الفيصل | مارس 1, 2025 | جوائز
يوضح الدكتور سعد الراشد أن تأسيس قسم للآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود كان نقطة التحول في دراسة النقوش الإسلامية، فقد أسهم القسم في تخريج أجيال من الباحثين الذين باتوا اليوم مرجعًا في هذا المجال. وفي عصر التطور التقني، يؤكد الراشد أن تحليل الصور والمسح ثلاثي الأبعاد أتاح قراءة حداثية للنقوش، مما كشف تفاصيل كانت خفية لعقود، مشددًا على ضرورة مواكبة التطورات التقنية لضمان دقة التوثيق والتفسير.
الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد، الذي حاز جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية مناصفة، يعد أحد أبرز رواد البحث في هذا الحقل، الذين كرسوا حياتهم العلمية لفك رموز النصوص المنقوشة على دروب القوافل، وواجهات المساجد، وشواهد القبور؛ ليعيد تشكيل سردية التاريخ الإسلامي بعيدًا من الروايات المنقولة وحدها، مؤكدًا أن النقوش الإسلامية ليست مجرد كتابات، بل وثائق حيةٌ تعكس تطور الفكر الإسلامي والهوية الثقافية للمنطقة. وبينما يواصل مشروعه العلمي الممتد، يطرح تساؤلًا جوهريًّا: «إلى أي مدى يمكن للنقوش أن تعيد صياغة قراءتنا للتاريخ المبكر للإسلام، بعيدًا من الروايات النصية التقليدية؟».
هذا الحوار مع «الفيصل»، يسلط الضوء على رؤى جديدة، واستنتاجاتٍ ستسهم في إثراء الدراسات الإسلامية من منظورٍ أثري متجدد.
كالنقش في الحجر
● في البداية؛ نبارك لكم حصولكم على جائزة الملك فيصل في فرع الدراسات الإسلامية، وموضوعها «الدراسات التي تناولت آثار الجزيرة العربية»، وذلك عن مجمل أعمالكم العلمية؛ «لأنها تعدّ أساسًا مهمًّا في دراسات الآثار والنقوش الإسلامية في الجزيرة العربية»، فكيف يمكن لهذه النقوش أن تُعيد بناء سردية متكاملة عن الحياة الاجتماعية والدينية في العصور الإسلامية المبكرة؟
■ تعلمنا في الصغر مقولة يرددها أساتذتنا على مسامعنا وهي أن «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، ولم نكن نعي أبعاد وأهمية هذه المقولة، حتى استدللنا عليها من باب دراساتنا للتاريخ الحضاري والآثار والفنون. وقد ظهرت هذه التسمية، بشكل جلي، في المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية المبكرة، بدءًا من عصر الخلافة الراشدة وفي عهود الخلافة الأموية والعباسية. وتنامى هذا الاهتمام من قبل المؤرخين المسلمين، وبخاصة من أرخ لمكة المكرمة، والمدينة المنورة والحرمين الشريفين. وقد كان الشعراء والمؤرخون العرب القدماء على بَيّنةٍ بأن (الحجر) مادة للكتابة، وكانوا يعوون أهمية النصوص المنقوشة على الحجر، ويستشهدون بها وبمضامينها، في مواضع متعددة. ومن الأقوال المأثورة في كتب الحديث والأدب والتاريخ قولهم: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، ومما يروى شعرًا عن علي بن أبي طالب قوله:
حَـرِّضْ بَـنِيكَ عـلى الآداب في الصِّغَــر
كيما تَـقَـرَّ بهِــمْ عـينـــــاك في الكِـبَـــــر
وإنَّـمــا مَـــثَـــل الآداب تَجـْـــمَــعُـــهـــــا
في عُـنْفـوانِ الصِّبا كالنَّقْشِ في الحـَجــَرِ
ويروى عن أبي عبيدالله نفطويه (244 ــ 323هـ) قوله:
وَلَوْ فُلِقَ الْقَلْبُ الْمُعَلَّمُ فِي الصِّبَا
لَأُلْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرْ
نجد إشارات للنصوص التذكارية المنقوشة على واجهات المساجد، والمباني والدور، والمنشآت المعمارية على طرق التجارة والحج، وكذلك النصوص الكتابية المنقوشة على الأحجار الشاهدية (شواهد القبور). وتنامى هذا الاهتمام من قبل المؤرخين المسلمين، وبخاصة من أرخ لمكة المكرمة، والمدينة المنورة والحرمين الشريفين. وبرز منهم مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي (775-832هـ/1373-1429م)، في كتابه: «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين»، ومعاصره جمال الدين محمد بن علي العبدري الشيبي (ت سنة 837هـ، أو 827هـ) في كتابه: «الشرف الأعلى في ذكر قبور مقبرة باب المعلا». ويُعدُ كتاب «العِقْد الثمين في تاريخ البلد الأمين»، مرجعًا مهمًّا لتراجم أعلام أهل مكة، ومن سكنها من الرواة والعلماء والفقهاء والولاة والأعيان وغيرهم، على مدى ثمانية قرون، ومنهم منْ مات بها. وقد استفاد الفاسي ممن صنف قبله من المؤرخين، ومما تلقاه من الأخبار عن الثقات، وما شاهده مُسَجَّلًا على الرُّخَام والأحجار والأخشاب وغير ذلك. وتضمن كتابه النفيس الكثير من المعلومات والفوائد المتعلقة بمكة المكرمة وتاريخها، وتاريخ الحرم والكعبة المشرفة وعمارتها، والأماكن المباركة بها، وجغرافيتها، وما كان بها من أصنام في الجاهلية، وولاتها إلى زمنه. وقد جعل تقي الدين الفاسي من المُدوَّنات الخطية المنقوشة على المباني والمصنوعات وشواهد القبور مصدرًا لتوثيقه لتاريخ مكة والأعلام الذين عاشوا في مكة أو دفنوا فيها. كذلك استفاد الفاسي ممن صنف قبله من المؤرخين، ومما تلقاه من الأخبار عن الثقات، وما شاهده مُسَجَّلا على الرُّخَام والأحجار والأخشاب وغير ذلك. وتضمن كتابه النفيس الكثير من المعلومات والفوائد المتعلقة بمكة المكرمة وتاريخها، وتاريخ الحرم والكعبة المشرفة وعمارتها، والأماكن المباركة بها، وجغرافيتها، وما كان بها من أصنام في الجاهلية، وولاتها إلى زمنه. وقد جعل تقي الدين الفاسي من المُدوَّنات الخطية المنقوشة على المباني والمصنوعات وشواهد القبور مصدرًا لتوثيقه لتاريخ مكة والأعلام الذين عاشوا في مكة أو دفنوا فيها.
