مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

طالب الرفاعي شخصية العام الثقافية

طالب الرفاعي شخصية العام الثقافية

أعلنت «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، اختيار الأديب الكويتي الكبير طالب الرفاعي شخصية العام الثقافية، في مناسبة اختيار دولة الكويت عاصمة للثقافة العربية لعام 2025م، حيث إن الرفاعي من أكثر الشخصيات الأدبية حضورًا في مجال الأدب والثقافة والإبداع، وهو يُعَدُّ اليوم أحد أهم وجوه الثقافة الراهنة في دولة الكويت.

وقد سبق للمؤسسة العربية للدراسات والنشر أن اختارت أسماء عربية فاعلة وحاضرة في المشهد الفكري والإبداعي العربي؛ أمثال: نجيب محفوظ، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش، وعبدالرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد الماغوط، ورضوى عاشور، وعبدالعزيز المقالح، ومصطفى وهبي التل، ومحمد خضير، وإبراهيم الكوني، وقاسم حداد، والطيب صالح، ومحمد رشيد رضا. وبمناسبة الكويت عاصمة للثقافة العربية لعام 2025م، وقع اختيار المؤسسة على الأديب الكويتي طالب الرفاعي لينضم إلى قائمة شخصيات العام الثقافية.

طالب الرفاعي، مهندس مدني، سلك طريقه الإبداعي قاصًّا وروائيًّا، وطّد علاقته بالساحة الثقافية الكويتية والخليجية والعربية، من خلال عمله قرابة ثلاثة عقود في «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، ثم مستشارًا ثقافيًّا لوزير الإعلام. كانت قدرة الرفاعي لافتة في انتمائه لعمله من جهة، وإصراره على الإخلاص للكتابة والدراسة من جهة أخرى؛ إذ أكمل دراساته العليا في «الكتابة الإبداعية» من جامعة «آيوا» الأميركية، ثم جامعة «كينغستون» البريطانية؛ ليتفرّغ خلال السنوات العشر الماضية مُحاضرًا يُدرِّس مادة الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في الكويت، وفي العديد من المعاهد والمراكز الثقافية حول العالم.

أصدر الرفاعي عشرة مجاميع قصصية، وثماني روايات، إضافة إلى عشرة كتب أكاديمية وبحثية، وقد عُرف طالب الرفاعي بمبادرته الإبداعية والثقافية، فقد كان صاحب فكرة «جريدة الفنون»، ومدير تحريرها ومستشارها سبع سنين؛ إذ أطلقتها دولة الكويت، من خلال مطبوعات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 2001م، بمناسبة اختيار الكويت عاصمة للثقافة العربية وقتذاك، كما فتح الرفاعي بيته بوصفه صالونًا ثقافيًّا كويتيًّا وعربيًّا «الملتقى الثقافي» منذ عام 2012م، وقد عبّر عن عشقه لفن القصة القصيرة من خلال تأسيسه «لجائرة الملتقى للقصة القصيرة العربية» عام 2015م، التي أصبح يُشار إليها اليوم بوصفها الجائزة الأهم والأرفع للقصة القصيرة العربية.

قُلّدَ الرفاعي وسام الآداب والفنون برتبة فارس، من الجمهورية الفرنسية 2023م، وكان «شخصية العام الثقافية» في الشارقة عام 2021م، ونال جائزة المبدعين لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 2019م، وجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2013م عن مجمل الأعمال القصصية والروائية، وحصل على جائزة الدولة في الكويت لمرتين عن رواية «في الهُنا» عام 2016م، ورواية «رائحة البحر» عام 2002م.

تُرجمت أعمال الرفاعي الروائية والقصصية إلى عدد من لغات العالم؛ من بينها: الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، والألمانية، والصينية، والتركية، والهندية، وقُدّم العديد من دراسات الماجستير والدكتوراه في أعماله في جامعات عربية وعالمية.

وكانت «الفيصل» قد نشرت ملفًّا تناول فيه عددٌ من الكُتاب والأدباء العرب، من زوايا مختلفة، التجربةَ الإبداعية والثقافية لطالب الرفاعي. نعيد هنا نشر الملف.

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم فعالياته كتب جديدة وندوات وحوارات وورش جذبت جمهورًا واسعًا

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم فعالياته

كتب جديدة وندوات وحوارات وورش جذبت جمهورًا واسعًا

قد لا تتوافر أرقام دقيقة حول الأعداد الكبيرة التي ترددت على معرض الرياض الدولي للكتاب، ولا ما أنفقته هذه الأعداد من مبالغ مقابل اقتناء كتبهم المفضلة، إلا أن المتابع لفعاليات المعرض، والمهتم بتقصي أخباره، سيلحظ أن المعرض، شأنه في كل سنة، تحول إلى مناسبة ثقافية مفتوحة، حفلت بفعاليات متنوعة لم تقتصر على الكتاب وثقافته، إنما تخطت ذلك إلى فنون ومجالات مختلفة، جذبت إليها شرائح مختلفة من المتلقين. وبات الحضور الكثيف للمعرض، سمة بارزة لهذه التظاهرة الثقافية الكبرى. تجاوزت الأنشطة التي نظمها المعرض 200 فعالية تناسب جميع الأعمار، وشملت عددًا من الندوات والجلسات الحوارية، والمحاضرات والأمسيات الشعرية، والعروض الفنية والمسرحية، وورش العمل التي تناقش موضوعات مختلفة في شتى المجالات، بمشاركة نخبة من الأدباء والمفكرين والمثقفين من السعودية والمنطقة والعالم.

وبات معرض الرياض الدولي للكتاب الحدث الثقافي الأبرز في المملكة، ومن بين أبرز الأحداث الثقافية في العالم، ومنصة ثقافية تجمع صناع الأدب والنشر والترجمة من المؤسسات ودور النشر المحلية والدولية مع القراء والمهتمين بشؤون الثقافة ومجالات المعرفة. واستضاف المعرض كوكبة من الشخصيات الأدبية والفنية ورواد الثقافة من المنطقة والعالم، كما خَصَّصَ فعالياتٍ ثقافيةً وترفيهية متنوعة للأطفال في منطقة الطفل، وركنًا خاصًّا لعرض أعمال المؤلفين السعوديين، ومنصات لتوقيع الكتب التي تتيح للجمهور التقاء مؤلفيهم المفضلين لتوقيع أحدث إصداراتهم.

من ناحية، سعت النسخة الجديدة من المعرض إلى تقديم تجربة جديدة من خلال استثمار التقنية في عالم النشر الرقمي، ودعم الابتكارات في صناعة الكتاب، مع التركيز على إصدارات الكتب الإلكترونية، ومنصات القراءة التفاعلية، حيث يمثل ذلك جزءًا من رؤية المملكة 2030؛ لتعزيز التحول الرقمي في مختلف المجالات، بما فيها المجال الثقافي.

ويجسد معرض الرياض الدولي للكتاب 2024م، طموحات المملكة نحو تطوير الفكر والثقافة، حيث يعكس الاهتمام بإبراز أهمية الكتاب في بناء أجيال واعية ومتعلمة، وبناء مجتمع معرفي رائد.

الرياض تقرأ

وكان المعرض، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، قد انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ» في حرم جامعة الملك سعود (26 سبتمبر إلى 5 أكتوبر 2024م)، بمشاركة أكثر من 2000 دار نشر، من أكثر من 30 دولة، موزعة على أكثر من 800 جناح، إضافة إلى مشاركة هيئات ومؤسسات ثقافية سعودية وعربية ودولية، فشكل المعرض منصة رئيسة للناشرين وللتبادل الفكري والثقافي، وملتقى للأدباء والمفكرين وصنّاع الثقافة والمعرفة وعشاق الكتاب من دخل المملكة وخارجها.

وحلت دولة قطر ضيف شرف للمعرض هذا العام، فقدمت لزواره تجربة ثقافية مميزة تعكس منجزاتها الأدبية والفكرية، وموروثها الثقافي الأصيل وتاريخها وفنونها المتنوعة، وذلك من خلال جناح يستعرض مخطوطات وإصدارات وزارة الثقافة القطرية، بمشاركة رموز الثقافة القطرية والمواهب والمبدعين القطريين، ضمن برنامج ثقافي منوع وثري.

وقال الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور محمد حسن علوان: «نعمل وفق إستراتيجية متكاملة تترجم رؤية وتوجيهات وحرص القيادة الرشيدة على تعزيز الريادة الثقافية للمملكة عربيًّا وعالميًّا، وتحويل الثقافة لأحد أهم ممكنات النهوض بالوعي المعرفي والثقافي للمجتمع، ودعم اقتصاد الصناعات الإبداعية والفكرية، وتمكين صناعة النشر وتزايد حركة التأليف والترجمة السعودية، بما يسهم في الارتقاء بجودة الحياة، ودفع عجلة النمو الاقتصادي والاجتماعي الوطني لتحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية للثقافة المنبثقة من رؤية المملكة 2030».

وأوضح أن نسخة هذا العام تشهد تطورات متعددة، أتت في إطار جهود الهيئة المستمرة لتطوير هذا الحدث وفتح آفاق ومجالات جديدة تعزز شمولية ما يقدمه قطاع الثقافة والنشر محليًّا.

وأشار الدكتور علوان، إلى أن اختيار دولة قطر ضيف شرف للمعرض، يعكس الدور الثقافي والفكري الرائد لقطر في مشهد الثقافة الخليجي والعربي، وعمق الروابط الثقافية والتاريخية الوطيدة التي تربطها بالمملكة.

جوائز وتكريمات

كرمت هيئة الأدب والنشر والترجمة، الفائزين بجوائز المعرض، ففاز بجائزة التميز في النشر، «مجموعة تكوين المتحدة للنشر والتوزيع»، وفاز بجائزة التميز في النشر لفئة الأطفال، «جامعة حمد بن خليفة للنشر»، وفازت «دار جبل عمان ناشرون» بجائزة التميز في النشر لفئة المنصات الرقمية، وتُوِّجَتْ دار عصير الكتب للنشر والتوزيع بجائزة التميز في النشر لفئة الترجمة. أما جائزة التميز في النشر التي تأتي دعمًا وتشجيعًا للإبداع المحليّ، وتُمنح للمحتوى السعودي المتميز الذي يعكس ثقافتنا وتراثنا الغني، ففازت بها دار «تأثير للنشر والتوزيع».

المسلم والفانتازيا

من فعاليات المعرض التي شهدت حضورًا كثيفًا، ندوة للكاتب والروائي أسامة المسلم، الذي يُعَدّ من أكثر الكتاب الذين لهم أكثر الكتب مبيعًا في العالم العربي، إنْ لم يكن أكثرهم على الإطلاق، في هذه الندوة أكد المسلم أهميةَ دور معرض الرياض الدولي للكتاب، في إثراء الحراك الثقافي في المملكة والمنطقة، ودعم حركة النشر، وحَفْز الأدباء للمزيد من الإبداع على نطاق أكبر، مشيرًا إلى أن هناك تطورًا ملحوظًا لأدب الفانتازيا في السعودية، وتسير الإصدارات في هذا الاتجاه على الخط الصحيح نحو الانتشار في العالم العربي. وقال المسلم، في ندوة بعنوان «الرواية والفانتازيا»: إن الإبداع في أدب الفانتازيا، يتطلب ضرورة إلمام الكاتب بالإرث العربي الزاخر بالقصص والحضارات؛ إذ  يبرز دور الروائي من خلال تقديمها بطريقة مستساغة، لافتًا إلى أنه لا يوجد خيال أو واقعية مطلقة، بل يجب المزج بينهما.

وحول مدخله إلى أدب الفانتازيا، أوضح المسلم، أنها كانت بداية خجولة، حين كان أدب الفانتازيا في نظر بعض النقاد لا يعدو كونه أشبه بمكمل غذائي لا أكثر، مبينًا أن استمراريته في مجال أدب الفانتازيا جاءت على خلاف توقعاته في بداية مشواره؛ إذ كان يعتقد أن رواية «خوف» ستكون البداية والنهاية معًا.

دعم الكُتّاب الشباب

من الأدوار المهمة التي يلعبها معرض الرياض، دعم المؤلفين الشباب في إطلاق باكورة أعمالهم الأدبية؛ لذا ينتظر كثير منهم هذه المناسبة لتقديم مؤلفاتهم لجمهور القراء من الزوار، متطلعين إلى أن يسهم المعرض في التعريف بهم وبأعمالهم، في هذا الشأن يرى الكاتب الدكتور تركي بن ماطر الغنّامي، بوصفه أحد المؤلفين الذين استفادوا من هذه التجربة من خلال نسخة سابقة من المعرض، أن معارض الكتاب ذات دور مهم في هذا الشأن، بل إن الساحة الثقافية والأدبية طالما كانت تدين لمعارض الكتاب بذلك الفضل، بإسهامها في إثراء الحراك الثقافي بصفة مستمرة بأجيال جديدة من الكتّاب والمؤلفين. وعدّت الكاتبة أمل حمدان معرض الكتاب النافذة الأولى لها لتقديم باكورة أعمالها الأدبية، فالمعرض أتاح لها فرصة لقاء جمهور القراء، والحديث معهم عن كتابها الأول «بصمة أمل» الذي جمعت فيه ملخصًا لتجربتها الممتدة لأربع سنوات، بين العمل كإعلامية ومثقفة مرتبطة بالعمل الأدبي والثقافي.

ورش عمل

شهد المعرض عقد عدد من ورش العمل والجلسات النقاشية في فضاء مفتوح بين أجنحة دور النشر، وهو ما جذب الزوار وأتاح لهم فرصة التفاعل المباشر مع الكُتاب والمفكرين. وتسهيلًا على رواد المعرض لم يُشترَط التسجيل المبكر لحضور الورش والجلسات إلزاميًّا، فأمكنهم الاستفادة من خبرات الضيوف عبر الدخول مباشرة إلى الورش، التي تميزت بالمحافظة على خصوصية طابع الورش على الرغم من إقامتها في فضاء مفتوح. وتوافقت موضوعات ورش العمل في المعرض مع مستهدفات الإستراتيجية الوطنية للثقافة، التي تسعى لتعزيز التنوع والثراء الثقافي.

هموم الترجمة

في ندوة حول الترجمة، بعنوان «الترجمة وصناعة الهوية الوطنية» نظمتها جمعية الترجمة بمناسبة اليوم العالمي للترجمة، أكّدت متخصصتان في الترجمة ضرورة استثمار التقنية للوصول إلى الشعوب الأخرى والتركيز على المحتوى السمعيّ البصريّ، ودَعَتَا إلى عدم الاكتفاء بالترجمة للغة الوحيدة، والانتقائية في اختيار الأعمال الصالحة للترجمة، والتعامل الممنهج مع وسائل الذكاء الاصطناعي، مع المحافظة والاعتزاز بالهوية الوطنية.

شاركت في الترجمة رئيس قسم الترجمة بجامعة الأميرة نورة الدكتورة فادية الشهري، وأستاذة الترجمة السمعية البصرية الدكتورة عبير الفيفي، وأدارتها أستاذة الأدب الإنجليزي الدكتورة مشاعل الحماد. وأبرزت الندوة دور المؤسسات المهتمة بالترجمة سواء الحكومية أو الخاصة في التعريف بالثقافة وتمثيل الهوية وتصديرها للآخر. وأكدت الدكتورة فادية الشهري ضرورة انتقاء النصوص المراد ترجمتها ودراستها. من جانبها قالت الدكتورة عبير الفيفي: «إن الترجمة تجعل الشعوب تسمع منا لا عنا، وهذا يتحدى الصور النمطية والأفكار السائدة عن المجتمعات».

وأضافت أن على المترجم ألا يكتفي بلغتين، بل عليه فهم اللغة التي ترجم منها ولها وكيفية التعامل مع المشكلات الناتجة عن الترجمة، وتعزيز الهوية الوطنية عبر الثقافات.

وكان المعرض قد احتفى باليوم العالمي للترجمة، فخصص خمس فعاليات ضمن برنامجه الثقافي، تناولت عددًا من الموضوعات المتعلقة بالترجمة. ومن ضمنها ورشة عمل بعنوان: «جودة الترجمة السمع بصرية في الأعمال السينمائية»، قدمتها عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتورة عبير القحطاني. وركزت الورشة على أهمية الترجمة السمعية البصرية في ضمان تجربة مشاهدة متكاملة وشاملة للجمهور مع مراعاة الفوارق العمرية في الترجمة من صغار السن إلى الأشخاص البالغين، كما جرى استعراض عناصر الترجمة، مثل دقة النصوص والتزامن المثالي مع الحوار، ووضوح الخطوط وسهولة القراءة، وأهمية الترجمة الثقافية في نقل المعاني بين الثقافات المختلفة.

وخلال ورشة العمل الثانية التي حملت عنوان «الترجمة الفورية: كيفية التعامل مع المصطلحات المتخصصة»، استعرض عضو الاتحاد الدولي للمترجمين المعتمدين مازن الحربي، مهارات المترجمين الفوريين وكيفية تغلبهم على التحديات التي تواجههم، وأهم تحديات الترجمة الفورية. وناقش الأكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور عبدالرحمن الشبيب في ورشة أخرى «أثر التقنية الحديثة في الترجمة»، فأكد أن المترجمين يواجهون اليوم منافسة شرسة من برامج الترجمة الآلية، وتلك المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، في ظل انفتاح العالم ثقافيًّا وانتعاش الحاجة للوصول إلى المعرفة وتبادل المحتوى العالمي، فيما أكدت المترجمة والمستشارة في الإنتاج والتواصل المعرفي نهى الحجي أن المجالات كافة تشهد اليوم تطورات متسارعة ناجمة عن الانفجار المعرفي والتقني الذي أسهم في دخول مجال الترجمة إلى عالم «الترجمة الذكية» القائمة على مزيج من قدرات البشر وقدرات الآلة، وذكاء الإنسان والذكاء الاصطناعي. وكانت هناك ورشة بعنوان: «الترجمة في المجال السياحي»، قدمتها المترجمة السعودية عزة الغامدي.

فعاليات قطرية

من الندوات التي شهدها المعرض ندوة بعنوان: «مونديال قطر: التجربة الاستثنائية»، ضمن فعاليات ضيف الشرف تحدث فيها الرئيس التنفيذي لبطولة كأس العالم في قطر 2022م ناصر الخاطر وأدارها الإعلامي السعودي عبدالرحمن الحميدي. واستعرض الخاطر أبرز ملامح التجربة التنظيمية والإدارية الناجحة لدولة قطر في استضافة المونديال، والاهتمام بتوفير الإمكانات والمتطلبات كافة التي تساعد الجمهور على الاستمتاع بتجربة استثنائية في مشاهدة مباراة كروية، وتوفير جميع الخدمات للمشجعين بكل فئاتهم، ودعم كامل لذوي الاحتياجات الخاصة في البنية التحتية والخدمات المقدمة، إضافة إلى الحرص على ارتباط جميع الملاعب والمنشآت الرياضية بالتراث والثقافة القطرية والعربية والإسلامية، والمجتمع والبيئة المحلية، مثل: ملعب الثمامة، وملعب الجنوب، وملعب البيت، وغيرها.

وفي ندوة أخرى لضيف الشرف، أكد الباحث القطري في الأنثروبولوجيا الثقافية حمد الملا، خلال ورشة عمل «الأغنية الفصيحة بين الماضي والحاضر»، أن التحولات الأساسية التي مرت بها مجتمعات الخليج والجزيرة العربية أثرت في الإنتاج والتوزيع واستهلاك الأغنية في المنطقة. واستشهد الملا بالتحولات التي مرت بها القصيدة العربية، بدءًا من الشعر العمودي إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر، منوهًا بأن هذه التغيرات أثرت بشكل أساسي في الكلمات التي تستخدم في الأغنية الفصيحة أولًا، كما تطرق إلى تأثير أنماط التلحين، مبينًا أن القوالب اللحنية التي كانت رائجة في البحرين وقطر قد تغيرت، وظهرت قوالب جديدة، حيث مزج الملحنون بين أكثر من قالب، واستوحَوْا ألحانًا من مصادر مختلفة، لافتًا إلى أن الأغنية تتفاعل مثل أي فن آخر مع محيطها، واليوم دول الخليج في تفاعل إيجابي مع كل محيطها سواء القريب أو العالمي.

أهمية الفنون

وتحدث مشاركون في معرض «الرياض تقرأ» عن أهمية الفنون في جذب الجمهور إلى القراءة، وفي هذا السياق، أكدت مديرة النشر في دار نشر كويتية، إسراء القرني أن الفنون تسهم بشكل كبير في تعزيز شغف القراءة، «وعندما تُقدم الكتب من خلال العروض الفنية أو الفعاليات الثقافية، نجد أن الزوار يتحمسون لاستكشاف المزيد من العناوين». من جانبه، أشار العارض في دار الأفق حسين العتيبي، إلى أهمية الفنون في رفع مستوى الوعي الثقافي، وقال: «كانت تجربتي في بيع الكتب التي استُمدت منها أعمال فنية، سواء كانت أفلامًا أو مسرحيات أو أعمالًا أدبية، مذهلة، ولقد رأيت كيف يمكن لهذه الفنون أن تجعل الكتب تنبض بالحياة، مما يزيد من اهتمام الزوار».

وعبّر العديد من الزوار عن تجاربهم الفريدة في المعرض، وقالت ريم الكيلاني، زائرة ومهتمة بالأدب: «بعد مشاهدتي لفِلْم سينمائي استفاد من رواية، شعرت برغبة قوية في قراءة الكتاب، حيث إن الفنون تجعل القصة أكثر تفاعلًا وواقعية. في حين أوضح الزائر خالد الأحمد، أن تجربته في اكتشاف الشعر العربي من خلال الأعمال السينمائية التاريخية مثل: «الزير سالم» و«الحجاج»، مشيرًا إلى أن هذه الأفلام كانت مليئة بالأبيات الشعرية التي دفعته للبحث عن القصائد الأصلية.

الصندوق الثقافي

عبر جناح الصندوق الثقافي في المعرض، تعرف الزوار إلى خدمات «التمويل الثقافي» الذي يُعَدّ الأول من نوعه في السعودية. ويهدف المشروع إلى دعم نمو المشروعات الثقافية للمنشآت عبر حلول تمويلية مرنة، وذات مزايا تنافسية تمكنها من بدء أعمالها وتوسع نموها باستدامة وربحية وأمان. ويسعى الصندوق الثقافي إلى تمكين المنشآت العاملة في القطاع الثقافي بما يدعم توسعها ونموها، إضافة إلى حَفْز مساهمة القطاع المصرفي في تنمية القطاع الثقافي اقتصاديًّا، والاستفادة من الفرص التي يقدمها، ودعم استدامة نمو القطاع الثقافي لينعكس أثره على المجتمع.

الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن

في ندوة بعنوان: «الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن» شارك فيها كلٌّ من المفكر المغربي الدكتور محمد أفاية، وأستاذ الدراسات الفلسفية الموريتاني الدكتور عبدالله السيد ولد أباه.

وناقشت الندوة، التي أدارها الدكتور عبدالله البريدي، أحوال المفكرين العرب، مؤكدةً أن المثقفين والمفكرين يتميزون بالإنتاجية، ويحللون ويفهمون مشاكل المجتمع، ويتناولونها بأسلوب واضح ومناسب. ولفتت الندوة إلى أن للمفكر العربي مهمات متزامنة، بعكس الغربي تكون متعاقبة، حيث يتأثر العربي من التفكير الديني المتجذر والثقافة المتأصلة.

وتطرقت الندوة إلى أن المفكرين العرب يعدّون ضحايا لعدم اعتراف العالم بجدارة ما تنتجه الثقافة العربية. وأكد المشاركون في الندوة أن للثقافة أدوارًا كبرى في ارتقاء الإنسان بمجتمعه، وأنه يجب أن يعرف صاحب القرار السياسي كيف يدمج الثقافة في المشاريع والخطط الكبرى لبلده، لافتين إلى أننا نشهد اليوم تركيزًا أساسيًّا على دور عملية إعداد العقل وتوجيهه وإعادة بنائه من أجل وضع مسارات تنموية ناجحة.

