الآفاق المحتملة للكتابة الإبداعية وضرورة التخييل
خاضت الكتابة صيرورات تاريخية قامت على إحداث قطائع مع أشكال وتصورات سابقة، وأفضت هذه الصيرورات إلى بناء قوانين ناظمة للأنواع الأدبية؛ ذلك أن هذه الصيرورات ظلت محكومة بالتراكم ومحكومة بالأعمال المؤسِّسة الكبرى، وصار النوع الأدبي عبارة عن أعراف وتقاليد ناظمة وبانية لكل ممارسة أدبية، أمسى معها النص تنميطًا لنصوص سابقة ما دام يقدم معرفة منجزة قبل تحققها، وصار النقد يقيس مدى تحقق القوانين في النص الأدبي، يحركه هاجس تطابق النص مع النظرية من دون أن يسعى إلى مواكبة النصوص المنفلتة عن المؤسسة، بل عمل على رفض هذه النصوص وتهميشها بغية نسيانها، فهي تحرج باستمرار نجاعة الأدوات التي يمتلكها.
إن الكتابة هي تلك النافذة المفتوحة على حقل رؤيوي شاسع لا أحد يمكن أن يقيد نظرتها، إنها رائية ومرئية، ومن شأن تحرير نظرتنا إليها أن يفرز أدبًا جديدًا؛ ذلك أن رؤيتنا للكتابة ظلت محكومة بقوانين جاهزة، وهو ما فوت الفرصة لاكتشاف ما تحجبه الألفة عنا –على حد تعبير عبدالفتاح كيليطو- فمتى غيرنا موقع الرؤية سنكتشف أبعادًا أخرى للكتابة. إننا نجهل ما ستكون عليه الكتابة غدًا، ورؤيتنا في الحاضر للكتابة المنجزة مبنيّ على منظور ثابت. ولأن الإنسان مسكون بهاجس المستقبل فهو دائم التطلع لتعميق تطابقه مع العالم، وتعميق التطابق يدفعه لبناء توقعات والتخطيط لها. على هذا النحو يمكننا تحويل مجرى السؤال وتخليصه من ماضويته عبر توجيه بوصلته من الماضي إلى المستقبل أو من الأدنى إلى الأعلى.
إن المستقبلَ أفق منفلت غير منجز يتسم بالامتداد واللاتحديد، وهي مواصفات تجعل مهمة التفكير في الموضوع محفوفة بالمخاطر مادامت أنها تنطلق من مؤشرات وتبني احتمالات، وكيفما كانت الاحتمالات والتوقعات فإنها تعد فرصة سانحة لتمثل الكتابة التي سينجزها أبناؤنا وحفدتنا. على هذا النحو تبدو الكتابة عن مستقبل الكتابة الإبداعية عملية محفوفة بالمخاطر خصوصًا إذا توسلت بالذاتية القائمة على الآمال الرومانسية أو التشاؤمية الغاضبة أو توسلت بالموضوعية القائمة على استثمار أرقام ضبابية، فما العمل؟
إذا كان الأفق يتسم بالانفلات والتعالي واللامحدودية، فمن شأن التخييل أن يقدم لنا سيناريوهات محتملة تخلصنا من القراءات الجاهزة والمطمئنة، وتفتح أمامنا أبوابنا لنطل عبرها على شبيهنا في أكوان قادمة. لذلك تنشد هذه الورقة بناء خمسة آفاق تخييلية ترتبط بالتعبير والدلالة والتجريب والنوع الأدبي والرقميات.
الأفق التعبيري
اللغة هي الوسيط القائم بين الأنا في صوغها الفردي والعالم في تعدده، ولما كانت اللغة وسيطًا تمثيليًّا يتأسس على إحداث التواصل، فمن شأن تقهقر اللغة المعيارية أن يشوش على القارئ، وفي ظل التشويش المستمر وتراجع الكفاية التواصلية، ستنحو اللغة نحو تطعيم ما هو معياري بما هو تداولي (عامية، لهجات، تعبيرات مسكوكة جديدة)، وسيؤدي هذا التطعيم إلى تجذر أنساق لغوية مهيمنة ستكون بمثابة البديل التعبيري عن اللغة المعيار، وهو الاستبدال الذي سيؤدي إلى خلق مواجهة تعبيرية بين لغة ماضوية تفتقد للإنجاز وبين لغة منجزة في سياقاتها التواصلية، على هذا النحو سيتأسس الأفق التعبيري للكتابة الإبداعية على التنوع والتعدد اللغوي بما يعنيه التنوع والتعدد من تجسير العبور من التعبير -المؤسسة التاريخية والرسمية- إلى التعبير المكونات الشعبية.
