هند أبو الشعر: بعض الدول قد تنهار مثل جبل الثلج.. أما المجتمعات فحالة مختلفة
أقف في هذه المساحة أمام مفكرة ومؤرخة، من دون أن أغفل أنها كاتبة وقاصة رائدة، وفنانة تشكيلية تستعد لإقامة معرضها الأول، ولن يفوتني أن أشير في غمرة هذا كله إلى أنها تستعد لنشر روايتها الأولى، فيما تدقق كتابها الجديد عن «تاريخ القدس».
تحلم بعزف موسيقي لعازف كمان شاب، تحت سماء مرصعة بالنجوم في ليلة صيفية دافئة في مدينة ما وفي عالم تسوده المحبة. تعمل جاهدة لبث الوعي والأمل من أجل مستقبل مشرق للأجيال القادمة، متسلحة بأدوات هذا العصر «التكنولوجية» من دون أن تغفل قواعد وأصول الباحث الرصين والجاد والموثق. مؤمنة بالعلم والإدراك والبحث للوصول للحقيقة دون سواها وبلا خجل من توضيحها، مؤكدة أن العقل البشري لا جنس له ولا يميز بين رجل أو امرأة.
ترفض عند سؤالها عن وضعنا الراهن بأننا أمة «خاسرة» أو على الهامش، مؤكدة أن العالم بأسره نقل عنا العلوم والأرقام والقيم والحضارة في حقبة زمنية مضيئة، موضحة أن لكل جواد كبوة، وأن تاريخ الدول لا يتطابق بل يختلف عن تاريخ المجتمعات من جهة معاينته والبحث في أحداثه. تفخر بأنها درست وتتلمذت على يد شيخ المؤرخين العلامة الدكتور عبدالعزيز الدوري، رحمه الله، الذي علمها منهجية البحث وأصوله العلمية الرصينة، وتدين له بالكثير، وفيما بعد المؤرخ الكبير محمد عدنان البخيت والدكتور عبدالكريم غرايبة والدكتور علي محافظة، وآخرون يصعب ذكرهم.
مثلت الأردن في العديد من الفعاليات والمؤتمرات التي تعنى بالتأريخ، ونالت العديد من الجوائز والأوسمة التي كرستها واحدة من أبرز المؤرخين العرب المؤثرين. احتفلت بها مؤسسة عبدالحميد شومان، «أديبة ومؤرخة وموثقة» خريف عام 2021م. إنها المؤرخة والمفكرة الدكتورة هند أبو الشعر. من مواليد عجلون، وخريجة مدرسة إربد الثانوية للبنات. تخرجت من الجامعة الأردنية، في قسم التاريخ بكلية الآداب، للمراحل الثلاث (البكالوريوس، الماجستير، الدكتوراه). وانتقلت للعمل في جامعة آل البيت عند تأسيسها سنة 1994م، وما زالت تعمل بها حتى الآن. صدر لها من الكتب: «حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي في الكوفة»، و«إربد وجوارها»، و«تاريخ شرقي الأردن في العهد العثماني (1516- 1918م)». حررت وشاركت العديد من الكتب، منها: «دراسات في مصادر تاريخ العرب الحديث»، و«بناء الدولة العربية الحديثة»، و«الرواية في الأردن»، و«فن المقالة في الأردن»، و«الدولة العثمانية بدايات ونهايات»، وشاركت في مناقشة العديد من رسائل الدكتوراه والماجستير لطلبة جامعة آل البيت والجامعة الأردنية واليرموك ودمشق، ودرّست العديد من المساقات في التاريخين الإسلامي والحديث لمرحلتي الماجستير والبكالوريوس.
