يمكن تسمية المثقف المرتبط بها: المثقف الإيماني المقيّد على خلاف المثقف العقلاني المشدود إلى نسبية الوقائع والأفكار.

اطمأن ساطع الحصري، المفكر القومي على سبيل المثال، إلى قومية عربية خالصة لا تحتاج إلى برهان، فإن كان من برهان، أو ما يشبهه، كان مجزوءًا «غائم التاريخ» فهو معطى دفعة واحدة؛ لذا عثر الحصري على «قوميته» في ماضٍ بعيد -معركة ذي قار قبل الإسلام- ومع أن القومية معطى حديث يعود إلى القرن الثامن عشر -بالمعنى الأوربي- وإلى بدايات القرن العشرين بالمعنى العربي، اعتبرها الحصري فاعلة في جميع الأزمنة: فهي جزء من الإسلام، والإسلام جزء منها، وهي أساس الوحدة العربية القادمة بقدر ما أنها مرجع الدولة القومية الراهنة، بل إن لا اختلاف بين القومية التي سبقت الإسلام وقومية دولة العرب في الأندلس.

ساطع الحصري

تساوي الفكرة القومية عند الحصري القومية العربية المتحققة، ما دامت الفكرة تتعين بالإيمان بها، وتصدر الفكرة وتجسيدها عن اللغة والثقافة العربيتين اللتين بدورهما لهما تاريخ أثيل و«مجيد»، وتذهبان إلى مستقبل لا يختلف عن ماضيهما، أي تتصفان بصفة الخلود. كأن القومية العربية من «خارج التاريخ»، يحتاجها الأخير ولا تحتاجه، وتنبثق حيث «يأمر» الداعمون لها بذلك، تحتجب ولا تغيب، كالأصل الذي صدرت عنه، وهو ما ألمح إليه القومي سهيل إدريس في روايته: «الحي اللاتيني»، حيث الحضارة الأوربية تولد وتنطفئ مرة واحدة، بينما الحضارة العربية قديمة وقادمة، ولا تغيب إلا لتعود.

وإذا كان مآل القومية من مآل القائل بها، يخترعها ويتصرف بها ويتحكم بأقدارها، فإنه يبدأ بوهم وينتهي إلى أوهام. رأى الحصري أن ما يعطل مسار القومية ماثل في الاستعمار، وما إن يرحل حتى تنطلق بلا قيود، تخلق الدولة القومية وتمتد إلى الأمام؛ كي تبني الوحدة العربية وتوطد كيانها وتقتلع الاستعمار، وتبني ما تشاء من «قصور الرمال».

الفصل بين الفكر والواقع

لم تختلف الماركسية العربية عن القومية العربية، شاركتها مراحلها الثلاث: التحرر من الغبن والاستغلال، صعود الطبقة العاملة الحتمي، الذي هو اختراع نظري في عالم عربي لم يعرف الثورة الصناعية، السير المطمئن إلى «المجتمع الاشتراكي»، أي المدينة الفاضلة، التي تعادل نظريًّا: تحقق الوحدة في الفكر القومي. والتصور في الحالين شكل من «التذهين المتفائل» يقرر ما يرغب فيه صاحبه؛ لذا توهم الفكر القومي أن الوحدة ممكنة في جميع الأقطار العربية، لا فرق إن تمتع المجتمع بثقافة قومية أو كان شبه أمي يتلعثم أمام اللغة العربية السوية. ولذلك أيضًا ظهرت دراسات عن «مستقبل الاشتراكية في الهلال الخصيب» وآفاق الاشتراكية في الصومال!

آمن «المثقفون العرب» الداعون إلى الوحدة والاشتراكية بقوة الأفكار المرغوبة قبل أن يتعرفوا إليها، وحرروا الأفكار المتحررة من العوائق الاجتماعية… وواقع الأمر، كما دللت الوقائع فقد فصلوا بين الفكر والواقع، وبين الواقع والتاريخ، وبين الأخير والسياسة على اعتبار أن السياسة حرفة لا تستدعي، الطبقات وتكوين المجتمع، وأنها، في الفكر الرغبي، تُختصر في أحزاب «نخبوية»، لا فرق إن كانت مدنية مثقفة أو عسكرية تحتفي بالإخضاع والانصياع، ولا تعنيها مبادئ السياسة في شيء. وهكذا نرى أن قومية الحصري مكتفية بذاتها، إن اعتورها نقص «عارض» جاء من الخارج -الاستعمار- وما إن يطرده العرب حتى تعود إليهم قوميتهم «بلا دنس»، فتنصرهم وينتصرون بها.

