«قميص بذكريات معطوبة» لمحمد الحرز… الانحياز إلى مفردات الحياة

«قميص بذكريات معطوبة» لمحمد الحرز… الانحياز إلى مفردات الحياة

الشاعر محمد الحرز في ديوانه «قميص بذكريات معطوبة» (خطوط وظلال للنشر والتوزيع) يلتقي التشكيليَّ والشاعر محمد العامري، فجاءت لوحة الغلاف تشكيلية مبدعة، قصيدة طازجة، متفردة. ينفرش اللون الأحمر بتوهج طاغ على أرضية الديوان، ويكمل اللون النيلي الغامق عناصر اللوحة بجمالها الكامن. وتظهر على الغلاف قصيدة، من قصائد الديوان، لا تنفصل عنه عند القارئ المتذوق. مع الاتكاء على اللون الأبيض وشخص ما يظهر الجزء العلوي من جسده وهو يحاول خلع ثوبه، بيدين نحيلتين طويلتين، باللون النيلي الغامق فيما لا تظهر ذراعيه في اللوحة المقابلة سوى اليدين، والرداء بأكمله يغطي رأسه الذي لا يظهر في المقاربتين التشكيليتين. وبقدر ما يختزن هذان اللونان: الأحمر والأزرق، من جرأة وقوة ومباشرة، بقدر ما يحيلان إلى التأمل والدهشة وإثارة الجمال وإعمال التفكير وصولًا للتأويل، وانفتاح الفضاء التخييلي لدى المتلقي على مصراعيه. وهذا ما أراده الشاعر: توريط المتلقي بكتابة النص كما يريده هو وكما يطيب له.

الأحمر: من الألوان القوية، التي تحمل دلالات ورموز نفسية عميقة مختلفة. وهو لون جريء وجميل ولافت، يرتبط بالعديد من الدلالات التي لها تأثير نفسي قوي. يرمز للنار وللعاطفة المتأججة والطموح، ويحيل العقل نحو النشاط والحيوية والثقة. في ألوان الطيف الضوئي يوجد اللون الأزرق، هناك بين البنفسجي والأخضر. يوجد في الطبيعة، كلون السماء، أزرق فاتح، أزرق داكن، لون البحر. له تأثيرات عميقة في علم النفس. يعد لون الروح، يمنح المرء مشاعر الراحة والهدوء والاسترخاء. أما لدى الشاعر الحرز والتشكيلي العامري فهو لون الإحساس بالتميز، والانعتاق نحو فضاءات بكر، أو ربما الإحساس بالحرية. «الحرية التي نطالب بها في هذه الأزمنة لا تأتي»، يقول الشاعر ويوضح السبب الكامن وراء غياب هذه الحرية «ليس لكونها ممتنعة التجسد فقط، إنما السبب في قلة الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي في حياتنا العربية، وبسبب ما ندعيه من مقولات زائفة حول الوعي الجمالي الذي حملناه مثل جرار على أكتافنا منذ الطفولة».

قميص أحمر يتسع لكل الأشياء

ينحاز الشاعر في قصيدته إلى لعبة الحياة اليومية، وتقليديتها الرتيبة، كما يعيشها الفرد ويتلقاها. يتحدث محمد الحرز عما قبل كتابة القصيدة، عما يسميه «الرنين». يطلع هذا الرنين كما يشاء: أثناء جلوسه في البيت، أو مع الأصدقاء في المقهى، أو أثناء العمل. ثمة رنين يسمعه يطلع من داخله، ثم ما يلبث أن يطلع هذا الرنين ويرتفع إلى أن يلمع كنجمة تضيء عتمة ليلة، رنين يطلع من أعماق الروح فتجيء القصيدة. يتكرر هذا المشهد مع الشاعر في كل وقت، بمعنى أنه يسكن أعماقه الدفينة، في مكان لا يطوله سوى القصيدة. وعلى الرغم من الحزن الذي يتغلغل في ثنايا القصيدة، فإنه حزن شفيف يحيل إلى أن هناك ثمة أمل يتقراه المتلقي في نهاية الأمر.

محمد الحرز

في قصيدته استعادات لحيوات قديمة، صور، أحداث قصيرة مرت بسرعة، خيبات، أناس عبروا بهدوء، لكنهم تركوا بصمات غائرة تحت الجلد، وفي أعماق الروح. «دع القصيدة تصرخ/ لا تمسح على رأسها/ ربما يستيقظ ذئب القلب/ ويعود أدراجه إلى الغابة/ لا تقف على الباب/ وكلمات القصيدة تسبقك إلى الداخل».

يعتمد الصورة والتخييل بمقدرة لغوية فائقة يختص بها الشاعر ذاته، وأحيانًا يعيد المشهد في جملة قصيرة تومئ، بل تحيل للتأويل: «القميص الأزرق/ قلتِ لي: لا تلبسه الآن/ دعه لسهرة الليلة المقبلة/ القميص ذاته/ ذو اللون الأزرق/ لم أدفع به إلى المصبغة/ كي أزيل عنه الذكريات المعطوبة/ أو الحنين المتيبس على ياقته».

ينحاز إلى مفردات الحياة اليومية بانكساراتها وما الذي ستحمله في ثناياها للكائن الحي: «قبلة في الكأس»: «لا تقترب من شفتيها/ قبل أن ترى رائحتك/ قد تسللت إلى خلايا دمها/ لمسات يديك الأولى لا تلكزها بنظراتك/ دعها… هي مأمورة».

«حكاية الجسد الذي يخون»: ثمة قصائد قصيرة مكثفة تكشف عن تحولات الكائن الفرد وتبدلاته أمام متغيرات الحياة وشروطها القاسية، ويتعرض إلى «الألم» الجسدي والفيزيائي وما يسميه «خيانة الجسد» وانسحابه أمام أمراض وحروب وكوارث: «الجسد الواقف أمامه ليس قشا/ إنه عشبة الآلهة/ تلك التي كلما أصبحت عينها باتساع الغيم/ داهمتها قطعان الألم».