نص الحوار:
● قلبي مع الأدب وعقلي مع التاريخ، بدايتك كانت مع القصة القصيرة، وأنت قاصة متميزة ومن الرائدات، وفيما بعد انتقلتِ إلى التاريخ والتوثيق، ونفضتِ الغبار عن كثير من الجوانب المخبئة، هل هناك علاقة بين هذه الحقول، وبخاصة أن الأدب (القصة) له مقومات تختلف عن «التاريخ» الذي يتطلب البحث والتنقيب والتوثيق والصبر والتنقل والذكاء.. وغيرها…؟
■ ابتداءً أنا سعيدة بأن نتحاور معًا وأنتِ كاتبة القصة المعروفة، تعرفين مفاتيح هذا الفن النبيل الذي تشاركنا معًا في تعميق مجراه في الساحة الأدبية، وأنا أقول عن نفسي دومًا بأنني كاتبة قصة قصيرة قبل كل شيء مع أني أكتب المقالة الصحفية والدراسات التاريخية، وأمارس الفن التشكيلي، وأخيرًا بدأت بكتابة روايتي الأولى، لكني أجد روحي وقلبي في القصة القصيرة، أما عقلي وفكري فمع البحث والدراسة المنهجية، وهذا يتعبني أحيانًا، لكنه يتكامل في حياتي بتناغم عجيب. بدأتُ بالشعر وامتلكت لغة الشعر وصوره وألوانه، وعندما اخترتُ أن أدرس التاريخ في الجامعة الأردنية انفتحت أمامي أكوان جديدة لا تصدق… سحر تاريخ السومريين والآشوريين والفراعنة والعمونيين والمؤابيين والأنباط، وأساطير اليونان العجيبة، وعالم روما الذي وصلنا ورأيت آثاره في سهل حوران وعمّان، ومن ثم طرق بيزنطة التي سرتُ عليها، وأخيرًا عالم أجدادي العرب منذ الغساسنة الذين أنحدر منهم، والذين أراهم في وجوه الناس حولي، وتعاقب الحضارات مع بني أمية والعباسيين وتراكم العصور والشعوب.
كنتُ أقرأ عن كل الشعوب، عن الملوك والأباطرة والعسكر والجواري والتجار والفقراء والعلماء والشعراء، وقادة الجيوش، ونساء القصور، والأمهات اللواتي يخبزن الرغيف في بيوت الفقراء… آلاف الروايات والشخصيات والوجوه والأحداث انسكبت في عالمي، ووجدتُ نفسي أمام سيل من الروايات، ووجدتني أتحول نحو القصة القصيرة، وربما كان هذا يتزامن مع حالة اجتماعية مر بها المجتمع الأردني مع بداية انكماش الطبقة الوسطى، حيث شعرتُ بأنني أريد أن أصرخ بصوت هذه الطبقة بكلماتي وبأصوات الشخصيات التي أعرفها وتعرفني، وأظن أن هذه مبررات انتقالي نحو هذا الفن وانغماسي فيه حتى الثمالة… إنه فن نبيل ومتجدد رغم انحساره في السنوات الأخيرة لصالح فن الرواية.
أختصر لك الحالة بأن من يملك الموهبة فهو يملك ماسة ثمينة لا مثيل لها، وموهبة السرد الفني تحتاج فقط للصقل، أما من يكتب التاريخ فهو باحث مدرب، بإمكانك أن تدربي أي دارس على المنهج وهذا يأتي بالتدريب والمران، فيصبح الباحث دارسًا للتاريخ ضمن قواعد منهجية وهذا ما ندرب عليه طلبتنا في الجامعات، لكننا لا نستطيع (تدريب) أحدهم ليصبح كاتب قصة… الموهبة هي الأصل وهي الماسة التي تعرفين كيف تشعّ من الأعماق وتتألق في كل نصّ قصصي، وأنا درّبتُ نفسي على البحث والدراسة والمنهجية، لكني ولدتُ قاصة متمردة تحبُّ الحرية، بأجنحة فراشة، وقلب طائر يعشق حرية الآفاق الغارقة بالزرقة والنور.