الماركسي اللبناني مهدي عامل، الذي اشتهر عربيًّا وترجم إلى الفرنسية، قاسَم الحصري مبدأ التبشير، القائل بالحقيقة المطلقة، حيث الماركسية علم دقيق كأنها الفيزياء، والطبقة العاملة علمية القياس والمنظور، والحزب الشيوعي خلّف، الفكر البرجوازي وراءه وجاء بحقيقة أخيرة بلا خطأ. لا مجال للاختبار والتجريب، ما دامت القومية تبدأ من الصواب والماركسية علم كعلوم الطبيعة والمجتمع الشيوعي حتمي الوصول حال الوحدة العربية التي هي قدر العرب جميعًا!

الموقف من الديمقراطية

المفكر المصري طه حسين اقترب من الديكارتية، أي فلسفة الفرنسي ديكارت القائمة على الشك، فلا وجود لحقيقة جاهزة ولا لفكرة صحيحة قبل البرهنة عليها، وأن الشك مبتدأ للمعرفة، وأن الحقائق يأتي بها التاريخ ويمحوها التاريخ. فبين القدماء والعقول الجديدة مسافة واختلاف، وأن جديد المجتمعات سيرورة قوامها العقل والديمقراطية. ولهذا اعتبر العقول في وسط اجتماعي لا ديمقراطي فيه عقيمة بائرة تخالطها الأكاذيب، وأن ديمقراطية لا تحتكم إلى قواعد العقل فارغة المضمون، وهو ما شرحه وأسهب في شرحه في كتابه: «مستقبل الثقافة في مصر»، حيث كلمة المستقبل تحدّد الحاضر وتصحّح ما جاء به القدماء، وتعاين ما يجري سائرًا إلى الأمام. يسير الإنسان إلى الأمام ولا يستغرقه الماضي إلا إذا كان معطّل المحاكمة والحواس.

بريخت

لم يكترث الحصري بالديمقراطية، كما لو كانت القومية العربية في ذاتها «تتجاوز» الديمقراطية وتلغيها. واعتبرها مهدي عامل «بدعة برجوازية» تعمي الأبصار وتحرف البشر عن السعي إلى مصالحهم، بينما أقام طه حسين وحدة عضوية بين الأفكار والديمقراطية، وعيّن الشك المنهجي درجة من درجات المعرفة. كان في منظوره، وهو الأعمى- البصير، يحتفل بالأنا المفكرة، أي بالمفرد الذي يقوده عقله ويقود عقله. فلا وجود لعقل فاعل إلا بإنسان مفرد يتمتع بالعقل والمعرفة ويختبرهما بالفعل والتجربة.

نفى طه حسين اليقين الأعمى واعتنق الشك المنهجي، ووضع المثقف الإيماني بين قوسين، وأنتج معرفة جديدة بالتاريخ والسياسة. أما المفكر الكوني إدوارد سعيد فقال بما دعاه: المثقف الهاوي الذي يتكئ على معارف مختلفة، ويجسد المسافة بين المعارف المتنوعة وتوحدها. فلا وجود لمعرفة مفردة مكتفية بذاتها ولا لمثقف يرتكن إلى معرفة وحيدة. كان أستاذًا جامعيًّا يكره الاختصاص ويعيّن المعرفة فعلًا ديمقراطيًّا، ويوكل إلى المثقفين دورًا نقديًّا ينكر الاستبداد واحتكار المعرفة المختصة. ولعل مبدأ: المثقف الهاوي هو الذي مر به الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي قال: «إن جميع البشر فلاسفة ومثقفون ومربّون». وإن التلاقي ممكن بين الثقافة الشعبية والأكاديمية.

كشف طه حسين عن «حداثته»، مؤكدًا أنه لا معرفة إلا بمفرد «يتسلّح بعقله» وينكر الجماعة المتجانسة؛ ذلك أن التجانس سكون ودفاع عن «عادات التفكير الجامدة». وأعلن سعيد عن حداثته الفكرية في حوار الأفكار والنظريات الكونية، في تلك «البينية» الرافضة لاختلاف الأفكار والمفكرين. قال المفكر القومي الحصري بالقومية وأجهض ما هو حديث فيها، واستبسل مهدي عامل في الدفاع عن الماركسية كأنها دين آخر. ناصَر طه حسين وإدوارد سعيد التعددية الفكرية التي تترجم دلالة الحداثة في الحياة الاجتماعية والحياة العقلية، فالتعدد أساس الحياة والوجود.