كأنما القصيدة لوحة تشكيلية بألوان وأحرف، كالورود حيث «السياج أقصر من الرغبات». تجيء هذه المختارات المنتقاة بعناية بعد العديد من المجموعات التي صدرت للشاعر أبرزها «أسمال لا تتذكر دم القصيدة»، صدرت في بيروت عاصمة عالمية للكتاب العام 2009م و «رجل يشبهني»، دار الكنوز الأدبية عام 1999م، و«أخف من الريش أعمق من الألم»، الكنوز الأدبية عام 2003م، و«سياج أقصر من الرغبات» طوى 2013م، وله كتب في النقد ونقد الشعر.

محمد العامري في «شباك أم علي».. المكان بوصفه بطلًا

محمد العامري في «شباك أم علي».. المكان بوصفه بطلًا

الأغوار الشمالية: قرية «القليعات»: سهول منحدرة جافة، حيث شمس الله كرة حمراء ملتهبة، شمس حارقة صيفًا دافئة شتاءً. «سقف من عيدان القصب، حوش ترابي، دالية بظلال شاحبة تظلل الحوش الطيني الصغير. إبريق شاي أسود. حرارة الأرض لا تختلف كثيرًا عن جوف بندقية معبأة بالذخيرة الحية». إنها البدايات في قرية «القليعات»، حيث البيوت فقيرة متشابهة بلا فوارق اجتماعية، كما سكانها، يتشابهون بملابسهم وملامحهم السمراء. أنت في جوف الأرض «الفرن الأرضي»، جوف الشمس، رائحة البيوت الطينية لزجة رطبة. سكون تام، ممرات ضيقة، وحبال غسيل تلوح كرايات ملونة في وجه الصهد. حمار يتمطى بالجدار الطيني في مواجهة أشعة شمس حارقة. «نظرة واحدة على وجوههم، ستدرك حزنهم الغائر في لحم أيامهم. فكل وجه هنا هو نافذة على الحزن والتمني. في البيوت الطينية والضيقة تفوح روائح الأحزان مصبرة عارية في رمل السموم». ص 86.

أبوابٌ خشبية تعتليها خرزة «عين الحسد» يدٌ مفتوحة تتوسطها عين. تتشابه أبواب القرية وكذلك الأبواب والشبابيك وقضبان الحماية المعدنية، نجار واحد يقيم في قرية «الزمالية» المجاورة لقرية «القليعات». انثيال ذاكرة قوية لسارد يجيد القبض بدربة شاعر مغاير، وريشة تشكيلي متميز، على المكان وناسه وكائناته بأوجاعهم وأحلامهم وفقرهم، وأبطاله القريبين والبعيدين، الأحياء منهم والأموات، والحاضرين في ذاكرة يقظة، تُعنى بالمكان وتعاينه في سرد يُعلي من وقع الصورة وظلالها قبل الكلمة.

حيث الأشياء بكرٌ والحكايات طازجة. يبدأ التلقي الأول المحسوس في قرية صغيرة ونائية تقع على جسر الشيخ حسين، «الأغوار» الشمالية، حيث ترنو العيون هناك غربي النهر، أمام شمس الله اللاهبة بأشعتها الجافة. حكايات تُتَداوَلُ كما شاي الصباح أو المساء: «جارتنا حمدة ويسرى وأم علي ونافذتها المشرعة على المكان ورائحته وناسه، دكان أبي هاشم الذي يبيع الحاجيات دَيْنًا لآخر الشهر، مقهى مسعود الصغير وسعيد الحلاق وغيرهم. حكايات تطول أو تقصر، لا يهم، المهم كسر الفراغ والتحايل على زمن مستطيل.

مشاهد طفولية بذاكرة متوهجة

نبات الغيصلان، فخ الطفولة حين يرتطم بالسيقان الطرية، يسمم الأجساد فتصاب «بالحكاك» وتحمر من شدته، العلاج موجود ومتوافر عند الأم: زيت الزيتون. تسلق البيوت الطينية الهابطة لنبش أعشاش الدوري، اقتراح ألعاب مختلفة كلعبة «السبع حجارة» حيث تحتوي اللعبة على انتقام ما. صورة أخرى لشقاوة أولاد القرية «يجب أن تكون ضاربًا وقاسيًا في تلك الألعاب وتتخلى عن عذوبتك وتذهب بروحك نحو قسوة تشبه تموزيات الأغوار حين تتعرق الأرض والشجر، والماء يلهث بخارًا صعودًا إلى سماوات جف أزرقها من الصهد». الرواية ص11.

أنت في مهب الذاكرة، أنت في مهب شجرة «أعطت ثمارها لتقاوم. في مهب العصي والعصيان، في مهب الخدر الصيفي، في مهب الناي حين ينأى بصوته المبحوح في سفح الجبل، في مهب أسئلة لا تنتهي. في مهب بيدر يتنفس سنابله، في مهب كل شيء: الشمس فوق رأسك، الكلب الكسول، الحمار الكئيب في سفح الجبل، الديكة الرعناء، القطط وهي تتمطى، الطيور الحذرة، ثمار الباذنجان وشجرة التوت الرقيقة، الحصان صاحب العين الزجاجية، كل شيء فيك ويشبهك تمامًا». هل الذكريات صورة أخرى للموت أم ماذا؟ يتساءل السارد.

أم علي ونافذتها: متن الحكاية

اللبنة الأساس في بناء المتن الروائي الذي شيده الراوي، وسحب خيط الحكاية نحوه ببطء متسللًا حينًا، وبقوة تملك ناصية السرد الروائي في لوحات قصيرة متداخلة مع اللون والحركة والمشهدية السردية، مع أبطال الحكاية وآلامهم وصباحاتهم المتعبة تحت صهد الشمس: أم علي ونافذتها.