● كتابك «حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي في الكوفة» لاقى صدى طيبًا ولافتًا على مستوى الإقليم، وتوقف أمامه كبار المؤرخين والباحثين. من أين جاءت أهمية هذا الكتاب؟ وما الذي استوقفهم ولفت انتباههم؟
■ هذا الكتاب من بواكير دراساتي وهو في الأصل رسالتي لنيل درجة الماجستير، وربما كنتُ محظوظة جدًّا لأن أستاذي المشرف كان العلّامة المرحوم عبدالعزيز الدوري، ومنه تعلمتُ المنهج، ومعه قرأت كل مصادر صدر الإسلام. كان -لروحه الرحمة والسلام- صارمًا جدًّا في المنهج وإنسانًا رقيقًا في آن معًا، قيمة هذا الكتاب في منهجه الذي درستُ فيه الروايات بموضوعية، فالدراسة تتناول وترصد تشكّل وتكوين حزب الشيعة في الكوفة، وهذا جعلني أقرأ مصادر المرحلة بكل أهواء أصحابها (أموية، عباسية، شامية، عراقية، حزبية- يعني أحزاب صدر الإسلام بكل الأطياف) ولم أهمل الشعر وكتب الفرق الإسلامية ومصادر الشيعة، وهذا امتياز الدراسة التي قدّرها الباحث الموضوعي، فلم أهمل أي مصدر مهما كانت هويته، ودرسته بمنهج فرض الاحترام، وبخاصة عندما درستُ تأثير حركة المختار في الفكر الشيعي، وتتبعتُ هذا في المصادر اللاحقة، الكتاب طبعتْه لي عمادةُ البحث العلمي في الجامعة الأردنية مع أنني كنت طالبة في الدراسات العليا، وأتمنى أن أعيد طباعته من جديد، وأنا أعتقد أن تأسيسي كباحثة كان رصينًا بسبب عملي مع أستاذ علّامة يعرفه العالم كله، وكان يقول لي: «أنت مثل ماسة في منجم، وكل ما أقوم به هو صقل هذه الماسة»، ليت الذين يشرفون على طلبة اليوم يعرفون هذا ولا يتعاملون مع العقول الشابة بحياد، ولا يعتبرون دورهم في الجامعات مجرد إعطاء محاضرات، ونحن في زمن التقنية الفائقة التي تقدم لكل من هبَّ ودبَّ عالم المعرفة، أقول: ليتهم يعلمون التفكير النوعي والمعرفي الذي نحتاجه الآن.
المؤرخ وكتابة المستقبل
● ما الصفات أو السمات التي يجب توافرها في «المؤرخ» الباحث والموثق؟
■ هذا سؤال جوهري ومهم. بالمناسبة ألقيتُ محاضرة قبل شهر في المركز الثقافي الملكي التابع لوزارة الثقافة بعمان بعنوان: «الرؤية المستقبلية لكتابة تاريخ الأردن في المئوية الثانية للدولة الأردنية»، وضعتُ فيها رؤيتي كأستاذة جامعية وباحثة في تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني؛ ذلك أن الزلزال الكبير الذي نعيشه قَلَبَ العالمَ كله رأسًا على عقب، وأتاح كل أصناف المعرفة لأي إنسان بكبسة زرّ… فلا يجوز أن تكون معرفة طالب النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين هي معرفة طالب ما قبل انتشار التقنيات الفائقة، كل المعارف بأيدي مَن يشاء، لم يعد الباحث يحتاج للسفر ومراجعة مصادر دراساته… أصبحت بمتناول اليد وهو يجلس أمام حاسوبه… المهم كيف نعلمه المنهج وليس كيف نحفظه المعلومات؛ لأن الأستاذ اليوم لا يتفوق بمعرفته ووصوله لعالم المعرفة المتاح للجميع، بل بمنهجه وعقله وفكره.
وأساس محاضرتي كان «نحن لا نكتب التاريخ لجيلنا… يجب أن نكتبه لجيل المستقبل». هذه هي فكرتي- أي كتابة المستقبل، والتاريخ كما علَّمنا أستاذنا الراحل عبدالكريم غرايبة أخطر من قنبلة هيروشيما؛ لأنه يثير الصراعات والخلافات إن أردنا. كان يريد منا أن ندرس تاريخ العلم والمعرفة والحضارة، ويؤكد لنا أن تدريس تاريخ المعارك والخلافات يقود إلى بعثها. وأقول أخيرًا: المؤرخ حالة نادرة، يجب أن يتوافر لمن يدرس التاريخ ويكتبه ويدرسه صفات صعبة منها الثقافة الواسعة والمتعددة والتنويرية ليكون موضوعيًّا، عليه أن يعرف اللغات وثقافات الشعوب، أن يكون عقلانيًّا ولا يكتب بتحيز، أن يتذكر أن ما يكتبه يصنع مصاير الناس وفكر الجيل القادم؛ لذلك أطالب المؤرخ اليوم أن يتعلم سعة الأفق -لأنها علم ومعرفة نادرة وصعبة- وينبذ التعصب ويفكر بانفتاح ووعي ويحكم ضميره.