وقد استمد عدد من الباحثين معلومات مهمة في دراساتهم عن: «الكتابات الأثرية في مصادر تقي الدين الفاسي»، التي اتخذها الفاسي مصدرًا مهمًّا في كتابه- «العقد الثمين»- ومنها الأحجار الشاهدية التي اشتملت على تعمير منشأة، أو تشييد مبنى، أو تجديده، والهدف من البناء، وتحديد تاريخ البناء أو التجديد. وشواهد القبور من مقبرة المعلاة التي وثق منها الفاسي أسماء من توفي، ودفن في هذه المقبرة من الأشخاص، والتحقق من أسمائهم وألقابهم ووظائفهم، وصفات المتوفين، وأسباب الوفاة، ومكان وتاريخ الوفاة. كذلك يستشهد الفاسي بالأبيات الشعرية المنقوشة على شواهد القبور، مع ذكر اسم الخطاط أو النقاش على الأحجار الشاهدة. وعلى سبيل المثال يذكر الفاسي في ترجمته لـ (محمد بن أبي بكر بن أبي الحسن الطوسي)، المتوفى يوم الجمعة 18 رجب، سنة 598هـ، يقول: «نقلت وفاته من حجر قبره بالمعلاة، وهو بخط عبدالرحمن بن أبي حرمي. وقد تتتبع الأستاذ الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي أعمال هذه الخطاط والنقاش وتلامذته التي عثر على أسمائهم منقوشة على الأحجار الشاهدية من مقبرة المعلاة في مكة وعلى شواهد حجرية اكتُشِفَت في مصر وفي جزائر دهلك المحاذية للساحل الأريتيري في جنوب البحر الأحمر.
وبفضل الله جرى توثيق ودراسة عدد كبير من الأحجار الشاهدة في مقبرة المعلاة وحفظها وصدر عنها عمل موسوعي وسلسلة من الأعمال التوثيقية للأحجار الشاهدة الأخرى. ولعل في هذا التوضيح ما يقودنا للإجابة عن الاستفسارات والطروحات الأخرى في هذا الحوار.

حصيلة ثرية لبعثات ورحلات علمية
● كنتم أرسيتُم الأسس العلمية والمنهجية التي أصبحت مرتكزًا للباحثين في مجال النقوش الإسلامية، وأسهمت دراساتُكم بإضافة رصيدٍ معرفيّ غنيّ للتاريخ الإسلامي. في رأيكم، ما الدور الذي تؤديه هذه المدرسة المنهجية التي أسستموها في توفير قواعد راسخة ومرجعية علمية للأجيال الحالية والمستقبلية من الباحثين؟
■ كان تأسيس قسم للآثار والمتاحف في جامعة الملك سعود في عام 1978م وهو أول قسم ينشأ في الجزيرة العربية وتتضمن خططه الدراسية مادة مستقلة عن: «الآثار الإسلامية في الجزيرة العربية» يدخل في موضوعاتها (الكتابات والنقوش الإسلامية) ومادة أخرى عن (الآثار في الجزيرة العربية قبل الإسلام) وتركز في مضامينها الكتابات والنقوش العربية القديمة. وتزامن ذلك مع برنامج المسح الأثري الشامل الذي تبنته إدارة الآثار السعودية تحت مظلة وزارة المعارف، التي جعلت في برنامج المسح الأثري أولوية قصوى للتركيز على حصر وتوثيق الرسوم الصخرية والنقوش العربية القديمة والكتابات الإسلامية المنقوشة على الواجهات الجبلية في مختلف أرجاء المملكة. وهاتان المادتان لا يعتمد تدريسهما على الأسلوب النظري بل يقود إلى الأعمال المادية وتقصي مواقع النقوش القديمة والإسلامية في مواضعها لكون تلك الكتابات والنقوش تعد من الآثار الثابتة. وقد نجح القسم في تخريج عدد كبير من طلاب متخصصين في الآثار القديمة والآثار الإسلامية الذين استقطبتهم تباعًا إدارة الآثار السعودية وابتُعثوا للدراسات العليا في مجالات متنوعة من اختصاصات الآثار وكانت النتيجة تكوين رواد في مختلف علوم الآثار، ومنها العمارة والفنون والرسوم الصخرية والكتابات العربية القديمة والإسلامية، وأصبحت بحوثهم من المصادر المهمة للاعتماد عليها من قبل الباحثين والدارسين من مختلف بلاد العالم.
وسأركز حديثي عن الكتابات والنقوش الإسلامية فقد كان التركيز أولًا على مؤلفات أوائل المؤرخين المسلمين والجغرافيين والموسوعات الجغرافية وكتب الأدب والشعر، وكتابات الرحّالِين العرب والغربيين لنستجلي ما يرد من إشارات لمواطن الكتابات القديمة والإسلامية، ومن العلماء الأوائل الذين كتبوا أو أشاروا إلى نشأة الخط العربي، مثل ابن النديم، والجغرافي الهمداني والقلقشندي وغيرهم. أما الرحّالون الغربيون في الجزيرة، وهم كثر، فقد ركز أكثرهم على تدوين مشاهداتهم لمواقع الآثار القديمة والكتابات والنقوش منذ قبل الإسلام، التي وقفوا عليها في جنوب الجزيرة وشمالها الغربي، وقد فتحت كتابات الرحالين الغربية للدراسات المركزة التي قام بها باحثون من أبناء دول الجزيرة العربية وبخاصة من أبناء المملكة وهم كثر.
ومن أهم الدراسات التوثيقية للنقوش الإسلامية في المملكة العربية السعودية، تلك الدراسة التي كانت حصيلة الرحلة الثلاثية التي قام بها كل من: كونزاك ريكمانز، وفيليب ليبنز، وسانت جون فيلبي، وشارك معهم جاك ريكمانز في المدة من 24 أكتوبر 1951م إلى 15 فبراير 1952م. وكانت هذه الرحلة في ظني من أنجح الرحلات العلميَّة التي أثمرت في إمتاع الباحثين بدراسات استطلاعية، وفيها شيء من الاتزان وفتحت آفاقًا جديدة في البحث العلمي. فقد نشر ليبنز هذه الرحلة في كتاب بالفرنسية عام 1956م (أصدرت دارة الملك عبدالعزيز ترجمة باللغة العربية لهذا الكتاب عام 1419هـ/1999م)، ونشر كونزاك وابن أخيه جاك ريكمانز في مجلة (Le Museon)، عام1953م، نقوش المسند الجنوبي والنقوش الثمودية المكتشفة في تلك الرحلة. وبالنسبة لحصيلة ما جمعته البعثة من مئات الرسوم الصخرية فقد تصدى لدراستها عالم الآثار الإيطالي إيمانويل أناتي في خمس مجلدات بعنوان: (Rock Art in Central Arabia) «الفن الصخري في وسط الجزيرة العربية» صدرت تباعًا خلال الأعوام: 1968-1972م.
أما النقوش الإسلامية التي نسختها وصورتها البعثة العلمية فقد صنفها العالم الألماني أدولف جروهمان، ووضعها في كتاب توثيقي بعنوان: (Arabic Inscriptions)، «النقوش العربية» صدر فـي لوفان عام 1962م، واشتملت الدراسة على نقوش متنوعة بلغ عددها (305) نقوش، جمعت من مواقع عدة؛ منها ثمانية نقوش إسلامية مؤرخة، أقدمها يؤرخ لسنة 46هـ، ومن النقوش ذات الشهرة في هذه المجموعة نقش معاوية بن أبي سفيان الذي يؤرخ لبناء سد في الطائف سنة 58هـ.