أم علي: المحور الأساس في القرية، العين الثالثة الثاقبة التي ترقب الأحداث من نافذتها الخشبية، كل الحكاية تبدأ من أم علي وتنتهي إليها، من نافذتها الخشبية المشرعة على الحي وناسه وأحداثه. هو يومها وحياتها برمته. امرأة عجوز سمينة، تتكوم في منتصف النافذة، بطيئة الحركة، لكنها «تملك عينا حيوية حتى إن بيتها الذي يقع في الحارة الشرقية الملاصقة «لمغارة الفار» سمي باسم نافذة أم علي، من خلالها، أي من خلال نافذتها تستقدم القرية وناسها بآلامهم وأحلامهم وفقرهم ويومهم وشمسهم. تستقدم العالم من نافذتها الخشبية وتبتسم».

أم علي العجوز الأرملة منذ زمن بعيد، لها ابنة وحيدة تدرس بالجامعة، تسري منذ أول الضوء كي لا يفوتها باص القرية الوحيد، لتعود في المساء، «محاولة بقوة للحصول على الشهادة، لتخرج على بؤس القرية وفقرها المدقع. قريتها التي تنام بعد غروب الشمس وتنهض مبكرة».

ما الذي ستفعله «أم علي» والحالة هذه، سوى أن تفتح نافذتها على القرية وناسها وتحرس حضورهم وتسجل غيابهم، وتعاين مريضهم.

«يصعب الاختفاء أو التخفي عن أعين أهل القرية، وتحديدًا «جارتي» أم علي، فهي تجلس دومًا بجوار النافذة الخشبية، وتمد برأسها من الإطار إلى الفراغ، إلى الخارج، مجسات إلكترونية ترصد كل من يمر ويتحرك ويحكي. هدف مرصود في مرمى نافذتها». حتى الدجاج لم يسلم من مجساتها الإلكترونية، فهي في حالة احتجاج دائم على كل شيء. ترفع صوتها على جارتها دون سبب، ماكينة متحركة من الأسئلة التي لا تتوقف. وأحيانًا تبدأ بالشكوى من سلوك ابنتها «سلوى» فهي تريدها أكثر طاعة لها بلا مناكفات أو نقاش. حتى المارة لا يسلمون منها: «من أنت؟ من أين أتيت؟ ما الذي تحمله؟ وكيف أمك؟ هل تزوجت أختك؟» وهكذا.. كاميرا متحركة ترصد كل حركة، كل شيء في مرمى شباكها. وسيلتها المثلى في التلصص على العالم.

تخرج «يسرى» المرأة الحامل، من بيت جارتها «أم علي» التي تبقى وراء النافذة حتى تغيب عن ناظريها. تخاطب «يسرى» جنينها وتتحدث معه: أنت تسرح يا «يوسف» في عالمك المائي بعيدًا عن وجعي ووجع الأمهات، خاصة نحن القرويات اللواتي يعملن ليل نهار، كي يحصلن على لقمة العيش في هذه الدنيا التي تخدش روحك في كل يوم. ستتدرب على تقاليد القرية. بيت العزاء الذي يتحول بعد دفن البيت إلى مكان للسرد واستذكار البطولات الوهمية للميت والتي لم يحظ بها في حياته». ص 15.

وتضيف في نوبة من بوحها لجنينها، متحدثة عن أبيه «لا وقت لديه سوى الحقل وانتظار الموسم، أصحو مبكرة باتجاه «الطابون» لأوقد فيه الحطب ونيران قلبي المتعب. أجهز العجين للخبز ثم أغسل وأمسح وأرتب البيت، أعلف الدجاج. أشغالي اليومية التي حفظتها عن ظهر قلب». صور عن حياتنا في القرية التي تنام بعد العشاء. لا شيء يتحرك بعد ذلك سوى قلبي الذي لا ينام وعين قلبي التي ترصد حركة الريح القاسية حين تضرب أوراق شجرة الخشخاش، وصوت الكلاب الهادر في جوف الوادي المجاور، وعواء الثعالب البعيد في رأس الجبل بليل القرية المعتم.

في الرواية التي صدرت عن دار خطوط وظلال للنشر، عمان 2021م، وتقع في مئتي صفحة من القطع المتوسط، وبغلاف من أعمال الكاتب نفسه، يحتفي العامري بالمكان ورائحته الحريفة وطقوسه السحرية. يحتفي بأهله وكائناته، بواقعية سحرية مدهشة، يحتفي التشكيلي الساردُ بالمكان بوصفه ملاذًا وبيتًا نابضًا بالحياة ليحفظ ذاكرة المكان الأول بناسه وحكاياته وأغنياته.

الشاعر إبراهيم الحسين: المصاب بالناي والمارّ بين أخشابه

الشاعر إبراهيم الحسين: المصاب بالناي والمارّ بين أخشابه

أظنه هو الكاتب، وليكن شاعرًا. الشاعر القلق «كأنما الريحُ تحته»، كما وصفه جده العظيم «المتنبي»، الحائر في سؤاله الشعري، المرتبك أمام سؤاله الوجودي، منذ أن امتلك الوعي الأول أمام ثنائية شائكة: أبيض/ أسود، حياة/ موت، قُرب/ بعد، صباح/ مساء، هزيمة/ نصر، عتمة/ نور… وصولًا للحب الذي لا يكتمل ولا يُرى سوى بنقيضه: الكراهية. يمسه الفرح في شغاف قلبه، يهدأ قليلًا ملتقطًا أنفاسه، يسارع لورقته البيضاء ليكتبَ بفرح طفلٍ، ما استفزه ووضعه أمام سؤال الكتابة.

هذا الشاعر السعودي المميز إبراهيم الحسين، أذكر أنني ذهلتُ حينما عثرت على قصيدة بتوقيعه، ورحت أعيد قراءتها بين الحين والآخر. أتذكرُ أنها قصيدة نثرٍ، بُنيت بجملة شعرية تهزك من العمق، تتحدثُ عن موت الصديق/ الزميل، الذي أخذ الشاعر يحلم به في كل ليلة، بل إنه راح يقابله في الحديقة والمقهى، ويتحدثان لساعات طويلة ويثرثران عن كل شيء، يقرأ له من قصصه، إلى أن يكتشف الشاعر أنه وحده في المقهى، ولا يعرف كيف غادر صديقه خلسة مثلما ظهر، بلا اعتذار، وبلا كلمات.