● واجهَتْكِ كامرأة في هذا الحقل الشائك كثير من الصعوبات والمعوقات، ولا سيما أن هذا الحقل يصعب على كثير من المؤرخين «الذكور»، أرجو أن تتطرقي لهذه الصعوبات والتحديات؟
■ هذا ما يقوله البعض، ويعتقدون أن التخصص في هذا العلم يحتاج للرجال، أنا لا أستطيع فهم هذه المقولة؛ لأن العقل البشري لا جنس له، ولا أظن أن المرأة تفكر بعقل مختلف عندما تقول: إن واحد زائد واحد يساوي اثنين! صحيح أن عدد المؤرخات قليل، ربما في عالمنا العربي، لكنهن حاضرات… أنا أكتب القصة القصيرة والرواية وأرسم وأكتب بالمقابل المقالة الصحفية التي تخاطب كل الفئات من خلال الصحافة. المقالة لغة وعقل ومواجهة مع كل أصناف القراء؛ لذلك كتبت آلاف المقالات لسنوات، وطرحت من خلالها فكري، أما القصة والرواية فحالة خاصة وإبداع للروح والوجدان والفكر معًا، في حين أن كتابة التاريخ مسؤولية كبيرة وكل ما أقوله يحسب عليَّ إلى آخر الدهر؛ لذلك أكتب بوعي وعقلانية ولا أسمح لعواطفي أن تقودني، وبخاصة أنني أكتب تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني، وهذا يثير تساؤلات كثيرة حول الدولة العثمانية. لا أستطيع أن أزوّر وأكتب ما لا أجده صحيحًا خدمةً لأحد مهما كان، أخدم ضميري أولًا، ولا أخاف من الحقيقة لأنها حقيقة! عندما أجد حالة ظلم للدولة ومقولة أن الدولة العثمانية كانت تجور على مواطنيها بالضرائب أرجع لدفاتر المالية وأورد الأرقام والإحصاءات… مَن يستطيع عندها أن يقول عكس ذلك؟ ومَن لا يستطيع أن يواجه الظلم ويدينه؟ الرقم هو الفيصل، ولذلك أقول: إن المسألة ليست عقل رجل أو عواطف امرأة… التاريخ علم هذا ما يجب أن نرسخه في الأذهان، فإذا حجب أحدهم اسمي عن غلاف كتابي الذي يتحدث عن الدولة العثمانية، فلا يستطيع أن يحدد أني عربية وأردنية وامرأة… أنا أكتب تاريخًا بمقاييس علمية وأحرص على احترام عقلي، والأهم أيضًا أحرص على قلمي ولا أسمح بتأجيره لأحد لئلا أفقد احترامي لنفسي.
التاريخ يكتبه المؤرخ لا المنتصر
● «المنتصر يكتب التاريخ» كيف واجهت هذه المقولة في الواقع؟ وما مدى دقتها، وبخاصة أننا غالبًا الطرف الآخر المتضرر أو اللاعب الخاسر؟
■ هذا ما يقولونه عادة، ولكن مَن قال: إن على المؤرخ أن يأخذ برواية واحدة ويعتمدها؟ اعتدت أن أعلم طلبتي أن عليهم أن يقرؤوا كل الروايات ويحللوها ويرجحوا الحقيقية… رواية المنتصر ورواية المهزوم ورواية المراقب… هذا علم وليس خبر عابر… أما أن نكون «نحن غالبًا الطرف المتضرر والخاسر» فهذا كما أفهمه حكم عام، نحن كعرب كنا في زمن ما الطرف المنتصر… هذا ما قرأناه في مئات المصادر، فكيف كتبت عنا الشعوب الأخرى؟ هل كتبنا إذن تاريخنا من وجهة نظر المنتصر؟ أسئلة كثيرة وإجابات تحتاج لدراسات ودراسات، وهنا أحب أن أؤكد أن لا اتهام للتاريخ ككل، بل تُدرَس الروايات والراوي، كل رواية على حدة، وعندها يتم فرز الروايات وتمحيصها وتقييمها، ثم مقارنتها بالتاريخ المحلي للشعوب التي كتبنا تاريخ انتصارنا عليها، فلا نتهم كل التاريخ ولا نطلق حكمًا عامًّا؛ ولذلك فإن مثل هذه المقولة لا تنطبق على كل ما يصلنا، فبعضها مطابق للحقيقة. وأحب أن أضيف أنني أتوجه عادة للدراسات الاقتصادية والاجتماعية أكثر من الدراسات العسكرية والسياسية؛ لأنها تاريخ الإنسان والأرض، تاريخ الحضارة التي لا تمثل التحيز لعرق أو لجنس أو لدين أو لمذهب… المهم هو الإنسان.