حقًّا كانت هذه الرحلة العلمية ناجحة جدًّا؛ بسبب أهمية المعلومات التي تحصل عليها العلماء المتخصصون الذين شاركوا فيها، وفي مقدمتهم فيلبي عالم النبات والخبير في شؤون الجزيرة العربية، وكونزاك ريكمانز أستاذ اللغات السامية، وفيليب ليبنز الخبير في رسم وتصوير الآثار والكتابات القديمة، وجاك ريكمانز عالم اللغويات والمختص في الكتابات العربية الجنـوبية، والأهـم من هــذا وذاك أن هــذه الرحلة الاستــكشافية صـدر لهــا ترخيص من ديوان جلالة الملك عبدالعزيز، (الشعبة السياسية) متضمنًا شروطًا وضوابط غاية في الأهمية، ومنها الالتزام بتسليم حكومة المملكة العربية السعودية كل ما تعثر عليه البعثة من الآثار القديمة التي يمكن تصويرها، والالتزام بعدم تصدير شيء من ذلك، وكذلك الالتزام بتقديم تقرير إلى حكومة المملكة العربية السعودية يتضمن جميع الاكتشافات بما في ذلك الرسوم والصور التي تنفذ خلال الرحلة.
كان لأوائل المؤرخين والأدباء السعوديين جهود مشكورة في التعريف بآثار وتراث المملكة العربية السعودية، ومنها الكتابات والنقوش الإسلامية، وذلك قبل مرحلة تأسيس إدارة تُعنى بالآثار. فقد كانت كتاباتهم ونشاطهم العلمي تتلقفه المجلات والصحف المحلية، ومنها صحيفة أم القرى، ومجلة القافلة، (صدر عددها الأول عام 1953م)، ومجلة المنهل التي صدر عددها الأول عام 1355هـ/1937م، ومجلة العرب التي بدأت في الصدور عام 1386هـ/1966م.
ويعد كل من حمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري (رحمهما الله) من أوائل من عُنِي بالمواقع والمعالم الجغرافية والتاريخية والآثارية. ولعبدالقدوس الأنصاري، السبق في التعريف بمواقع الكتابات والنقوش الإسلامية، وبخاصة في المدينة المنورة والصويدرة، والكامل في ديار بني سليم -بين مكة المكرمة والمدينة المنورة- وقد سبقهما بعض الشيء عدد من الكُتَّاب العرب مثل محمد حسين هيكل في كتابــه «منزل الوحي» وخير الدين الزركلي في كتابه «ما رأيت وما سمعت». ومن أوائل الكتب التي صدرت عن الآثار في المملكة كتــاب عبدالقدوس الأنصاري (رحمه الله) بعنوان «آثار المدينة المنورة»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1353هـ، تلاه كتاب «بين التاريخ والآثار» الذي صدر عام 1969م.
ومن التقارير المبكرة عن النقوش الصخرية في الحجاز ما كتبه عثمان رستم في مجلة الحوليات المصرية عام 1948م. أما الدراسات المباشرة لموضوع النقوش الإسلامية، فنشير إلى البحث المهم الذي كتبه البحَّاثة محمد حميد الله (رحمه الله) عن النقوش الإسلامية المبكرة في المدينة المنورة التي اطلع عليها على واجهة جبل سلع في فبراير 1939م، وتحدث عنها في جامعة أُكسفورد في شهر مايو من العام نفسه، ونشــر بحثه عن هذا الموضوع في ذلك العام في مجلة (Islamic Culture) التي كانت تصدر في الهند. وفي عام 1948م نشر جورج مايلز في مجلة الدراسات الشرقية (JNES) بحثًا عن النقوش الإسلامية المبكرة بالقرب من الطائف، وأعقبها بحث نشر في المجلة نفسها عام (1953- 1954م) عن نقش مؤرخ سنة 304هـ يؤرخ لعمارة طريق الحج على يد الوزير العباسي علي بن عيسى، وهذا النقش عَثر عليه الجيولوجي الأميركي كارل تويتشل.
نقوش إسلامية مبكرة ومضامينها
● في سياق دراساتكم المعمقة حول النقوش الإسلامية في الجزيرة العربية، كيف يمكن لهذه النقوش أن تعيد صياغة فهمنا لتاريخ الإسلام المبكر وتطوره الاجتماعي والثقافي؟ وهل تعتقد أن هناك قراءة تاريخية جديدة يمكن أن تقدمها النقوش لم تكن متاحة من قبل؟
■ من الصعب الحديث عن أعمالي العلمية المتواضعة أو أضع نفسي في قائمة الرواد. لكن اهتمامي بالنقوش الإسلامية الصخرية بدأ بحصيلة دراستنا لدرب زبيدة: طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة وهو أحد طرق الحج الرئيسية، وتدوين عشرات من النقوش والكتابات الإسلامية التي عُثِرَ عليها واستُكشفت في المواقع القائمة على امتداد درب زبيدة أو المحاذية للطريق وفروعه، ومنها الحناكية (بطن نخلة قديمًا)، والصويدرة (الطرف قديمًا)، وموقع الربذة ومحيطها الجغرافي، والسوارقية، ومهد الذهب (معدن بني سليم)، وذات عرق، والنقوش الإسلامية في المحيط الجغرافي لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وخيبر ومواقع أخرى، إضافة إلى الأحجار الشاهدية، والأميال الحجرية التي تحدد المسافات بين محطات طريق الحج.
كما أنني وفقت في تأليف كتاب «كتابات إسلامية من مكة المكرمة» دراسة وتحقيق، صدر عام 1416هـ/ 1995م، اشتمل على دراسة لمجموعة من النقوش الإسلامية المنقورة على الواجهات الصخرية في منطقة مجاورة لصعيد عرفات وبعضها بالقرب من (منى) في المكان المسمى (المعيصم) وهي التي تسمى (السداد) أو (الأسداد) نسبة إلى السدود الثلاثة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليًا على مكة المكرمة في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان. وحُدِّدت تواريخ تلك النقوش بالقرنين الأول والثاني للهجرة، ومنها نقوش مؤرخة. ومن قراءة مضامين نصوص النقوش تبين لنا أنها تشتمل على آيات قرآنية، وأدعية مأثورة، وأبيات شعرية مستنبطة من الشعر الجاهلي، إضافة إلى أن أسماء الشخصيات التي وردت في النصوص سواء كانت لمن كُتِبتْ لهم تلك النقوش، أو الذين نقشوا النصوص ودونوا أسماءهم عليها. ومن جملة النقوش أربعة نقوش مؤرخة؛ ثلاثة منها تعود للعصر الأموي، جاءت في السنوات:84هـ، 98ه، ونقش من العصر العباسي مؤرخ في سنة: 189هـ. وأُضِيفَت فقرة لهذه الدراسة عن نقوش وادي العسيلة الواقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة حيث حُصِرَ ما يزيد على ستين نقشًا إسلاميًّا مبكرًا. منها نقشان يؤرخان بسنة (80) للهجرة و(96) للهجرة.