قطاع النشر السعودي

أكد المدير العام للإدارة العامة للنشر، بهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف الواصل، أن قطاع النشر السعودي جاذب وحافز للاستثمار، خصوصًا مع ما يحظى به من دعم. وأوضح، خلال جلسة حوارية بعنوان: «الاستثمار في قطاع النشر» بمشاركة عبداللطيف المبارك من قطاع الإستراتيجية تطوير الأعمال بالصندوق الثقافي، أن هناك رغبات جادة للاستثمار في المملكة، «وهذا ما لمسناه خلال مشاركات هيئة الأدب والنشر والترجمة في الخارج، وسؤال الكثيرين عن إمكانية الاستثمار في السوق السعودي»، وقال: «نطمح إلى زيادة المنافسة الاستثمارية في قطاع النشر، والنتائج الواردة في تقرير الحالة الثقافية تفيد أن قطاع النشر والكتب حاز النسبة الكبرى من مشاركة القطاعات الثقافية في الاقتصاد الوطني التي شكلت ٣٦.٤٪».

وعن دور معرض الكتاب في نمو القطاع، أشار الواصل إلى أن معرض الرياض يحتل مكانة قوية بين المعارض الدولية، على الرغم من أن تركيزه ينصبّ على المبيعات المباشرة، وهو ما يشكل للناشر فرصة لزيادة مداخيله، وأن إضافة منطقة الأعمال لهذا العام جاءت لتعزيز الجانب الاستثماري وتنمية الأعمال، عادًّا المعرض حجر أساس في نمو قطاع النشر.

واستضافت الجلسة بعد ذلك ثلاث دور نشر عربية حاصلة مؤخرًا على ترخيص استثماري في المملكة، وهي الدار العربية للعلوم ناشرون من لبنان، ودار عصير الكتب من مصر، ودار جبل عمان من الأردن. وأكد أصحاب الدور أن قوة قطاع النشر في المملكة ونجاح مشاركاتهم في معرض الرياض شجعتهم على استخراج الرخصة والدخول في السوق السعودي.

الذييب والكتابات العربية القديمة

بحضور الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، استعرض المؤرخ السعودي الدكتور سليمان الذييب، البعد الحضاري للمملكة والجزيرة العربية الضارب في التاريخ، عبر حكايا عن المكان والزمان والإنسان، وقصص حول النقوش والكتابات العربية القديمة ودلالاتها، والنقوش المكتوبة بالأحرف العربية، والتراث والآثار.

وسرد الدكتور الذييب في ندوة بعنوان: «الكتابات العربية القديمة» وأدارها الإعلامي عبدالله المحيلان، جزءًا من تاريخ شبه الجزيرة العربية، ودورها الحضاري والثقافي، وعناصرها المتباينة بين اللغة والهوية، وألقى الضوء على المظاهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية، والنقوش والفنون الصخرية والجدارية والمعثورات، والكتابات والنقوش الشاهدة على الجذور والعمق التاريخي والإرث الحضاري والثقافي.

وأكد الذييب أن الجزيرة العربية لم يسكنها قديمًا أو حديثًا سوى العرب، لافتًا إلى أن الأجناس الذين قطنوها في حقب زمنية كانوا بصفة مؤقتة، مشيرًا إلى أن لفظ «عربي» أطلق على مجموعة من القبائل في حقبة الآشوريين في القرنين الثامن والتاسع قبل الميلاد.

وأوضح الذييب أن الهجرات من الجزيرة العربية بدأت من منطقة الوسط باتجاه الشمال إلى بلاد الرافدين والشام العظمى ومصر، واستقروا وبنوا ممالك هناك، لافتًا إلى أن أقدم اكتشاف لنقش عربي وجد في منطقة تابعة لفلسطين وتحديدًا مدينة لخيش، وهو نقش ثمودي يعود إلى 1300 قبل الميلاد، وفي البداية ظنوا أنه فينيقي ويعود إلى 1509 قبل الميلاد، وتبين بعد ذلك أنه يجمع الخط المسند والحروف الثمودية.

وذكر أن شبه الجزيرة العربية، وحاليًّا تشكل المملكة العربية السعودية جزءًا كبيرًا منها، هي من أكثر المناطق في العالم ثراءً بالكتابات القديمة المتنوعة؛ مثل: الآرامية، والنبطية في الحجر، واللحيانية، إلى جانب الكتابات الصفائية شمال المملكة، والدادانية في العلا، والحسائية، والسبئية، والكتابات المعينية نسبة لقبيلة معين، والكتابات التدمرية شمال الجزيرة العربية، إضافة إلى الخط اليوناني، والخط اللاتيني، والكتابات المسمارية في تيماء، والنقوش الثمودية في منطقة حائل. وقدم الذييب مقاربةً بين الكتابات العربية القديمة في شبه الجزيرة والحضارات التي نشأت في محيطها القريب؛ لأغراض التبادل التجاري والمعيشة.

ويعد الدكتور سليمان الذييب من أهم رواد التاريخ في مجال الاكتشافات الأثرية في المملكة، والكتابة عن الحضارات التي تعود إلى آلاف السنين في شبه الجزيرة العربية، والحياة الاجتماعية بأبعادها المختلفة، وهو كاتب ومؤرخ وباحث وأستاذ الكتابات العربية القديمة بجامعة الملك سعود، وعالم في مجال الآثار واللغات القديمة في الجزيرة العربية، قام بالعديد من الرحلات الاستكشافية الأثرية، وله عشرات المؤلفات والدراسات والأبحاث المنشورة باللغة العربية في مجال التراث والبحث التاريخي والحضاري، وصاحب بصمة في التنقيب في التاريخ السعودي القديم.

الكتاب العربي والحضور العالمي

في ندوة بعنوان: «الكتاب العربي والحضور العالمي»، كشف رئيس مجلس إدارة اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد، أن معظم الكتاب العرب لا يقبلون بتدخل المحررين في نصوصهم، وهو ما يعكس غياب الثقافة النقدية في الكتابة والنشر العربي، مشيرًا إلى أن المحرر في العالم الغربي يحظى بدور بارز في تطوير الأعمال الأدبية، حيث يكون جزءًا من العملية الإبداعية، فيما أوضح رئيس جمعية الكتاب والأدباء العمانية سابقًا الدكتور ناصر البدري، أن المحررين في دور النشر الغربية يُعَدُّون نجومًا في حد ذاتهم، فهم يساهمون في صياغة النصوص بشكل يحقق تفاعلًا أكبر مع القارئ. الندوة التي نظمها منتدى الجوائز العربية ضمن البرنامج الثقافي لمعرض الرياض شارك فيها إلى جانب رشاد والبدري الروائي الكويتي طالب الرفاعي، وأدارها الروائي السعودي يوسف المحيميد. واتفق المشاركون في الندوة على أن الكتاب العربي كثيرًا ما يُكتب من دون مراعاة القارئ الغربي، وهو ما يؤدي إلى عدم تفاعل الكتابة العربية مع الثقافات المختلفة، فيما أشار طالب الرفاعي إلى أن هناك كُتَّابًا عربًا يكتبون بلغة غير العربية، وهو ما قد يؤدي إلى تعزيز حضور الأدب العربي في الأوساط العالمية.

وعن علاقة الجوائز العربية بالترجمة، تساءل المشاركون عن أسباب عدم اهتمام دور النشر الغربية بالجوائز العربية، وأكدوا ضرورة أن تكون الجوائز الأدبية معروفة عالميًّا لجذب الناشرين العرب والأجانب على حد سواء، مشيرين إلى أن الجوائز الأدبية العربية غالبًا ما تفتقر إلى الاعتراف الدولي، وهو ما يؤثر سلبًا في إمكانية ترجمة الأعمال الفائزة إلى لغات أخرى.

وتناولت الندوة الصعوبات والمعوقات التي تواجه الكتاب العرب في الوصول إلى القارئ العالمي، فأشار المشاركون إلى أن صورة العرب في الإعلام الغربي غالبًا ما تكون مشوهة، وهو ما يجعل القارئ الغربي يتردد في قراءة الأدب العربي، وتطرقوا إلى قضايا حقوق الملكية الفكرية والقرصنة، حيث يعاني الناشرون العرب صعوبةَ حماية حقوقهم، وهو ما يؤدي إلى تأثير سلبي في صناعة النشر.

من جانبه قال الأمين العام لمنتدى الجوائز العربية الدكتور عبدالعزيز السبيل: «إن منتدى الجوائز العربية كيان ثقافي أسس في عام 2018م، ونحرص دومًا مع هيئة الأدب والنشر والترجمة على أن يكون في كل عام هناك ندوة لمنتدى الجوائز العربية، وفي كل مرة موضوع مختلف يتناسب مع المرحلة التي نحن نعيشها، وموضوع هذا العام يناقش قضية الترجمة التي تعد مسألة مهمة جدًّا، تبحث غياب الكتاب العربي عن اللغات الأخرى هل هو بسبب الترجمة؟ هل هو بسبب أن دور النشر ليست على مستوى من حيث التوزيع؟ هل المادة المترجمة التي قد تصلح للترجمة لثقافة لا تصلح لثقافة أخرى؟ مشددًا على أن هذه القضية التي تهم الكتّاب مكانها الحقيقي للنقاش هو معرض الكتاب».

الدورة 14 من مهرجان المسرح الخليجي تتحول إلى عرس ثقافي

الدورة 14 من مهرجان المسرح الخليجي تتحول إلى عرس ثقافي

نجحت هيئة المسرح والفنون الأدائية إلى حد كبير، في تنظيم الدورة الرابعة عشرة لمهرجان المسرح الخليجي، التي أقيمت في جامعة الأميرة نورة بالرياض. ولئن كانت المرة الأولى التي تستضيف فيها السعودية حدثًا مسرحيًّا مثل هذا، فإن التنظيم الجيد عبّر عن خبرة في إقامة فعاليات وأنشطة كبرى، وهو ما يجعل المتابع يفتش عن الأسباب التي حالت بين السعودية وبين استضافة إحدى دورات المهرجان من قبل؟ على الرغم من الإسهام النوعي للمسرحيين السعوديين في المهرجان الخليجي، طوال دوراته السابقة. لعل السبب يكمن في عدم وجود جهة مختصة تعنى بالمسرح وسائر الفنون الأدائية، كما هو حادث اليوم، بوجود هيئة المسرح والفنون الأدائية.

من هنا، جاءت استضافة هذه الدورة من المهرجان ضمن مبادرة هيئة المسرح والفنون الأدائية لاستضافة الأحداث المسرحية الدولية، وتقديم أبرز الأعمال المسرحية الوطنية والدولية لمختلف شرائح الجماهير، سعيًا إلى خلق مناخ مسرحي مزدهر ومتجدد، فضلًا عن الاحتفاء بالمسرحيين الخليجيين الذين أثروا الحياة الثقافية، وإقامة منصة تواصل قوية بينهم وبين الجمهور.

طوال سبعة أيام، مدة المهرجان، (من 10- 17) تحول المسرح الأزرق وبهو الجامعة وفندق مداريم، إلى ما يشبه العرس المسرحي، ليس فقط للمسرحيين الخليجيين، إنما أيضًا للمسرحيين من الوطن العربي كافة؛ إذ حضر وشارك عدد من أهم المسرحيين العرب، فَحَفَلَ المهرجان، إلى جانب العروض الرسمية، بندوات ونقاشات سواء خلال الفعاليات الرسمية، أو على هامش هذه الفعاليات، وخلال اللقاءات الجانبية، إضافة إلى السهرات التي شهدها فندق مداريم، حيث تسكن الوفود المشاركة وضيوف المهرجان.

في كل مكان من هذه الأمكنة كان النقاش مستمرًّا، حول المسرح وقضايا الإنسان المعاصر، وحول المسرحيين في الخليج والشوط الذي قطعوه ليكونوا في مستوى واحد مع أشقائهم العرب، وحول المدى الذي بلغه المسرح الخليجي في معالجة الموضوعات المستجدة التي تطرأ على الحياة في الخليج، وكيف استوعب التحديات طوال تاريخه.

أسماء بارزة للتكريم

في حفل الافتتاح الذي قدمه الممثل فيصل الدوخي والممثلة ميلا الزهراني، أكد رئيس هيئة المسرح والفنون الأدائية سلطان البازعي اهتمام الهيئة بالمسرح والمسرحيين، وتطرق إلى المهرجان وأهميته في حياة المسرحيين في الخليج والوطن العربي. وفي الحفل نفسه كرم المهرجان ستة من المسرحيين الخليجيين، الذين أثروا تأثيرًا واضحًا في تطور المسرح في بلدان الخليج، وهم: الكاتب والمخرج المسرحي العماني عماد الشنفري، والكاتب المسرحي القطري صالح المناعي، والفنان الكويتي محمد جابر، والفنان الإماراتي أحمد الجسمي، والمسرحي البحريني الراحل الدكتور إبراهيم غلوم، والمسرحي السعودي فهد ردة الحارثي.

 

عروض متنافسة

وقد شهدت هذه الدورة عروضًا مسرحية مهمة، عبرت عن تطور كبير في وجوه المسرح كافة، كما كشفت عن وعي حاد ودقيق لدى المسرحي الخليجي بقضايا أمته. تنافست هذه العروض فيما بينها على نيل جوائز المهرجان، فمن دولة الإمارات العربية عرضت مسرحية «أشوفك» من تأليف إسماعيل عبدالله، وإخراج حسن رجب، وقد جمعت ما بين الكوميديا والتراجيديا، ومزجت بين الدراما الوطنية والرؤية التاريخية والكوميديا الاجتماعية، متطرقة إلى مرحلة تاريخية مهمة في بعض دول المنطقة، ومدى التأثير الثقافي فيها. ومن مملكة البحرين شاركت مسرحية «عند الضفة الأخرى»، من تأليف حسين العصفور وإخراج طاهر محسن. والمسرحية عبارة عن تنقلات بين النور والعتمة، والواقعية والرمزية. وقد حصلت على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان البحرين المسرحي، الذي أقيم العام الماضي. وتعد هذه المسرحية واحدة من الأعمال الاستثنائية التي تبث عددًا من الرسائل الفكرية والمفاهيم الفلسفية، عبر فصولها العديدة، وفيها تُستكشَف آفاق الوعي والتغييب والسجون الفكرية والسلوكية التي يبنيها الإنسان حول نفسه.

ومن السعودية شاركت مسرحية «بحر» التي حصدت عددًا من جوائز المهرجان، من بينها جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، وهي مستوحاة من نص «النهام بحر» للكاتب المسرحي الراحل عبدالرحمن المريخي؛ وتعالج أحداثها ثيمات تُراوِحُ بين المحبة والقلق، والخداع والاستغلال. كما تعالج الاختلافات الطبقية، وما يرافق ذلك من استغلال يتعرض له النهام بحر، حتى يستمر عمل النواخذة والبحارة. وشاركت من سلطنة عمان مسرحية «الروع»، تأليف وإخراج طاهر الحراصي. ويأتي عنوان المسرحية من اسم أحد الكائنات الخرافية في الموروث الشعبي العماني، وتقوم على سرد مبتكر لثنائية النور والظلمة، والجهل والتنوير، متخذةً من بعض الأساطير العمانية محورًا لقصتها، حيث تستطلع شيئًا من أثر التضليل والأوهام في شل المجتمعات وتعويق تقدمها في إطار إبداعي ممتع. ومن الكويت عرضت مسرحية «غصة عبور» التي تدور أحداثها حول جوانب مختلفة من التراجيديا والكوميديا. وشاركت قطر بمسرحية «الخيمة»، التي فازت بجائزة أفضل أزياء، وجائزة أفضل إضاءة، فضلًا عن منح المسرحية شهادة تقديرية في الكوليغراف. والمسرحية من تأليف عبدالرحمن المناعي ومن إخراج ناصر عبدالرضا.

ندوات فكرية

وشهدت هذه الدورة عددًا من الندوات الفكرية من بينها ندوة حوارية خصصت للمكرمين في المهرجان، واستطلعت الأوراق المشاركة المسيرات المهنية للمكرمين، كما أتاحت الندوة للمكرمين إمكان تقديم رؤاهم وقصصهم أمام الجمهور مباشرة. وكان من بين المتحدثين فيها الفنان الكويتي الشهير محمد جابر الصخي، الذي صرح بأن الشرارة الأولى التي مهدت له الدخول إلى عالم المسرح كانت عام 1958م، وذلك باشتراكه في عمل مسرحي مع شخصيات مسرحية بارزة كالممثل الكويتي محمد النشمي. بينما قال الممثل الإماراتي أحمد الجسمي: إن بداياته كانت في المسرح المدرسي، موضحًا أن المسرح الإماراتي مر بنقلة نوعية كبيرة، وذلك بدعم من الحكومة وشغف من الممثلين. وقال الكاتب المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي: إن بداياته كانت في المسرح المدرسي، مؤكدًا أن مسيرته في مجال المسرح تطورت إلى أن أشرف على أول صفحة في جريدة سعودية عن المسرح في صحيفة البلاد، وأسس فرقة مسرح الطائف، التي تعد من الفرق القليلة التي ما زالت مستمرة بلا انقطاع منذ أكثر من 40 عامًا، وحصدت أكثر من 70 جائزة على مستوى العالم العربي. وذهب الممثل القطري صالح المناعي إلى أن مسيرته في مجال المسرح بدأت منذ سن مبكرة، وأن تركيزه خلالها كان على التأليف أكثر منه على التمثيل، وقال: إنه كتب أكثر من 70 نصًّا مسرحيًّا خلال مسيرته الإبداعية. وتحدث في هذه الندوة أيضًا الكاتب العماني عماد الشنفري، الذي عبر عن شغفه بالمسرح من منظور تميزه عن التلفزيون، من ناحية أنه يتيح فرصة للتفاعل بين الجمهور والممثل، ويخلق محبةً وشغفًا يربطان الممثل بالخشبة. وقد عبر نزار غلوم، نجل المسرحي الراحل الدكتور إبراهيم غلوم، عن تقديره وامتنانه للمملكة العربية السعودية وهيئة المسرح والفنون الأدائية، لقاء تكريمهم والده ومسيرته الفنية، مؤكدًا أن ذلك شاهد على تقدير المملكة للمبدعين وإنتاجهم الفني.

البنية الأساسية

كما أقيمت ندوة بعنوان: «البنية الأساسية للمسرح في دول مجلس التعاون»، تناولت أوراق المشاركين فيها جوانب مختلفة من تقييم وتحليل العناصر الأساسية التي تشكل بنية المسرح في دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تشمل المؤسسات التعليمية والأكاديمية ودورها في تشكيل واقع المسرح. وقد ركزت الجلسة الأولى منها على العناصر الأساسية في دعم تطور المسرح، وركزت الجلسة الثانية على جذور وأسس مجال المسرح الخليجي وأهم الأدبيات التي وثقت بداياته. أدار الجلسة الأولى عبدالله صالح، وعبرت فيها شريفة موسى عن الاهتمام البالغ الذي يتلقاه قطاع المسرح في الإمارات العربية المتحدة، موضحةً الخطوات التي قادت لإدراج المسرح في قائمة المواد الدراسية في المدارس الإماراتية.

 وطالب الدكتور علي العنزي بضرورة تنمية حس الإبداع والتفكير الناقد والمستقل لدى طلاب الأكاديميات المسرحية. كما أكد ضرورة تقديم قراءة واضحة وشاملة لمستقبل البنية التعليمية لمجال المسرح، موضحًا أنها السبيل الوحيد لوضع المسرح الخليجي في المقام الذي يستحقه بين المجالات الفنية العالمية. وتحدث أحمد السروي عن أبرز المحطات في طريق تطوير مجال المسرح في السعودية، مشيرًا إلى برنامج الماجستير في الأدب المسرحي في بعض الجامعات السعودية، وقدم لمحة عن تاريخ المسرح المدرسي وبداياته في المملكة. وفي الجلسة الثانية التي أدارها أحمد مفتاح نوقشت المراحل التي مر بها النقد المسرحي والحركة النقدية في دول مجلس التعاون، والذاكرة التاريخية لتطور قطاع المسرح في هذه الدول. وقد شارك فيها كل من الدكتورة آمنة الربيع من عمان، والدكتور محمد السلمان من البحرين، والدكتورة سعداء الدعاس من الكويت. كما شهد المهرجان ندوة بعنوان: «القيم الفكرية والفنية في المسرح الخليجي»، تحدث فيها كل من الدكتور مرزوق بشير (قطر)، والدكتور حبيب غلوم (الإمارات)، والدكتور عبدالكريم جواد (عمان).

جوائز المهرجان

وفي ختام المهرجان أعلنت اللجنة الدائمة للفرق المسرحية الأهلية بدول مجلس التعاون الخليجي عن أسماء الفائزين بجوائز المهرجان، ففازت فرقة مسرح الطائف بجائزة الفرقة الأهلية المتميزة. ونالت مسرحية «غصة عبور» الكويتية جائزة أفضل عرض مسرحي، وحصلت مسرحية «بحر» السعودية على جائزة أفضل إخراج مسرحي وجائزة أفضل موسيقا مسرحية. وجاءت جائزة أفضل نص مسرحي مناصفة بين مسرحية «أشوفك» الإماراتية ومسرحية «غصة عبور». كما فازت الممثلة العمانية أسماء العوفي بجائزة أفضل ممثلة «بدور أولي»، والممثلة السعودية «فجر اليامي» بجائزة أفضل ممثلة «بدور ثانوي»، والممثل السعودي «شهاب الشهاب» بجائزة أفضل ممثل «بدور أولي»، وفاز الكويتي «عبدالله التركماني» بجائزة أفضل ممثل «بدور ثانوي». أما جائزة أفضل إضاءة وجائزة أفضل أزياء مسرحية فقد ذهبت إلى مسرحية «الخيمة» القطرية، في حين فازت مسرحية «عند الضفة الأخرى» بجائزة أفضل ديكور مسرحي.

إبراهيم غلوم: خمسون عامًا من المسرح

أمضى المسرحي الراحل الدكتور إبراهيم غلوم قرابة خمسين عامًا من عمره في العمل المسرحي، قدم خلالها العديد من الدراسات النقدية والفكرية في مختلف المجالات الثقافية التي كان المسرح في طليعتها. ومن أبرز مؤلفاته: «ظواهر التجربة المسرحية في البحرين»، «القصة القصيرة في الخليج العربي- دراسة تحليلية»، «رومانسية السخط»، «المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي: دراسة في سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الكويت والبحرين»، «الثقافة وإشكالية التواصل الثقافي في مجتمعات الخليج العربي»، «تكوين الممثل المسرحي»، «دراسة لطبيعة التكوين الفني والاجتماعي للمثل»، «مسرح إبراهيم العريض»، «دراسة وتوثيق لبدايات النقد الأدبي في الخليج العربي»، «المسرح الموازي»، «بنية الكوميديا الهزلية»، «مسرح القضية الأصلية»، فضلًا عن العديد من النصوص المسرحية، من بينها «عذابات أحمد بن ماجد»، «الخيول»، «رأيت الذي سوف يحدث»، «الحديد» وغيرها.

 وكان غلوم قد عمل أستاذًا للنقد الحديث في جامعة البحرين، وأستاذًا زائرًا لأدب الخليج والجزيرة العربية بجامعة الكويت 1986م، وقد أنشأ فرقًا مسرحية عدة، وشارك محكمًا في العديد من الفعاليات والمهرجانات الدولية، وحصل على «وسام الكفاءة من الدرجة الأولى» عام 2012م من الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وعلى «قلادة تكريم المبدعين» في دول مجلس التعاون الخليجي عام 2012م، وعلى «جائزة البحرين للكتاب».