● الآن، أين نحن دولًا ومجتمعات؟ ما الذي يمكن فعله لإعادة الضوء لواقعنا؟
■ مثل هذا السؤال يوجه للمؤرخ باعتبار أنه يعرف الماضي وهذه المعرفة تساعده على الرؤية في العتمة. أعتقد أن من الأفضل أن نفصل بين رؤيتنا للمجتمعات ورؤيتنا للدول، الدول حالة عجيبة في هذا الزمن، يمكن لبعضها أن ينهار مثل جبل الثلج إن كانت دولًا بلا أساس، أما المجتمعات فحالة مختلفة، مع أن المجتمع لا يكون بغير الدول، لكن أنا أرى أن مجتمعنا العربي حالة استثنائية في هذا العصر العجيب الذي عصفت فيه عوالم التقنيات المتغيرة بسرعة الضوء، ويبدو أن الصراعات التي نراها بين الأفكار طبيعية؛ لأن المقدرة على استيعاب هذه المتغيرات غير ممكنة بزمن محدود.
يحتاج المجتمع لزمن أطول ليستوعب هذه المتغيرات التي باتت من يومياتنا، لا نستغني عن الهواتف النقالة ولا الإنترنت ولا الطائرات التي تنقلنا من قارة إلى أخرى… التعليم بات عبر الإنترنت… كيف يمكن أن يعيش مَن يرفض التغيير؟ لا يمكنه أن يطلب سيارة أجرة إن لم يكن لديه تطبيق ذكي… لا يمكنه أن يشتري تذكرة سفر في الطائرة… والآن بات يأكل ويطلب المشتريات والأدوية ويدفع فاتورة الكهرباء والماء عبر الإنترنت… حكومات إلكترونية شئنا هذا أم أبينا. أعتقد أننا لا نستطيع الآن أن نعرف أين نحن لأن العالم كله في حالة من التغيير ضمن هذا العصر الرقمي الذي تغير فيه كل شيء، والسؤال هنا: ما التاريخ الاجتماعي الذي يمكن أن نرصده الآن؟ لننتظر ما الذي يحدث بعد كورونا… لننتظر… لكني على ثقة بأن الطريق إلى المستقبل هي طريق العلم والمعرفة الفائقة، علينا أن نسير بمجتمعنا نحو التنوير والعلم والعقلانية… هذا ما أثق به مهما حدث من متغيرات.
طريقنا نحو دراسة علوم المستقبل
● ما الذي سنتركه للأجيال القادمة؟ أسأل من موقعك كمؤرخة مرموقة وموثقة وباحثة.
■ نحن في مرحلة قلقة، العالم كله يعتمد على ما تنتجه المختبرات التي تعتمد على الكيمياء الفائقة وعالم الفيزياء النووية، نحن في هذا الزمن تحديدًا ننتظر نتائج الأبحاث الطبية لمكافحة فيروس قاتل لا يكافحه غير العلم، ولكني لا أشعر بالفشل ونحن نعتمد على فكر وأبحاث الآخر، هذا مقبول في زمن ما، لكني واثقة بأن عالم العلم واسع ونبيل حيث يشارك علماء عرب في معامل ومختبرات العلم. هم يقدرون العقول ويستفيدون منها ولا يفكرون في جنسية صاحبها، بل في إنجازه وطريقته في التفكير؛ لذلك أقول: إن علينا أن نجعل طريقنا كشعوب عربية طريقًا تقود أجيالنا الحاضرة نحو التعليم المستقبلي ولا نفكر في عقلية التصنيف العرقي أو المذهبي.. أنا كاتبة وأفخر بإنجازنا الأدبي والإبداعي كثيرًا، لكني أتمنى أيضًا أن نقود الجيل المستقبلي نحو علوم المستقبل ليتمكن من العيش في عالم يقوده العلم الفائق وعلوم الفضاء والتقنيات المتغيرة بسرعة الضوء. الفيصل هو التربية والتعليم باتجاه المستقبل، والحصول على مقعد في قطار النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين… وأنا بدوري أسأل: هل ستفعل وزارات التربية والتعليم العربية هذا، وتقودنا نحو طريق المستقبل؟ لا نريد أن يفوتنا القطار ونجلس في العتمة.