إبراهيم الحسين

دُهشت، ولا أعرف لما استدعت ذاكرتي من فورها الشاعر الألماني/ النمساوي «جورج تراكل» وقصائده المليئة بالحزن والموت والحرب! الحضور يستدعي الغياب، والجمال يقود نحو الجمال، كما أنه يريك البشاعة أو القبح، فالشيء يُعرف بنقيضه. شاعر مغايرٌ، يكتب عن السؤال الكبير الذي يفتح فمه في كل ثانية في وجوهنا فيطفئها بدم بارد ويذهب: الموت. يكتبُ كما لو كان يرسم، أو كما لو أنه يعزف على نايه أو كمنجاته. قصيدته لوحة تشكيلية، تشبه نوته موسيقية وتتداخل مع هذه الفنون البصرية والسمعية فلا تعرف أهو شاعر أم تشكيلي أم موسيقي. ليس لأن قصائد الشاعر إبراهيم الحسين تشبه أو تتمايزُ بثيمة تتقاطع مع «جورج تراكل» وقصائده، لا.

الأمر ليس واردًا هنا، ولا مجال للمقارنة. الأول شاعر معاصرٌ، يقيمُ ويعيش بيننا ولا يزال يكتب، والأخير شاعر وُلد إبان الحرب العالمية الأولى، وليس هذا بالمهم؛ فالأرواح تلتقي والمعاني في متناول الجميع. لكن الحزن الذي يسيل من قصائد «الحسين» تقود لما يشبه فيما يحضر بالذاكرة من قصائد لشعراء آخرين. ميزة الشاعر إبراهيم الحسين أنه لو لم يوقع قصيدته باسمه لظننتها لشاعر آخر من قارة أخرى وزمن آخر: جورج تراكل، هولدرن، ريلكه، أمجد ناصر، فريدا كاهلو، والقائمة تطول. فهو عبر قصيدته وعد نفسه ووعد قراءه بأن يحاول أن يكون واحدًا من هؤلاء الشعراء الكبار.

الأمثلة عديدة، فللشاعر مجاميع شعرية عديدة صدرت في عواصم عربية مختلقة من السعودية، الجوف، والأحساء، حيث وُلد الشاعر، إلى البحرين والكويت وبيروت وغيرها، ومن «دوار الوردة» إلى «خشب يتمسح بالمارة» و«يسقط الآباء حجرًا حجرًا»، و«على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي»، إلى «المصابة بالناي المارة بين أخشابه»، إلى «رغوة تباغت ريش الأوراق»، وغيرها من المجموعات الشعرية.

من التكثيف إلى التأويل

في القلق يكون المرء، «هايدغر». في وحشة الوطن، وفي وحشة البحث عن الأمل، ووحشة الطريق ووعورتها فكيف هو الشاعر القلق العابر والسابر لهذا كله؟ الشاعر لا يتوقف عن السؤال، كل قصيدة يكتبها إبراهيم الحسين عالم لا متناه من رمي الأسئلة ووجعها، كلما اعتقد أنه قبض على جوهر الأشياء وكنه وجودها، اكتشف أنه لا يزال يبحث ويكتب ويتساءل ويحاور نفسه كما يحاور المتلقي. يكتب عن الحب والفقد والقلق، والعمر القصير، عن موت الأحبة خلسة، وقهوة المساء، والمساء البارد والموحش، عن موت الأب، والروح وحيرتها، عن الخيبة والخذلان، والحبيبة التي خذلته مرة وهو في انتظار ضوعها عبثًا، عن الشغف، والحب الذي خذله مرات.

يكتب الشاعر، مستخدمًا اللغة في أقصى طاقتها التعبيرية، من صورٍ وتكثيفٍ ودلالات، بما يفيض بجماليات الجملة الشعرية المكثفة والقصيرة، التي تقودك نحو التأويل: يفتحُ الباب على مصراعيه للمتلقي كي يشاركه الكتابة وصولًا للنهاية أو الخلاص أو النجاة التي ينشدها الشاعر في كل كلمة يكتبها. نقرأ له كتابة عميقة -تدعك تفر بين القارات في فضاء لا متناه- على مجموعته الشعرية «المصابة بالناي المارة بين أخشابه» هذا المقطع المعبر عن هذه التجربة:

«ما حدث هو أن هناك من جاء وأخذك في زيارة إلى الفنانة فريدا كاهلو، وأجلسك عند سريرها، من نبهك إلى مرآتها المعلقة فوق ذاك السرير، من أخذ عينك ووضعها عند ما ينز منها… ما حدث هو أن هناك من أدخلك في لوحة غزالتها وجعلك الغزالة المطاردة، من جعلك تئن مما ينغرز فيك من السهام، من منحك الدم ذاته الذي كان يبلل الهواء كلما انغرز سهم جديد فيك، ما حدث هو أن هناك من أعارك ملابس وعيون وقلق شخوص لوحات هنري تولوز من جعلك تسمع نعيب غربان فان غوخ وجعلك تشم فجيعته في حقوله الصفراء، ومن جعلك مصبًّا ومرمى لعيونه، ما حدث هو أن هناك من جعلك تصاحب (ياني) اليوناني وفتح لك فتحة على جنونه وعلى كمنجاته وعلى صفير موسيقاه الحاد الذي كان يغرزه في أكياس كانت مخبأة في نفسك، وجعل ما بداخلها يخرج وينسكب على الأرض».