وتوضح الكتابات والنقوش الإسلامية في هذه الدراسة تطور الخط في مكة المكرمة، وأن الأسماء الواردة في نصوص تلك النقوش من الأسر المعروفة في منطقة الحجاز في العصر الإسلامي المبكر، وأن تواريخ النقوش تقع ما بين بداية العصر الأموي والفترة العباسية المبكرة، بل إن عددًا منها يعود في تاريخه إلى عصر الخلفاء الراشدين. فقد ورد في نقوش العسيلة اسم صفية بنت شيبة بن عثمان (رضي الله عنهما) التي أدركت عصر النّبوة ولها صحبة، وروت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عددًا من الأحاديث، وظلّت حياتها راوية علم تتعلّم وتُعلِّم حتّى عاشت إلى الخلافة الأموية، فيقال: إنّها أدركت خلافة الوليد بن عبدالملك وأنّها ماتت عام 90هـ. ومن أهم مضامين النقوش التي تناولتها الدراسة تدوين آيات قرآنية كاملة بخط عثمان بن وهران. ونصوص بخط (عبدالله بن عمارة) و(سلمة بن عمارة) و(حكيم بن عمارة).
وتتميز المدينة المنورة وباديتها وجبالها بوفرة تفوق الخيال في النقوش الإسلامية الصخرية. ووفقنا في نشر دراسة متواضعة بعنوان: «كتابات إسلامية غير منشورة من «رواوة» المدينة المنورة، صدرت هذه الدراسة في كتاب عام 1413ه(1993م)، وهي دراسة توثيقية وتحليلية لمجموعة من النقوش الإسلامية المبكرة، المنقورة على الواجهات الصخرية في موقع جبل «رواوة»، وهو عبارة عن كتلة جبلية جنوب المدينة المنورة، وفي قلب هذا الجبل منخفض، تصب فيه مياه وادي العقيق عند جريانه، ولذلك عرف المكان باسم «غدير رواوة»، وهذا الموقع له ذكر في المعاجم الجغرافية.
وتنتشر على الواجهات الصخرية -المحيطة بالغدير- مجموعات من النقوش والكتابات، متقاربة ومتباعدة. وقد أمكن اختيار (55) نقشًا من مجموع نقوش رواوة. وتبين من دراستها أنها تشتمل على نصوص في الدعاء والذكر وطلب الرحمة والمغفرة للأسماء الواردة في هذه النصوص، وتشتمل معظمها على آيات قرآنية، إضافة إلى أن بعضها تتضمن نصوصًا شعرية. ومن دراسة الأسماء الواردة في نقوش رواوة، اتضح أنها تتصل بالأسرة العمرية (نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب). ومن بين هذه المجموعة المنشورة، حُصِرَ تسعة نقوش مؤرخة بالسنوات: 76هـ، 100هـ، 120هـ، 121هـ، 140هـ، 163هـ، 183هـ، 246هـ. وما زالت الدراسات جارية على مجموعة نقوش «رواوة». وحُصِرَ نقوش إضافية من الموقع منها ثلاثة نقوش مؤرخة في الأعوام: 130هـ و131هـ. وهذه النقوش المؤرخة تعد مفتاحًا مهمًّا في تحديد الأزمنة التاريخية للنقوش الأخرى -غير المؤرخة- في المكان ذاته، ومقارنتها بالنقوش الكتابية الأخرى المنتشرة في حرار المدينة المنورة وجبالها وأوديتها. كما أن نقوش «رواوة» تتميز من غيرها من النقوش الكتابية من حيث مضامينها وصيغها اللفظية، وأسماء الشخصيات التي ورد ذكرها في تلك النصوص.
وفي إطار حديثنا عن النقوش الإسلامية المبكرة في المدينة المنورة فقد حُصِرَت مجموعات متفرقة من وادي العقيق، ووادي الخنق، ووادي ضبوعة، ومنطقة الضلوع، وجبل البيضاء، والعوينة، وضُمِّنَت في كتاب «دراسات في الآثار الإسلامية المبكرة بالمدينة المنورة» الصادر عام 1421ه/2000م، ويشتمل على فصول عدة عن: السدود الأثرية، والكتابات والنقوش الإسلامية، والقصور الأثرية، ومواقع أثرية متفرقة، وملتقطات سطحية. وبالنسبة للكتابات والنقوش الإسلامية ومن دراسة نصوص النقوش الكتابية وتحليل مضامينها حُدِّدَ تاريخها في حدود القرنين الأول والثاني للهجرة. ومن أهم المكتشفات الخطية التي تضمنتها الدراسة نقش تأسيسي لسد معاوية بن أبي سفيان الذي لا تزال آثاره المعمارية باقية على مضيق وادي الخنق، إلى الشرق من المدينة المنورة. ويعد هذا النقش وثيقة تاريخية مهمة ليس فقط في تطور عمارة المنشآت المائية في عهد معاوية في الحجاز بل إنها ساعدت في تحديد تواريخ المنشآت المعمارية الأخرى في منطقة المدينة المنورة.
ويتضح من مضامين هذا النقش التأسيسي أن السد بناه معاوية بن أبي سفيان بعد توليه الخلافة، للمنفعة العامة، ويوضح النقش أسماء ثلاث شخصيات تولوا الإشراف على عمارة السد ومرافقه. ومن النقوش التأسيسية المهمة ذلك النقش الكتابي المنقور على واجهة كتلة صخرية بالقرب من آثار سد عبدالله بن عمرو بن عثمان، بوادي رانوناء شمال جبل عير، وهو نقش شعري، سبق أن نشره عبدالقدوس الأنصاري (رحمه الله) في كتابه (آثار المدينة المنورة). ومن مضمون هذا النص الشعري يتضح أنه يوثق لهذا السد وأهميته. أما الذي ينسب إليه بناء هذا السد فهو: «عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، أبو محمد الأموي سبط ابن عمر، يقال له «المِطْرَف» من حسنه وملاحته وهو والد محمد الديباج، وكان شريفًا كبير القدر جوادًا، مدحه الفرزدق وغيره من الشعراء، وقد توفي بمصر سنة 96هـ.