● التاريخ و«التأريخ» يحتاج للدقة والصبر وكثير من الحب، وبخاصة أن كثيرًا من أحداث ووقائع التاريخ منتحلة أو مفتعلة وغير دقيقة، وبحاجة للفحص؛ كيف تعالجين هذه المعوقات؟
■ سؤال لا أوافق على كل أجزائه، لكنه صعب ويحتاج للتوقف. أوافقك على أن كتابة التاريخ تحتاج للدقة والصبر، وهذا مقبول تمامًا ومطلوب جدًّا، الدقة والفحص والصبر والحب أيضًا… لكني لا أقبل بالتعميم في الجزء الثاني من السؤال، صحيح أنها كلها بحاجة للفحص ولكن ليست كلها مفتعلة وغير دقيقة… المنهج العلمي يحلّ كثيرًا من المشكلات التي تواجه المؤرخ، ومنها العودة لكل المصادر المتاحة بكل اللغات التي تخص أرض الحدث، ودراسة مادتها ومقارنتها وتفحص أصول الروايات وتمحيصها قبل القبول بها أو رفضها، وهذه هي الخطوة الرئيسة، ولا ننسى أن المصادر متعددة: شواهد أثرية ونقوش وصور ونحت، قد تعود لمئات ومئات السنين، ثم المصادر المكتوبة، وهنا تساعدنا العلوم المساعدة على تحليل الموجودات من مختبرات وعلوم وكلها في صف المؤرخ، عالم اللغة، الاقتصاد والإحصاءات، الجغرافيا، كل عصر له علومه التي تساعد المؤرخ واليوم صارت الصورة الفوتوغرافية من أهم مصادرنا… يمكن الكشف عن تزوير التاريخ الذي جرى لإحدى ملكات الفراعنة، وهي «حتشبسوت»، من خلال المختبرات والتصوير الضوئي ويمكن استخدام تقنيات التصوير الفائقة لمعرفة موجودات المومياوات التي تبلغ أعمارها 3000 سنة أو يزيد… ثقتنا في العلم كبيرة وفي الحقيقة التي يسعى المؤرخ للوصول إليها.
وأقول أخيرًا: نحن ننتقل بهذا العلم من الصورة التقليدية إلى ما يقدمه العالم من علم التوثيق وما يرتبط به من علوم متاحة؛ لذلك أجد هذا السؤال مطلوب الآن طالما أننا نتحدث عن مطالبتي كتابة التاريخ للأجيال القادمة وليس للجيل الحاضر، وبلغة علمية وباستخدام الأرقام والجداول والإحصاءات والأشكال البيانية.
المرأة وكتابة التاريخ
● عدد المؤرخات والباحثات والموثقات قليل في العالم العربي، وتكادين تكونين متفردة في هذا الحقل؛ لماذا؟
■ حقيقة لا أدري لماذا…؟ أعرف بعض صديقاتي ممن درسنا معًا علم التاريخ، وأعرف أنهن على قدر من المسؤولية والعطاء الفكري والأكاديمي، لكنهن أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، كانت الدكتورة سهيلة الريماوي، لروحها الرحمة، من أوائل المؤرخات في الجامعة الأردنية، وفي الأردن الأستاذة الدكتورة غيداء خزنة كاتبي، والدكتورة فدوى نصيرات، وأعرف مؤرخات في العراق، وفي سوريا كانت المرحومة الدكتورة خيرية قاسمية من أشهر المؤرخات… العدد لا يتجاوز أصابع اليدين في المشرق والمغرب العربي كما أشرت في سؤالك… وهذا ينطبق على العالم كما أعتقد.