ومن هذه القصيدة بعنوان «أتعبتكِ النصاعةُ وأجهدكِ البياض»:

«أتعبتك النصاعةُ وأجهدك البياض…/ أنت البيضاء في هذا الصُّبح بمهجتك الفائضة/ أوراقك ببياضها تتصاعد منك/ بحوافها الوردية والمدلّاة تصدر عنك، بأحمرها الموجوع تتمدّد هناك…/ تصنعين سُلَّمًا ترتقين درجاته البيضاء إلى آخرها وتشعلين فمك، أتعبتك النصاعة وأجهدك البياض/… ورديّك المحمرّ والشفيف الذي يعزّز خطوك ويرسمه، يصل بين أوراقك ويوضحك…/ يتسرّب من بين أثوابك المتراكبة…/ كلّ ورقة سماء/ وكلّ استدارة شوط…/ كلّ سُلَّمة هي باب لوجهك؛/ طَوْقُ اﻷخضر بأوراقه الطولية المهفهفة والدقيقة/ طوقُ اﻷخضر الطاعن في اخضراره/ بنجومه البارقة بالبياض هي عتبتك،/ هي مبتدؤك وأول زهوك…».

ثمة حزن يسكن القلب، ثمة مهارة واحتراف، ثمة اختزال مفردة مكتنزة تشير ولا تقول، تختزنه قصيدة النثر باقتدار. الشاعر ينهل من بئرٍ عميقة مليئة بما تفيض به نهاراته ولياليه وتأملاته وسؤاله الوجودي المقيم. في واحدة من أجمل وأقسى قصائده حزنًا، قصيدة «الموتى يخطئون»، التي لا أمل من تكرار قراءتها إذ تضعك عاريًا أمام حزنك الذي لا تعرفُ من أي الدروب يجيء، أو أين يكمن مختبئًا، ليقلقَ راحتك ويعيدك للسؤال الذي تتغاضى عنه: أين يذهب الموتى في غيابهم؟ لماذا يغيبون فجأة، وإذ يفعلون ذلك فهم مخطئون وخطؤهم جسيم لا يغتفر ولا يعوض!

إلياس فركوح: كائنٌ عَماني

إلياس فركوح: كائنٌ عَماني

بالصدفة المحضة، وقعت بين يدي رواية «قامات الزبد»، للروائي «إلياس فركوح» الذي لم أسمع باسمه من قبل، ولم أقرأ له حرفًا واحدًا. عن طريق صديق كان يحمل الرواية بين يديه. كان ذلك -وكما أتذكره تمامًا- في بداية التسعينيات في أوائل العام 1992م. اعترف لي الصديق بأنه لم يقرأها بعد، عند سؤالي له: هل تستحق هذه الرواية عناء القراءة؟

لا أستطيع قراءة رواية تناهز الـ«300» صفحة. قال ضاحكًا وأضاف: هذا كثير، حتى ولو كتبها «ماركيز». هي هدية مني. لقد أرحتني من عناء كبير. قلت.

لماذا؟ تذكرتُ المثل أو القول المأثور الذي يفيد أن الغبي هو من يعير صديقه كتابًا، والأغبى منه ذاك الذي يعيده. أما أن يمنحه إياه فهذا كرمٌ ورب الكعبة.

اختصر صديقي الطريق أمامي وأفرحني. متى بدأت بقراءة الرواية؟ لا أعرف حقًّا. من عادتي أقرأ بهدوء وروية، يحدث أن أعيد قراءة الصفحة أكثر من مرة، ولا سيما إذا كانت صعبة أو كان أسلوبها مختلفًا عما تعودت قراءته. أو يحدث أن أضبط نفسي وقد سرحت بعيدًا من الورق المحبر أمامي، ولم أتمكن لليوم من أن أضبط خيالي من الانفلات بعيدًا من كل ما حولي! أو حين يكون الكتابُ شائقًا فأكرر القراءة أكثر من مرة.

ثمة صور تجيء من تلقاء ذاتها وتفرض سطوتها على الذهن، وتبدأ بترتيب الحدث في اللاوعي لدى الكائن لتصير كأنها حقيقة مُسلَّمٌ بها، ومن الصعوبة إحلال صورٌ غيرها كأنها لا تقبل التغير أو التبدل. حدث هذا تمامًا: الكاتب الذي لم أسمع باسمه من قبل «إلياس فركوح» هو لبناني. حضرت الصورة بسرعة الضوء، وسكنت العقل الباطن لديّ… هكذا حضرت من تلقاء ذاتها. وهو يسكن «الأشرفية».

الكاتب منحته الجنسية اللبنانية، «ربما بسبب أحداث الرواية التي مسرحها بيروت» ربما. وأسكنته في واحدٍ من جبال عمان السبعة، وهو هنا الأشرفية. هكذا تسللت الصورة لديّ، وصارت حقيقة واقعة، وليس محض التباس أو مخيالًا جامحًا.

بالقدر الذي كانت فيه الرواية آسرة، فقد كانت صعبة وشائكة. لغة مغايرة لا تشبه سوى إلياس ذاته. أحداث بيروت الثمانينيات والعمل الفدائي والحب وعمان لا تزال حاضرة في ذهني بالرغم من صعوبة تتبع شخوص الرواية وأحداثها المتداخلة. ولدي المقدرة لليوم أن أسرد الأحداث والشخوص هامشيين كانوا أو أبطالًا من الحبيبة ثريا المصرية، ونذير الأردني حتى… شريف الفلسطيني المناضل.

بعد استراحة قصيرة أو طويلة لا أتذكر أعدت قراءتها ثانية. كأنما كنت على موعد مع الكاتب وأحضر أدواتي لمواجهته في لقاء طويل لم ينتهِ ولن ينتهي أو «يخلص» حتى برحيله.