المعرفة والذات العارفة

من المحقق أن المثقف الإيماني يضيف إلى موضوعه ما ليس فيه، كما لو كان بدوره علاقة معرفية.. هو في هذا ينكر موضوعية المعرفة، ويصيّر العلم إلى علم زائف وذاتي الأبعاد، يتداعى علم التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرهما… يتحول الأول إلى مجموعة من القصص والحكايات، والثاني إلى تصورات ذاتية، والثالث إلى أرقام مجردة. ينتقل المثقف، حينئذ من حالة الإيمان بالمعرفة إلى المتسلط عليها، إلى مثقف يضع معتقده الذاتي فوق قوانين المعرفة، وهو حال المثقف الحزبي والطائفي والعشائري…

كارل بوبر

فصل المسرحي الألماني بريشت بين المثقف الحزبي والمثقف المتحزب، فالأول يعطل محاكمته الذاتية ويردد بداهات جاهزة، في حين أن الثاني يجعل من إعمال عقله جزءًا من معارفه، مؤكدًا العلاقة بين العقل النقدي والمعرفة، وبين الاستقلال الذاتي للعملية المعرفية والإبداع الذي يحيل إلى تاريخ المعارف لا إلى الأشخاص.

أكد كارل بوبر، الفيلسوف اليهودي المعادي للصهيونية، ضرورة الفصل بين المعرفة والذات العارفة، واعتبر أن الإيمان بالصهيونية يطرد المعايير الموضوعية وينبذ، تاليًا، المعايير الأخلاقية، فلا يقبل بالمساواة ولا بالعدالة ولا الاعتراف بالآخر «غير الصهيوني». بل إن الانغلاق الأيديولوجي، الذي يهمّش معطيات الحياة، يترك آثاره على اللغة أيضًا، فتتجمد وتتكلس وتعارض التطور. ولهذا عزا الشيخ محمد عبده جمود اللغة العربية، أحيانًا، إلى رجال الدين المتعصبين الذين يحتفون بالثبات والسكون. ويظنون أن الشباب فعل مقدس. على اعتبار أن اللغة العربية مقدسة، وأن مراعاة تقديسها يقضي بثباتها. لا غرابة أن يتطير بعض رجال الدين من «الرواية» والمسرحية وغيرهما من الفنون المرتبطة بوقائع الحياة. أكثر من ذلك أن التصور الخاطئ لعلاقة الدين الإسلامي باللغة «يحرض» العقول «الاستشراقية» على التهوين من شأن اللغة العربية، واعتبارها غير ملائمة للكتابة الروائية مثل الجزائرية آسيا جبار، وعلى سبيل المثال المصري عادل كامل صاحب روايته «مليم الأكبر».

وأخيرًا تقضي الثقافة بالاعتراف بجديد الحياة وتطور الحاجات الإنسانية، وهو ما يؤكد ديمقراطية المثقف الهاوي، وقصور وعجز المثقف الإيماني حتى لو كان نبيل الأهداف.

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا.

يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه حياته. وما الجوهر المفترض إلا العمل الذي يبذله الإنسان في بناء ذاته. ولهذا يقال: يساوي الإنسان جملة ممارساته العملية والنظرية، كما لو كان يبني ذاته وهو يبني موضوعات حياته، ويتطور وهو يطور حاجاته، على اعتبار أن تطور الحاجات الإنسانية يقاس به تقدمه.

إذا كانت ماهية الإنسان من رغباته المتحققة أو المقموعة فإن اغترابه مما انتهى إليه، ما يعطي الاغتراب مراتب متعددة تنطوي على: المغترب، الغريب، المنقسم، اللاجئ،… الهامشي، المهاجر،… مع أن لكل مرتبة من الاغتراب ما يميّزها، نسبيًّا عن غيرها، تظل الفروق بينها ملتبسة ومبتورة، بل إنها تتداخل أحيانًا وتلغي الحدود بينها، نسبيًّا؛ إذ في كل مغترب غريب، وفي كل مغترب غريب إنسان منقسم غائم التعريف، ولكل واحد منها أقداره الممتدة من شقاء الروح إلى المجاهدة والمطاردة إلى عبث لا أفق له.