● كيف استطعت الصمود والثبات في هذا الحقل الشائك؟
■ لا أعتقد أن في المسألة حقول شوك وأسلاكًا شائكة، أجد نفسي في التوثيق للوطن في العهد العثماني، وأجد أن ما أنجزته خلال تدريسي الجامعي وتخريج طلبة دراسات عليا والإشراف على الرسائل ومناقشة رسائل الدكتوراه والماجستير متعة؛ لأن فيها بناء للعقول والشخصيات. أما إنجازي في كتابة التاريخ والتوثيق فتجاوزت 81 كتابًا حتى اليوم وما زلت… هذا العام أنجزت كتابة المرحلة الأولى من موسوعة تاريخ الأردن في عهد الإمارة بواقع 4 مجلدات، وسأبدأ بالمرحلة الثانية بدراسة التاريخ الاقتصادي والثقافي وربما وصلت مجلداته أيضًا إلى أربعة.
كما انتهيت من تدقيق النسخة الأخيرة من كتابي الجديد عن تاريخ القدس (1908– 1914م) ويقع في 600 صفحة ويصدر مع مطلع العام الجديد عن دار (التراث العربي) وهي دار نشر جديدة لصديقي المؤرخ المقدسي الأستاذ الدكتور محمد هاشم غوشة الحاصل على «جائزة الملك فيصل لجهوده في التأريخ للقدس»… ولدي مشروعات أخرى جمعت لها المواد بانتظار الكتابة… إنها متعة وليست عقابًا كما تلاحظين، ومما يخفف الضغط أنني أكتب القصة القصيرة وحاليًّا الرواية، وأعتقد أن الشعور بأن هذا حقل شائك يعود إلى أن البعض يقرأ تاريخًا يكتبه البعض بلغة جافة وجامدة. لا تنسي أنني كاتبة قصة قصيرة ولغتي جميلة، ومن حق القارئ أن يقرأ لغة جميلة ولكن بمنهج علمي ملتزم.
● ما القضية التي تشغل بالك الآن؟
■ تقصدين ما القضايا؟ وما أكثرها على كل صعيد، شخصي وعائلي ووطني وقومي وإنساني. بصراحة تشغلني الآن قضية الانتهاء من روايتي وأين سيتم نشرها. أريد لها أن تكون مبهرة؛ لأنها جاءت بعد كل هذا الزمن في كتابة القصة القصيرة.. أريدها ملكة إنجازي وإبداعي.
● ما الذي تحلمين به على المستويين الشخصي والعام؟
■ أحلامي لا تنتهي، والمهم تحقيقها. على المستوى الشخصي أريدها أمنيات جميلة وملونة، سأعطي نفسي زمنًا للرسم ولتنظيم معرض فني.
أحلم بأن تنتهي هذه الجائحة البشعة وأسافر، ولا أفصل بين الأمنية الخاصة بأن يتغلب العلم على هذا الوباء الذي أصابنا كعائلة بزلزال مخيف فاختطف شقيقي الطبيب من بيننا مع مجموعة نبيلة من الأطباء -لأرواحهم النور والسلام- أحلم بأن أفتح عينيَّ على عالم خالٍ من الظلم والمرض والجوع وتسوده الحرية… عالم طيب يبتسم فيه كل الناس باكتفاء وبلا خوف. عالم تسوده العدالة. يا الله، كم سيكون العالم جميلًا! ولكنه حلم كاتبة كما تعلمين.
● هل حققت ما كنت تطمحين إليه؟
■ لا أعتقد أن أحدًا في هذا الكون المجنون حقق ما يطمح إليه منذ ابتداء الخليقة… دائمًا نحلم ونحلم، وهذا سر استمرار الحياة. الحلم جميل والبحث عنه أجمل. في كل يوم أستمتع بعزف ابن شقيقي الشاب ابن التاسعة عشرة بمقطوعات موسيقية على البيانو، أدمنت سماع الموسيقا وهو موهوب ويعزف بلا نوتات… أحلم بأن أراه ذات يوم موسيقارًا عظيمًا… أليس هذا حلمًا جميلًا؟ أحلم بأن يعزف ذات ليلة صيفية للعالم كله في إحدى ساحات المدن العظيمة… الآن وأنا أضغط بأصابعي على الكيبورد تغمرني ألحان البيانو، فأحلم بتلك الليلة في إحدى ساحات مدينة تعشق الموسيقا… ولتكن فيينا مثلًا… أليس هذا حلمًا جميلًا، العزف على البيانو تحت سماء مليئة بالنجوم التي تصفق مع الأكف للعازف الشاب…؟ فهل يتحقق هذا الحلم الراقي؟! كلي ثقة وأمل.