شاءت الأحداث والظروف، والتقيت الكاتب وجهًا لوجه في ندوة أدبية. كيف استطعت أن تكتب هذه الرواية التي استغرقتك كتابتها سنوات أربع، وبكل هذه التميز والإبداع؟ سألته. أية رواية؟ سأل. قامات الزبد. قلت. لم يجب. إلا أنني لمحت مسحة من حبور أخذت تكسو ملامحه الجادة. تساءل بعد برهة صمت قصيرة: قرأتها إذن. هذا يسعدني، من أين ابتعتها؟ عن طريق صديق. قلت. وهكذا التقيت «إلياس» للمرة الأولى وتعرفت إليه من قرب. كنت أشعر بالفرح. صرت صديقة للكاتب الكبير بل وتحدثت إليه وناقشته في روايته. ضحك كثيرًا حتى مالت «غرته السوداء الناعمة» علامته الفارقة – فوق جبينه، حينما أخبرته أنني جعلتك كاتبًا لبنانيًّا تقيم في عمان، وجبل الأشرفية تحديدًا. اعترفت له بعد أن ابتلعت ريقي مرات عدة، في واحدة من لقاءاتي أنني أكتب. لدي دفتٌر كبيرٌ استنفدته بالكتابة.

ماذا تكتبين؟ تساءل باهتمام. لا أعرف. قلت بحياء: أكتب وأمضي ولا أراجع أو أتوقف أمام ما أخطه. واقع الحال أنني كنت أكتب ولا أعرف ما الذي «أخربشه». ولم أتعرف له عنوانًا أو بابًا أو نافذة أو حتى شرفة. أعني هل هو شعر؟ أم نثر؟ أم قصة؟ رواية. كلام مكتوب بعد أن كان منطوقًا؟ أكتب حين أحس أنني سأختنق، وأن العالم على رحابته يضيق بي وعليَّ. أذهب لغرفتي أحضر الدفتر «لونه أزرق» وأكتب. أكتبُ كأن أحدهم يُملي عليَّ ما أكتبه أو سأكتبه أو كأنني كنت أنقل من كتاب أمامي، أو هو مخبأ في مخزن وما عليَّ سوى كشفه وتعريته.

خربشات لفتاة في مقتبل العمر

لم يكن الأمر يعنيني كثيرًا معرفة ما أكتبه. هل هو رديء أم جيد، هل هو قصة أم سرد أم رواية أم قصيدة نثر؟ لم أتوقف أمامه قط ولم يشكل لي عبئًا. أترك دفتري حين الانتهاء وأخرج. ذات مساء أحضرت «الدفتر» إلى إلياس فركوح. أخذه وكلي يقين بأنه سوف يلقيه في سلة القمامة. هي مجرد «خربشات» لفتاة في مقتبل العمر تبحث عن ذاتها وسط الزحام. هاتفني إلياس ذات صباح وسألني عن اسم «أبي»؟

لماذا؟ سأخبركِ فيما بعد. التقينا في المساء. وكان قد افتتح دار أزمنة للنشر والتوزيع مطلع التسعينيات. وأخذ يعمل وينشر الكتب والتراجم والشعر والدراسات. بعد أن أغلقت دار «منارات للنشر» برفقة الشاعر «طاهر رياض». أخبرني أنه تعاقد مع وزارة الثقافة على نشر الكتاب الأول لمجموعة من الكتاب والكاتبات تحت عنوان «تباشير» وسوف تكون بدعم من وزارة الثقافة ونشر «دار أزمنة».

وما علاقتي بالأمر؟ الدفتر. قال ضاحكًا. دفترك الأزرق هو مجموعة قصصية مكتملة. ليست بحاجة لإضافة أو حذف حرف واحد. وكان وقع الخبر بمنزلة الصدمة. قصة. قصة قصيرة. ما أكتبه قصة قصيرة؟! أجل. هذه هي القصة القصيرة. وقد ولدت قصتك مكتملة. لهذا تساءلت عن اسم أبي؟ حين عرضت الأسماء على «أمين عام وزارة الثقافة» ضمن مشروع «تباشير» الكتاب الأول، توقف أمام اسمك وتساءل عن اسم الأب.

الأمين من العائلة نفسها، «عمايرة» ولم يسبق له معرفتي أو معرفة أن إحداهن تكتب أو لها علاقة بالكتابة، وثمة امتدادات للعائلة في الداخل والخارج. المدهش في الأمر أن المجموعة ليست في حاجة لإضافة أو حذف حرفٍ واحد. أنت موهوبة. قال لي. وأضاف: هذا ما عنيته بأن قصتك مكتملة.

نشرت مجموعتي القصصية الأولى بعنوان «صرخة البياض» في عام 1993م ضمن سلسلة «تباشير»، وكانت بتقديم قصير من إلياس يبشر بكاتبة تجيد كتابة القصة القصيرة بتميز لافت، ورفقة مجموعة من الزملاء المبدعين، صاروا الآن أسماء كبيرة ولامعة في المشهد الثقافي العربي: جواهر رفايعة، مفلح العدوان، نبيل عبدالكريم، زياد بركات.

أحدث هذا الجيل الذي سمي «جيل التسعينيات» انفجارًا قصصيًّا في المشهد المحلي. كتابة مختلفة تقطع مع الجيل السابق ولا تتقاطع معه بشيء. تسيدت المرأة الكاتبة المشهد باستحقاق لافت وتجاوزت زميلها الكاتب بأشواط كبيرة. كتابة لا تُعنَى بالقضايا الكبرى التي اشتغل عليها الكتاب في الأجيال السابقة كثيرًا، لا لم يكن الأمر كذلك لدى «جيل التسعينيات القصصي» بل حضرت الذات، الذات الكاتبة لأول مرة وفرضت حالتها بكتابة لا تشبه سوى ذلك الجيل. لم أكن أعرف من أسماء أمامنا سوى «سامية عطعوط» و«بسمة النسور»، إضافة إلى الرائدة الدكتورة هند أبو الشعر القاصة والباحثة والمؤرخة المرموقة، و«تريز حداد». في حقل القصة.

نفدت الطبعة الأولى من «صرخة البياض» وأُعيدَت طباعتها في دار أزمنة، واستحقت مجموعة زياد بركات بطبعتها الأولى «سفر قصير إلى آخر الأرض» جائزة الدولة التشجيعية في حقل القصة القصيرة. توالت بعدها أسماء الكتاب والكاتبات في الظهور وعن دار «أزمنة للنشر». كانت سعادة إلياس كبيرة وفرحه غامرٌ. وهكذا وجدت نفسي «كاتبة» من دون أن أخطط للأمر. وعثرت على ذاتي لأول مرة وسط الزحام.