ولعل غربة الإنسان المتعددة، كما انقسامه الصادر عن شروط اجتماعية متنوعة، تفرض عليه غربة عن ذاته، فيعرف ذاته ولا يعرفها، يسيطر على وجه منها ويضطرب وهو يبحث عما تبقى. ذلك أنه لا يسوق حياته إلا إذا تعرف إلى إمكانياته الواضحة- الغامضة. ولهذا بدأ سقراط فلسفته بسؤال شهير: «اعرفْ ذاتك»، حيث الذات غموض يتكشّف منقوصًا دائمًا، يتوهّم الإنسان معرفتها، لكنها تَفِرُّ منه ذاهبة من زاوية عمياء إلى أخرى.

لا يختلف سؤال «اعرف نفسك بنفسك» عن عين تريد أن تبصر ذاتها، كما لو كانت تحتاج إلى عين أخرى. نعود إلى سقراط مرة أخرى حين يقول: «إن عينًا تتطلع إلى ذاتها تحتاج إلى عين أخرى وإلى تعريف معنى الرؤية»، وهو الأمر الذي يعني أن الغريب يتعرف إلى ذاته وهو ينظر إلى غريب يجاوره دون أن يصل إلى ما يريد. فالغريب، كما يقال، لا تاريخ له، يرى الآخرون خارجه ويظل داخله مستترًا. كما لو أن أحوال الغريب لا يلمسها إلا الغريب.

يساوق التعرف إلى أحوال الغريب شيء من العَمَاء تضيئه شروطه ولا يتمثلها إلا هو، فهي تستدعي المعاناة والسياق، وهو ما يجعل من الرواية مرآة ضرورية تعكس أحوال الغريب، أكان ذلك غريب نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»، أو لاجئ غسان كنفاني في «رجال في الشمس»؛ فالأول تطارده السلطة السياسية حتى ترديه قتيلًا، والثاني يطارده لجوؤه إلى أن يتبدّد، أو يقضي بعد سقوطه ويذهب إلى اتجاه جديد.

والسؤال: ما ماهية اللاجئ الفلسطيني، في وضعه الإنساني الاستثنائي؟ كيف يكتب الروائي اللاجئ غسان كنفاني عن شخصياته التي هي لاجئة بدورها؟ لا جواب إلا برؤية روائية تضيء الروائي وشخصياته. تناول غسان موضوعه بمقولة: العار الذي لاحق فلسطينيًّا «فرّ من أرضه»، استحق التوبيخ والعقاب. ولهذا أمعن غسان في العقاب، وحكم على شخصياته بالموت، ألقى بها على قارعة الطريق وتركها بلا قبور.

عَمَاء الوجود

بيد أن «عَمَاء الوجود» الذي يجعل لاجئًا يوغل في عقاب لاجئ آخر يطرح سؤالين: لماذا انتقل غسان من شكل روائي إلى آخر؟ وهل أخذ غيره من الروائيين الفلسطينيين بمنظوره؟ تضمن مسار غسان ما يشبه (النقد الذاتي)، فبعد العنف الشديد الذي تعامل به مع شخصياته الروائية في روايته الأولى، عاد وقال: أريد أن أكتب رواية فلسطينية مئة بالمئة، وانتقل مباشرة إلى شكل روائي مختلف، كما هي الحال في «ما تبقى لكم»، و«أم سعد»، و«عائد إلى حيفا»… راسمًا الشرط الفلسطيني في «وجوهه المختلفة» الذي يحتمل الفرح والحزن والنبل والخديعة والتكسّب والتضحية بالذات…إلخ. لم يكتفِ بفكرة العار أضاف إليها بُعد المقاومة في الرواية الثانية، وصورة الهامشي في الثالثة، والذاكرة وخطاب العدو الصهيوني في الرابعة. وما إن وصل إلى مطلع «برقوق نيسان» حتى اقترح شكلًا روائيًّا جديدًا، جمع فيه بين الحاضر والماضي… وصل إلى نتيجة تقول: إن هوية اللاجئ من فعله المقاتل ضد اللجوء، ومستعيرًا ما قاله أندريه مالرو عن معنى الإنسان الذي هو محصلة لأفعاله المختلفة، مدركًا أيضًا الفرق بين وضع اللاجئ الاستثنائي ووضع الإنسان المغترب الذي بقي في أرض له.