فهد ردة الحارثي: من الوجوه البارزة في المسرح العربي

يعد الكاتب السعودي فهد ردة الحارثي واحدًا من أبرز وجوه وكتاب المسرح في السعودية والخليج، بل العالم العربي، الذي ولد عام 1963م في مدينة الطائف. وأظهر اهتمامًا مبكرًا بالأدب والمسرح، كان له تأثيره الواضح من خلال كتاباته المسرحية التي تناول فيها العديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية بأسلوب فني مميز، كانت أولى أعماله المسرحية عام 1990م بعنوان: «يا رايح الوادي»، التي كانت الانطلاقة الكبرى في مسيرة ما زال عطاؤها مستمرًّا حتى الآن. فقد أبدع العديد من المسرحيات التي رسخت مكانته بين صفوف الكتاب البارزين، من بينها «الأوراق الثلاث»، «بيت العز»، «النبع»، «شدت القافلة»، «بازار»، «عصف»، «حالة قلق»، «رحلة البحث»، «أريد أن أتكلم»، «العرض الأخير»، «سفر الهوامش»، «أبناء الصمت»، وغيرها. وقد حظيت أعماله بتقدير النقاد والجمهور لما تميزت به من أسلوب جمع بين النقد الاجتماعي والرمزية والحوار فضلًا عن البناء الدرامي المحكم. يصفه الكاتب والناقد المسرحي البحريني يوسف الحمدان قائلًا: «الحارثي ليس مؤلفًا مسرحيًّا فحسب، بل هو أكاديمية مسرحية متميزة واستثنائية في الخليج والوطن العربي، وأغلب نصوصه المسرحية تشكل وهجًا مسرحيًّا مستقبليًّا في مسرحنا الخليجي»، ويؤكد الحمدان أن تجربة الحارثي نهلت من معين الثقافة المسرحية الخلاقة، تأليفًا وإخراجًا وتدريبًا وفكرًا.

«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم

«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول

علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم

أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط الدقيق لبناء الشخصية، شكلًا ومضمونًا. الكلثمي تطرق في حواره مع «الفيصل» إلى العناصر المكونة لقصة فِلْمه الروائي الأول «مندوب الليل»، ودلالاتها من موسيقا تصويرية ومواقع تصوير حية وعدسات وزمان ومكان وإضاءة وألوان، بحيث توازنت هذه العناصر وأكملت بعضها وأسهمت في تحقيق رؤية متكاملة تعبر عن رحلة البطل بأسلوب واقعي ومؤثر. وتحدث الكلثمي عن المخاوف التي رافقت عرض الفِلم، محليًّا ثم عربيًّا وعالميًّا، وردود أفعال الجمهور التي عكست الخلفيات الثقافية المتنوعة، مؤكدًا أن لغة السينما والقصص الصادقة قادرة على تجاوز الحدود الثقافية واللغوية، والوصول إلى قلوب الناس وعقولهم في كل مكان، وأن التفاعل الدولي مع الفِلم السعودي يحفز المخرج لصناعة أعمال، تعبر بصدق عن «قصصنا المحلية».

شخصيات من هامش المجتمع

  لنبدأ من أول أفلامك الروائية «مندوب الليل»، الذي يتناول حياة شاب ثلاثيني في ليل الرياض، شاب يفقد وظيفته، بينما يرزح تحت أعباء والتزامات عائلية، بين أبيه المريض وأخته وابنتها. ما التحديات التي واجهتك وأنت تحاول سينمائيًّا تجسيد شخصية فقدت عملها الرئيس ولجأت إلى العمل في مهنة خطرة؟

  عندما بدأت كتابة فِلْم كرنمال (كرنفال + مال) الذي تغير اسمه لاحقًا إلى «مندوب الليل»، مع الكاتب محمد القرعاوي، كانت لدينا العديد من التساؤلات عن فهد ودوافعه، ولكن كنا دائمًا نعود إلى المشهد الأساسي الذي شاهدته أمام عيني خلال إحدى الحفلات، التي كانت مليئة بالمشهورين ولاعبي كرة القدم، ودخل وقتها مندوب توصيل الطلبات إلى منتصف المجلس، وكأنه خيال لا يراه أو يشعر به أحد وظل هائمًا، هل هذا وهم أم حقيقة. هذه اللحظة أثارت فيّ تساؤلات حول الشخصيات التي تعيش على هامش المجتمع وتكافح للنجاة في مهن خطرة.

كان التحدي الرئيس هو كيفية تجسيد هذا الشعور بالاختفاء والانتماء الهش في سيناريو الفِلم. حرصت على أن تكون تفاصيل الشخصية دقيقة وواقعية، بدءًا من طريقة تفاعله مع الآخرين وصولًا إلى تعابير وجهه ولغة جسده. كان من الضروري أيضًا العمل على الجانب النفسي للشخصية، بحيث يظهر فهد شخصية معقدة ومليئة بالصراعات الداخلية، وهو ما يعكس بدقة واقعه الاجتماعي والنفسي.

  الملحوظ أنك تجنبت الوقوع في فخ النمطية من خلال اهتمامك بالتفاصيل، سواء من حيث التصوير أو اختيار الموسيقا، والأهم اختيار الليل، بُعدًا زمانيًّا، أضفى عمقًا ومشاعر مختلفة. كيف وازنت بين هذه العناصر لتحقيق رؤية تعبر عن رحلة البطل؟

  اختيار الليل خلفية زمنية للأحداث كان له دور كبير في إضفاء العمق والمشاعر المختلفة. الليل يضيف بعدًا من الغموض والتوتر، ويعزز من حالة العزلة والوحدة التي يشعر بها فهد. كما أن الإضاءة الليلية والألوان التي استخدمناها، مثل الألوان الخضراء والزرقاء والحمراء، ساهمت في خلق جو درامي يكثف من حالة فهد النفسية ويعكس التحديات التي يواجهها.

على مستوى الموسيقا تعاونا مع الموسيقيين فابيان ومايك كورتزير والموزع الموسيقي محمد الحمدان (أبو حمدان) من أجل صناعة موسيقا أصيلة تجذب المشاهد إلى المعضلات النفسية والعاطفية التي يعيشها فهد وتفاعله مع التحديات التي يواجهها؛ حتى تبني هذا العالم العاطفي الذي يواكب العالم المرئي، الذي صممته نيرفانا الشناوي.

عملنا على خلق توازن بين هذه العناصر من خلال الاهتمام بأدق التفاصيل في التصوير والموسيقا، بحيث تكون كل منها مكملة للأخرى، وتساهم في تحقيق رؤية متكاملة تعبر عن رحلة البطل بأسلوب واقعي ومؤثر.

 

شخصية المكان

  اتخذت من مدينة الرياض خلفية مهمة للأحداث في فِلْمك؛ إذ تبدو أكثر من مجرد مكان؛ فهي تكاد تكون شخصية في حد ذاتها، فكيف تعاملت مع تصوير المدينة وجعلها جزءًا لا يتجزأ من القصة؟ وما الدلالات الرمزية التي يحملها اختيارك لهذه الخلفية المكانية؟

  على الرغم من أن الرياض مدينتي التي نشأت وتربيت فيها ولي فيها أعمق وأدق الذكريات، ولكن خلال التحضير للفِلم، تحديدًا قبل بداية التصوير بثلاثة شهور، كنت أخرج مع مدير التصوير أحمد طاحون، نجوب شوارع الرياض ونتناقش حول طبيعة كل حي وتاريخه على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وحول بعض الذكريات التي تخص كل شارع، وبدأنا في اختيار الشوارع ومواقف السيارات المناسبة للقصة التي تضيف إلى المشاعر الخاصة بكل مشهد.

الرياض في «مندوب الليل» ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي شخصية في حد ذاتها تعكس الحالة النفسية للبطل والتغيرات التي يمر بها. المدينة بشوارعها وأضوائها الليلية تمثل عالم فهد الداخلي المضطرب والمتغير. الدلالات الرمزية لاختيار الرياض كمكان للأحداث تعكس رحلة فهد في البحث عن ذاته والتحديات التي يواجهها في مجتمع سريع التغير. تصوير المدينة بهذه الطريقة كان يهدف إلى إظهار تباين الحياة في الرياض بين الأحياء المختلفة، من الأحياء الفقيرة إلى الأحياء الغنية، وهو ما يعكس التنوع الاجتماعي والاقتصادي في المدينة، ويعزز من واقعية القصة وتأثيرها في الجمهور.

الاعتراف الدولي وتفاعل الجمهور

  حصل «مندوب الليل» على جائزة الجمهور لأفضل فِلم روائي طويل في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي 2023م، فكيف تنظر إلى هذا الاعتراف الدولي وما الأثر الذي سيتركه في مسيرتك السينمائية وفي صناعة السينما السعودية عامةً؟

  كان هناك تخوف كبير منذ انطلاقة الفِلْم في المهرجانات الدولية انطلاقًا من أحد المهرجانات ذات التصنيف A عالميًّا، مثل مهرجان تورنتو السينمائي الدولي. والتخوف كان لأننا عندما صنعنا هذا الفِلم كان الهدف هو الجمهور والمشاهد في السعودية، في الدرجة الأولى، فقد حرصنا أن يخاطب الفِلم الجمهور المحلي وأن يكون «مندوب الليل» منتجًا للسوق المحلي. الرائع أنه مع العرض الأول للفِلم في تورنتو، كندا، أذكر أنني جلست في نهاية القاعة الممتلئة عن آخرها وبدأت أتابع ردود أفعال الجمهور، الذي كان ينقسم إلى جمهور كبير في السن يتصدر الصفوف الأمامية، بينما انتشرت الوجوه الشابة في بقية القاعة، وقد كان تفاعل كل منهما مختلفًا تمامًا مع أحداث الفِلْم، ولكن القاسم المشترك بينهم أنهم شعروا بالتعاطف أحيانًا وبالغضب أحيانًا أخرى من سلوكيات وتصرفات فهد القضعاني. وقد كانت الجلسات النقاشية بعد كل عرض من عروض الفِلم متنوعة من حيث نقاش القصة أو الاستفسار عن أماكن التصوير، وهناك من تساءل عن أدوار محمد الدوخي وجميعهم كانوا منبهرين بأن الدوخي اشتهر بالأعمال الكوميدية.

الشاهد أن لغة السينما والقصص كلما كانت حقيقية وأصيلة، لامست الإنسان في أي مكان ومن أي ثقافة. وهذا ما أثبتته لي تجربة «مندوب الليل». لا شك أننا فخورون بكل التقدير والاحتفاء بالفِلم، ولكن يبقى رد فعل الجمهور وتفاعله مع الفِلم وأحداثه وشخصياته هو أكبر تقدير يشبع غرور أي مخرج محب للسينما.

هذا الاعتراف الدولي يعزز من مكانة السينما السعودية، ويحفزني على تقديم المزيد من الأعمال التي تعبر بصدق عن قصصنا المحلية. كما أنه يفتح الأبواب أمام المزيد من التعاون الدولي، ويزيد من الثقة في قدراتنا، نحن صناع السينما، وأننا قادرون على إنتاج أعمال تنافس على المستوى العالمي.

  عرض الفِلم أول مرة عربيًّا في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، الدورة الماضية، حصد إعجاب الجمهور، لكنه لم يفز بجائزة أفضل فِلم، ما تعليقك؟

  لا شك أن الدورة الماضية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي كانت المنافسة فيها شرسة؛ إذ شاركت العديد من الأفلام السعودية والعربية والعالمية القوية على المستوى الفني. كان هناك مستوى عالٍ من الإبداع والتنوع في الأفلام المعروضة، وهو ما جعل المنافسة صعبة جدًّا. بالنسبة لي، أن يكون العرض الإقليمي الأول لفِلم «مندوب الليل» بين أهله وناسه في السعودية من خلال مهرجان البحر الأحمر هو في حد ذاته إنجاز كبير. هذا التقدير من الجمهور السعودي، ودعم مهرجان البحر الأحمر السينمائي للفِلم، ساهم بشكل كبير في استكمال مسيرة الفِلم ووصوله إلى شريحة واسعة من المشاهدين المحليين.

حصول الفِلم على إعجاب الجمهور هو أمر نفخر به كثيرًا، وهو دليل على أن العمل قد تمكن من لمس قلوب الناس والتواصل معهم بشكل فعال. بالنسبة لي وللفريق، هذا التفاعل الإيجابي من الجمهور هو الجائزة الحقيقية، وهو ما يدفعنا لمواصلة العمل على تقديم قصص تلامس واقعنا وتعبّر عن تجاربنا. في النهاية، عدم الفوز بجائزة لا يقلل من قيمة الفِلم أو تأثيره، بل يزيد من حماستنا للعمل على مشروعات مستقبلية تتحدى معايير السينما، وتواصل تقديم محتوى مميز يلبي تطلعات الجمهور المحلي والدولي.

  عُرِضَ «مندوب الليل» في دول عدة؛ منها مصر وإيرلندا وبريطانيا، كيف تلقيت استجابة الجماهير في تلك الدول؟

  انتابني شعور مختلف قبل عرض «مندوب الليل» في سينما زاوية في القاهرة. كنت قد رزقت بمولودتي الثانية «عزة»، قبل أيام من العرض، وكنت أعيش إحساس الأبوة للمرة الثانية من جديد. حرصت على حضور الجلسة النقاشية مع الجمهور المصري الذي كنت أتساءل في قرارة نفسي هل سيفهم الحوار واللهجة، هل سيتفاعل مع المشاهد التي تكاد تكون مختلفة عن الصورة النمطية للرياض. لكن تفاجأت بردود أفعال إيجابية ونقاش فني عميق مع الجمهور، وهو ما أكد لي أن القصص الأصيلة تستطيع الوصول إلى قلوب الناس في كل مكان.

في إيرلندا وبريطانيا، كان الوضع مشابهًا إلى حد كبير. في دبلن، كان الجمهور متحمسًا لمعرفة المزيد عن الحياة في الرياض، وكيف يجري تصويرها من خلال عيون فهد. النقاشات بعد العرض كانت مثرية حيث استفسر الجمهور عن تفاصيل تصوير المدينة، وكيفية التعامل مع العناصر المختلفة في الفِلم. في بريطانيا، وبخاصة لندن، كان هناك اهتمام كبير بالتفاصيل الفنية للفِلم. النقاد والجمهور على حد سواء أبدوا إعجابهم بالتصوير الليلي واستخدام الألوان لإبراز الحالة النفسية للشخصيات. كان من المدهش رؤية كيف أن تفاصيل دقيقة جدًّا، مثل الموسيقا والإضاءة، قد لاقت استحسان الجمهور ونالت إعجابهم.

بشكل عام، تلقيت ردود أفعال إيجابية جدًّا من الجماهير في هذه الدول، وهو ما يعزز من إيماني بأن القصص الإنسانية قادرة على تجاوز الحدود الثقافية واللغوية، والوصول إلى قلوب الناس في كل مكان. هذا النجاح الدولي يعطينا دفعة قوية للاستمرار في تقديم أعمال تلامس الواقع، وتعبّر عن تجاربنا بأسلوب سينمائي مميز.

وصفة للنجاح

  كيف تبني جسور التواصل والتفاهم مع فريقك الفني لضمان تجسيد رؤيتك السينمائية؟ وما أبرز الصعوبات التي تواجهها في هذا الجانب؟

  بعد الانتهاء من كتابة الفِلم حرصنا، جميع رؤساء الأقسام، على مناقشة الجوانب الفنية ودوافع الشخصيات والمقترحات لأماكن التصوير، التي حرصنا أن تكون مواقع حقيقية دون اللجوء إلى أستوديوهات داخلية. هذه المرحلة من التعاون والتفاهم كانت أساسية لبناء جسور التواصل بيني وبين الفريق الفني، فكنا نتشارك الأفكار ونتبادل الآراء بخصوص كل جانب من جوانب الفِلْم.

أحد أبرز الصعوبات التي واجهناها كانت التحديات اللوجستية. التصوير والتنقل بين المواقع في مدينة الرياض المزدحمة كان أمرًا معقدًا جدًّا، وبخاصة أن الرياض مدينة لا تنام. كما أننا تعرضنا لحادث خلال تصوير مشهد النفق الذي يظهر في افتتاحية الفِلْم، حيث كان هناك خلل في تركيب إحدى رافعات الكاميرا وسقطت، ومعها أحد المصورين، ولكن بفضل الله لم تكن هناك إصابات. كانت هذه الحادثة صدمة لنا جميعًا، وتوقفنا أيامًا عدة لإعادة ترتيب أوراقنا والتركيز على تطبيق معايير أمن وسلامة تحافظ على الجميع.

  كيف تقيم النجاح التجاري للفِلم؟ وإلى أي حد تَتحققُ الموازنة بين النجاح التجاري والنجاح الفني في السينما السعودية الحديثة؟

  لأني منتج تنفيذي لفِلم «مندوب الليل» والعديد من الأفلام من إنتاج أستوديو تلفاز١١، أعتقد أن المخرج عليه مسؤولية أن يتعامل بواقعية مع المعطيات الخاصة بالفِلم، سواء كانت الميزانية أو تكاليف الإنتاج وغيرها. وأعتقد أننا نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم والإمكانات كافة لكي يعمل المخرجون على قصص سعودية أصيلة.

حرصنا على تقديم حملة تسويقية للفِلْم تجذب المشاهد المحلي وتمنحه الثقة في مشاهدة فِلم سعودي، بما يسهم في زيادة المداخيل الخاصة بالفِلم من شباك التذاكر. ولأكون صادقًا، لم نكن نتوقع هذا الإقبال الكبير، وأن يكون «مندوب الليل» أعلى افتتاحية لفِلم سعودي على الإطلاق. إن النجاح التجاري للفِلْم كان مصحوبًا بردود أفعال إيجابية من النقاد والجمهور، وهو ما جعلني أُومِن أكثر بأن تحقيق التوازن بين النجاح التجاري والنجاح الفني ممكن جدًّا في السينما السعودية الحديثة.

النجاح التجاري للفِلم يمنحنا الموارد والإمكانيات للاستمرار في إنتاج أعمال فنية متميزة، بينما النجاح الفني يساهم في بناء سمعة السينما السعودية وجذب اهتمام النقاد والجمهور العالمي.

التقنية في خدمة القصة

  تطور التقنية في صناعة السينما يفتح آفاقًا جديدة للإبداع. كيف تتعامل مع التقنيات الرقمية محتفظًا بالعمق الفلسفي والأدبي في أعمالك؟

  حرصنا خلال مرحلة التحضير على الاستعانة بالعديد من الوسائل التقنية الخاصة بتصميم المشاهد حتى تكون الرؤية الفنية واضحة لأعضاء فريق العمل. على سبيل المثال، استخدمنا تقنيات الرسوم المتحركة التوضيحية (Previsualization) لتحديد كيفية تحرك الكاميرا وتوزيع الإضاءة قبل البدء في التصوير الفعلي. هذا ساعد في تقليل الأخطاء وزيادة الكفاءة في وقت التصوير.

ومع ذلك، كنت حريصًا على العودة إلى أساسيات السينما خلال التصوير. استخدمنا عدسات كلاسيكية من طراز Cooke Panchro، التي تعطي المدينةَ الطابعَ الحاد والدقيق الذي اشتهرت به تلك العدسات. هذه العدسات ساعدت في الحفاظ على الطابع الكلاسيكي للصورة، وأضفت لمسة من الأصالة والعمق البصري على المشاهد.

تكمن القدرة على الحفاظ على العمق الفلسفي والأدبي في الأعمال السينمائية في كيفية دمج التكنولوجيا مع الرواية الأصيلة. التقنية توفر الأدوات لتحسين الجودة البصرية والتنفيذ الفني، لكن الفلسفة والأدب يأتيان من القصة نفسها، من الشخصيات، من الحوارات، ومن اللحظات الإنسانية التي تنقل المشاعر والأفكار بصدق. لهذا، كنت أحرص دائمًا على أن تكون التقنية في خدمة القصة، وليس العكس، وهو ما يضمن أن يبقى العمل السينمائي محملًا بالعمق والمعاني التي نسعى لإيصالها. بهذا الأسلوب نتمكن من الاستفادة من التقنيات الحديثة لتعزيز تجربتنا الإبداعية من دون التضحية بالجوهر الفلسفي والأدبي للأعمال.

  تشهد السينما السعودية نهضة ملحوظة في السنوات الأخيرة. كيف تنظر إلى هذه التحولات فنيًّا؟ وما التطلعات التي تسعى إليها لتعزيز هذا الاتجاه ولإحداث تأثير دائم في الثقافة السينمائية المحلية؟

  أعتقد أننا جيل محظوظ لأننا واكبنا انطلاقة الإنترنت والثورة المعلوماتية، وكانت انطلاقتنا على اليوتيوب فرصة للتواصل مع الجمهور السعودي وبناء علاقة فنية قوية. كنا نتناقش في قضايا تشغل بالنا وتهمنا جميعًا. ومع عودة السينما بقوة، كانت هناك فرصة لنحكي قصصًا تشبهنا وتعبر عن واقعنا وتطلعاتنا.

التحولات التي تشهدها السينما السعودية فنيًّا تتميز بالتنوع والإبداع. نشهد حاليًّا إنتاج أفلام تعبر عن مجموعة واسعة من الموضوعات والقضايا الاجتماعية والثقافية. هذا التنوع يعزز من قوة السينما السعودية، ويساهم في جذب جمهور متنوع. كما أن الدعم المتزايد من المؤسسات السينمائية والمهرجانات الدولية والمحلية يسهم في رفع مستوى الإنتاج السينمائي، ويوفر فرصًا للمخرجين والمنتجين السعوديين لتقديم أعمالهم على منصات أوسع.

التطلعات التي أسعى إليها لتعزيز هذا الاتجاه تتضمن محاور عدة:

دعم المواهب الشابة: الاستمرار في توفير برامج تدريبية وورش عمل للمواهب الشابة في مختلف مجالات صناعة السينما، من الكتابة والإخراج إلى التصوير والمونتاج؛ لتمكينهم من تطوير مهاراتهم وإبداعاتهم.

التعاون الدولي: تعزيز التعاون مع صناع السينما الدوليين لتبادل الخبرات والتجارب، وهو ما يساهم في رفع مستوى الإنتاج السينمائي المحلي، ويساعد في نقل القصص السعودية إلى جمهور عالمي.

تقديم قصص أصيلة: التركيز على تقديم قصص تعبر عن التجارب والواقع المحلي بصدق وأصالة. القصص التي تنبع من الثقافة والتاريخ السعودي لها قدرة كبيرة على التأثير والوصول إلى قلوب الناس في كل مكان.

تطوير البنية التحتية: الاستمرار في الاستثمار في تطوير البنية التحتية لصناعة السينما في السعودية، من خلال بناء أستوديوهات ومرافق إنتاج متقدمة، وتوفير المعدات الحديثة التي تساهم في تحسين جودة الإنتاج.

زيادة الدعم المالي: توفير برامج التمويل المتنوعة لصناع الأفلام السعوديين، وهو ما يمكنهم من إنتاج أعمال ذات جودة عالية تستطيع المنافسة على المستوى الدولي.

من خلال هذه الجهود، نسعى إلى إحداث تأثير دائم على الثقافة السينمائية المحلية، بحيث تصبح السينما وسيلة فعالة للتعبير عن الهوية والثقافة السعودية، وتساهم في تعزيز الوعي والفهم بين الثقافات المختلفة. نحن نطمح إلى أن تصبح السينما السعودية جزءًا مهمًّا من المشهد السينمائي العالمي، وأن تكون لدينا أفلام تتحدث عن تجاربنا وقصصنا بصوت قوي وواضح.

السينما وقضايا الوجود والمجتمع

  يتطلب الفن الشجاعة لاستكشاف المناطق المظلمة وغير المألوفة في النفس البشرية، بصفتك مخرجًا، كيف ترى تأثير السينما والأفلام ودورها في تشكيل الوعي الجمعي والثقافي داخل المجتمع؟

  الفن بأشكاله كافة له دور مهم في بناء الوعي الثقافي وتشكيل الوعي الجمعي داخل المجتمع. السينما، بوصفها أحد أشكال الفن الأكثر تأثيرًا، تمتلك قدرة فريدة على نقل التجارب الإنسانية والمعاناة والأفراح إلى الجمهور بطرق تجعلهم يشعرون ويتفاعلون مع القصة بشكل عميق.