ولعلي أشير إلى كتاب: «الصويدرة، آثارها ونقوشها الإسلامية» الصادر عام 2009م، فهو يوثق لمجموعة كبيرة من النقوش والكتابات الإسلامية المنقورة على الواجهات الصخرية في وادي الصويدرة، إلى الشرق من المدينة المنورة بنحو (62كم)، والصويدرة بلدة قديمة اسمًا وموضعًا، كانت تسمى الطرف، وهي إحدى محطات طريق الحج من العراق، المتفرع إلى المدينة المنورة. ويشتمل الكتاب على دراسة شاملة لعدد (257) نقشًا، تتنوع في أحجامها وأعداد أسطرها، ومضامينها. ومعظمها كتبت لطلب العفو، والمغفرة، والرحمة، والتوبة، والجنة، والاحتساب لله، والرضا من رب العباد، وإثبات الشهادة، والدعاء بطول العمر، والبركة، والشكر، ودعاء السفر، وصلة الرحم. وتتضمن معظم النقوش آيات قرآنية، وتحتوي بعضها على أبيات شعرية. وأمكن تحديد تواريخ تنفيذ هذه النقوش الكتابية من عصر صدر الإسلام حتى نهاية القرن الثالث الهجري. وقد أوضحنا في خلاصة الدراسة أن الطرف (الصويدرة اليوم) شكلت نقطة جذب للاستقرار البشري على مر العصور، وكانت واحدة من المنازل الرئيسية على طريق الحج والتجارة (درب زبيدة) من العراق والمشرق الإسلامي وأنحاء متفرقة من شرق ووسط الجزيرة العربية إلى المدينة المنورة. وقد نكتفي بهذه الإضاءة بخصوص جهودنا المتواضعة في تتبع النقوش الإسلامية المبكرة. وسنضيف لاحقًا لجهود العلماء الرواد الذين لهم إسهامات كبيرة في هذا الاختصاص.
من جهود الباحثين في توثيق النقوش
● كيف أسهمت دراساتكم واكتشافاتكم النقشية في الجزيرة العربية في إعادة تشكيل سردية التاريخ الإسلامي وملء الفجوات المعرفية الكبرى التي كانت لا تزال في حاجة إلى ملء؟ أقصد: كيف لعبت النقوش المكتشفة في الجزيرة العربية في تعزيز فهمنا لمفهوم الهوية الثقافية والحضارية للمنطقة؟
■ إن تأسيس قسم علمي للآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود، كان له السبق في توجيه الباحثين بالتركيز على توثيق ودراسة الكتابات والنقوش الإسلامية في مختلف أرجاء المملكة والاستفادة من الأعمال المسحية التي تنفذها إدارة الآثار في المملكة، كذلك وجود قسم للحضارة الإسلامية في جامعة أم القرى كان له دور قوي ومؤثر في توثيق التراث الحضاري الإسلامي في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص. كذلك كان للمراكز البحثية دور إيجابي في هذا التوجه ومنها دارة الملك عبدالعزيز، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة. ومن الباحثين الذين لهم إسهام وباع طويل في هذه الدراسات نذكر منهم الأعمال البحثية للأستاذ الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي الذي استكشف مجاميع من الأحجار الشاهدية والنقوش الكتابية على الحجر على امتداد ساحل البحر الأحمر من مكة المكرمة حتى تهامة اليمن، وأصّلها وتناول أبرز الخطاطين المكيين الذي نقشوا خطوطهم والفنون الزخرفية على الحجر وأعمالهم تكاد تماثل أو تفوق أساليب المخطوطات القرآنية في المصاحف المبكرة. وتناول الدكتور محمد بن فهد بن عبدالله الفعر (رحمه الله) دراسات موسعة عن تطور الكتابات والنقوش الإسلامية في الحجاز، ومنها دراساته للكتابات المعمارية المبكرة في الحرم المكي الشريف. ويعد الدكتور ناصر بن علي الحارثي (رحمه الله) عراب النقوش الإسلامية في منطقة المكرمة الذي سخر حياته العلمية في توثيق النقوش الإسلامية الصخرية في عدد من المواقع في مكة المكرمة والطائف، وقدم لنا أعمالًا توثيقية لنقوش إسلامية مبكرة في بادية مكة المكرمة والطائف. وللأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم الغبان بحوث ودراسات حول الآثار الإسلامية في شمال غرب المملكة ضمّن فيها عددًا من النقوش الإسلامية والكتابات المعمارية على طريق الحج الشامي والمصري. ويحسب للدكتور الغبان دراسته لواحد من أقدم النقوش الإسلامية الصخرية في الجزيرة العربية وهو نقش زهير المؤرخ بسنة 24هـ، المكتشف في قاع المعتدل بين الحجر (مدائن صالح) والعلا. وتأتي أهمية هذا النقش أن يوثق لتاريخ وفاة الخليفة عمر بن الخطاب الذي وافته المنية في نهاية شهر ذي الحجة سنة 23هـ، ودفن في أول المحرم سنة 24هـ. وللأستاذ الدكتور مشلح المريخي (جامعة الملك سعود) إسهامات بحثية في تتبع جذور تطور الحرف العربي، واشتقاقه من القلم النبطي، والمرحلة الانتقالية للكتابة حتى ظهور الإسلام، وتكتمل صورة الخط الإسلامي المبكر مع نزول الوحي وتدوين القرآن الكريم وكتابة المصاحف.
● ما الذي تراه أكثر إلحاحًا في منهجية دراسة النقوش الإسلامية؟ وكيف يمكن تطوير هذه المنهجيات بما يتناسب مع التقدم العلمي والتقني الحالي، مثل تحليل الصور والمسح ثلاثي الأبعاد وغيرها؟
■ ما أراه في منهجية دراسة النقوش الإسلامية في الجزيرة العربية -على وجه الخصوص- هو تأكيد أن الحرف العربي -الذي كتب به القرآن الكريم- نشأ وتطور في شمال غرب الجزيرة العربية وانتشر في أنحائها، وتطور الحرف العربي بالتدريج عن الكتابة النبطية، والاكتشافات الأثرية المتوالية التي تمت من علماء الكتابات العربية القديمة -من المختصين السعوديين خاصة- لهم قصب السبق في تثبيت هذه الحقيقة العلمية، وما عداها من روايات أو اجتهادات لم يعد لها بال. وكان أهل مكة والمدينة يعرفون الكتابة واختار الرسول صلى الله عليه وسلم عددًا من أوائل ممن كانوا يحسنون الكتابة لتدوين الوحي عند نزوله سواء في مكة أو المدينة وفي ملازمتهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) من مبعثه حتى وفاته واكتمال الرسالة. ولدينا في المصادر التاريخية المبكرة وفي كتب الحديث والتفاسير حقائق ثابتة عن معرفة كبار الصحابة بالقراءة والكتابة وأشهرها قصة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مع أخته فاطمة بنت الخطاب عندما أسلمت.
وكان القرآن الكريم كلّه مكتوبًا على اللّخاف، والرقع، والأقتاب، والأكتاف، والعسب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن عددًا من النساء في مكة قبل الهجرة كنّ يجدن القراءة والكتابة. وكان أهل المدينة المنورة قبل الهجرة الشريفة لديهم معرفة بالقراءة والكتابة.