الأرض/ الوطن أو الموت، على الإنسان أن يموت واقفًا، وعلى اللاجئ أن يعود إلى حيث كان، والهامشي لا وجود له، والمنقسم لا يعرف معنى الكرامة، والمهاجر إنسان ضل الطريق… أدرج غسان في رواياته قصدية مقاتلة لا يتحملها «السياق الفلسطيني»، المحاصر بأكثر من حصار؛ لذا بدت مقولاته مزيجًا من الشعر والإرادة الحائرة، ذلك أن الاستثنائي لا يصبح قاعدة إلا إذا اخترع «وجودًا مستحيلًا» لا تقبل به إلا رواية مستحيلة لها شروطها العادية المعيشة وزمنها الذي لم تعبث به الأقدار.

الرواية الفلسطينية المستحيلة، مزيج من الرغبة والحنين، تؤالف بين ما كان وما سيكون، ولهذا كتب حسين البرغوثي، وهو مبدع قصير العمر، عن أطياف فلسطين الغاربة في روايته «سأكون بين اللوز». واجتهد إميل حبيبي في رواية «إخطيّة» في وصف فلسطين «أيام العرب»؛ ذلك الأمن الدافئ الذي تداعى. أما جبرا إبراهيم جبرا «في البحث عن وليد مسعود» فاحتفى بفلسطيني «طوباوي»، تستولده الذاكرة ويمنع تحققه الواقع.

اشتق جبرا إنسانه الفلسطيني من مدينة القدس، وعطف ابن المدينة المقدسة على السيد المسيح، وصاغ من الطرفين شخصية تُسلّم قيادتها إلى الخير والجمال وتستعصي على الأرواح الشريرة. احتضنت رواياته فلسطينيًّا مقدسيًّا وسيمًا ذكيًّا عاشقًا للشعر والموسيقا، متفوقًا يحاكيه غيره ولا يحاكي أحدًا، فهو «ابن ذاته» وسيد حياته. طرد جبرا مأساة الفلسطيني بالأحلام، واعتبر الأحلام قوة منتصرة.

كتب جبرا رواية حالمة «متوهمة»، ليس بينها وبين الرواية الممكنة علاقة، فالأخيرة لها فضاء مكاني موحد وزمن موحد ونهاية واضحة، خلافًا لرواية جبرا التي عبّرت عن بطولة الثقافة والجمال والانتصار الخالص، وأنجبت بطلًا أثيريًّا لا علاقة له بحياة العاديين من البشر الذين تمتزج فيها حياة المأساة والملهاة، وواقع الأمر أن المكان الفلسطيني بعد اللجوء جملة من الأمكنة، وأن زمنه جملة من الأزمنة. وأن الفلسطيني الموحد لا وجود له بعد الشتات.

الاغتراب المقاتل

ظلّلت المأساة الرواية الفلسطينية «الحقيقية»، وهي جملة من الاحتمالات الدامية، آيتها مدينة غزة التي لا تتقي البرد إلا إذا راهنت على وجودها، تنتزع بطولتها الإعجاب والتحية وتعامل مستقبلها بمنطق الرهان والاحتمال. تقاتل ولا تعرف إلى أين تسير، وتنظر إلى المستقبل وتكاد لا تتذكّر الماضي إلا كلحظة سعيدة لن تعود. لكأنها تلتبس بصورة «سعيد مهران» بطل محفوظ في روايته «اللص والكلاب»، الذي يسير إلى حيث يرغب وتعبث بخطواته الدروب الشائكة.

غزة في صورتها الأولى مرآة «للاغتراب المقاتل»، وهي في صورتها الثانية دمار وشرف، وفي بعدها الأخير «يوتوبيا الانتصار»، الذي يتبخر إن أشرقت الشمس. هويتها رغبة وموت ومقبرة ونشيد، أي مأساة تغرقها الأماني والدموع. بطولة مغتربة مسكونة بالانقسام تساوي نواياها ولا تجسد أفعالها المباشرة، كما أراد أندريه مالرو الذي قال: «صورة الإنسان من أفعاله»؛ ذلك أنها تبني صورتها مشرقة يمحوها الاغتراب، فعلى الإنسان أن ينجز ما يستطيع ويدع الرواية تسردُ معادلات واقعية وغير واقعية في آنٍ.