الأفق الدلالي
لقد عرفت الدلالة صيرورة أفضت إلى مآل هو الفرد، ففي ظل انهيار السرديات الكبرى وتقهقر الثقافة الجماهرية واختلال القضايا المصيرية الحماسية وانهيار الحلول الجماعية، اتجهت الدلالة نحو الفردانية، غير أن هذه الفردانية أفضت إلى الكتابة السيرية، فصار الكاتب يتخذ من نصوصه أقنعة لسرد بطولات الماضي بأمجادها ورومانسيتها. وعليه، فمن الآفاق المنتظرة أن تتحرر الكتابة من سلطة الذاكرة عبر تعميق الأنا في صوغها التخييلي، وفي مرحلة ثانية -التي ستتمخض عن الثورة الرقمية- ستُحَرَّر الأنا من فردانيتها واستقلاليتها لصالح المعلومة القائمة على التشبيك بين الكائنات الحية المعلوماتية والآلات العاقلة والأشياء المادية (روابط رقمية، محمد أسليم)، وهو انتقال سيوجه الدلالة إلى الاهتمام بالموضوعات الرقمية والخيال العلمي والتطلع إلى المجهول.
الأفق التجريبي
إن تفكك السرديات الكبرى التي تحكمت في العالم أدت إلى تقهقر المقولات الصارمة والقوانين الناظمة للأنواع الأدبية، فبدت الكتابة الإبداعية تتخلص من شرطة الأدب التي ظلت تحرص على التطابق بين النص الأدبي والقواعد الجاهزة، والتجريب هو هدم لصيرورة وبناء لإبدالات جديدة من مواصفاتها التجاوز الدائم والمستمر، ومن المحتمل أن تتعمق هذه التجاوزات لتقطع بشكل نهائي مع مفاهيم من قبيل النوع والنص والنظام والموروث لصالح الكتابة بما هي إعادة إنتاج لما مضى سواء عبر تقديره أو السخرية منه (شكل من أشكال التناص)، ومن شأن التجريب أن ينعكس بشكل إيجابي على تعميق الحريات الفردية ويتيح للهويات المحجوبة فرصة الانكشاف ويسهم في تعرية بؤر الخلل ويستعيد المهمشين والمطرودين والمنبوذين والمقصيين والصامتين إلى فضاء الكلام والكتابة. ومن شأن هذه التحولات أن تفرز أدبًا جديدًا.
الأفق النوعي
إن الأنواع الأدبية تُولَد وتشيخ ثم تموت (موكاروفسكي)، وهذه المقولة مرتبطة بالسياقات الثقافية، فالكتابة الإبداعية انتقلت من الهيمنة التاريخية للشعر إلى هيمنة الرواية؛ ذلك أن القوة التعبيرية للشعر تراجعت لصالح القوة التعبيرية للسرد، فالقصيدة وصلت إلى النفق المسدود ولم تعد تمتلك صفة الجماهرية، وهذا التلاشي التدريجي دفع بمجموعة من الشعراء إلى الانتقال من الشعر إلى الرواية بغية ضمان الاستمرارية ومآرب أخرى، وفي ظل هذا التراجع تمكنت الرواية من فرض سلطتها وتحقيق الانتشار نظرًا لقدرتها على احتواء التفاصيل. ولأن إيقاع العالم هو إيقاع سريع، فإن الرواية ستتخلص في المرحلة الأولى من سمنتها المفرطة لصالح الرواية النحيفة (سعيد يقطين)، وسيؤدي التكثيف والاختزال إلى هيمنة الأنواع السردية القصيرة كالقصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا والشذرة، وفي مرحلة ثالثة وانسجامًا مع الثورة الرقمية من المحتمل أن تعرف الكتابة الإبداعية إبدالًا جديدًا يتمثل في هيمنة أنواع أدبية جديدة مثل الكتابة بالأبعاد الثلاثية، وأدب التغريدة، والكتابة المتزامنة، والرواية الجماعية وغيرها.
الأفق الرقمي
إن اكتشاف الطباعة في ق15م نقل الكتابة الإبداعية من الندرة إلى الوفرة، وبفضل هذا التراكم حققت الكتابة الإبداعية انتشارًا كبيرًا، وفي ظل الثورة الرقمية القائمة على التدفق السائل وسرعة الانتشار واستثمار وسائط جديدة كالصوت والصورة ستتخلص الكتابة الإبداعية من سلطة المراقبة وسلطة الجغرافية المادية وسلطة دور النشر وسلطة التكلفة وسلطة الإعلام وسلطة التوزيع وسلطة القراءة الخطية، وهو ما سيمكنها من بناء أفق جديد سيجعلها في اتصال دائم ومستمر مع كائنات افتراضية صارت تنسحب بشكل تدريجي من الواقع إلى عالم افتراضي بات يهيمن على حواسنا وإدراكنا، فمن شأن تغير الوسيط أن يغير ليس أفق الكتابة فقط، إنما أفق العالم برمته.