أكنت أنا؟
الرجل الذي سمي باسمين اثنين بالمجاز، لم يكن باستطاعته أن يكون أحدهما كاملًا! فبقي موزعًا بين «الهُنا» و«الهُناك»، وواقع سوريالي يجري على مبعدة خطوات قصيرة منه، في المدينة التي علّمت العالم الأبجدية.
ينبت له شاربان خفيفان بخطين صغيرين ناعمين كزغب طيور وُلدت للتو، بلون أشقر أو أصفر يشبه رأس سنبلة قمح متوهجة بفعلِ أشعةِ شمسِ آب.. وجهه طولاني، أنف صغير مدبّب، بعينين حالمتين ناعستين ترنوان نحو أفق بعيد تطوقه أسلاك حديدية شائكة غليظة، لن يتمكن حتى الطير في سمائه السابعة أو الثامنة، من التوقف فوقها ذات فجر.
«إلهي: ارفع عني هذه الكأس!».. سيقول ذات صباح أحمر نهض فيه متأخرًا على غير ما اعتاده في سابق أيامه ولياليه، ولم يجد مدينته.. مدينة إقامته هذه المؤقتة، في انتظارٍ لحلمِ عودةٍ مباغتة طال سرابها. يتذكر توسل «السيد» ورجاءَه لربه «له المجد في علاه» في وقت يشبه وقته هذا تمامًا! ينظر إلى المدينة، صباحها المعتم بسواده..
على مبعدة يرى موقع «المعمداني» الذي ضمت رفاتَه المدينةُ بعد أن بشّر بـ«سيده» وآمن به ولم يره قط. المدينة نفسها التي لم يتعرف إلى وجهها في هذا الصباح، فلم يجد ما يسند قامته النحيلة سوى رجاء «السيد» لربه وتوسله في محنته.. المدينة نفسها وفي حدثٍ مباغت وللمرة الأولى منذ خمسين عامًا أو أكثر أو أقل، ستقذفه! يتذكر الأمر الآن في هذه الساعة بمدينته التي لا تشبه ساعات غيرها.. ستقذفه نحو الأفق المسيج بالأسلاك الشائكة، نحو حلمه الذي يرنو إليه القلب قبل العين طويلًا، ذلك أنه لم يتوقع أنه سيعود خطفًا سريعًا ومرغمًا نحو المدينة نفسها، كخروجه تمامًا.. سيعود، إلا أنه في هذه المرة سيخلف قلبه وراءه. ستقابله المدينة ثانيةً باسمه الذي يحب، والذي يحاول أن يكونه عبثًا. ستأخذه من يده، ستأخذه هذه المرة وتصفعه على وجهه صفعات لم يعد يتذكرها لقسوتها، وتعيده ثانية تحت سمائه المقيمة هذه.
سيبكي. سيبكي كثيرًا تحت سماء مدينته التي لم يتعرف إلى ملامحها هذا الصباح، في ساعاتٍ لا تشبه غيرها من ساعاتٍ مرت عليه، تحت سمائها المختنقة بـ«طائرات الميغ» محاولًا أن يحتفظ بسماء المدينة الذي اعتاده، عاريًا مشلوحًا متوسلًا لرب السماء «له المجد في علاه». في هروبه أو لجوئه نحو اسمه الثاني، يحاول التذكر ليكتب عن هول ما جرى منذ عام -أقل أو أكثر قليلًا- لم يعد يتذكر، ثمة شقوق في الذاكرة وفيما يجري الآن من عام 2012م. سيكتب عن هول ما جرى، وما يجري. عن مدن يحنّ إلى رؤيتها في الحب أو الحرب. الحرب التي يحاول تأجيلها على طريقته هو: «أيها الجندي تمهل قليلًا، تمهل كثيرًا، دع المطر يتساقط من سماء ضاحكة ليبلل روحي، دع نظرة عينَيّ تقف على بيت صغير يغفو أسفل بطن الجبل، وعلى ياسمين لم يتفتح بعد. عندها فقط ربما عليك أن تطلق رصاصتك!». «لستُ بجندي»، يقول: «ظننتُ أن شغفي بالسهول، وبالياسمين، والنارنج ويوسف أفندي، والبحرة عند مدخل بيتنا القديم، سينقذني مني ومنك». لكن طواحين هواء خيالها ذاكرة لا تقيم، وفي ليلة عاصفة ومعتمة محته «أثرًا بعد عين»، فاشتهى الطحان الغافي قمحًا من غير زؤان لطحنه! لكنه لم يجد غير حبات سوداء صغيرة برؤوس فارغة! عندها أصبح قلبي بئرًا أصابه حجر في عمقه، فظن أنه أمل تناثر ماؤه وتوزع ليحضن الياسمين والبيت أسفل الجبل، أو ذاك البيت الصغير الذي ملّ انتظاره في «جادة العائدين»، بالقرب من ثانوية البنات، في المدينة التي تقتلني وتقتلك، إلا أن الظن خاب واندثر. هي عاطفة لم أتبين آثارها بعد. ذلك أنني ربطت قلبي من وسطه بحجر (يجيبه بأحد اسميه) كي ينسى حنينه أو لا يتذكر. تجاهلت الأمر بزراعة الصبار في طريق عودة مرتقبة، إلا أنني أضعت طريقي بين أشجار كثيفة ويابسة قرب نبع جف ماؤه فنشف، ليبقى الحصى في مكانه كشاهد فزاعة! منذ ذلك الوقت استوقفتني الأحلام واعترضتْ طريقي في حقول العودة المليئة بالأشباح والعتمة، لأرى بعينيّ المغمضتين الرجل ميتًا وسط الأعشاب الضارة وقد دخل عامه الألف أو يزيد، وما يزال يحتفظ بخاتم فضّي حال لونه واصْفَرّ، ومفتاح قديم أسود. هل كنت أنا؟ أم كان هو؟ أم كنا الاثنين معًا؟ أم أنا باسمَيّ الاثنين؟ بتُّ لا أعرف شيئًا ولا أتذكّر.