لقد تربيت في مجلس والدي الذي كان راويًا متمرسًا يقص قصصًا من التاريخ، ويروي حكايات ونوادر من الأدب، وقد رأيت كيف كان يوظف تلك القصص والروايات في نشر الوعي عن قيمة اجتماعية أو فضيلة معينة، وكيف كان يستخدمها أحيانًا في تهدئة النفوس بين المتخاصمين وإصلاح ذات البين. هذه التجربة أثرت فيّ تأثيرًا كبيرًا وزرعت فيّ الإيمان بقوة السرد القصصي في تغيير القناعات وتعزيز الفهم.

أعتقد أن السينما تمتلك القدرة على استكشاف المناطق المظلمة وغير المألوفة في النفس البشرية، بطرق تجذب الجمهور وتجعله يفكر في قضايا قد لا يكون على دراية بها. من خلال الشخصيات المعقدة والمواقف الصعبة التي يجري تصويرها في الأفلام، يمكننا أن نعرض جوانب من الحياة الإنسانية التي قد تكون مخفية أو مغمورة في الظل. هذا يساعد في زيادة التعاطف والفهم بين الناس، ويعزز من الوعي بالقضايا الاجتماعية والنفسية.

على سبيل المثال، في فِلم «مندوب الليل»، حرصنا على تقديم شخصية فهد القضعاني بواقعية وصراحة، بما فيها من تناقضات وصراعات داخلية. كانت حواراتي مع محمد الدوخي خلال التحضير للشخصية تهدف إلى إبراز هذه الجوانب المظلمة من خلال علاقته بأبيه ومحيطه الاجتماعي. اقترح الدوخي أن يكون فهد بارًّا بوالده؛ لأننا لا نريد أن نرى الشر مطلقًا ولا الخير مطلقًا، بل نريد أن نعرض الشخصية بكل تناقضاتها الإنسانية.

من خلال السينما، نستطيع أن نثير تساؤلات حول قضايا الوجود والمجتمع ونحفز التفكير النقدي والتأمل العميق. الأفلام تساهم في تشكيل الوعي الجمعي من خلال طرح قصص تعكس تجارب الناس ومشاعرهم بطرق تجعلهم يرون الأمور من منظور مختلف. هذا يساعد في بناء مجتمع أكثر تفهمًا وتسامحًا، ويعزز من التواصل الثقافي بين الأفراد.

بوصفي مخرجًا، أسعى دائمًا إلى تقديم أعمال تثير التساؤلات أكثر من تقديم الإجابات؛ لأن الفن في جوهره يسعى إلى استكشاف المجهول وحَفْز النقاش والتفكير. أعتقد أن هذا هو الدور الحقيقي للسينما والأفلام في تشكيل الوعي الجمعي والثقافي داخل المجتمع.

  يسعى الفن بطبيعته إلى إثارة التساؤلات أكثر من تقديم الإجابات، فما الأسئلة الكبرى التي تأمل أن تثيرها من خلال أفلامك؟ وكيف ترى دور السينما في حَفْز التفكير النقدي والتأمل العميق في قضايا الوجود والمجتمع؟

  في هذه المرحلة، كوني أعيش شعور الأبوة من جديد مع بنتي عزة وأخيها عزيز، أجد أن كثيرًا من التساؤلات في ذهني تدور حول الأسرة ومستقبل أبنائنا. من خلال أفلامي، أسعى إلى إثارة تساؤلات حول القيم الاجتماعية، الهوية، والتحديات التي يواجهها الأفراد في مجتمعنا الحديث. أتساءل عن تأثير التغيرات الاجتماعية والثقافية في الأسرة والعلاقات الإنسانية، وكيف يمكننا الحفاظ على التوازن بين التقاليد والحداثة.

  أحد الأسئلة الكبرى التي أطمح إلى إثارتها هو كيف يمكن للفرد أن يواجه تحديات الحياة المعاصرة دون أن يفقد هويته وقيمه. كيف يمكننا التعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية التي تفرضها الحياة الحديثة؟ وما الدور الذي تؤديه العلاقات الإنسانية في تحقيق التوازن والسعادة في حياتنا؟

  السينما تشجع على التفكير النقدي من خلال طرح قضايا معقدة دون تقديم حلول جاهزة، وهو ما يدفع المشاهدين إلى تحليل الأحداث والشخصيات ومحاولة فهم الدوافع والنتائج. هذه العملية تعزز من قدرتهم على التفكير النقدي وتطوير وجهات نظرهم الخاصة. بصفتي مخرجًا، أهدف إلى تقديم أفلام تحفز الجمهور على التفكير والتساؤل والتأمل؛ لأنني أُومِن بأن الفن الحقيقي هو الذي يثير النقاش ويحفز العقل والروح.

الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي

الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة

قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي

آفاق السنام الواحد

عهود منصور حجازي ناقدة سينمائية

منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى، مثارًا لتساؤلاته، ودافعًا لمحاولاته لاستحداث الطرائق التي تعبّد الطريق إليها، أو تقطعه عنها، استغلالًا، ورحمة، ومنفعة، وفهمًا، ودفاعًا، واجتنابًا.

وقد عُدّ الإنسان «حيوانًا ناطقًا»، في الفلسفة القديمة، لتميزه عن الحيوان، وهو ما يعني أن الفروقات بين العالَمين كانت موضع البحث والتأمل. من ثمّ، خُصصت أعمال مطوّلة لدراسة الحيوانات، ومعرفة مزاياها وفصائلها وأنواعها، وكل ما يتعلق بها، منذ أرسطو في «تاريخ الحيوانات»، مرورًا بالجاحظ في موسوعته «الحيوان» حتى يومنا هذا.

ولعل علاقتنا بالحيوان علاقة معقدة؛ لأنها تُقاسمنا الأرض نفسها، ومع ذلك تحظى باستقلاليتها، وإدراكها، وقدراتها المختلفة، والمتباينة أيضًا. لذلك، قامت الدراسات المتخصصة في المجال، ونشط المؤلفون للكتابة، وشاركت الفنونُ الفلسفةَ الاهتمامَ؛ ليكون الحيوانُ جزءًا حيويًّا من تلك الفنون، التي أنطقت الحيوان، وقرّبته من إدراك البشر، وفتحت الباب بين العوالم، داعمة رؤاها بالخيال تارةً، وبالتوثيق تارات، فحركت في القلوب الشعور تجاه الكائنات التي لا تتكلم. ولا شك أن السينما على رأس تلك الفنون، ومن خلالها أمكن الدخول بأمان إلى ذلك العالم المجهول، وغزل حكايات قائمة على تقاسم الكوكب بين الكائنات الحية.

وعلى اعتبار أن اجتذاب المتلقي ركن رئيس في إنتاج الأفلام، عمد الصناع إلى استخدام الحيوان موضوعًا، من باب إضفاء الإثارة والمتعة، والحرص على إبقاء شعلة ذلك المتلقي متقدة، بامتداد فضوله وشغفه. وكلما تعقدت القصة، واستطاعت التأثير في شعوره، ارتفع منسوب الربح، ونال العمل الشهرة والمجد.

الحيوان بطل رئيس

بنظرة على الأفلام التي قدمتها السينما، على اعتبار أن العلاقة بين الإنسان والحيوان علاقة صداقة ومحبة، ومع الاعتماد على عنصر الخيال بشكل أساسي، نجد أن أفلام (والت ديزني) فتحت الباب على مصراعيه لاستنطاق الحيوانات وأنسنتها، وإلباسها العقل والتفكير. مِن هذه الأفلام، فِلم «سندريلا» من إخراج كنيث براناغ، القصة المعروفة للفتاة المسحوقة التي تعشق أميرًا، فتهبّ لنجدتها الفئران والطيور، بمعية واحدة من الساحرات، محوّلةً الأسمال البالية إلى فستان أنيق، مع مشاهد خلابة للمرح والرقص والموسيقا، لتذهب سندريلا إلى الحفل، وتفوز بالأمير في النهاية.

وإذا ما استطردنا في ضرب الأمثلة السينمائية عن علاقة الصداقة التي تجمعنا بالحيوانات، فإن فِلم ماوكلي «كتاب الأدغال»، من إخراج جون فافريو، خير مثال على ذلك. فقد نشأ في الغابة، وتربى بين القطعان والأسراب. وإن كان لهذه القصة جذور تاريخية، إلا أن تناولها في الفِلم نقلها إلى مستوى مختلف من التعاطف مع الحيوانات التي أحاطت الفتى بعنايتها، وقدمت له الأمان، وأهدته العائلة والأصدقاء، كما أنها كانت حصنه الحصين وحامي حماه. وعلى الجانب الآخر، أبرز الفِلم الجانب الوحشي في عالم الحيوان، ذلك الجانب الذي لا يمكن مصادقته وليس بالإمكان مهادنته، ويُرفع فيه شعار البقاء للأقوى.

وإذا ما ابتعدنا من العالم الخيالي في أفلام ديزني إلى علاقة مختلفة مع الحيوان، تتمثل في كسب ودّه، رغبةً في تحقيق المصالح المشتركة. مثل فِلم «ألفا» لألبرت هيوز، الذي يبدأ بصراعٍ دراميّ مع الذئب، إلا أن تطور الحدث، يحول مفاهيم المواجهة إلى عقد أمانٍ ضمني بين الرجل والذئب، من أجل الخروج من المواقف الصعبة المشتركة معًا.

ومع اعتبار كفة الحيوان راجحة في اجتذاب تفاعل الجماهير، اتخذت بعض الأفلام من الحيوان بطلها الرئيس، جاعلة منه بطلًا نبيلًا كما في فِلم «هاتشي: حكاية كلب» للمخرج لاسي هالستروم، الذي يروي حكاية الكلب (هاتشي) الوفي مع الرجل الذي اعتنى به ورباه منذ طفولته، ليُشاهَد بعد وفاته كل يوم، وعلى مدى عشرة أعوام، أمام باب محطة القطار، منتظرًا صاحبه على أمل العودة. ومنها ما عدت الحيوان بطلًا شريرًا وعدوًّا صريحًا، مثل سلسلة أفلام (جوراسيك بارك)، من إخراج ستيفن سبيلبرج، التي تدور أحداثها داخل حديقة الديناصورات المتحررة من سيطرة الإنسان، والخارجة عن تحكمه، لتنقلب عليه، وتخطف أحبابه، وتدمر حياته. وكذلك فِلم «الفكين» لسبيلبرج أيضًا، الذي يبرز وحشية سمك القرش اللامتناهية، وانعدام التفاهم بينه وبين بني البشر، بتصوير مشاهد مثيرة للرعب، تجسدها الملاحقات، وافتراس الأحياء، وانخفاض فرص النجاة.

من صور الإبل في السينما

ومع اختلاف الزوايا التي تناولتها الأفلام عن الحيوان، يجدر انتقاء الإطار الذي تناول حيوان (الإبل) على وجه الخصوص. وذلك بمناسبة تسمية هذا العام بـ(عام الإبل) في المملكة العربية السعودية؛ لكونه واحدًا من أهم مكوّنات البيئة الصحراوية، بل يعد أيقونة لها، ويمتاز وجوده فيها بعلاقة وثيقة بينه وبين سكانها، جعلته ذا قيمة أعلى فيها، وأكثر حظًّا من بقية الحيوانات. إضافة إلى ذلك، فإن سلوك هذا الحيوان على وجه الخصوص، ومزاياه الفائقة في التكيّف والاحتمال، جعلت منه مادة جاذبة لصناع السينما، وللجمهور المتعطش للغريب والمألوف، على حدٍّ سواء.

ولعل البداية من الأفلام العالمية التي كانت فيها الإبل موضع اهتمام الإنسان، واستدرار رحمته، وتجييش خبرته من أجل بقائها. مِن هذه الأفلام «قصة الجمل الباكي» من إخراج بيامباسورين دافا ولويجي فالورني. وهي قصة درامية وثائقية يتدخل فيها الإنسان في حياة الحيوان، محاولًا مد يد العون له؛ لتسهيل حياته. هي قصة الناقة التي وضعت صغيرها، ورفضت إرضاعه، وهو ما اضطر البشر إلى إقامة الطقوس، وعزف الموسيقا، رغبة في إيقاظ غريزة الأمومة لديها، وتحريك مشاعرها تجاه الصغير الجديد. ثم تحدث المعجزة، وتتأثر الناقة بالمحاولات البشرية المتواصلة، ذارفة دموعها، ومقبلة على وليدها لإرضاعه.

وإن شئنا التمثيل على اتخاذ الإبل مفخرة لسكان الصحراء، ورمزًا شديد الالتصاق بها، فخير مثال على ذلك فِلم «لورنس العرب»، إخراج ديفيد لين، الذي لا يخطر على البال إلا وتنبثق معه صور الإبل في إطاراتها المتعددة داخل الأحداث. حيث تظهر القوافل بمعية الإبل بأعداد كبيرة، تعتلي بعضها الهوادج، ويتزيّا بعضها بأردية ملونة، حمراء وزرقاء وبنفسجية. وقد وُظِّفتْ في التنقل والحروب وإظهار القوة والتواصل الشعوري بينها وبين البشر. ويظهر من خلال الفِلم معرفة البدو الواسعة في التعامل مع الإبل، وقدرتهم الفطرية على توجيهها والسيطرة عليها.

وإذا ما اقتربنا من عالم الكوميديا، وجدنا أن الجمَل كان بطلًا مُشارِكًا في رحلة مُحاكية لاستكشاف أستراليا، من جنوبها إلى شمالها، سيرًا على الأقدام، في رحلة محكوم عليها بالفشل. وذلك في الفِلم الكوميدي «Wills & Burke» للمخرج بوب ويس، الذي ظهر الجمَل فيه على بوستر دعايته، متوسطًا بين البطلين البشريين.

وإن كانت الأفلام الناطقة بالإنجليزية قد وظفت الإبل، واستفادت من تطعيمه مادتها لاجتذاب روّادها، فقد فعّلت السينما العربية دور الإبل باحترافية، مستمدة ثقتها من الشعور الجمعي العربي، ذلك الشعور المستند في الدرجة الأولى من كون (الناقة) حيوانًا معجزًا في قصص الأنبياء عليهم السلام، إضافة إلى دعوة القرآن الكريم للتأمل في خَلقها على وجه الخصوص، ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾، وكونها الحيوان الذي اعتاش العرب على لحومه وألبانه، «والتداوي بأبواله»، والتفاخر بكثرته. وفي فِلم «ذيب» من تأليف وإخراج ناجي أبو نوار، مثالٌ على ذلك. حيث برزت الإبل بصورة أساسية في المشهد الصحراوي لوادي (رُم) الذي يحاول الفتى ذيب النجاة منه والفرار بحياته.

من جانب آخر، عُدّت الناقة امتدادًا للشخصية العربية في الجاهلية، حيث كانت حاضرة في الشعر القديم بمستوى تعالقها مع تلك الشخصية، مشكّلة هيمنةً كُبرى، ذات دلالات رمزية، متصلة بقضايا الوجود والمصير. ولو أردنا فهم القيمة المعنوية للناقة في حياة العربي، يكفينا الاستعانة بفِلم «الرسالة» التاريخي الملحميّ، من إخراج مصطفى العقاد، الذي ظهرت فيه الإبل بدلالة مقدسة، حيث برز مشهد مشي الناقة البيضاء، حاملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند دخوله المدينة المنورة، واستقبال الأنصار له، مرحّبين، ومتنافسين على شرف ضيافته. حين أمرهم بترك الناقة لتختار مكانها بنفسها: «خلّوا سبيل الناقة، فإنها مأمورة»، وحين توقفت الناقة، بُني مكان وقوفها بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومسجده.

الإبل في السينما السعودية

وإذا سلطنا الضوء على مساهمة السينما السعودية على وجه الخصوص في إثراء مادة الإبل؛ فسوف نجد لتلك المساهمة نصيبًا بارزًا بين الأفلام العربية والعالمية. منها ما عُرض في المهرجانات السعودية عرضًا أوليًّا، ومنها ما نُشر على نطاقٍ أكثر تداولًا، وأتيح للمشاهدة في صالات العرض السينمائية. وللتنويه، فإن مدلول (السينما السعودية) في هذا المقال يشمل الأفلام التي كان مُخرجها سعوديًّا، أو موّلتها جهات سعودية، وكذلك التي صُوّرت في السعودية، أو اتخذت من الثقافة السعودية أو أحد مكوّناتها مادة أساسية لها. ويمكن تقسيم هذه الأفلام إلى قسمين: قسم كان في استعانته بالإبل تحريكٌ للمَشهد، أو تتميم للحدث، ولا تستحوذ الإبل فيها على النصيب الأكبر. أما القسم الثاني فاتخذ من الإبل مادته الأساسية، التي هي أسّ الفِلم، أو جعله بطلًا أساسيًّا من أبطاله.

أما أفلام القسم الأول، فيمثَّل لها بالفِلم الوثائقي «درب زبيدة» للمخرجة دنيا العطوة. مصورًا أهمية الإبل في قطع ذلك الدرب، جنبًا إلى جنب مع وسائل نقل أخرى، كالخيل والدراجات الهوائية والمشي على الأقدام. مبرزًا قدرة الإبل على التحمل، والإشارة إلى زيادة لياقتها اطرادًا مع زيادة المسافة، وتناغمها مع راكبها، وفهمها له، وتأثرها بصوته. وليس بعيدًا منه فِلم «أصوات العُلا» للمخرجة ميتوشكا ألكوفا، المصوَّر في صحراء مدينة العلا السعودية، مستعرضًا لمحات من العيش مع الإبل جنبًا إلى جنب، وعدّها مساهمًا في بناء الحضارة، وعمودًا أساسيًّا من أعمدة الرفاه والبقاء.

بالانتقال إلى القسم الثاني، يمكن التمثيل له بثلاثة أفلام، تناول كل منها الإبل من زاوية مختلفة. أولها الوثائقي «حادي العيس» من إخراج عبدالله سحرتي، الذي حمل المشاهدين إلى رحلة عاطفية لحُدَاء الإبل -بمعنى أغانيها- مستعينًا بعنوان القصيدة الغزلية المنسوبة للشريف الرضي -التي جاء في مطلعها «يا حادي العيس عرّج بي على الدّمنِ، فكمْ لنا عندهنّ اليوم مِن شجنِ»- المعبّرة عن ألم الفراق، ووجع الفقد بين الشاعر وحبيبته، ليكون هذا الحُدَاء واسطة الفِلم للتوغل في عالم الإبل، وارتباط البشر بها ارتباطًا لا يخلو من التزام وشغف.

يحاول الفِلم الإجابة عن معظم التساؤلات التي قد تطرأ على الذهن حول هذا الحيوان المحوريّ في الثقافة العربية، فيذكر سبب تسميته بسفينة الصحراء، كونه اقترن بالفلك في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)، معرّجًا على فصائله وأنواعه وألوانه، ومذكّرًا بفضائل الإبل وارتباطها بعلاقة تبادلية مع الإنسان، فهي تحب مَن يحبها، وتعرفه، وتستقبله حين يُقبل عليها، وهو يبادلها الأُلفة، فيُسمّي نياقه، ويتباهى بمعرفة أمهاتها وجدّاتها. كما يسلط الضوء على أهمية (الحادي) أي المغنّي لهذه (العيس) حيث لا بد من وجوده لقطيع الإبل طوال مسيرها؛ لأنها حيوانات ذوّاقة، تميّز الصوت الحسن من القبيح، وكلما كان الصوت شجيًّا، نشطت في سيرها، وأقبلتْ على الأكل والشرب، وبانت عليها أمارات الأنس والبهجة.

الناقة في فِلمين سعوديين

وإذا ما انتقلنا إلى فِلم «ناقة» للمخرج مشعل الجاسر، نجدنا أمام حكاية اجتماعية، تدخل فيها الناقة دخولًا جدليًّا، بدءًا من عنوان الفِلم، ودعايته المصوّرة، والأحداث التي مرت ببطلة القصة (سارة) التي تعيش في نطاق اجتماعي متشدد، بينما تحمل في داخلها الشخصية الراغبة في كسر العادات والانتقام من المحيط. فتخادع والدها للقاء صديقها (سعد) الذي يواعدها في الصحراء، لكنهما يصطدمان بناقة حُبلى، على وشك الولادة. يُلحظ سعى الناقة للانتقام، وسعي سارة نفسها للتمرد، كأن الناقة صورة موازية، أُسقطت عليها رغبات سارة نفسها، وحُمّلتْ غضبها ورغبتها في كسر القيد والفتك بالآخر المعتدي. وإن بدا الأمر محاطًا بالخوف كما يظهر عند (سارة) لكنه مدفوع بالغريزة الوحشية عند الناقة الأم. هذا الفِلم اختار أن يصوّر الإبل من ناحيةٍ لم تُطرق في الأفلام التي سبقته، فقد اعتبر الناقة عدوًّا، حافزًا لترقّب المُشاهد؛ كي يعرف المترتّب على ملاحقتها لمن ينالها بالأذى.

أما الفِلم الأخير الذي سيُختم به المقال، فهو الفِلم الروائي الذي نال العديد من الجوائز، وعُرض في السينما العالمية، مختطفًا إعجاب الجماهير، ومنتصرًا للعلاقة الإنسانية بين الإنسان والحيوان، وهو فِلم «هجان» للمخرج أبي بكر شوقي.

يمكن سرد قصة الفِلم باختصار بأنها حكاية الصبيّ (مطر) الذي يخوض معركة (حياتية) تفوق عمره الصغير، من أجل الانتقام لمقتل أخيه (غانم) والحفاظ على ناقته المحبوبة (حفيرة). لكنّ وصف الفِلم بهذا الاختصار مجحف في حقه، فدور الناقة (حفيرة) كان دور البطولة، جنبًا إلى جنب مع الفتى الصغير، ومن دون إغفال للأدوار المهمة الأساسية الأخرى، كدور الشرير (جاسر) الذي لا تتوقف محاولاته عن قطع الحبل بين الناقة وصاحبها، مرتكبًا أفعالًا مشينة، وأدوار الفتية سائقي الإبل -الهجانين- مسلوبي الحَوْل، والدور البارز لزوجة الشرير الماكرة وابنتها، التي تكون سببًا في التخلص من زوج أمها لاحقًا. لكن اللافت في هذا الفِلم هو المحبة الغامرة التي حملها الفتى (مطر) لناقته، واستماتته في الحفاظ على بقائها، وارتباط حياته بحياتها. ما يعيدنا إلى الوعي الجمعي للعربي القديم الذي يرى في الناقة امتدادًا لحياته.

تجدر الإشارة إلى القبول الواسع الذي تلقى به الجمهور قصة الهجان، متمثلًا في التفاعل الحي مع الأحداث في صالات السينما، ومتنوعًا في التعبير، بين التصفيق والهتاف، وكذلك في التعليق والضحك والبكاء في مواضع متعددة.

يخلص المقال إلى أن تناول الحيوان في الأفلام السينمائية له دور مؤثر في حَفْزِ المشاعر الإنسانية، متمثلة في التعاطف والغضب والحب والخوف. وهو ما ينعكس بالضرورة على صناعة الأفلام وإذكاء تنافسها، ودعم إيراداتها، من خلال ارتفاع منسوب الطلب على الأفلام التي نالت جماهيرية واسعة. وفيه دعوة إلى تسليط الضوء على العلاقة بين البشر والحيوان، وتحليل تلك العلاقة دراميًّا، والسعي إلى تقديم مادة غنيّة قوامها الاهتمام بالابتكار، والحرص على كسر آفاق التوقع لدى المتلقين، وهو ما يمنح العمل قيمة عليا، ويحدو به إلى مصافّ الخلود.