في مواجهة العذاب

منذ ذلك التاريخ، أي تلك الولادة الأدبية، بدأ إلياس يوجه قراءاتي: هذه رواية جيدة. هذا كتاب يستحقُ عناء القراءة، اقرئي كثيرًا ولا تفكري في الكتابة. القراءة هي التي تقودك للكتابة، الموهبة وحدها لا تكفي. ثمة عمل كثير بانتظارك. ابتعدي عن الأضواء ولا تأبهي بها فهي تعمي من يجري وراءها، وتعاقب من يحبها.

ولليوم حين أجلس إلى مكتبي للكتابة، أبقى لساعات طويلة حائرة قلقة أمام الكلمة. وأكتب ببطء سلحفاة هرمة؛ إذ تستغرق كتابة قصة لا تتجاوز أربع صفحات أو خمس صفحات أكثر من أربعة أشهر. وأعتقد أن هذا يعود إلى «إلياس فركوح» صاحب التعليمات المشددة أمام الكلمة. ولدت قصتك مكتملة. الآن أنت تحت المجهر. الأنظار تتجه لما سوف تكتبين. النقد لا يرحم أو يجامل. المهم النوعية وليست «الكمية» كتاب واحد كفيل بأن يضع اسمك مع المبدعين. الكتابة الجيدة تصل للقارئ بكل سهولة. ولدت قصتك مكتملة. هذا عذاب ما بعده عذاب وضعني في مواجهته منذ الكتاب الأول. ومسؤولية كبيرة ما زلت أرتجف أمام تبعات حملها وأزعم أنني لا أزال أتعلم.

ولليوم أتمنى أن أعود وأكتب باطمئنان ويقين الكتابة الأولى. بلا خوفٍ أو ترددٍ أو قلقٍ أو حساب. حين كنت أملأ الدفتر بالكلمات وأخرج من دون حس بمسؤولية الكلمة، أو خوف من كتابة قصة «غير مكتملة أو رديئة»! أنا مدينة له بالكثير، على المستويين الإبداعي والإنساني. تمكن من توجيه سير قراءاتي بكل الصدق والقسوة التي كانت واحدة من صفاته. «اقرئي كثيرًا. القراءة أولًا». يقول.

أجل ثمة قسوة تغلفها قواعد صارمة بنظام مرتب بعناية كبيرة، لا يحيد عنها الإنسان الذي جوهره مبدع. كاتبٌ فذٌّ يندر أن تجتمع كل هذه الصفات بكاتب يُعنَى بالكلمة: قاص متميز وروائي مجدد، ومترجم بذائقة متميزة، وناقد ببصيرة ثاقبة، وناشرٌ كبير. جلُّ أصدقائه كانوا من الجيل الذي يصغره، الصحفي المتميز محمود منير وياسر قبيلات وآخرون كثر، أقترب منهم ومن أفكارهم وطروحاتهم المغايرة، كما كان يصفهم.

احتضن ونشر لكثير من الكتاب العراقيين، في وقتٍ صعبٍ وضيق، وجد المبدع العراقي نفسه أمامه. كان مناقبيًّا مثاليًّا، يرتب مكتبه المنظم أصلًا قبل أن يبدأ العمل. كل شيء في مكانه بدرجة لا تضاهى. مفعمٌ بالحماسة للإبداع والمبدعين الموهوبين.

أنا كائنٌ عَمَّانيٌّ. كان يردد جملته هذه في كل مناسبة ترد فيها «عَمَّان». في إشارة إلى مدينة عَمَّان التي يعشق. ولليوم لا تزال «عَمَّان» شاحبة وكئيبة من دونه، وخسارتي بالفقدان لإنسان فذ قبل كل شيء لا تعوض!

في «سرير المشتاق».. فاروق وادي ينعى حركات التحرر اليسارية العربية

في «سرير المشتاق».. فاروق وادي ينعى حركات التحرر اليسارية العربية

تثبت الرواية على امتداد الساحة الثقافية العربية، تطورها اللافت وتميزها في ظل ما ينشر من روايات لكاتبات وكتاب عرب في السنوات العشر الأخيرة. ولعل أبرز ما يظهر للمتلقي والناقد المتابع والباحث، هو أن الرواية كفنٍّ لا يتوقف عن الخروج على فنه، بل تفكيك المدونة التقليدية للرواية العربية التي كانت تسعى لرضى «الجمهور» وذائقته المتبدلة، متتبعة طرق التجريب وتداخل الأجناس الأدبية والاستفادة منها، وصولًا للحداثة وما بعدها من دون التوقف أو الالتفات لحصد جائزة بات ينتظرها عديد من الروائيين والكتاب، أو التزام بإرث نقدي متبدل ومتغير باستمرار. لتشق طريقها نحو خلق قارئ بذائقة مغايرة عما اعتاده في قراءاته، مستفيدة من التطور الهائل لفن الرواية بالعالم.

ولعل رواية «سرير المشتاق» للروائي الفلسطيني فاروق وادي والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تندرج في هذا المتن الروائي العربي باختلاف موضوعاته وكُتابه. حيث يتداخل البناء السردي ويتواصل عبر لغة شفيفة تنهل من الوصف والاستعارات والرموز ذات الدلالة النصية المتوهجة، فاللغة هنا لا تعني أحرفًا أو كلماتٍ بل هي رؤيا ورؤية لأنفسنا وللعالم من حولنا، اللغة بأحداثها المتشعبة والمتحولة تشغل المتلقي ولا تدعه يتوقف أو يلتقط أنفاسه لبرهة قصيرة. بل يجد نفسه متورطأ بتتبع مسار الشخوص وخيباتها وآمالها وأحلامها التي تكسرت عند أول عقبة في الطريق، نحو آمال عريضة بالتحرر وتحرير الأرض وكذلك ملاحقة الأحداث في تسارعها ومآلاتها الحزينة، كما البطل الذي ظهر طوال صفحات السرد بأكثر من سحنة واسم، بمعنى آخر كل شخوص الرواية هم أبطال تشاركوا البطولة وتقاسموها مع المرأة «نشوى» التي تسيّدت السرد بامتياز وقاومت ضعف الرجل، وبالتالي قاومت ضعفها وانتصرت لنفسها في أكثر من مشهد وحدث.