النقوش سجل لفلسفة عصرها
● في مسيرتكم العلمية الطويلة، كيف ساعدتكم النقوش الإسلامية في فهم التحولات الفكرية التي شهدتها المنطقة؟ وهل يمكن اعتبار النقوش سجلًّا لفلسفة العصر؟
■ النقوش الإسلامية في الجزيرة العربية تُعَدُّ من المصادر الأساسية التي لا يستغني عنها أي باحث في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية على وجه الإطلاق. فإذا نظرنا إلى الرقعة الجغرافية للمملكة العربية السعودية، نجدها تحتفظ بثروة كبيرة من المدونات الخطية المنقوشة على الواجهات الصخرية في مختلف مناطقها، وتشتمل تلك النقوش على معلومات مفيدة للباحثين في الآثار والتراث والحضارة والتاريخ والأدب واللغة، ففيها تعريف بأسماء من كتبها أو كتبت عنهم ولهم، وألقابهم، وكناهم، وأنسابهم وانتمائهم إما لقبيلة، أو مدينة، أو إقليم، أو صناعة. وكثير من تلك النقوش عليها تواريخ كتابتها، أو زمن وفاة صاحب النقش. أما مضامين نصوص النقوش فهي متنوعة ففيها آيات قرآنية، وأدعية مأثورة في الدعاء والذكر، وطلب الرحمة والمغفرة والتوبة من الله سبحانه وتعالى، وتأكيد الإيمان والثقة بالله عزَّ وجلّ، إضافة إلى أن بعض نصوص النقوش، فيها من الإطالة ما نستوحي منها أنها كانت تعليميَّة، وبعضها توثيقية لمنشآت معماريَّة متنوعة. مع التذكير أن هناك ثروة هائلة من المدونات الحجرية، وبخاصة الأحجار الشاهدية المكتشفة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفي عدد من مواقع الآثار في مختلف أنحاء المملكة، وقد تناول دراسة بعضها عدد من الباحثين، وبعض تلك المدونات تتضمن أبيات شعرية تتوافق مع مضامين نصوص الأحجار الشاهدية.
إن الإنسان الواعي بالتاريخ الإسلامي وحضارته في الجزيرة العربية سيجد في هذه النقوش المنقورة والمنحوتة على الواجهات الصخرية، مادة علميَّة أصليَّة مهمة لعلماء اللغة، والحديث، والتدوين لأسماء الرجال من العامة والخاصة، ومعرفة صلة تلك النقوش بالمكان والزمان الذي كتبت فيه، وهل كان أصحابها مقيمين أو عابري سبيل، وهل المكان رعويّ أم زراعي؟ في واحة أم على طريق؟ إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة لمعرفة الأسباب والمسببات التي كتبت فيها النقوش. هل موقع الكتابة قريب من غدير أو منبع ماء؟ أو إنه بالقرب من مصنع لحفظ مياه السيول والأمطار، أو منتجع، أو للصيد إلى غير ذلك من الأسباب.
يمكن عدّ النقوش سجلًّا لفلسفة العصر من منظور تصحيح الروايات حول نشأة الكتابة العربية التي دوّن بها القرآن الكريم وكتابة المصاحف، ثم تتبع أسماء الشخصيات الواردة أسماؤهم في النقوش الإسلامية الصخرية، وتتبع أنسابهم، وحصر الآيات القرآنية الواردة في آلاف النقوش في مختلف أودية المملكة وصدور جبالها وفي حرارها وبواديها، وكذلك حصر الأدعية المأثورة ومقارنتها بما ورد في كتب الحديث وكتب الأدعية والذكر، وكذلك دراسة النقوش الشعرية ومدلولاتها وصلتها بالأدب والشعر الجاهلي ومقارنتها بالدواوين الشعرية المطبوعة والمخطوطة. والحديث يطول في هذا المجال.
● ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الباحثون الشباب في استكمال الإرث العلمي الذي تركته في مجال دراسة النقوش الإسلامية؟ وكيف يمكن حَفْزهم للانخراط في هذا المجال؟
■ هذا سؤال مهم للغاية ونحن في جامعة الملك سعود فتحنا المجال لطلاب وطالبات الدراسات العليا للتركيز في أبحاثهم للماجستير والدكتوراه، ونجحت التجربة وما زالت موضع الاهتمام في خطط الدراسات العليا. ولعلي أشير إلى عدد من التجارب الناجحة ومنها:
الدكتور عبدالرحمن الزهراني، باحث متميز، درس الآثار الإسلامية بجامعة الملك سعود (عام 1402هـ)، وعمل في الميدان الآثاري سنوات طويلة، وتحصل على درجتي الماجستير في المسكوكات الإسلامية من جامعة دورهام البريطانية عام (1988م)، والدكتوراه من جامعة الملك سعود. عام 1418هـ (1998م) عن أطروحته وموضوعها: «نقوش إسلامية شاهدية من مكة المكرمة» (ق1ــ7هـ/7ــ13م).
الدكتورة حياة الكلابي، أستاذة التاريخ في التعليم العام، استهوتها الآثار الإسلامية، وهي أول باحثة سعودية تخوض تجارب ميدانية لدراسة الكتابات والنقوش الإسلامية المدونة على الواجهات الصخرية في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وقدمت للمكتبة العربية بحثين مميزين؛ الأول أطروحتها للماجستير، والآخر رسالتها للدكتوراه، إضافة إلى إسهامات أخرى.
الباحثة موضي بنت محمد بن علي البقمي قدمت موضوع رسالتها العلمية للماجستير عن «نقوش إسلامية شاهدية بمكتبة الملك فهد الوطنية: دراسة في خصائصها الفنية وتحليل مضامينها» ولأهمية موضوع الرسالة تولت مكتبة الملك فهد الوطنية طباعتها في كتاب صدر عام 1420هـ(1999م).
الدكتورة ميساء الغبان عضو هيئة تدريس بجامعة الأميرة نورة قدمت رسالة علمية مميزة للدكتوراه عن «الكتابات الإسلامية المبكرة في هضبة حسمى بمنطقة تبوك: دراسة تحليلية». وتمكنت الباحثة من إجراء دراسة مسحية في أنحاء متفرقة من هضبة حسمى، في شمال غرب المملكة، وجمعت عددًا كبيرًا من النقوش المدونة على الواجهات الصخرية واستنتجت من دراستها أهمية منطقة حسمى جغرافيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا، وتتقاطع عليها طرق التجارة والحج، وتتميز النقوش التي جمعتها في أسلوب كتابتها وثراء مضامين النقوش في الآيات القرآنية والأدعية المأثورة، وفي أسماء الشخصيات الواردة في النقوش. ولأهمية هذه الدراسة تكفّلت هيئة التراث بإصدارها في كتاب كبير في نحو (1000) صفحة، عام 1442هـ/ 2020م. وهناك دراسات أخرى بحثية في هذا الاختصاص.
مشكلتنا أن هذه الدراسات تظل حبيسة المكتبات العلمية وانتشارها عربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا مُتَدَنٍّ والاستفادة من هذه الجهود من جانب المختصين فقط.