الإبل وعلاقتها بالبيئة البدوية في الكتابات المسمارية

قصي منصور التركي أكاديمي سعودي

شيء عن مفردة عرب        وارتباطها ببيئة الإبل

يرى المتخصصون في الآثار واللغات القديمة أن كلمة العرب مفردة مرتبطة بالبيئة والتغير المناخي. الكلمة مأخوذة من مادة «عرب» بمعنى «محل» أو «جدب» لكنها، بهذا المعنى في اللغة العربية، ماتت ولم تعد تستعمل إلا قليلًا في اللغات الجزرية المتأخرة نسبيًّا كالبابلية والآرامية والعبرية(1).

والإبل من أكثر الحيوانات ملاءمة للعيش في الصحراء من خلال تناول ما توفره البيئة المحيطة من غذاء مع شح المياه. ومن المكتشفات الحديثة من النقوش الثمودية المرافقة لرسوم صخرية في عموم المملكة العربية السعودية، اخترنا مشهدًا لامرأة تدعى «ملحة»، تلك المرأة التي كانت تملك الإبل وترعاها في مشهد جميل ومهيب (ينطر صورة الرسم الصخري رقم ١). يظهر في الرسم «ملحة» وهي تقف بين نوقها برشاقة جسمها وحركتها التي تتناغم مع القوس الذي تحمله، وهي تحاول صيد النعام. ومن خلال حروف النقش الستة، وبكل وضوح هي حروف ثمودية، تحمل اسم «ملحة»، وقراءة هذه الحروف هي «ل م ل ح ت» (لملحة) (ينظر صورة تفريغ النقش، صورة رقم ١-١)، وحرف اللام هنا يشير إلى العائدية والملكية.

بعض المفردات المرتبطة بالإبل في الكتابات المسمارية

نعود إلى أصول المفردات اللغوية العربية الفصيحة التي نستعملها اليوم، متأصلة لفظًا ومعنى في لغات ولهجات قديمة نشأت وترعرعت في أرض الجزيرة العربية واحتضنها وتحدث لها بكل اعتزاز إنسان الإبل في البوادي حيث البيئة الصحراوية. وسنبدأ بالإشارة إليها -ومدى ارتباطها كبيئة استيطان وعيش- بلفظ العرب، ثم سنعرج على أهم المفردات المرتبطة بحياة سكان الإبل.

اسم العرب المرتبط ببيئة الإبل في أقدم المدونات اللغوية من الألف الثالث قبل الميلاد

تخبرنا الكتابات المسمارية أن العلامة الصورية السومرية بلفظ «دُل.دو / تل» «DUL-DU / TUL» (ينظر صورة رقم -٢) التي يقابلها في اللغة الأكدية الجزرية اللفظ «تِلُّ» (tillu) الذي يترجم إلى «تَل» أو كومة أو كدس، كما تقرأ قراءة أخرى باللغة نفسها وبالخط المسماري، بلفظ «أرَدو/ عَرَدُ» (arādu)،(2) التي هي مفردة متطابقة مع لفظة علامتها المسمارية تقرأ «علوّ» (elû) الأكدية التي تعني ارتفاع، أي علوّ، علمًا أن صوت حرف «E» اللاتيني هو صوت حرف العين في اللغة الأكدية بلهجاتها البابلية والآشورية(3). ولو جاز لنا إبدال حرف الدال باء لأصبحت المفردة تتطابق تمامًا مع مفردة «عَرَب». ويوجد لفظ ثالث لهذه العلامة الصورية من نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وهو لفظ «إردو» «eredu» التي تترجم إلى «نُزُل» أو «ينحدر من» التي ترد كثيرًا في كتابات الفأل(4).

وإذا أردنا أن نقرّب المعنى أكثر فإنه يعطينا صفة النزول، أي الساكن في المنزل وتحديدًا في الخيام ومفردها خيمة (ينظر صورة رقم ٢)، والشكل الصوري للمفردة يشير بكل وضوح إلى الخيمة. ولا بد أن للإبل الدور الكبير في صناعة أهم المواد الأساسية للخيمة العربية؛ إذ يستخدم وبر الإبل كثيرًا في مستلزمات صناعة الخيمة العربية في الصحراء.

ومن السياق نفسه الخاص بسكن العرب، استخدمت الكتابات المسمارية الآشورية اللفظ «عربوتي» (arbuti) للإشارة إلى الأرض التي يسكنها أناس دون بيوت مشيدة مسكونة بشكل دائم ولا طابوق بناء لديهم وأرضهم غير مزروعة، وذلك في النص الآتي:(5)

Itāt idiqlat ina nam ugarī ar-bu-ti ašar bītu u šubtu la bašu tīlu u epperu la šapkuma libittu la nadātu

وترجمة النص: (قمت ببناء مدينة آشور) على ضفاف نهر دجلة في المروج والحقول غير المزروعة، حيث لم يكن هناك منزل أو مسكن (دائم) ولا أنقاض، ولا يوجد طابوق بناء على الإطلاق.

ولدينا في المصادر المسمارية الآشورية إشارات واضحة كتابية ومادية تتمثل في المنحوتات الجدارية الآشورية. على سبيل المثال للملكة العربية «عدية» (Adiâ)، وأرجّح أنها مؤنث الاسم العربي المشهور «عَدي»، التي عاصرت حقبة حكم «الملك آشور بانيبال» (668-626 ق.م)، وذكر أنها ملكة العرب ولديها شعب، وكانت تتصف بالقوة والشأن، وأنها هي وشعبها يسكنون الخيام التي أحرقها بعد أن قبض عليها وهي على قيد الحياة وترجمة النص الآتي:

«أنا آشور بانيبال»، ملك آشور، عدية، ملكة العرب…، ألقي القبض عليها … عدية، ملكة العرب، ذبحت شعبها وأحرقت خيمتها وألقيت القبض عليها حية»(6).

وتجدر الإشارة إلى أن الملك «آشور بانيبال»، قد ترك نحتًا بحادثة حرق خيام بلاد ملكة العرب في أحد منحوتاته التي تظهر النار مشتعلة في مجموعة من الخيام.(7) (ينظر صورة رقم ٣).

مفردة الإبل والجمل والناقة في المصادر المسمارية

ورد في النصوص الأكدية ما يدل على أن الأكديين عرفوا الإبل، من خلال مفردتين: الأولى باسم «گ/جمَّلُ» (gammalu) والثانية بصيغة «إبلُ» (ibilu)(8) وهنا نجد التطابق التام، في اللفظ والمعنى، مع اللغة العربية. وكذلك نجد التطابق في رسم صورة رأس لحيوان من المرحلة الصورية من نهاية الألف الرابع، الذي يشبه رأس الجمل (ينظر الصورة رقم 4). ثم بكل وضوح في حقب لاحقة، منذ مطلع الألفية الثانية ق.م. وفي المدة المعروفة بالعهد البابلي القديم، ظهرت التسمية الوصفية للإبل في معجم لغوي قديم وضعه كتّاب بلاد الرافدين القدامى للتعريف بالمفردات والأفعال السومرية وما يقابلها في الأكدية، فجاءت التسمية الخاصة بالإبل، في اللغة الأكدية بثلاثة مقاطع صوتية، وبصيغة «إبِلُ» وبلفظ ومعنى يتطابق مع «الإبل»، وهي الصيغة المعروفة في اللغة العربية للجمع. كما تأتي بالأكدية بلفظ «جمّلُ» التي تقابل الاسم السومري «أنشي جمّلو» (ANŠE-GAM-MAL) وهي اللفظة العربية نفسها لصيغة الجمل، مع إضافة السابقة الخاصة بحيوانات الركوب في اللغة السومرية وهي «أنشي»(9). أما اللفظ الثالث، فيساعدنا في فهمه أن نعود إلى الشكل الصوري في مجموعة العلامة الصورية للفظ «أنشي»، حيث نجد من ألفاظها الأخرى المفردة «شآروّ» (šārû) التي من معانيها «جمل بسنام واحد»، أما الشكل الصوري لهذه العلامة المسمارية الصورية، فربما يوحي إلى رأس الجمل (ينظر الصورة رقم ٤)، وإن صح ذلك فهذا دليل على أن الجمل العربي ذو السنام الواحد عُرف في الكتابات الصورية منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.

وعند البحث في صيغة الفعل لاسم الإبل، فإنه بصفة عامة، نجد لفظة إبل لها علاقة بجذر الفعل الأكدي «أبلو» abālu وكذلك «وبلو» wabālu ومعناهما «ينقل- يجلب- يحمل»، واسم الفاعل منه «آبيلُ» ābilu، أي الحامل والناقل(10). ومنذ عصور قديمة إلى يومنا هذا، فإن الجمال مرتبطة بالنقل والحمل، ومن الأرجح أن تكون إحدى المفردتين أساسًا للأخرى، وعلى أية حال فهي من الكلمات العربية الأصيلة.

أما فيما يخص تاريخ تدجين الإبل فالدراسات القديمة ترجع حقبة تدجينها الأولى إلى الألف الثانية قبل الميلاد، وهذا ما لا نتفق معه على الإطلاق؛ لأن المكتشفات الحديثة والأدلة الميدانية للرسوم الصخرية أو المجسمات للإبل، تشير إلى أن الإنسان في الجزيرة العربية قد تعايش وخبر الإبل منذ الألف السادس قبل الميلاد، وربما قبل ذلك، وفقًا لدراسة قام بها فريق سعودي عالمي مشترك في موقع منحوتات الجمال في قلب واحة «سكاكا» بمنطقة الجوف، حيث ضم الموقع 21 نحتًا مجسمًا لجمال بالحجم الطبيعي.(11)

ولا بد أن يكون للناقة شيء مما عرضنا له عن اسم الإبل، فالناقة في اللغات القديمة ترد في المدونات الآشورية من القرن الثامن قبل الميلاد بصيغة «أناقاتي» (anaqate)، وهي صيغة جمع المؤنث السالم في اللغة الأكدية، إذًا لفظة «ناقة» في اللغات القديمة جاءت كتسمية لأنثى الجمل باسم «أناقة» (anaqate) منذ العهد الآشوري الوسيط والحديث،(12) بيد أن تكرار ذكر الاسم الدال على سفينة الصحراء التي يعرفها الجميع اليوم، كان من نصيب الجمل، الذي ذكرته المصادر المسمارية صراحة ضمن نصوصها منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد ولا سيما في أخبار الملك «شيلمنصر الثالث» في حملته على دويلات الشام في معركة القرقار سنة 853 قبل الميلاد(13). إذ يرد ذكر ملك بلاد العرب واسمه «جنديبو» (Gindibu) أو «جندب»، وأنه كان على رأس 1000 جمل تعود إلى بلاد العرب(14)، وقراءة وترجمة السطر هي(15):

I LIM ANŠE gam- ma- lu ša mgi-in-di-bu-u KUR ar-ba-a-a

«ألف جمل عائدة إلى جنديبو ملك بلاد العرب».

وفي لغات جزرية (سامية) أخرى من غير الأكدية والعبرية، ترد لفظة الجمل في آرامية المملكة النبطية والتدمرية(16)، والسريانية الفصحى(17)، واللهجات العربية القديمة مثل: اللحيانية، والصفوية، والثمودية، والسبئية(18).

أما لفظة «البعير» فتطلق على الجمل أيضًا في العربية الجنوبية والسريانية والآرامية والإثيوبية، وتستعمل العبرية لفظة «البعير» لحيوان الجمل عمومًا(19). كما أن الاستعمال القرآني للبعير يحدده بالحمل أيضًا. قال تعالى: (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) (سورة يوسف، آية:72)، وتذكر المصادر اللغوية الخاصة بالتفسير أن اللفظ «كيل بعير» الوارد في سورة يوسف الآية 65، ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ  ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾، بمعنى «كيل حمار»، وأن البعير في اللغة العبرانية «كل ما يحمل عليه».(20)

الصحراء بيئة الإبل

الصحراء هي أول ما يمكن أن يكون له علاقة ببيئة الإبل، ففي لسان العرب ترد البادية كاسم لأرض لا حَضر فيها، وإذا خرج الناس من الحضر إلى المراعي في الصحارى قيل: قد بَدوا، والاسم البدو. كما توصف الصحراء بأنها الفضاء الواسع الذي لا نبات فيه، وجمعها صحارٍ وصحارى وصحراوات.(21) وفي أقدم اللغات الجزرية وهي الأكدية نجد لفظة «صيرُ» (Şēru) بمعنى السهل والصحراء، والرجل الذي يعيش في الصحراء يسمى برجل الصحراء أو رجل الأرض المفتوحة(22). وهنا اللفظة خالية من حرف الحاء؛ لأن الأصوات الحلقية (الهاء والحاء والعين) قد فقدتها الأكدية، إلا أنها احتفظت بالهمزة في بعض الكلمات أو فقدتها كليًّا، وفي بعض الأحيان يطرأ عليها تغيير صوتي في كلمات أخرى.

وفي العبرية نجد الأصل «صحراء» بمعنى اللون المائل للحمرة أو الأسمر المصفرّ، ومن المحتمل أن يكون لهذا الأصل علاقة بلون رمال الصحراء، وفي اللغة الأكدية قرب كبير وشبه في اللفظ بين الصحراء والأفعى التي يحتمل أنها شوهدت لأول مرة في الصحراء، فأخذت اسمها «صيرُ» الذي يلفظ (Şēru)،(23) واللفظ قريب من لفظ «الصّلّ» بإبدال حرف الراء لامًا، وهو صغير الأفعى، ويتوضح المعنى من خلال الرسم الصوري لشكل الأفعى منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد الرافدين (ينظر الصورة رقم ٥).(24)


الإبل في شبه الجزيرة العربية

وبلاد الشرق الأدنى القديم

  

حمد بن صراي أكاديمي إماراتي

شاع استعمال الإبل على نطاق واسع سواء في بلاد الشرق الأدنى. كما شاع استخدام مفردَتَي: «جمل» و «إبل» في شتّى اللغات السامية مع اختلاف كلّ منها في استعمال الجذر الخاصّ بها. مِن المحتمل أنّ استئناس الإبل قد بدأ في شبه الجزيرة العربية. وقد اختلفت الآراء حول متى كانت بداية استئناس الجمل، فقيل: إنّها كانت قبل عام 2000ق.م. وقيل: في بداية الألف الرابع ق.م. أو خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر ق.م. ولكنّها اتّفقت أنّ ذلك كان في حقبة قديمة جدًّا. ومِن شبه الجزيرة العربية انتقلت الجمال المستأنسة إلى فلسطين وسوريا وبلاد الرافدين وعموم بلاد الشرق الأدنى، ثمّ انتشر استعمال الإبل في أجزاء واسعة مِن إفريقيا. وعُثر على عظام الجمال في العديد مِن مواقع العصور الحجرية الوسيطة والحديثة.

الإبل في التراث الديني والأدبي

ذُكر الجمل في مواضع عدّة مِن العهد القديم، مِنها أنّ ملك مصر صنع إلى أبرام (إبراهيم عليه السلام) خيرًا… وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمال. ولمّا أتت ملكةُ سبأ سليمانَ، عليه السلام، كانت في «موكب عظيم جدًّا بجِمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًّا وحجارة كريمة.» أمّا في القرآن الكريم فيرد ذِكر الإبل في سورة الأنعام، الآية: 144، وفي سورة الغاشية، الآية: 17. وتكررت في القرآن الكريم الإشارات إلى ناقة صالح، عليه السلام، في عددٍ من السور. ويرد أيضًا ذِكر الجمل في سورة الأعراف، الآية: 40. وورد جمع الجمع وهي «جمالات» في الآية: 33 من سورة المرسلات. وتوجد في القرآن الكريم أيضًا لفظة «البدن» للدلالة على الإبل في الآية: 36 من سورة الحج. وفي موضعين مِن القرآن الكريم وردت لفظة «بعير» في سورة يوسف، في الآيتين: 65، و72.

وفي السيرة النبوية اشتهرت ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم، المعروفة بالقصواء والجدعاء والعضباء وهي الناقة التي هاجر عليها. وكان له جمل أحمر يدعى الثعلب، وهو الذي أركب عليه خراش بن أميّة الخزاعي وأرسله إلى مكة أيّام الحديبية فاعتدى عليه المشركون وعقروا الجمل.

وتزخر اللغة العربية عمومًا بالمصطلحات والعبارات التي تصف الجمل وطبيعته وحياته وشكله وعاداته ومراحل نموّه المختلفة. وقد تعدّدت وتنوّعت الكلمات التي تتعلّق بالجمل وتصف شكله وخلقته. كما تنوّعت أسماء الإبل بحسب السنّ والعمر، والقوّة واللون، والعمل والمهمة، وبحسب جماعات الإبل.

الإبل في التاريخ والآثار

استُخدِمت الجمال في النقل البرّي في منطقة شاسعة مِن بلاد الشرق الأدنى القديم حيث نقلت أنواعًا مختلفة مِن السلع والبضائع مِن جنوب شبه الجزيرة العربية وظفار، ومِن الهند عبر موانئ الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية. وكان يوجد عدد مِن الطرق البرّيّة الرئيسة التي كانت تسلكها القوافل محمّلة بالسلع والبضائع. وفي خارج شبه الجزيرة العربية تؤكّد الأدلّة الأثريّة والكتابية والتصويرية على استخدام الجمال في بلاد الشرق الأدنى القديم في عصور متعدّدة، ومِن هذه الدلائل:

عُثر على عظام جمال وتماثيل صغيرة لجمال في مصر وأشكال رؤوس حيوانات مصنوعة مِن الفخار يبدو أنّها لجمال، وتؤرّخ بفترات زمنية مختلفة تمتدّ من العصر الحجري الحديث إلى عصر البرونز المتأخّر (عهد الأسرة الثامنة عشر). وفي عدد مِن المواقع الأثريّة في بلاد الرافدين والمؤرّخة بحِقَب زمنية مختلفة التُقِطت مجموعة مِن تماثيل الجمال المصنوعة مِن مواد متعدّدة مثل تمثال الطين مِن مدينة أور وآخر مِن مدينة أوروك، ويعود إلى حقبة العبيد (نحو الألف الخامس أو الأف الرابع ق.م.). وتمثال آخر على شكل جمل كان يستعمل كتميمة مِن مدينة لاجاش.

وفي أثناء الحِقْبة الآشورية دلّت النصوص والرسومات على معرفة الآشوريين بالجمل. بل إنّ ما خلّفه الآشوريون مِن صور وكتابات ورسومات يُعَدّ أكثر ما وصلنا مِن دلائل عن الإبل في بلاد الرافدين. كما دلّت على استخدامه في مهام متنوّعة. وبخاصة في عهود الملوك: شلمنصر الثالث (860- 825 ق.م.) وتيجلات بلاسر الثالث (744- 727 ق.م.) وسرجون الثاني (721- 705 ق.م.) وفي سوريا تتعدّد الآثار والكتابات والرسومات الدالّة على وجود الجِمال واستخداماتها؛ فقد وردت في أحد نصوص موقع آلالاخ (تل عطشانة في شمال سوريا، الألف الثاني ق.م.) قائمة بأنواع متعدّدة مِن الحيوانات والسلع والمؤن كان مِن ضمنها «مكيال واحد للجمل». وفي تل حلف بشمال سوريا أيضًا عُثر على نحت لرجل ممتطٍ جمل، يؤرّخ بعام 900 ق.م. ومجوعة مِن العظام في تل جمة بفلسطين تؤرّخ بنحو القرن الثامن أو السابع ق.م.

كما انتشرت الإبل العربية في الهضبة الإيرانية منذ نحو القرن الثامن ق.م. إذ استخدم الفرس الجمال في الحروب والتجارة وصوّروها على حيطان العاصمة، بريسيبوليس. واستعان الملك الإسكندر الثالث (الكبير) بالجِمال في رحلته إلى معبد الإله آمون في واحة سيوه، قاطعًا بها الصحراء في عام 332 ق.م. كما استعان الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث (الكبير) بالجِمال لحمل المُؤَن والأَزْواد والماء في موقعة مجنيسيا بآسيا الصغرى، مع الرومان في عام 189 ق.م. ونشأت في بلاد الشرق الأدنى عدد مِن مدن القوافل التي اعتمدت بصورة كبيرة على التجارة والطرق التجاريّة البرّيّة مثل مدينَتَي البتراء وتدمر.

أمّا الأدلّة الأثريّة التي تؤكّد وجود الإبل في شبه الجزيرة العربية منذ القدم فهي متعدّدة، مِنها:

في جزيرة أم النار (الألف الثالث ق.م.) بدولة الإمارات عُثر على رسم لجمل على حجر ضمن الجدار الدائري للقبر 3 في الجزيرة. وفي أمّ النار أيضًا عثر المنقّبون على كميات كبيرة مِن العظام، تمثّل عظام الجمال النسبة الكبرى مِنها. وفي دولة الإمارات أيضًا عثر المنقّبون على مجموعة مِن عظام الإبل في مواقع أثريّة مثل: البحيص بالشارقة، وذلك ضمن مقبرة كبيرة تؤرّخ بنحو الألف الخامس ق.م. وفي جزيرة غناضة وهيلي 8 وشمل. وتؤرّخ هذه المعثورات بالألفين الثالث والثاني ق.م.

وفي عدد مِن مواقع الآثار في اليمن -مثل معبد هريدة في حضرموت ووادي جثمة وهجر بن حميد- عُثر على رسومات وتماثيل على شكل جمل، أُرّخت بحقبة تمتدّ مِن القرن التاسع إلى القرن السادس ق.م. وأشار عدد مِن الكتّاب الكلاسيكيين إلى وجود الجِمال في شبه الجزيرة العربية. وفي قرية الفاو عثر الآثاريون على كثيرٍ مِن عظام الجِمال وعلى مجموعة مِن المواد الدالّة على وجود الجمل واستخدامه في هذه البلدة المشهورة. وفي مواضع أخرى متفرّقة مِن شبه الجزيرة العربية عثر المنقّبون على عدد مِن دمى الجِمال تعود لِحِقَبٍ تاريخية مختلفة تُراوِحُ ما بين القرنين السادس ق.م. والثاني م. مِنها مِن قصر الحمراء في تيماء، ومِن دومة الجندل، وفي موقع ثاج بالمنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية التُقِطت دمى لرؤوس جِمال مزخرفة بزخارف محزّزة على الرقبة، ودمى لجِمال في موقع جاوان بشمال الظهران، وفي عدد مِن المواقع بدولة الإمارات، مثل: رميلة والدور.

كما انتشرت في مناطق واسعة مِن شبه الجزيرة العربية رسومات صخرية تصوّر الجمال في أوضاع وأشكال متعدّدة اكتُشِفت في مواضع مثل: منطقة القصيم، ومنطقة حائل، ووادي فاطمة، وشمال شرق تبوك، ومنطقة تيماء، ووادي العلا ومدائن صالح. وأغلبية هذه الرسومات غير مؤرّخة، ويبدو أنها تعود إلى حِقَب بعيدة مختلفة.

قبور الجمال

عُثر على عددٍ مِن قبور الجِمال في شبه الجزيرة العربية، مِنها: قبر لناقة في منطقة F بموقع «الدور» في دولة الإمارات، والمؤرّخ إلى ما بين القرن الثاني ق.م. والقرن الثاني الميلادي. ويبدو أنّ هذه الناقة قد دُفنت بالقرب مِن صاحبها الذي وُجد هيكله العظمي إلى جوارها. وفي منطقة AV مِن الموقع نفسه اكتُشِف هيكلان عظميّان لجملين على عمق نحو 80 مترًا.

وفي موقع مليحة بدولة الإمارات أيضًا عُثر على 12 قبرًا لجمال بالقرب مِن قبر صاحبها. ويوجد معها كذلك قبر لحصان. وتؤرّخ هذه القبور بالحقبة ما بين القرن الثالث ق.م. إلى القرن الثاني الميلادي. وفي موقع الإميلح بين الذيد والشارقة، عُثر في القبر رقم (4) على هيكل عظمي لجمل. ربما يعود زمنيًّا إلى ما بين عامَي 640 و680م. وبالقرب مِن قبر الجمل اكتُشِف قبران آخران تدلّ محتوياتهما على أنّهما لشخصين محاربين. كما عثرت فرقة التنقيب المحلية بالشارقة على هيكل جمل في موضع دبا.