فاروق وادي

على مدار ما يقارب ثلاث مئة صفحة ينعى الروائي حركات التحرر اليسارية العربية، التي استقطبت عديدًا من الأفراد الحالمين بالتغيير واسترداد الأرض التي احتُلت، وقيادة المقاومة بالتحرير والنصر القادم لا محالة. لكن يتكشف السرد هنا، وبحنكة سارد يعلم خفايا الأمور والأحداث ومآلاتها ،عن خيبة وخراب وتفكك وهزائم من جهة، ومآلات «الرفاق الحزبيين» بالانكسار إما سجنًا أو نفيًا أو اعتقالًا أو موتًا؛ بسبب اعتراف من رفيق سقط في أول عقبة، أو وشاية من أحدهم أو إجهاض الحلم وتبدده أو هجر الحبيبة!

تبدأ الأحداث من المحطة الأولى «عمان»، حيث يقام معسكر لتدريب الفتية الذين انضموا لواحدة من حركات التحرير والمقاومة التي أخذت على عاتقها تحرير «فلسطين» من النهر إلى البحر، عبر آلية الكفاح المسلح ولا سواه طريقًا آخر. فينضم «غسان» أو «عطا» أو «آدم» أو «بدر» إلى الرفيق بدر الذي سيحظى بأن يكون زوجًا لنشوى، المرأة الجميلة والرفيقة بالخلية اليسارية، قبل أن يذهب مسرعًا نحو نهايته المأساوية، كما «جابر» أو «مصطفى» ليلتحقوا بنهاياتهم بعد خيانة الرفيق، كل على طريقته، مع البطلة «نشوى» باسمها القديم «نهاية» -والناظمة لخيوط السرد الدقيقة والمتشابكة بأحداثها المتوالية- كما «السرير تمامًا والحلم به» من عمان وصولًا لبيروت، ومن ثم إلى مخيم اليرموك على أطرف العاصمة «دمشق» وطرابلس في «بيروت» وبغداد، والعودة ثانية إلى عمان.

عمان الحب والتنظيم والرفاق، وصولًا إلى مدينة الحلم بالتغير وبالثورة «بيروت» حيث الدراسة والعمل والحرية وتحقيق الأحلام والنصر. فالوطن على مرمى «حجر» أو «نظر» وطموح الحب ومقابلة الرفاق وقراءة ماركس ولينين وهيغل وغيرهم من أدبيات الماركسية ومنظريها. «وإلى متى نستظل بشجرة قد تقلص عنها ظلها». مقولة ثبتها السارد للعلامة المتصوف أبي حيان التوحيدي، كما ورد غيرها في مقدمة كل فصل من فصول الرواية بمقولات للمتصوفة.

أجهضت أحلامهم في الحب وفي الحزب، وبالرفاق وبالقضية، حين قُبِضَ عليهم واحدًا واحدًا. بعد مداهمة المخابئ السرية جميعها. ألقي القبض عليهم إلى أن أصبحت الخلية اليسارية بكامل أفرادها من دون «نشوى» في قبضة الأمن. وبات مشروعهم برمته في مهب عاصفة عاتية ألمّت به فجأة. بل «هاوية سحيقة أودت بأحلام أفرطوا بالحلم بها»، إثر اعتراف الرفيق عند أول تحقيق أمنيّ بالسجن، واستهداف المقاومة في بيروت آنذاك والمتمثلة في استهداف الرمز الشهيد «غسان كنفاني» واستشهاده إثر تفجير سيارته. وهكذا تبدد كل شيء كالسراب، في طريقهم نحو الشمس، نحو الحب، نحو القبض على الحقيقة في مكمنها الضيق، وأية حقيقة؟! نحو الطريق إلى النصر، إلى الوطن ولو مؤقتًا!

لا يكتب الكاتب لإدانة الرفاق أو الطروحات الأيديولوجية والفكرية، أو يؤشر إلى خلل في البنية الحزبية، فقد تمخض في النهاية كل هذا عن ارتداد أفرادها ونكوص بنيتها، أو القبض على الحقيقة عارية كما هي، لا لا، ثمة فرق كبير بين النظرية والتطبيق، بين المقاومة والمفاوضة! يكتب لأجل التخفف من ذاكرة أثخنته، وأحزان أتعبته، في مرحلة تاريخية لمدينة عربية كانت حلمًا للشباب العربي بالتغيير والحرية.

«مهما نجحت في ذلك أو أخفقت، فإنني لا أطمح في الكتابة إلى تخوم الحقيقة. آمل أن أبلغ أقصى حدود الصدق، مهما أوغلت في أكاذيب الخيال الأشد بياضًا من ثلج لم يتمكن من الصمود، فذاب من حرارة التقاء جسدين اشتعلا وتفجرت من أرجائهما البراكين». ص 132.

الروائي هنا يكتب من قلبه، ومن قلب لغته الغنية باستعاراتها ودلالاتها ورموزها وتأويلاتها، ومن قلب قضيته، فجاءت الرواية بفصولها تفيض بصدق فني كبير ورؤيا للعالم من خلال «سرير المشتاق». يكذب الروائي هنا فنيًّا ليصل إلى تخوم الصدق والحقيقة، ويعتمد الخيال ليتجاوز الواقع ويسمو فوق جراحات وعذابات وهزائم مرحلة مهمة لا تنسى من تاريخ هذه الجغرافيا بكل عذاباتها وتوقها للخلاص!