ما يجب التذكير به أن الغريب واللاجئ والمنفي، ولكل منهم اغترابه، تلاحقهم صفات ثلاث: الاستثنائي والاتهام والخوف الذاتي. فليس للغريب حقوق المواطنين الذين يعيش بينهم، فغير مقبول أن يحتل وظائفهم، ولا أن يتمتع بحقوقهم المدنية والسياسية، ولا أن يشاركهم احتجاجهم و«مظاهراتهم»: إنه داخل القانون وخارجه، يعاقبه إن أخطأ كالآخرين، ولا يسامحه إن سامحهم أو خفّف عنهم الأحكام. تغذي فيه استثنائيته الاجتماعية شعوره بالنقص وتملي عليه حياة إنسانية ناقصة. ألمح إلى ذلك جبرا إبراهيم جبرا في روايته: «صيادون في شارع ضيق»، حيث الوافد الفلسطيني موضوع للنقد والنكد والاستبعاد.

يأخذ اتهام اللاجئ شكل البداهة، فهو ليس في وطنه ولا حق له في وطن الآخرين وعليه أن يخفض رأسه ليتقي أشواك الاتهام. عالجت سميرة عزّام حيرة اللاجئ في قصتها القصيرة «فلسطيني»، حيث الضفة لا تشير إلى وطن مفقود أفقر اللاجئ إنسانيًّا ومعنويًّا، بقدر ما هي إعلان عن: النقص يدفع به إلى شراء هوية «لا تشترى»، فنقصه يلاحقه من الصباح إلى المساء. وقالها غسان في روايته «عائد إلى حيفا» التي استنكر فيها اللواذ بالذكريات، فهي حفنة من الصور المتقادمة، أكبر في عدوه استعداده للقتال، واتخذ منه «معلّمًا» جديرًا بالاحترام. ربما تكون هذه الرواية فريدة في جرأتها ومنظورها ووحيدة في حوارها الشجاع مع اليهودي الذي احتل فلسطين؛ ذلك أن معظم الروايات الفلسطينية اكتفت بتسخيف اليهودي دون الاعتراف بإمكانيته الإنسانية المقبولة والمرفوضة.

الغريب المسورة حياته بالخوف صورة يلتقطها الأدب مجزوءة، وتتضح أبعادها في الحياة كائنًا متهمًا تلاحقه الأسئلة، مشكوكًا في وجوده وإنسانيته، عليه أن يتذكّر أمام مخبر بليد اسم جدّه الخامس، والبيوت التي سكنها، والمواقع التي مرّ بها، وأسماء أصدقائه الأحياء والأموات والذين سيموتون قريبًا.

استولد كابوس الغربة وشقاء الاتهام وتهافت «الأجهزة الأمنية المتسلطة» صورة الوطن المفقود، وخلق «يوتوبيا» الغريب الراجع إلى وطنه. تعني «يوتوبيا» حرفيًّا المكان الذي لا وجود له، فهو أمنية ورغبة، وهو في الحلم متجانس وشامل ولا انقطاع فيه وغريب اللغة. وإذا كان القرن الثامن عشر في أوربا خلق اليوتوبيا من العلم والفضيلة والأنوار، فإن يوتوبيا الغريب/ اللاجئ/ المنفي، الذي سقطت عليه أكثر من مجزرة عالم لا تنقصه العدالة، يعرف القانون ويطبقه على الجميع، لا يحوّل البيوت إلى سجون ولا يملأ الشوارع بالمخبرين ولا يصيّر مدينة محاصرة فقيرة إلى «مقبرة للأطفال».

إذا كانت يوتوبيا عصر التنوير التاسع عشر مهجوسة «بالتقدّم»، فإن يوتوبيا اللاجئين مهجوسة بهواء نظيف لم تدمره القذائف والطائرات، تقدمه رحمة وأنواره عدالة مشتهاة.

لا غرابة أن يكون بين السعادة والرواية مسافة واسعة. فلا وجوه حقيقية تخفق في نهايتها رايات الانتصار منذ أن ابتلع «موبي ديك» البحار العصابي «إيهاب»، وصولًا إلى مصري فقير وشجاع يدعى «سعيد مهران» قتل قبل أن يداعب طفلته «سناء»، انتهاء بمتشائل إميل حبيبي؛ حيث التشاؤل مناورة متقشفة تسمح للوجه أن يبتسم شرط ألا يختلج، وللعينين التمتع بالربيع وهما مغلقتان، وتعد مدينة غزة الفلسطينية بشتاء لطيف القنابل.