وفي موقع المزروعة على بُعد 23 كم جنوب غرب الدوحة بقطر اكتُشفَت بقايا أثريّة، ومن ضمنها بعض الهياكل العظمية البشرية وفخاريات. وفي الجهتين الجنوبية والجنوبية الغربية لأحد القبور البشرية وُجد قبران لجملين.

وفي موقع بات بسلطنة عمان وُجد قبر لجمل، وكذلك في موقع سمد رقم (10) عُثر على هيكل عظمي لجمل ضمن مستوطنة تعود إلى حِقْبة ما قبل الإسلام. وفي موقع جد حفص أو جنوسان بالبحرين عثرت بعثة التنقيب الدانماركية عام 1954م على هيكل لجمل من دون قوائم. راوَحَ تأريخُه آنذاك بين العصر البارثي أو أبكر بقليل وبين القرن الثاني الميلادي أو بعده بقليل. وفي الظهران اكتُشِفت ثلاثة قبور لجمال في مدافن، أُرّخت بأواخر القرن الأوّل ق.م.

وفي الجمهورية اليمنية عثر المنقّبون على عددٍ مِن قبور الإبل في موقعين، هما: ريبون والبليس. وقد نُقِّبَ في ستّة مِن هذه القبور. ووُجدت الجِمال فيها بوضع القعود، وربما كانت مقيّدة القوائم والرقبة مفقودة. وأُرّخت بالحِقبة الممتدّة بين القرن السادس ق.م. وبدايات القرن الأوّل الميلادي أو ربّما بعده.

مكانة الإبل عند العرب بين التقديس والتقدير

ارتبط دفن الجمال في قبور خاصّة بغرض ديني معيّن، وكان لهذا الحيوان لدى عرب الجاهلية مكانة عالية يدلّ عليها الشِّعر والروايات والكتابات والنصوص. ومِنها النقش الذي عثرت عليه البعثة الروسية في حضرموت الذي يشير إلى ارتباط الجمل بالموت وطقوس الدفن. كما أنّ النقش النبطي المكتشف في وادي رم يربط الجمل بنوع مِن العادات الجنائزية. وقد عَبدَت قبيلة بكر سقبًا، وهو ولد الناقة. وكذلك ما رُوي مِن أنّ قبيلة تميم أقبلت في حربها ضدّ بكر بن وائل ببعيرين مجلّلَيْنِ مقيَّديْن، وجعلوا عندهما مَن يحفظهما وتركوهما بين الصّفّيْنِ. وقالوا لا نفرّ حتى يفرّ هذان البعيران. وعُرف هذا اليوم بيوم الزوْرَيْنِ نسبة للبعيرين.

ويُذكر أيضًا أنّ ناقة أبي دؤاد الإيادي المعروف بالزّبّاء كان يتبرّك بها الناس. كما كان ليزيد بن عمرو الغسّاني ناقة محماة في عنقها مدية وصرة ملح، كان يمتحن بها رعيّته لينظر مَن يجترئ عليه. ويبدو أنّ هذه المكانة المقدّسة للإبل، وإنْ لم تتّضح بصورة جليّة، كانت سببًا في تحريم عرب الجاهلية ركوب تلك الإبل المخصّصة للآلهة أو استخدامها.

وشبّه العرب أيضًا بعض النجوم بالإبل حيث سمّوا سهيلًا «الفحل» تشبيهًا له بفحل الإبل؛ وذلك لاعتزاله عن النجوم وعِظِمه. ومِن مظاهر تبرّك العرب بالناقة وإعلاء مكانتها أنّهم شبّهوها بالسماء والمطر والسحاب.

ومِن ملامح قدسية الإبل ومكانتها العالية عند عرب الجاهلية قول أحدهم إذا حضرته الوفاة لولده: «ادفنوا معي راحلتي حتى أُحشَر عليها، فإن لم تفعلوا حُشرت على رجلي» فيربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخّرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كَلْكَلَها، ويأخذون وليّة فيشدّون وسطها، ويقلّدون عنق الناقة، ويتركونها عند القبر. ويسمّون تلك الناقة «البليّة» والخيط الذي تُشدّ به «الوليّة». وأشار إلى عدد مِن الشعراء الجاهليين إلى البليّة، ومِن هؤلاء: الجميح الأسدي، وبشير بن أبي خازم، ولبيد بن ربيعة بن مالك الكلابي.


نحو معجم لألفاظ الحيوانات في اللغات السامية الشمالية الغربية: باب الإبل

دراسة مقارنة

   

سحر طلعت الصمادي أكاديمية أردنية

حفلت النقوش السامية برسومات مرافقة للكتابات، جلّها كانت رسومات مصورة لحيوانات تمثل الحياة الاجتماعية لهم، من إبل وبقر ونعام وغيرهم، يتجول معها المهتم فيضع تصورًا حيًّا لطبيعة الحياة في قرون ما قبل الميلاد.

النقوش السامية

يطلق مصطلح النقوش السامية على اللغات التي تنتمي إلى فصيلة السامية الحامية. وأول من أطلق المصطلح هو العالم الألماني (شلوتسر) أواخر القرن الثامن عشر، مستنبطًا الاسم من التوراة (العهد القديم). وقسمت إلى غربية شمالية وغربية جنوبية والقسم الآخر الشرقية. أحيانًا نجد صعوبة في تحديد موقعها الجغرافي وامتدادها، فهي وإن كانت تمتد من شمالَيْ سوريا إلى اليمن جنوبًا، وبلاد الرافدين شرقًا والبحر المتوسط غربًا، إلا أنّ نقوشًا عثر عليها خارج هذه الحدود. على سبيل المثال وُجدت نقوش نبطية في الصحراء الشرقية من مصر وفي إيطاليا، ووجدت نقوش فينيقية في المغرب العربي وفي أميركا الجنوبية.

ولكن المشترك فيها كثرة الرسومات والكتابات التي تذكر وتصور الإبل وصفاتها، وبخاصة عند الصفائيين والثموديين والحضرية والنبطية (وهذه اللغات هي مجال الدراسة)، ولعل كثرة نقوش الإبل تدلل على استئناسها المبكر حيث يمكن تأريخه ما بين 1200-500 قبل الميلاد.

فمثَّل الناقش الإبل بأمومتها، وزينتها وحملها للأمتعة لكونها وسيلة التنقل في المنطقة، والاستفادة من جلودها ووبرها في صناعة الحبال، وفي القوافل التجارية التي كانت ممرًّا لها من الجنوب إلى الشمال والعكس. وعكست النقوش الحجرية التاريخية عمق الصلة بين الإنسان والإبل.

ولعل ما يلفت النظر اكتشاف رسم الجمل ذي السنامين في نقشين صفائيين؛ نشر أحدهما الدكتور صبري العبادي 2008م (نقش 82) في كتابه نقوش صفوية من وادي سلمى، والآخر اكتشفه ليتمان من منطقة العيساوي في سوريا (LP 325). وهو من النادر العثور عليه في المنطقة لكونه من الحيوانات التي تعيش في المناطق الباردة. فمن المعتاد الصيد على الخيل لكونها أسرع وأقل ضخامة وأقل ارتفاعًا من الإبل، وعلى الرغم من هذا فنجد أن الإبل استُخدمت في الصيد، ووثقت في رسومات كثيرة، وبخاصة عند الصفائيين.

وكذلك نُقشت الإبل عند الأنباط على عملتهم، فقد نشرت ليلى نعمة عملة نَبَطِيّة تعود للألف الثالث الميلادي، نُقش عليها جمل يحمل رجلًا (تاجرًا). فهذا يبرز اهتمام الأنباط والمنطقة بالإبل.

باب الإبل

أمّا عن الألفاظ الدالة على الإبل في النقوش فمنها: الجِمال والنوق والبعير… وما يسعى المعجم لإعداده هو حصر هذه الألفاظ مع توثيقها رسمًا وتحليلًا ومقارنتها بكتب التراث العربي.

يهدف المعجم إلى تأصيل الألفاظ التي استخدمت في النقوش السامية الشمالية الغربية للدلالة على الإبل، وذلك عبر دراسة مقارنة تحليلية لها؛ للوقوف على عمق تلك الدلالات واستمراريتها، وهل حدث تطور في دلالات تلك الألفاظ عبر الحِقَب التاريخية المختلفة. لكنّ هناك ألفاظًا في بعض النقوش يشك في قراءتها؛ قُرئت كأسماء للإبل وصفات لها، وهي في حاجة إلى تدقيق ودراسة قبل إلحاقها بالمعجم.

باب ألفاظ الإبل في النقوش الشمالية الغربية

ء ب ل: وردت في النقوش بصيغة الإبل: «الإبل لا مفرد لها من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا مفرد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، والجمع آبال.

وجاءت لفظة إبل صريحة في النقوش الصفائية مرافقة لرسمها على الأغلب. ففي النقش رقم 84 يذكر صاحبه أنه قد ذهب شرقًا بالإبل من حوران إلى الحرة. وفي الثمودية وردت بصيغة (إبل) بنقش (سكوبي 2004:208).

ب ل: ووردت في نقش (الذييب 2017: 90) بصيغة (ب ل) وهي اسم جمع من إبل، وفي اللهجات العربية تحذف الألف وتنطق (بل).

ب ك ر: وهو اسم يطلق على الأنثى من الإبل. وهي الفتيُّ من الإبل، والصغيرة من الإبل التي لم يلقِّحها الفحلُ، وهي من الألفاظ التي كثر ورودها في النقوش. وميز الناقش رسم الأنثى عن الذكر بارتفاع الذيل إلى الأعلى مع انحناء فيه، أما الذكر فيكون معقوفًا.

وردت في النقوش الصفوية ب ك ر (صغير الإبل) مذكر (Oxtoby 1968: 165) ل ح د ل ب ن ب ن ه ب ك ر. والأرجح أن اللفظة عند أوكستبي هي للدلالة على المؤنث وليس المذكر. و (ب ك ر ت): (Oxtoby 1968: 132) ل ن أ م ل ب ن ش ر ب ه ب ك رت، ورافق النقش رسم لبكرة، وهي تستعد للجلوس (تنوخ). بصيغة المؤنث.

ب ك ر ت ن: اسم مثنى، ورد في النقوش الصفوية (h b k r t n)(9WH:402)، ورافق النقش رسم لبكرتين معه وكتب النقش بينهما.

وترد كلمة بكرة في النقوش مسندة إلى ضمير الغائب، ولتدل كذلك على الملكية الشخصية، ففي نقش (حراحشة 2001: 314) ورد فيه أن صاحب النقش ع م ز قد وصل مكانًا وقد عطشت بكرته.

وفي النقوش الثمودية وردت (السعيد 2004: 24) (ب ك رت ي ه ث ع ن ع م ت و ن د م) بصيغة المفرد.

أ ر ك ب ت: وقد ترد بصيغة الجمع (أ ر ك ب ت) وهي الركاب، الإبل التي يسار عليها واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها وجمعها رُكُب. وهي الإبل التي تحمل القوم (حراحشة 2001: 313). وربما هي ما نطلق عليه الركوبة في لهجة بلاد الشام.

ب ع: ورد في نقش ثمودي ورد عند (أسكوبي 2004: 212) ولكن القراءة غير مؤكدة. ووردت في نقش صفوي والقراءة غير مؤكدة بصيغة (ب ع ب هـ) وهي من (ب ع)(LP: 888)، بمعنى الخطوة الطويلة، فإن أولت القراءة فتكون (ب ع) صفة للإبل لكونها طويلة العنق.

ولعل القراءة للنقش هي (ب ع ل س) ويقول (الأصمعي:105): ناقة دَلعس وبَلعَس وبَلعك ودلعك: وهنَّ العظام المسترخيات. فتكون صفة للإبل.

ج م ل: اسم جنس مفرد، يرد بكثرة في النقوش الصفائية بصيغة المفرد، وغالبًا معرفًا بأداة التعريف الهاء: (ل ي ع م ر بن ب ط ن ت ه ج م ل) (الخريشة 2002: 51) هذا الجمل ليعمر بن باطنة.

وورد (ج م ل) في النقوش الثمودية ففي (al-Theeb 2018: 9)، نجد الاسم مسبوقًا بأداة التعريف (هـ)، ووهب له الجمل. ورد اللفظ في النقوش الصفائية بكثرة لتدل على ذكر الإبل وهو زوج الناقة. ويرسم عادة ذيله مستقيم إلى الأسفل. ويقال: إنه يسمى جملًا إذا بلغ أربع سنوات.

ولقد ورد بصيغ عدة في النقوش الصفوية. مفرد الجمل (ه جمل)، ففي النقش رقم (WH 3500) يذكر يسلم أنّ له جملًا. ويصور نفسه راكبًا عليه.

أ ج م ل: صيغة جمع تكسير وردت في النقوش الصفوية (العبادي 2006: 80) (و ر ع ي ه أ ج م ل) ورعي الجمال.

ج م ل ن: ويرد كذلك بصيغة المثنى: «الجملان». ففي النقش رقم (CIS 1658= Dunand 388) يذكر صاحب النقش، وقال بن يعل: إنه يملك «الجملان» ويرسم نفسه معهما، ولعل النقش هنا يدل على الغزو وحصوله عليها من خلاله.

أ ج م ل: اسم جمع بمعنى أجمال، (WH: 3500).

ج م ل ي ا: وفي النبطية وردت بصيغة جمع التكسير المعرف (ج م ل ي ا) (CIS 157). وترد بصيغة الجمع «أجمل»، ففي النقش رقم (CIS 1148=Vogue 230a) يشير صاحب النقش سبان بن مالك الأجمل (أي له الجمال).

ووردت في النقش النبطي (CIS 157:1)، (ت ري ج م ل ي ا) (الجملان). ونلحظ أن الصيغة هي نفسها في الجمع، ولكن الذي أكّد أنهما مثنى، أن جملان أضيف إلى العدد «اثنان» (ت ري).

ر ح ل: لم ترد هذه الكلمة بكثرة في النقوش الصفائية ولعلها وردت في النقش الوحيد الذي نشره الدكتور سليمان الذييب التي تدل على الإبل. «الراحِلة من الإبل: الصالحُ للأَسفار والأَحمال، وفي حديث شريف: «تجدون الناس بعدي كإِبلٍ مئةٍ ليس فيها راحلة»، والجمع: رواحل». ففي النقش، غير الواضح للأسف، الصورة رسم وبجواره نقش يؤكد صاحبه ملكيته لـ(رحل)، أي الإبل التي في الرسم.

ع س: اسم جنس مفرد، ورد في الثمودية بمعنى الإبل؛ ففي نقش (الذييب 2006: 23): ل س ه ب ع د ه ع س بواسطة س ه ب (الذي) أحضر الإبل.

ع ي ر: والعير هي الإبل التي تحمل المِيرَةَ، يقال للرجال وللجِمال معًا، ولكل واحد منهما دون الآخر. مع أن لفظة عير تدل على الحمير والخيل، إلا أنها دلت على الإبل التي تحمل الطعام وغيره. ولقد وردت في سورة يوسف ثلاث مرات. ففي النقش المرفق نجد أن صاحبه قد كتب كلمة بعير مع رسم للجمل.

ق ت ب: م ق ت ب ي ا: اسم جمع مذكر معرفة، ورد في النقوش النبطية (Littmann 1953: 34) بصيغة (م ق تب ي ا) وفسرها بمعنى الجمال. ووردت عند الأصمعي القتب «والبِطانُ للقَتَب خاصة، والتصدير للرَّحل ويقال: أَقتَبت البعير أُقتِبُهُ إقتبابًا، إذا شددت عليه القتب. والقتب هو الرَّحْلُ الصغير على قدر سَنام البعير. وردت في نقش صفوي CIS 1383 وترجمت بأنها اسم مكان (قتابة).

ن ق: ن ق ت: (علولو 2001: 24): ل ر م م ت ه ن ق ت وترجمته: الناقة الرمامة.

الناقة هي أنثى الجمل، ووردت في النقوش الصفائية لتدل عليها «وهي تدل على المفرد وجمعها نوق، أو أنوُقٌ، وأينُق، وأيانِق، ونِياق» ويطلق على أنثى الإبل إذا كانت متوسطة العمر ناقة. ومن النوق المشهورة ناقة ثمود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم: «وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا»، وناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القصواء التي هاجر عليها إلى يثرب، وكذلك ناقة البسوس التي كانت سببًا في إضرام حرب بين قبيلة تغلب بن وائل وقبيلة بكر بن وائل.

وجاءت اسم مفرد نكرة في نقش (العبادي 2006: 17) (وذ ب ح ن ق ت) وذبح ناقة.

أ ن ق: صيغة جمع التكسير، ورد في النقوش الصفوية (علولو 2001: 97)، (ل ع ث م ت ب ن ق ن ه أ ن ق) لعثمة بن قن النوق. وكذلك جاءت بصيغة الجمع المؤنث المختوم بتاء التأنيث (علولو 2001: 325) (ل ك س ط و ل ه أ ن ق ت) النوق لكاسط.

ن ق: ووردت في اللحيانية بصيغة الجمع (ن ق) ففي نقش (أبو الحسن 1997: 1) في السطر الرابع نجد كلمة (ه ن ق) (النوق).

النقوش السامية، كما اصطلح عليها، وبخاصة مسميات الإبل التي تعود إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد، تؤكد أن لغتها لغة عربية وإن اختلف الخط المكتوب به. وهذا ما نستنتجه من دراسة ألفاظ الإبل ومقارنتها.


الجمل في الحضارة

المصرية القديمة

  

سمير أديب أكاديمي مصري

تُعَدُّ صورة الجمل من الهيئات الحيوانية النادرة في الفن المصري القديم سواء في النقوش والرسوم الصخرية أو على هيئة دمى وتماثيل صغيرة. وقد حاولنا هنا تتبع صورة الجمل في الفنون المصرية على مر العصور كما يلي:

العصور الحجرية

عُثر على عظام الجمل في مصر في بعض المواقع الأثرية المؤرخة بالعصر الحجري القديم والوسيط بمنطقة بير طرفاوي على بعد نحو ٣٥٠ كم من نهر النيل بصحراء مصر الغربية. فقد كشفت الحفائر في الموقع BT-14 كميات ضخمة من العظام الحيوانية، كان منها عظام الجمل، التي أُرخت بنحو ٤٣٠٠ ق.م.

عصر ما قبل الأسرات: (3100 – 4000 ق.م.)

ظهرت هيئة الجمل كعمل فني لأول مرة -فيما هو معروف حتى الآن- حيث كشفت حفائرُ جامعة القاهرة في المعادي خلال موسم 1930- 1931م قطعةً من الصلصال المحروق وبها آثار للون أحمر ربما يمثل لجام جمل، ومحفوظة في متحف جامعة القاهرة.

كما توجد بمجموعة «والتر آرت جاليري» رأس تمثال لجمل من العاج غير معروف مكان اكتشافه، ويبلغ طول الرأس ٤,٧ سم، ويؤرخ بأواخر عصر ما قبل الأسرات . ويوجد في متحف برلين لوحة حجرية سوداء اللون (رقم ٢٢٦٩٧)، مكان اكتشافها غير معروف، تمثل جملًا باركًا.

وقد عُثر في المقبرة رقم 58C4 في أبو صير الملق على إناء من الحجر الجيري الأصفر مشكل على هيئة جمل بارك، يبلغ ارتفاعه 6.4 وطوله ١٠ سم في متحف برلين برقم 185.93، ويؤرخ بأواخر عصر ما قبل الأسرات (نقادة الثالثة). ويوجد أسفل حافة الإناء أربعة ثقوب ربما للتعليق، ومن المحتمل أن هذه القطعة تمثل جمل يحمل على ظهره حمولة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان الجمل مستأنسًا في هذه المناطق، واستخدم في نقل البضائع التجارية منذ ذلك العصر؟

عصر الأسرات المبكر: (3100- 2686 ق.م.)

يُعرف هذا العصر أيضًا بعصر بداية الأسرات أو العصر العتيق، ويشمل الأسرتين الأولى والثانية، وكان ظهور الجمل هنا محدودًا بقطعتين في حدود معلوماتنا حتى الآن. القطعة الأولى وجدها بتري في معبد أبيدوس، وهي عبارة عن رأس جمل مُشكَّل من الفخار، يُؤرَّخ بعصر الأسرة الأولى، طوله ١٢ سم، وارتفاعه ٦سم، ومحفوظ في متحف كلية الجامعة بلندن.

والقطعة الثانية اكتشفها كويبل في معبد هيراكنبوليس (الكوم الأحمر)، عبارة عن رأس جمل من الفخار، مؤرخ أيضًا بعصر الأسرة الأولى، ومحفوظ في المتحف الأشمولي بأُكسفورد (E3266).

كما عثر (موللر) في منطقة أبو صير الملق داخل مقبرة من الأسرة الأولى على إناء مرهم من الحجر الجيري على شكل جمل راقد، وموجود الآن في متحف برلين.

وقد عثر زكي سعد على عظام رقبة جمل وبعض ضلوعه في المقبرة رقم 720H – 5 بحلوان، وترجع إلى عصر الأسرة الأولى. وقد دفعت هذه الشواهد الأثرية كلًّا من Emery و Childe، إلى الاعتقاد أن الجمل كان من بين الحيوانات التي استُؤنست في مصر في عصر بداية الأسرات، واستُخدِم في نقل البضائع والتجارة في المناطق الصحراوية، أو على الأقل معرفة المصريين له عن طريق احتكاكهم وتعاملهم مع جيرانهم في مناطق بادية الشام وشمال شبه الجزيرة العربية.

وقد أكد (بدج) «أن الجمل كان معروفًا لدى المصريين القدماء في عصر ما قبل الأسرات»، وقد عُثِر على أشكال خزفية للجمل في نقادة، كما اتفق (تشايلد وإمري) على مكانية إدراج الجمل ضمن الحيوانات التي كان يربيها المصريون القدماء خلال الأسرة الأولى والثانية.

عصر الدولة القديمة: (2687- 2190 ق.م.)

تشمل المدة الممتدة من الأسرات 3-6، وقد ظهرت هيئة الجمل في النقوش الصخرية في النوبة السفلى خلال عصر الدولة القديمة. كما يوجد نقش صخري بالقرب من أسوان، يُصوِّر رجلًا يقتاد جملًا بحبل، ومن أمامه نقش هيراطيقي مؤرخ بعصر الأسرة السادسة. وتُعَدّ هذه الصورة هي أقدم الصور الواضحة والمؤكدة والمؤرخة للجمل في الفنون المصرية القديمة.

والجدير بالذكر أنه عُثر في أثناء أعمال الحفر التي أُجريت في موقع أم الصوان شمال الفيوم في بدايات القرن العشرين على حبل أو خيط مفتول، طوله نحو ٣ أقدام و٦ بوصات. وقد أثبتت التحاليل المعملية أنه من وبر الجمال. وقد أُرخ هذا الحبل بناءً على الفخار الموجود معه بعصر الأسرة الثالثة أو بداية الأسرة الرابعة.

عصر الدولة الوسطى: (2000- 1650 ق.م.)

وقد وُجد ضمن ودائع أساس المعبد المصري في ميناء جبيل بلبنان على تمثال لجمل منحوت من الحجر، طوله ٤٢ سم، يمثل جملًا باركًا، به ثقب في الظهر، ونُحِتَ حول الفم حبل ملفوف، ويُعَدّ فريدًا في هيئته التي تصور الجمل يلتفت برأسه نحو الجانب. وعدّ مونتييه أن هذه القطعة مصرية الصنع، حيث عُثر عليها بين آثار مصرية تُؤرخ بالمدة الممتدة من 2000 إلى 1500 ق.م. كما عُثر أثناء المسح الجيولوجي في الفيوم على جمجمة جمل بجوار فخار مؤرخ بالمدة الممتدة من ٢٠٠٠ إلى 1400 ق.م.