عناصر فنية وجمالية
● لو تحدثنا عن الجوانب الفنية والجمالية للنقوش الإسلامية. كيف يمكن لهذه الجوانب أن تُسهم في إثراء الدراسات الفنية والتاريخية، وهل ترون إمكانية دمجها في مشاريع فنية معاصرة؟
■ الحديث عن الجوانب الفنية والجمالية للنقوش الإسلامية المكتشفة في المملكة شرحها يطول، ولدينا في المملكة عدد كبير من الأحجار الشاهدية من مواقع عديدة، ومن أشهرها وأهمها الأحجار الشاهدية من مقبرة المعلاة أقدم مقبرة إسلامية في التاريخ الإسلامي، وجرى جمعها والمحافظة عليها. وصدر منها سفر كبير عام 1425هـ/ 2005م. ثم تلاها عدد من الكتب التوثيقية لمجموعات أخرى من مقبرة المعلاة. وتأتي أهمية هذه المجموعة من كونها من أطهر بقعة (مكة المكرمة). وتشكل مصدرًا مهمًّا لتاريخ مكة المكرمة مهبط الوحي ومنطلق الرسالة، لما تشتمل عليه نصوصها من آيات قرآنية وأحاديث وأدعية مأثورة وأبيات وقصائد شعرية، عدد منها مؤرخ، وتواريخ هذه الأحجار الشاهدية من القرن الأول الهجري حتى القرن التاسع الهجري. وتشتمل على أنواع عديدة من الخطوط التي نقشها خطاطون مكيون وزيَّنوها بأنواع من الزخارف المعمارية والهندسية والنباتية. ولو أمعن الباحثون في أحجار مقبرة المعلّاة الشاهدية لوجدوا فيها امتدادًا للخط المكي ثم المدني، وتطورت الكتابة على الأحجار الشاهدية لتشكل كل أنواع الخطوط التي انتشرت في سائر أقطار العالم الإسلامي. أما الجوانب الفنية فيجد فيها الباحثون في الفنون الإسلامية ما يشفي فضولهم ليس في جمالية الخطوط ولكن في توريقها وتشجيرها وتزويقها بفنيات بديعة. ولا شك أن هذه الجوانب لتسهم في إثراء الدراسات الفنية والتاريخية، مع إمكانية دمجها في مشاريع فنية معاصرة، واستخراج أعمال فنية لمختلف المدارس الفنية، وأعمال حرفية مستلهمة من أعمال فنية عميقة في جذورها التاريخية.
أما النقوش الإسلامية الصخرية المنتشرة في أنحاء متفرقة من المملكة التي تُنُووِلَتْ بالبحث والدراسة فهي تحتفظ بعناصر جمالية تُؤصِّل للجذور التاريخية للفنون الإسلامية، وتؤصل أيضًا لذائقة الخطاطين والنقاشين في العصور الإسلامية المبكرة.

التعاون في توثيق وصيانة المواقع الأثرية
● في خضم التغيرات السريعة في العالم، كيف يمكن الحفاظ على النقوش الإسلامية في الجزيرة العربية وحمايتها من التدمير أو التشويه؟ وما المسؤولية التي تقع على عاتق المؤسسات العلمية والثقافية لتحقيق هذا الهدف؟
■ لا شك أن النقوش الإسلامية الصخرية لكونها متناثرة على الواجهات الصخرية للجبال والحرار والهضاب وعلى جنبات الأودية وموارد المياه الطبيعية؛ فهي عرضة للتدمير والتشويه أو التعدي، هذا عدا المشاريع التنموية مثل الطرق، وإمدادات المياه وخدمات الاتصالات والكهرباء، والامتدادات العمرانية، والجهة المعنية (هيئة التراث) تعاني، والحل الأمثل أن يكون للنقوش القديمة والإسلامية، والرسوم الصخرية حلول نظامية جذرية بالتعاون مع الجهات المعنية التي تنفذ المشاريع، وتستخرج خرائط ذات تقنية عالية عن مواقع الكتابات والنقوش، ويكون هناك تعاون مع الهيئات الملكية المعنية بالمحميات الطبيعة، وحماية البيئة والهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية، وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية. وكذلك من المهم أن يكون لهيئة التراث تعاون وثيق مع وزارة الزراعة، ووزارة الصناعة والثروة المعدنية، وغيرها من الجهات. وهناك ممارسات من جانب الشركات المنفذة للمشاريع لا تراعي المحافظةَ على المواقع الأثرية بصفة عامة، ومواقع الرسوم الصخرية والكتابان والنقوش الصخرية. وللأسف فهذا الإرث الخطي يعاني التدميرَ بواسطة آليات الكسارات، وتجريف الصخور والتربة التي تسببت في إتلاف وضياع شواهد خطية لا تقدر بثمن.
● أكدتم في مناسبات عديدة ضرورةَ التعاونِ بين الباحثين والمؤسسات العلمية. ما الخطوات التي تنصحون بها لتعزيز هذا التعاون وضمان إنتاج أبحاث مشتركة ذات قيمة علمية عالية؟
■ التعاون بين الباحثين والمؤسسات العلمية والبحثية في مجالات البحث العلمي في التراث أمر غاية في الأهمية، وأرى اليوم وفي ظل توجه الرؤية وانفتاح المملكة على العالم من باب التراث حيث تمكنت المملكة وعلى مراحل من تسجيل عددٍ من المواقع الأثرية على قائمة التراث العالمي والحضور المميز لوزارة الثقافة في اليونسكو، ونجاح المملكة المبهر في تنمية السياحة حتى أصبحت وجهة سياحية عالمية لها قيمة إضافية للاقتصاد؛ لذلك فالحاجة ماسّة لتطوير التعاون للنهوض بالبحث العلمي الأثري، والتعاون في توثيق وصيانة وتوظيف آلاف المواقع الأثرية والعمرانية والتراثية، ليس لأهميتها التاريخية فحسب بل لإحياء التراث المادي، وضمان استدامته مصدرًا للعلم والمعرفة وموردًا اقتصاديًّا بالشراكة مع المجتمع المحلي وهو المستفيد الأول.
● قد واكبتم العديد من الأحداث والقرارات المهمة التي أسهمت في ازدهار الدراسات الأثرية في المملكة، فكيف أثر الدعم المستمر من القيادات السعودية في زيادة الحوافز البحثية وتطوير أساليب دراسة النقوش الإسلامية؟
■ يشهد قطاع التراث نقلة نوعية غير مسبوقة وأبرزها إنشاء وزارة الثقافة التي أسست (11) هيئةً متخصصةً، وتُعنَى كلُّ هيئة من الهيئات الإحدى عشرة بتطوير قطاع ثقافي محدد أو أكثر، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة والاستقلال المالي والإداري وترتبط تنظيميًّا بوزير الثقافة، وفي مقدمة هذه الهيئات هيئة التراث وهيئة المتاحف. وبحكم مواكبتي لمراحل العناية بالتراث الثقافي والمؤسسات الثقافية أجد أن ضم كل عناصر التراث الثقافي تحت مظلة وزارة الثقافة خطة مدروسة من القيادة أسعدت شرائح المجتمع كافة. أمّا قطاعُ التراث فهو يحظى باهتمام كبير في مجال المسح الأثري والحماية والمحافظة، والتنقيب الأثري، وتطوير المواقع الأثرية وتوظيفها، وتطوير البحوث العلمية. وفي مقدمتها العناية بالنقوش الإسلامية في أرجاء المملكة كافة.