عصر الدولة الحديثة: (1569- 1076 ق.م.)

يُعَدّ عصر الدولة الحديثة في مصر هو عصر الانفتاح على العالم الخارجي، ويشمل الأسرات من 18 – 20 حيث امتد النفوذ المصري ليشمل مناطق واسعة من بلاد الشام، وتوطدت صلات مصر وتأثيرها المتبادل مع مناطق الجزيرة العربية، وربما انعكس ذلك على ظهور الجمل بشكل واضح في بعض الأعمال الفنية.

وقد ذُكر أنه كان يوجد في متحف اللوفر تمثال صغير لجمل يقال إنه من عصر العمارنة (الأسرة 18) ولكنه لم يُنشر. كما عُثر على تمثال لجمل في الميدامود مؤرخ بالقرنين الخامس عشر والرابع عشر ق.م.

وفي إحدى المقابر بجبانة ريفة بأسيوط التي ترجع إلى عصر الأسرة 19، عُثر على تمثال من الفخار لجمل يحمل فوق ظهره إناءين، وهو ما يدل على استخدام الجمل ربما في نقل البضائع.

ومن معبد أوزيريس في أبيدوس عُثر على تمثال لجمل محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة (CG3830)، والتمثال مشكل من الفخار المزجج، لونه أزرق مائل إلى الخضرة، والتمثال مشكل يدويًّا، ويصور الجمل باركًا ورأسه مرفوعة لأعلى، والفم مفتوح. وفوق مقدمة ظهر الجمل يجلس رجل يمد يديه للأمام وكأنه يمسك اللجام، ويحمل الجمل على جانبي ظهره خمسة أوانٍ، وتدل ملامح ووضعية التمثال على أنه يصور جملًا وكأنه يتهيأ للوقوف، وهو يعود إلى النصف الأول من الألف الأول ق.م.

وفي أقصى جنوب مصر، اكتشف بتري نقوشًا صخرية بالقرب من جبل السلسلة، صورت مجموعة من الجمال، التي أرخها بالمدة الممتدة من 1320-1567 ق.م. ويدل وجود صور للجمل في جنوب مصر في مناطق النوبة السفلى والعليا على احتمال استخدامه في أعمال التجارة وتبادل السلع مع المناطق الجنوبية. كما تدل التماثيل الصغيرة المؤرخة بعصر الدولة الحديثة على استخدام الجمل في نقل البضائع إلى مصر.

العصر المتأخر: (1075- 332 ق.م.)

ويشمل الأسرات من 21- 30، ويتميز ذلك العصر بأن استخدام الجمل لم يعد مقصورًا فقط على نقل المنتجات والسلع التجارية، وإنما استُخدم أيضًا في مساعدة وتجهيز الجيوش في منطقة الشرق الأدنى القديم. فقد ذكرت النصوص أن القبائل العربية قد زودت الملك الآشوري «أسرحدون» بالجمال لمساعدة جيشه على اجتياز الصحراء في أثناء غزوه لمصر عام ٦٧١ ق.م. كما ذكر هيرودوت أن الملك الفارسي قمبيز أمر بحمل قِرَب الماء المصنوعة من جلد الجمال على ظهورها؛ لتزويد قواته في أثناء عبوره المناطق الصحراوية في حملته على مصر عام ٥٢٥ ق.م.

وظهرت صورة الجمل على كسرة من قاعدة طبق من الفخار المزجج والمحفوظ بالمتحف البريطاني (65553 BM.C)، فعلى أحد جانبي الكسرة إفريز من الحيوانات الصحراوية، وقد صور ضمن مجموعة من الحيوانات البرية التي شملت الظبي والغزال والوعل واللبؤة والنعامة، وعلى الجانب الآخر صورة المعبود بس.

كما نُقشت صورة جمل على قطعة من الحجر من أحد التلال الأثرية بمركز منوف، ويصور مجموعة من الحيوانات حول زهرة متفتحة في الوسط، والحيوانات هي الفيل والحمار والظبي والغزال إضافة إلى الجمل، كما نلحظ أن صورة الجمل تتقدم على الحمار، فهل قصد الفنان التعبير بذلك عن ازدياد أهمية الجمل بحيث أصبح وسيلة النقل البرية الأساسية في هذا العصر؟

كما عُثر على جمجمة جمل في شمال بحيرة الفيوم عام ١٩٣٤م، وهي محفوظة في المتحف الجيولوجي بالقاهرة. وقد أكدت التحاليل الكربونية أن الجمل المستأنس قد عُرف في مصر في أوائل الألف الأول ق.م. على أقل تقدير.

العصر اليوناني والروماني

وعندما دخل الإسكندر الأكبر مصر عام ٣٣2 ق.م، يبدو أنه استخدم الجِمال في رحلته إلى واحة سيوة لزيارة معبد آمون. وازداد استخدام الجمال في عصر البطالمة في مصر، فقد استخدم الملك بطليموس الثاني (285- 247 ق.م) الجملَ لنقل البضائع على الطرق الصحراوية.

ونتيجة لما سبق ازداد ظهور الجمل في الفنون المصرية في العصر اليوناني والروماني ومنها تمثال بالمتحف البريطاني (رقم 37628) يصور جملًا يحمل على ظهره حمولة مكونة من ستة أوانٍ، ثلاثة على كل جانب. كما يوجد تمثال آخر بإحدى المجموعات الخاصة (Fouquet) يمثل جملًا يشبه في طريقة تشكيله التمثال السابق، وإن كانت ملامح وجهه أكثر وضوحًا، وحمولته عبارة عن سلتين ممتلئتين بالعنب.

وعُثر على تمثال من الفخار في منف، وهو محفوظ في متحف كلية الجامعة بلندن (UC 48026) يصور جملًا واقفًا، وتتطلع رأسه لأعلى ويحمل ستة أوانٍ، ثلاثة على كل جانب. ويوجد تمثال لجمل من الفخار المشكل من الطمي، عُثر عليه في منف ومؤرخ بالعصر الروماني، وهو محفوظ في متحف كلية الجامعة بلندن (48033 UC).

كما يوجد في مخزن المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية تمثال صغير من الفخار الأحمر لجمل عثر عليه في الفيوم، ويؤرخ بالعصر الروماني رقم (P 10778). ويزين العنق زخرفة دائرية بارزة ربما ترمز إلى عقال البعير. وعلى جانب مقعد تمثال لأحد الأفراد من عهد تيبريوس، نقش يصور جملًا يقدم الساقين البعيدتين خطوة للأمام. وقد عُثر على هذا التمثال في مدينة هابو، وهو محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة (CG 1191).

ويوجد على موقع متحف كلية الجامعة بلندن أيضًا قطعة من الجص عليها صورة جمل مصور في حالة حركة، وقد وفق الفنان في تشكيل العناصر التشريحية للجمل، ولا سيما الجزء العلوي من الساقين القريبتين من المشاهد. ويمكن القول: إن هذه الهيئة تُعد من أوضح صور الجمل التي وصلت إلينا من مصر من العصور التاريخية القديمة.

الخلاصة

كان من الممكن أن يلقي اكتشاف تماثيل للجمال التي تعود للأسرة الأولى وبداية الحضارة المصرية القديمة مزيدًا من الأضواء على تاريخ الجمل في مصر القديمة، لو كان قد حظي بمزيد من الاهتمام. ويجب أن نتذكر أن البقايا النباتية والحيوانية، منذ وقت ليس ببعيد، لم تكن تحتل مرتبة عالية من الاهتمام بين علماء الآثار، ومن ثَمّ لا أحد يمكنه أن يعرف كميات عظام الإبل والحيوانات الأخرى التي جرى التخلص منها من جانب المنقبين قبل أن تُدرَس على نحو صحيح، أو تلك التي قد اندثرت وتحطمت.

وعمومًا فقد دلّت الشواهد الأثرية على معرفة المصريين القدماء بالجمل منذ عصر ما قبل الأسرات، وليس معنى ذلك أنه كان معتادًا في وادي النيل في مصر، ولكن على الأقل كان مستخدمًا في عبور المناطق الصحراوية، وفي الأقطار المجاورة لمصر سواءٌ في جنوبها أو شمالها الشرقي. وأصبح الجمل مألوفًا على الأقل في أواخر العصر المتأخر مع استخدام الآشوريين والفرس له في اجتياز الصحراء بتجهيزاتهم العسكرية.

واستُخدم على نطاق واسع في العصر اليوناني والروماني مع ازدهار التجارة في العالم القديم، فأصبح الجمل الحيوان الرئيسي لنقل البضائع والسفر عبر الصحراوات في مناطق الجزيرة العربية والشرق الأدنى. ونتيجة لذلك شاع تمثيل الجمل في الفنون المختلفة في هذه المناطق، ومنها مصر بطبيعة الحال.


«سفينة الصحراء» في المخيال العربي

  

صبحي موسى صحافي مصري

«أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري» لم تكن هذه مجرد صورة أدبية وضعها المُنَخَّلُ اليشكُريُّ، ذلك الشاعر العربي القديم، في قصيدة له، لكنها كانت تعبيرًا صادقًا عن مدى ارتباط الإنسان العربي بذلك الحيوان الرائع؛ حتى إن أفعاله صارت انعكاسًا لأفعال صاحبه، بما فيها الحب لناقة الحبيبة. ولِمَ لا والبعير أو الجمل أو الإبل عامةً كانت رفيقة درب الإنسان العربي على مدار قرون طويلة، فهي سفينة إنقاذه، وجواز مروره في تلك الصحراء الكبرى الممتدة من المحيط إلى الخليج، ولا وسيلة انتقال له سواها، وهي ثروته ومحدد مكانته الاجتماعية، وأحد مظاهر كرمه وعطفه وغناه، وهي مهر حبيبته ومصدر رزقه، ومرشده ودليل سفره في البيداء والبرِّيَّة والفلاة؛ لذا كان طبيعيًّا أن يكون للجمل أكثر من مئة اسم، كل اسم منها يعبر عن مرحلة من عمره، وعن صفة من صفاته.

وكان طبيعيًّا ألّا يخلو حدث في حياة العرب من وجود الإبل فيها، بدءًا من الميلاد حتى الوفاة، فهي حاضرة في أمثالهم، وسيرهم الشعبية، وأيامهم التاريخية، وخطبهم المنبرية، وقصائدهم المعلَّقة، ومواقفهم الشهيرة، وحروبهم وأسواقهم وأفراحهم وأتراحهم. وكان طبيعيًّا أن يتوقف المستشرقون حين يأتون إلى الشرق أمام الإبل، وأن يكتبوا عنها في كتبهم؛ لأنها جزء أصيل من حياة العربي، حيث تمثل الإبل الموجودة في المنطقة العربية نحو 60 بالمئة من الإبل في العالم، وهي الإبل الأجمل والأشهر، وهي التي لا تخلو معلقة من وصف وذكر محاسنها؛ لذا قررت المملكة العربية السعودية أن تحتفي بهذا الشريك الحضاري للإنسان العربي على مدى تاريخه بتخصيص عام 2024 عامًا للإبل، وكان لـ«الفيصل» أن تشارك في هذا الاحتفال عبر رصدها لصورة الإبل في الثقافة العربية.

الإبل في جبال ظفار

محمد الشحري – روائي عماني

في ظفار تُدحض الفكرة المأخوذة عن الإبل والجِمال؛ إذ انطبعت صورة الجمل والصحراء كثنائي لا يفترقان، ولكن النوق في ظفار ترعى في أعالي الجبال، وتنتقل بين الأحراش ووسط الغابات. ولعل من الواجب التذكير بأن الطقس في ظفار جنوب سلطنة عُمان يختلف أيضًا عن بقية المواسم والمناخات في الوطن العربي. وإذا كانت الفصول المتعارف عليها في بعض المناطق مقسمة بين خريف وشتاء وربيع وصيف، فإن في ظفار يبدأ الخريف في نهاية شهر يونيو، وينتهي بنهاية أغسطس، وبعد الخريف يأتي الربيع الذي يسمى بالصرب في ظفار، وبعد الربيع يأتي الشتاء، ثم يلحقه الصيف، وقد شكلت هذه الدورة الفريدة من دورة المواسم طبيعة الأنشطة الاقتصادية والحياة الاجتماعية في ظفار. ونتيجة لذلك فقد وجدت الناقة مكانتها بين الممتلكات الثمينة التي يفتخر بها الإنسان في ظفار؛ إذ كانت ضرعًا حلوبًا وظهرًا مركوبًا، ومن النادر أن تُذبح الناقة إلا في الحالات الحرجة مثل: مرضها أو كسر في قوائمها.

وكان امتلاك النوق يحدد المكانة الاجتماعية للفرد والعائلة، كما ارتبطت النوق بتجارة اللبان؛ إذ تُحمل المادة المستخرجة من جذوع الأشجار إلى الموانئ والأسواق، ثم تسلك الإبل في قوافل نقل المنتج العُماني الثمين في طرق سُمّيت طرق القوافل التي تنطلق من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها.

الميثولوجيا والحياة الاجتماعية

نظرًا لمكانة النوق في الحياة الاجتماعية والثقافية في ظفار، فقد جعل منها المخيال الشعبي أشبه بأسطورة؛ إذ وردت في الميثولوجيا الشفهية المنطوقة باللغة الشحرية (إحدى اللغات العربية الجنوبية الحديثة في جنوب الجزيرة العربية) أن النوق كانت ملكًا لأهل الخفاء، ثم احتال عليهم أشقاؤهم الإنس وأخذوها منهم، وبعدها افترق الطرفان بعضهما عن بعض، ولذلك فقد ارتبطت الإبل دائمًا بعالم الجن وأهل الخفاء.

يغلب نشاط الرعي في جبال ظفار، فإضافة إلى النوق توجد الماعز والبقر، ولكن رعي الإبل يمنح الإنسان الحرية في الانتقال بين مناخات ومناطق لا تتوافر فيها المياه بشكل دائم، على عكس رعاة البقر الذين يستوطنون حول موارد المياه وتخومها، أما رعاة الإبل فيمكنهم الانتقال بين ثلاث مناطق جغرافية؛ في المناطق التي تسقط فيها الأمطار الموسمية، وفي مناطق النجد، والسهول المتاخمة للسواحل. ونتيجة لذلك فقد تأسست طقوس اجتماعية خاصة برعاة الإبل، مثل عادة «خطيل الإبل» ولفظة (الخطليت) القادمة من اللغة الشحرية، وتعني تسريح النوق في المراعي واختلاط قطعان الإبل واستئناس الرعاة بالموسم، تحت تأثير نشوة اللقاء وبهجة المشاركة في الرعي بعد شهور من تباعد الرعاة وتعذر التجمع.

إن الخطليت التي عرفتها في الطفولة لم يتبقَ منها شيء سوى تسريح النوق في المراعي، فمعظم المعاطن لم تعد معاطن بعدما استقر بها الإنسان، وحولتها الحداثة إلى قرى تحرسها إضاءة الأعمدة الكهربائية. وزاد عدد قطعان الإبل أضعافًا مضاعفة حتى أصبحت تشكل تحدّيًا للبيئة والغطاء الشجري على وجه التحديد، ثم جاءت القوى العاملة، من خارج البلاد، ومارست نشاط الرعي؛ بسبب انشغال الرعاة المحليين بأعمالهم ووظائفهم، وغابت وجوه مشاهير الرعاة، وطرقهم في الرعي والعناية بالنوق والبيئة معًا. كما انقطع جزء من المجتمع عن المشاركة في الخطيل بعد أن كان حضور الأسر، نساءً وأطفالًا، جزءًا لا يتجزأ من الفرحة والمتعة، متعة اللقاء ودموع الوداع. كنا في الطفولة نتمنى «الخطلة» مع أسر لديها أطفال لنستمتع مع أقراننا باللعب وتقاسم اللحظات الجميلة.

يتواصل اللقاء بين رعاة الإبل طوال اخضرار المراعي ووفرتها، وحين تُستهلك الأعشاب والمراعي يبتعد الرعاة بنوقهم من المعاطن التي تستقر بها الأسر، فتبدو المعاطن في المساء خاوية من الحركة والنشاط، عدا ممارسة الأطفال للعبهم في ساحة المعطن، وانبعاث الدخان من الأثافي المنصوبة عند الخيام. حين يتفارق الرعاة الذين يحضرون الموسم بكل أناقتهم وزهوهم وفرحتهم أرى دموعهم تنداح خلال لحاهم المخضبة بالبياض. مشهد لا يفارق الذاكرة أبدًا رؤية الكبار وهم يتوادعون ويبكون، كانت الحياة بسيطة إلى درجة أن تنقل الأسر من مكان إلى آخر مُيسر وسهل على الدوام، لا يحتاج إلى نقل أثاث أو غيرها.

في الوقت الراهن

لا أبالغ إنْ قلت: إنّ النوق في جبال ظفار قد حجزت مكانة لها عند ملاكها إلى درجة ارتباطها بالموروث العائلي، أو ربما تُشكل جزءًا من ذاكرة الرعاة، إذ يعتني بها أصحابها عناية كبيرة سواء من ناحية الإنفاق المادي على أعلافها وقضاء أوقات كبيرة معها. وعلى الرغم من ظروف الحياة وشؤونها وشجونها، فإن إصرار مُلاك الإبل التقليديين ما زال قائمًا على التمسك بنوقهم وبالعادات الثقافية المرتبطة بها.

الإبل بطلة أعمالي

فتحي إمبابي – روائي مصري

تمتد علاقتي بالإبل إلى زمن الطفولة عندما عدنا من القاهرة إلى مسقط رأس العائلة في قريتنا بالمنوفية. كان مشهد الحقول والدواب من حمير وجاموس وجِمال وخيول كبيرًا في عيون طفل صغير، كان نقل الحطب والذرة وأكياس القطن الضخمة وجوالات القمح بعد الحصاد إلى الشون، ونقل السباخ من الحظائر إلى الحقول مهمة ملقاة على الجِمال. وكان الفلاح يسير خلف الجمال حاملًا خيزرانة طويلة، وعندما غنت السيدة أم كلثوم أغنية «أنت عمري» التي لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب، انتشرت انتشارًا ساحقًا بين الفلاحين وأضيف إلى مشهد الجِمال الساحر والفلاح حاملًا عصا الخيزران، جهاز الراديو الترانزستور على ظهر الإبل وصوت أم كلثوم يصدح في سماء الحقول تغني، فقط الأغاني التي لحنها عبدالوهاب لفرط بساطتها.

شرف الله

لكن المشهد الكرنفالي والاحتفال بقوافل الجِمال كان يبزغ خلال المواسم التي تعقب الحصاد أو جني القطن أو جمع محصول الذرة، حيث تنتشر الأعراس وتحمل الهوادج العذارى على ظهور الجِمال، وتبدأ عودة مواسم الاحتفالات بالموالد الشعبية والدينية، فتخرج قوافل الجِمال وتغادر القرى وعلى ظهورها الأطفال والنساء والفتيات والشباب والرجال والعجائز في ملابسهن الملونة الزاهية في الطريق إلى موالد سيدي إبراهيم الدسوقي في مدينة دسوق، أو سيدي أحمد البدوي في مدينة طنطا بشمال الدلتا، حيث سماع القصص الشعبية وحلقات الذكر والسيرك والأفراح والغوازي، وكل ما يمكن أن يتحصل عليه الفلاح وأسرته من متعة تضمن زيارة أولياء الله الصالحين، الذين يُلجأ إليهم لشكاية أو مظلمة أو زواج عانس أو رد مطلقة أو إنجاب عاقر، وبعدها تنحر الذبائح والنذور. في هذا العالم الشعبي الخصب كتبت واحدة من أهم رواياتي وهي «شرف الله»، التي تحكي عن رحلة قرية على ظهور الجِمال إلى مدينة دسوق لحضور مولد سيدي إبراهيم الدسوقي.

رقص الإبل

«رقص الإبل» هي الرواية الثالثة من ملحمة «خماسية النهر»، وتدور أحداثها عن الحروب التي دارت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في السودان بين القوات الحكومية المصرية والحركة المهدية بقيادة عبدالله المهدي، وخليط واسع من القبائل السودانية من الإبالة أو رعاة الإبل، والبقارة «رعاة البقر». وتبدأ بقصة عشق بين صبي يدعي «التلب» وابنة عمه «مسك الجنة»، وهما من عشيرة تعيش على تخوم مدينة «النهود» غرب مديرية كردفان، ثم يخوض الصبي أولى مغامراته مع إخوته الكبار وهم يبيعون قطيع العشيرة من الإبل والماعز الذي يسمى بالحمر، ويستبدلون ببعضها على تخوم مديرية بحر الغزال قافلة من الرقيق. يسرع الإخوة على ظهور الإبل بالتسلل عائدين إلى أرض النهود، لكن على الحدود يصطدمون بوحدة للدرك تابعة للحكومة.

جرت معركة أنقذ فيها التلب أحد إخوته من الموت، بعدها يطلب الإخوةُ منه أن يقود بقيةَ القافلة وأخاهم المصابَ إلى أرض العشيرة. فدخل مضاربها وهو منهار من ثقل المسؤولية، ولم يفهم أزمته سوى مسك الجنة. سارا معًا على ظهر الناقة إلى جوف شجرة التبلدي التي يصل قطرها عشرين مترًا، وتستخدمها العشيرة خزانًا لحفظ مياه المطر، وفي الصباح استيقظ التلب وهو يتوسد فخذ الصبية التي أصبحت عشقه الأبدي. في العام التالي يزوج الجد مسك الجنة قهرا لابن قاضي مدينة الأبيض، مقابل ضم أراضي «القوز» للعشيرة، وسرعان ما تزوج العشيرة «التلب» لابنة خاله «ست النفر» وهي طفلة لم تبلغ الحيض. فتركها ليلة عرسها ورحل بحثا عن «مسك الجنة». وفي مدينة الأبيض يلتقي الدرويشَ الذي كان يستعد للإعلان عن كونه المهدي المنتظر، والذي يرسل إلى أنحاء السودان داعيًا القبائل للحاق به في قتال القوات الحكومية المصرية من أجل نشر صحيح الدين. يرحل التلب على ظهر ناقته من مضارب عشيرته بأرض النهود ليلتحق بالثورة التي اشتعلت في ربوع السودان، وكان القتال يدور على ظهور الإبل، حيث كان راكبوها يقاتلون بالرماح والسيوف، وراكبو الخيل من حملة البنادق التي استولوا عليها من الجيش المصري. وما إن انتهت المعركة حتى انطلق التلب بحثًا عن حبيبته، وعندما وجدها تخفت في زي صبي، وامتطت ظهر ناقته، وأسرعا بالهرب إلى دار زوجته في بركة الرهد. وكان زوج «مسك الجنة» هو أحد قادة المهدي، فأطلق فرقة من مطاردي العبيد الآبقين للقبض عليهما. في الرهد استقبلتهما زوجته ست النفر وأعطت لهما ناقة محملة بالزاد، فشكرها التلب ومسك الجنة، ثم انطلقا من جديد هاربين إلى أرض عشيرته في النهود.

الإبل في الثقافة الشعبية

هشام عبدالعزيز – باحث مصري

تحظى الإبل والأحصنة في البيئة العربية باهتمام بالغ، سواء في ذلك بواديها أو حواضرها، وإن كان الاهتمام بهذين الحيوانين في البوادي أكثر منه في الحواضر. ويصل هذا الاهتمام في بعض الأحيان إلى درجه أنسنتهما. وليس ببعيد مما نقول تلك الصور البلاغية النادرة التي يرسمها الشعر العربي للإبل والأحصنة، وإن كان الاهتمام بالإبل أكثر، وبخاصة في الحواضر والأرياف.

وقد وصل الاهتمام بالإبل إلى درجة تعددت معها أسماؤها في المعجم العربي وفي الثقافة العربية، فهي الإبل والنوق والبكور. بل إن كل مرحلة من مراحل عمر الناقة تأخذ صفة تحل محل الاسم أحيانًا، فهي الفصلان جمع الفصيل، وهو كل وليد فُصِلَ عن أُمّه بعد فطامه، ولا يكثر إطلاق هذا الاسم إلا على الإبل. وهي النجائب جمع نجيبة، وغيرها من الصفات/ الأسماء.

كما أن العربي لم يجد غضاضة في أن يسمي أبناءه وبناته بأسماء تتصل بعالم الإبل؛ فهند وهو اسم من أسماء النساء والرجال عند العرب، وإن غلب على النساء، يطلق هند على الجماعة من الإِبل يزيد عددُها على مئة، ويقلّ عن مئتين.

الإبل في الأمثال

كما تشهد الثقافة الشعبية العربية كثيرًا من التعبيرات والأمثال الشعبية والعادات والمعتقدات التي تتصل بعالم الإبل من قريب أو من بعيد. والجِمال في الثقافة الشعبية العربية تشير إلى الصبر، وكثيرًا ما عبر المصريون عن عموم الشعب بالجِمال وعن قائدهم بالجمّال. ومن مطالع مواويلهم الشهيرة: «أنا جمل صلب لكن علتي الجمَّال»، ومن التعبيرات الشعبية الشائعة في الثقافة المصرية والعربية تعبير «يضرب أخماس في أسداس». وهو المثل الذي تعرض له ابن أبي السرور البكري في معجمه: «القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب»؛ إذ أشار إلى أن هذا المثل يعني أن أحدهم يدبر مكيدة لآخر، وهو المثل الذي نتداوله اليوم إشارة إلى شدة الحيرة، غير أن هذا المثل الشعبي يرتبط بعالم الإبل في البادية العربية قديمًا، حيث يشير إلى استعداد العربي للسفر، فيقوم بتعطيش ناقته خمسة أيام ثم يسقيها، ثم يعطشها ستة أيام ثم يسقيها، حتى يصل إلى هدفين: الأول تدريب ناقته (سفينة الصحراء) على تحمل العطش. والثاني هو إجبارها على تناول كمية كبيرة من المياه وتخزينها في جوفها، حتى إذا ما احتاج إلى ماء في الصحراء يمكنه أن يذبح ناقته، ويأكل لحمها ويشرب مما خزنته في جوفها من ماء.

منتجات تتصل بالإبل

كما عرفت الثقافة المادية الشعبية المصرية والعربية عددًا من المنتجات التي تتصل بالإبل، مثل: الهودج، والتختروان، والشقدف والمحني، وكلها أشياء توضع على ظهر الإبل في حالات محددة، وبخاصة العُرس. وقد ورد ذكر بعض هذه الملامح المادية الشعبية في «معجم التحفة الوفائية في العامية المصرية» الذي حققتُه، وقد نشرته مكتبة الإسكندرية عام 2016م.

ومما جاء في المعجم عن التختروان أنه «اسم للمَحَفَّة التي يحملونها على الجمال، وينقلون فيها العروس من بلد لآخر، وتستعمل كثيرًا في طريق الحجاز لمن يقصدون الحج، وهي كثيرة الاستعمال عند العرب. وتسمى أيضًا عند الفلاحين «الْحمْل الْمغَطّي». أما «الشُّقْدُف» فهو محفّة أصغر من «التختروان». و«الْمَحْنِي» محفة صغيرة أيضًا. فأما «التختروان» و«الحمل المغطي» فيُحمل كل منهما على جملين معًا، وأما «الشُّقْدُف» و«الْمَحْنِي» فيحمل كل منهما على جمل واحد. و«التختروان» أشبه بالسرير، ينصب على خُشُب يُوضع بعضها إلى جانب بعض، ثم يحمل على جملين معًا، ثم يُزَيَّنُ ظاهره بأنواع من النقوش الجميلة. ومن الناس من يتخذه من حرير، ومنهم من يتخذه من ناعم الصوف، وإلى غير ذلك، فكل على قدر طاقته. ومن ينقل فيه العروس من بلد لآخر هم أغنياء البلاد وذوو اليسار. أما الفقراء فيستعملون لنقلها «الشقدف» أو «المَحْنِي»، وهما متشابهان، إلا أن «الشقدف» لا يُزيَّن بزينة، بل هو عبارة عن أقمشة من صوف خالية من الزينة تنصب على خَشب يحمل على جمل واحد، وهو مربع الجوانب كالسرير، بخلاف «المحني» فإنه يزين من ظاهره وينصب على جريد النخل، ويكون ضيقًا من أعلاه واسعًا من أسفله على شكل رأس السكر. وتبدو أطراف الجريد من أعلاه خضراء تتمايل كالغصون، وأسفله خُشُب موضوع بعضها إلى جانب بعض. ويتخذ من حرير ومن صوف على مقدار غنى الشخص ويساره».

ملامح فنية

ومن أهم الملامح الفنية المرتبطة بعالم الإبل الحُدَاء. والحادي في الثقافة الشعبية العربية معروف، غير أن الثقافة الشعبية المصرية تحدثنا أيضًا عن «الحادية»، وهي المرأة التي تؤدي ما يؤديه الحادي نفسه. وقد ورد في عامية القرن التاسع عشر، على ما جاء في «معجم التحفة الوفائية»، أن الحَدْوَ هو أن تردد واحدة من البنات اللاتي يغنين أغنية ما، ثم تجاوبها بقية البنات على ترديدها، وذلك وقت أن يكنَّ مشتغلات بعمل من الأعمال، وهذا يقع منهن تسلية عن تحمل مشاق العمل. وكذلك الشغالون من الذكور يغنون وقت الشغل، وواحد منهم يردد الغناء، فهذا الترديد يسمى: «حَدْو»، فيقولون: «فلان بِيحدِي»، أي: يردد وحده الغناء، والباقون يجاوبونه على ترديده. و«فلانة بِتِحْدِي». ولا يقولون اسم الفاعل «حادي» أو «حادية». وقد جاء في معاجم اللغة الفصيحة: «حادي»: مَنْ يَسُوق الإبل. قال ابن الفارض: خَفِّفِ السَّيْرَ واتَّئدْ يا حَادِي *** إنما أنْت سَائقٌ بِفؤادِي.

الإبل في التراث العربي

محمد تحريشي – باحث جزائري

الإبل، هذه المخلوقات الجميلة التي رافقت الإنسان في حِلّه وترحاله، كانت ولا تزال رمزًا من رموز علاقة الإنسان بالحيوان في كل الشرائع البشرية؛ وهو ما جعلها تحظى بالعناية والاهتمام لكونها أيقونة من أيقونات البيئة والطبيعة والثقافة والتراث والأصالة. ومنها كان المركب والمأكل، وكانت هي سفينة الصحراء من دون منازع، ومنها اشتقت أسماء بعض وسائل النقل، فهي السيارة، وهي القافلة، وهي القطار.

حظيت الإبل بمكانة خاصة في القرآن الكريم، ودعانا الله إلى التفكر في هذا الخلق. يقول تعالى: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) » (الغاشية: 17- 20). قال الزمخشري في «الكشاف»: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ نظر اعتبار كَيْفَ خُلِقَتْ خلقًا عجيبًا، دالًّا على تقدير مقدر، شاهدًا بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة(١)، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها: لا تعاز ضعيفًا ولا تمانع صغيرًا، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار…» وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِه: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ»؟ فَإِنَّهَا خَلق عَجِيبٌ، وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَلِينُ لِلْحَمْلِ الثَّقِيلِ، وَتَنْقَادُ لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، وَتُؤْكَلُ، وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا. وَنُبِّهُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ…». هذا وقد ذكرت الإبل في مواضع أخرى من القرآن الكريم لا يسعنا الوقوف عندها هاهنا.

أشهر الإبل

احتفظ التراث بأسماء بعض الإبل لشهرتها ولقيمتها المرتبطة بأحداث مهمة في تاريخ البشرية؛ منها: ناقة الله لثمود قوم صالح؛ الذين طلبوا منه آية على صدق دعواه عبارة عن ناقة عشراء تتمخض من صخرة، فاستجاب الله لهم، وكانت تَرِدُ يومًا وهم يَرِدُونَ في يوم آخر، ثم إنهم عقروها فكان هذا سبب وقوع العذاب عليهم. ناقة البسوس: والبسوس امرأة استجارت بجساس بن مرة، وحين رأى ناقتها «كليب بن ربيعة» ترعى في حماه قتل فصيلها، فثارت الحرب بسببها بين قبيلتي بكر وتغلب أربعين عامًا. وعُرفت بحرب البسوس التي انتهت بصلح. ناقة رسول الله القصواء: وهي التي هاجر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال للأنصار حين استقبلوه: «دَعُوها فإنها مأمورةٌ».

من أخبار الإبل

حظيت الإبل بمكانة خاصة في كتب الأدب والمعاجم وفي رسائل الحيوان التي شكلت نواة المعاجم العربية، وقد اهتم رواة الأخبار بالإبل، فرصدوا ما قيل فيها من أشعار وأقوال مأثورة ومن حكم وأمثال، حتى إن ذكرهم امتزج بذكرها. قال المثقب العبدي:

تَقولُ إِذا دَرَأتُ لَها وَضيني

أَهَذا دِينُهُ أَبَدًا وَديني

أَكُلُّ الدَّهْرِ حَلٌّ وَارتِحالٌ

أَما يُبقي عَلَيَّ وَما يَقيني

فجعل الناقة تشتكي من كثر سفره وألبس عليها لباس البشر، فهي تحس وتشعر وتضجر وتشتكي. وأما امرؤ القيس فقد ضحّى بناقته من أجل إسعاد تلك العذارى في يوم الغدير، والقصة مشهورة:

وَيَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطيّتِي

فيا عجبًا من كورِها الْمُتَحَمَّلِ

فظلَّ العذارى يرْتَمينَ بلحمها

وشحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ الْمُفَتَّلِ.

وتوقف الجاحظ كثيرًا عند الإبل، فأشار إلى شيء من طباعها، وعاداتها، وأشكالها، وحالاتها في كتابه «الحيوان».

الإبل في الأمثال

كثرت الأمثال عن الإبل عند العرب، التي تعتصر تجربة الإنسان مع هذا الحيوان، فعرف طباعها وأشكالها وصفاتها وقدرتها على الصبر، وفي حالات نبهت إلى أن الجمل يكون حقودًا إنْ هو تلقى معاملة قاسية، وقد يقوده حقدُه هذا إلى قتلِ مَنْ تَسبّبَ في إيذائه. كما أن العرب تعرف كيف تعامل هذه الإبل بما يضمن هذه العلاقة الخاصة، فإذا لم يتقن أحد عملًا، أو لم يعرف كيف يقوم به قِيل له ما قال الشاعر مالك:

أَوْرَدَها سعدٌ وسعدٌ مُشتمِل

ما هكذا يا سعدُ تُورَدُ الإبل

والبيت يشير إلى أن سعدًا أورد الإبل ماء لا تصل إليه بالاستقاء، ثم اشتمل ونام وتركها، ولم يستقِ لها، أي يرفع لها الماء لتشرب، فصار البيت مثلًا لمن لا يجيد القيام بمهمته كما يجب. ومن الأمثال قول العرب: «لا ناقةَ لي فيها ولا جَمَل»، ويضرب لمن يطلب منه الاشتراك في أمر لا يهمه، أو عند التبرؤ من الظلم والإساءة. ومنها أيضًا قولهم: «إبلي لم أَبِعْ ولم أَهَبْ»، أي لم أبعها ولم أهبها. ويضرب للظالم يخاصمك فيما لا حقَّ له فيه.

صورة الإبل لدى المستشرقين

مفيد الزيدي – باحث عراقي

هناك علاقة بين الدراسات الاستشراقية في المنطقة العربية وحياة ودور الإبل فيها، فلا يمكن أن تجد دراسات لمستشرقين إلا وكانت الإبل محورًا فيها، أو صورة أو لوحة فنية لها؛ لذلك ندرس في هذه المقالة صورة الإبل في نظر المستشرقين الغربيين.

إن نظرة المستشرقين في الغرب تجاه الإبل في الجزيرة العربية، كانت محور اهتمام العديد منهم، فقد تناولوا موضوعاتها بطرق تعكس تصوراتهم عن الثقافة العربية، والرؤى المتنوعة عن الإبل وعدّها رمزًا لهذه الثقافة، نظرًا لقدرة الإبل على التكيف مع بيئة الصحراء، وعدّها رمزًا للثروة والمكانة الاجتماعية لدى القبائل البدوية. ولاحظ المستشرقون أهمية الإبل كوسيلة نقل في الصحراء ودورها في الرحلات الطويلة، وهم الذين تنقلوا أو عاشوا في الجزيرة العربية لسنوات وعقود طويلة، وأدركوا أن الإبل جزء أساسي من حياة البدو. وبذلك فإن المستشرقين الذين درسوا المنطقة قدّموا الرؤى تجاه الإبل؛ نظرًا لدورها في الحياة البدوية والثقافة العربية، وأبرزوا أهمية الإبل كجزء من الاقتصاد البدوي، بوصفها مصدرًا رئيسًا للغذاء كالحليب واللحم، ووسيلة للتنقل في الصحارى الواسعة، وسلعة قيّمة للتجارة، ولاحظوا دور الإبل في النسيج الاجتماعي للقبائل البدوية، فامتلاكه كان بمنزلة الرمز للثروة والمكانة.

وأشار المستشرقون إلى تكيف الإبل مع البيئة القاسية في الجزيرة العربية، وقدرتها على البقاء من دون ماء وتحمل درجات الحرارة العالية، ودرسوا كيفية تربيتها واستخدامها في الرحلات الطويلة عبر الصحراء، والمعرفة التي يمتلكها البدو في رعايتها وتربيتها، وشاهدوا استخدامها في المناسبات الثقافية والدينية، كالحج، حيث كانت الإبل وسيلة النقل التقليدية للحجاج، ودرسوا تكيف المجتمعات البدوية مع التحولات في الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالإبل، وقدّموا رؤية شاملة عن أهميتها في الحياة البدوية في الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، مع مزيج من الاحترام والإعجاب بالإبل. («لوحات المستشرقين ومكنونها في الشرق العربي، الاستشراق يظل إرثًا ثقافيًّا كان له دور في فهم العلاقات بين العالميْنِ الغربي والشرقي»، 2023/04/04،https://www.middle-east-online.com/%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%A7%D8%AA-).

التاريخ الثقافي

كما اهتمت دراسات المستشرقين بالتاريخ الثقافي للإبل؛ وأبرزت حضوره في النتاج الأدبي والفني لأشهر الأدباء والفنانين الغربيين، وتداخله في الموروث الشعبي للمجتمعات العربية. ومثال ذلك: أصدرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض كتابًا بعنوان: «شمال نجد: يوميات رحلة استكشافية على ظهور الإبل»، من تأليف ألويس موسيل (1868-1944م)، وصدر أيضًا كتاب بعنوان: »الجمل: التاريخ الطبيعي والثقافي، للكاتب روبرت إيروين، وقد صدر بالإنجليزية في لندن عام 2010م.

وعلى هذا الأساس أصبحت السردية الاستشراقية عن الإبل مرجعًا للدراسات التاريخية المعاصرة عن الثقافة البدوية العربية، وعن طبيعة المجتمع البدوي في الجزيرة العربية على وجه العموم.


هوامش:

(1) باقر، طه، علاقات بلاد الرافدين بجزيرة العرب، مجلة سومر، الجزء الثاني -المجلد الخامس، 1949، ص 126.

(2) Labat R, Ibid, No.459, p.205.

(3) خالد الأعظمي، مصدر سابق، ص 179-185.

(4) The Assyrian Dictionary of the Oriental Institute of the University of Chicago, Chicago, 1956ff, vol. A, p.212, (= CAD).

(5) CAD, Ibid, A, p. 239.

(6) Lukenbill D D, Ancient Records of Assyria and Babylonia Volume 2: Historical Records of Assyria from Sargon to the End, Chicago, 1927, (=ARAB,) vol.2, par.1083-1084, p.400.

(7) Julian Reade, Assyrian Illustrations of Arabs, in: Phillips C.S, Polls D.T and Searight S, 1st edition, Brvpols, 1998, p.226, fig.6.

(8) Labat R, op.cit, no.208, p.119.

وللمزيد حول الإبل ودورها في النقل، ينظر: قصي منصور عبدالكريم التركي، التجارة البحرية بين العراق والخليج العربي خلال الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح، رسالة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة تونس، 2003-2004م، ص257.

(9) Labat R, op.cit, no.208, p.119.

(10) Black J and Others, A Concise Dictionary of Akkadian, (=CDA) Wiesbaden, 1999, p.1.

(11) المواقع التراثية في منطقة الجوف، سلسلة المواقع التراثية في المملكة العربية السعودية، هيئة التراث السعودية،2023م، ص 6.

(12) قصي منصور التركي، مصدر سابق، ص125.

(13) رضا جواد الهاشمي، آثار الخليج العربي والجزيرة العربية، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1984م، ص279.

(14) رضا جواد الهاشمي، آثار الخليج العربي والجزيرة العربية، (بغداد، مطبعة جامعة بغداد، 1984)، ص279.

(15) Grayson A Kirk (1996), Assyrian Rulers of the Early First Millennium BC II (858-745). RIMA 3, in: The Royal Inscriptions of Mesopotamia Assyrian Periods, vol.3, University of Toronto, p.23.

(16) Hoftijzer J and K.Jongeling, Dictionary of the North-West Semitic Inscriptions, Leiden. New York. Köln, 1995, p. 226.

(17) Payne Smith, Syriac English Dictionary, Oxford, 1979, p.72.

(18) سليمان الذييب، المعجم النبطي، الرياض، 2000م، ص63-64.

(19) Brown F and other, op.cit ,p. 129.

(20) هاشم الطعان، مساهمة العرب في دراسة اللغات السامية، الموسوعة الصغيرة 19، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1978م، ص 59.

(21) أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، المجلد الأول، ط1، دار صادر، بيروت، 1997م، ص178.

(22) Labat R, Manuel D’épigraphie Akkadienne, société Nouvelle librairie orientaliste, Paris 2002, no.168, p.109.

(23) Labat R, op.cit, no.374, p.171.

(24) ibid.

(25) Hoffman, M., Egypt Before The Pharaohs, New York 1979, p.68 ; Wendorf, F., The Prehistory of the Egyptian Sahara, Science 193, 1976, p.106.

(26) Menghin and M. Amer, The Excavations of the Egyptian University in the Neolithic Site at Maadi, (Cairo, I932), 33, pl. 20. I37.

(27) Rizkana , I. and Seeher , J., Maadi III : The Non-Lithic Small Finds and the Structural Remains of the Predynastic Settlement , Mainz am Rhein 1989 , pp.11-12 , pl. I: 3,5.

(28) Michael Ripinsky, The Camel in Dynastic Egypt, JEA, Vol. 71 (1985), p.135.

(29) Scharff, A., Die Altertümer der Vor-und Frühzeit Aegyptens II,Berlin 1931, p. 71, pl.21:103.

(30) MӒller , G., Ausgrabung der Deutschen Orient – Gesellschaft auf dem Vorgeschichtlichen Friedhofe bei Abusir-el-Meleq im Sommer , 1905 , MDOG 30 , 1906 , 17.

(31) Petrie ,F., Abydos II , p.27 , 49 , pl.10.

(32) Quibell , J.E. and Green , F.W., Hierakonpolis II , p.49 , pl. 62, fig.2.

(33) G. Moller, ‘Ausgrabung der Deutschen Orient-Gesellschaft auf dem vorgeschichtlichen Friedhofe bei Abusir-el-Meleq im Sommer, 1905’, MDOG 30 (1906), 17.

(34) Saad,Z., Royal Excavation at Helwan (1945- 1947), in: Supplement aux ASAE, Cahier 14, Le Caire 1951, p.38, pl. XLVIII a-b.

(35) Child, V.G., What Happened in history, London 1942,p.65f.; Emery, W.B., Archaic Egypt, Baltimore 1961, p.240.

(36) حسني عمار، المرجع السابق، ص 127.

(37) E. A. W. Budge, The Mummy. A Handbook of Egyptian Funerary Archaeology, 2nd ed. (Cambridge, 1925), 388.

(38) V. G. Childe, What Happened in History (London, I142), 65-6; W. B. Emery, Archaic Egypt (Baltimore, I96I), 240.

(39) Dunbar, J.H., Rock Pictures of Lower Nubia, Cairo 1941, p.49, pl.14, fig.64.

(40) Schweinfurth, G., Über alte Tierbilder und Felsinscriften bei Assuan, Zeitschrift für Ethnologie 44, 1912, p.633.

(41) Caton-Thompson , G. and Gardiner , E.W., The Desert Fayum,Bedford 1934, p.123 , no.191.

(42) سمير أديب، موسوعة مصر القديمة، ج 6 ، الحضارة، القاهرة، 2020، ص 249.

(43) Montet, P., Byblos et l΄Égypte I, Paris 1928, p.91, pl.52:179.

(44) Little, O.H., Recent Geological Work in the Faiyum and the Adjoining Portion of the Nile Valley, Bulletin de l’Institut d’ Égypte 18, 1935-6, p.215.

(45) صالح، عبدالعزيز، شبه الجزيرة العربية في المصادر المصرية، مجلة عالم الفكر، المجلد. الخامس عشر، العدد الأول ص ٣٠٢.

(46) Free, J., Abraham’s Camels, JNES 3, 1944, p.188f.

(47) Bisson de la Roque, M.F., Raport sur les Fouilles de Médamoud, FIFAo 7, 1929, p.56.

(48) Petrie, F., Gizeh and Rifeh, London 1907, p.23, pl.27.

(49) Mariette, A., Abydos II, pl.40; Von Bissing, F.W., Zur Geschichte des Kamels, p.68.

(50) Petrie, F., Ten Years digging, London 1892, p.75.

(51) حسني عمار، المرجع السابق، ص 132.

(52) Shaw, I. and Nicholson, P., British Museum Dictionary of Ancient Egypt, The American University in Cairo 1995, p.59.

(53) A General Introductory Guide to the Egyptian Collections in the British Museum, London1971, p.200.

(54) Daressy, G., A Travers les Koms du Delta, ASAE 12, 1912, fig.9.

(55) حسني عمار، المرجع السابق، ص 133.

(56) Murray, G.W., Early Camels in Egypt, p.105.

(57) Janssen, R. and Janssen, J., Egyptian Household Animals, Shire Publications, Aylesbury, London (1989); Journal of Archaeological Science, Volume 32, Issue 3, March 2005, Pages 451-463.

(58) Epstein, H., The Origin of the Domestic Animals of Africa, Vol.2, London 1971, p.566.

(59) Saber, A.S., The Camel in Ancient Egypt, Proceedings of the Third Annual Meeting for Animal Production Under Arid Conditions, Vol. I, 1998, 208-215.

(60) قادوس، عزت، فنون الإسكندرية القديمة، الإسكندرية ٢٠٠١ ، ص170 – 171، شكل 24.

(61) Rostovtzeff, M., The Social and Economic History of The Roman Empire I, Oxford 1957, pl.53:4.

(62) Ibid., pl.53:3.

(63) http://www.digitalegypt.ucl.ac.uk/ostraka/uc62835.html

(64) http://www.digitalegypt.ucl.ac.uk/ostraka/uc62835.html

(65) achtergael,G.,Le chameau,l’âne et le mulet en Égypte gréco-romaine,Cd’É 64,1989,294nº 13.

(66) Borchardt , Statuen und Statuetten, CG 1191.

(67) http://www.digitalegypt.ucl.ac.uk/ostraka/uc62835.html

(68) حسني عمار، المرجع السابق، ص 136 – 138.

  Michael Ripinsky, The Camel in Dynastic Egypt, JEA, Vol. 71 (1985), p.141.
  A. S. Saber, The Camel in Ancient Egypt, Proceedings of the Third Annual Meeting for Animal Production Under Arid Conditions, 1998 United Arab Emirates University ,Vol. 1: 208-215.