جهود المملكة في حماية التراث الوطني وتطويره
● على مر السنوات؛ أطلق ملوك المملكة ووزراؤها العديد من المبادرات الثقافية لتسهيل عمل الباحثين في مجال الآثار والنقوش، وهل هناك خطوات مستقبلية تأملون أن تُتَّخَذَ لدعم هذا المجال بشكل أكبر، ولا سيما في ظل رؤية 2030؟
■ أود تأكيد نقطةً مهمةً أن كل القادة والملوك من عهد الملك المؤسس حتى هذا العهد الزاهر لهم بصمات ومبادرات متعاقبة ذات أثر في حماية التراث الوطني وتطويره. وقد كانت مبادرة حكيمة بصدور موافقة سامية في عام 2020م، بإنشاء مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي (دار القلم) بالمدينة المنورة؛ ليصبح مركزًا سعوديًّا عالميًّا لتعليم الخط العربي. وأنا من المعايشين لإنشاء دار القلم في مدرسة طيبة التاريخية بمبادرة من سمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود -وزير التعليم الأسبق في عام 2013م- بمناسبة اختيار المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية. ولا شك أن الخطة التي أطلقت عام 2021م، بتحويل المركز إلى منصة عالمية للخط والخطاطين، وتخدم الخط العربي بوصفه وسيلة تواصل عالمية عابرة للثقافات في مجال التراث والفنون والعمارة والتصميم، إلى جانب احتضان المواهب وتنمية المعارف في مجالات الخط العربي، مع تعزيز مكانة المملكة وتأثيرها في حفظه وتطويره. ولا شك أن النقوش الإسلامية الحجرية، والنقوش الإسلامية الصخرية سيكون لها اهتمام خاص لكونها المصدر الأساس لتطور الخط العربي من عصر صدر الإسلام وعلى مر العصور الإسلامية.
● تحدثتم عن أهمية احترام التراث الأثري بوصفه شاهدًا على التاريخ. كيف يمكن غرس هذا الاحترام في نفوس الأجيال الجديدة، وما الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات التعليمية والثقافية في هذا الصدد؟
■ أهمية احترام التراث الأثري بوصفه شاهدًا على التاريخ، واجب على كل مواطن ومقيم وزائر. وقد وضعت الدولة أنظمة ولوائح لحماية التراث الحضاري بكل عناصره، في البر والبحر، والآثار الشاخصة التي تحت الأرض، والعقوبات صارمة في حالة التعرض للتعدي على الآثار بأي وسيلة كانت. وعلى أي حال فإن على هيئة التراث وبدعم من وزارة الثقافة مسؤولية كبرى لمضاعفة الجهود بالتعاون مع الشركاء في أجهزة الدولة ذات العلاقة؛ لتعزيز حماية مواقع التراث والمحافظة عليها من التعدي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تطوير التعاون مع وزارة التعليم لجعل التراث حاضرًا في مناهج التعليم ولمختلف المراحل العمرية. وعلى هيئة المتاحف أن تشتمل متاحفها على قاعات للتربية المتحفية وتعزيز الانتماء الوطني، وغرس حب الطلاب والطالبات للتراث. كذلك على وسائل الإعلام كافة تسليط الضوء على التراث الثقافي، واستخلاص مواد علمية موجهة لفئات المجتمع كافة، وكذلك تعزيز الدور المجتمعي لحماية التراث.
● ختامًا، كيف ترى جائزة الملك فيصل وهي تكرم الباحثين الجادين في مجالات مختلفة، وما أثرها في مستقبل البحث العلمي؟
■ تأسست جائزة الملك فيصل العالمية في عام 1397هـ/ 1977م قبل إكمال دراستي العليا في الآثار الإسلامية بعام. وهي جائزة عالمية تحمل اسم رجل عظيم، الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله. وكان لي شرف حضور أول احتفال للجائزة سنة 1397هـ/ 1977م. وتوسعت الجائزة في إضافة مجالات أخرى للجائزة.
وجائزة الملك لها سمعة عالمية والحاصلون عليها في المجالات العلمية التي تحددها الجائزة لهم جهود علمية مضاعفة، والجائزة حافز لتطوير البحوث العلمية في المؤسسات البحثية الرائدة. وأحمد الله الذي وفقني للفوز بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 2025م، في مجال الآثار الإسلامية، وهو شرف أعتز به، والملك فيصل -رحمه الله- قدم خدمة جليلة في المحافظة على تراث طريق الحج من العراق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة (درب زبيدة) أثناء تحضيري للدكتوراه في عام (1973م)، وجدت مؤسسة محلية تنفذ مشروع حفر وترميم بعض برك درب زبيدة لصالح وزارة الزراعة؛ حيث كان العمل ينفذ بطريقة عشوائية للتخريب عن جهل بالآثار والتراث. وبناءً على تقرير كتبته ووصل إلى الملك فيصل (رحمه الله) فصدرت توجيهاته بترك برك زبيدة على حالها وعدم التعرض لها. وها هي وزارة الثقافة تجهز ملفًّا وثائقيًّا عن درب زبيدة لرفعه لليونسكو لإدراج الدرب على قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو. وأحمد الله أني أحد المشاركين في الإعداد العلمي لهذا المشروع.
الفيصل | مارس 1, 2025 | الملف
نظرة إلى تحقيق التراث العربي
واستقبال الغرب للكتب المحققة والمترجمة إلى اللغات الأجنبية

طاهرة قطب الدين – باحثة أميركية
يُعدّ تحقيق التراث العربي وترجمته إلى اللغات الأجنبية جسرًا حيويًّا يربط بين الحضارة العربية الإسلامية والعالم الغربي، وهو ما يُسهم في تقديم صورة أدق وأعمق عن إنجازات الفكر الإسلامي والتاريخ الثقافي العربي. يمثل «نهج البلاغة» الذي فاز بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، بنسخته التي حققتُها وترجمتها إلى الإنجليزية، مثالًا بارزًا على أهمية هذا العمل؛ إذ يُبرز هذا النص، الذي يجمع خطب الإمام علي بن أبي طالب وأقواله، قمة البلاغة العربية وجوانب الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي في حقبة مبكرة من التاريخ الإسلامي. بل إنه يمثل مادة الحياة وجوهرها، حيث يعلّمك كيف تحيا حياة هادفة ذات معنى في الدنيا تقودك إلى نعيم الآخرة.
لقد شهد مجال تحقيق النصوص العربية وترجمتها تطورًا ملحوظًا في العالم العربي والغربي على حد سواء. فالعالم العربي قدّم العديد من الإسهامات المميزة، مثل تحقيق المخطوطات النفيسة على أيدي علماء التراث البارزين وإصدارها ضمن مؤسسات علمية مرموقة. وفي الغرب، لم تقتصر الجهود على ترجمة هذه النصوص إلى لغات أجنبية، بل امتدت أيضًا إلى تحقيقها بعناية فائقة، حيث درس باحثون غربيون المخطوطات العربية مع مقارنتها وتحليلها باستخدام أدوات حديثة وأساليب منهجية دقيقة. ساهمت هذه الجهود المشتركة في فتح آفاق جديدة لفهم هذا التراث وتقديمه بشكل يلائم الجمهور الأكاديمي العالمي. يُشير هذا التعاون إلى مسار إيجابي تتجه إليه هذه الجهود، مؤكدًا أهمية الاستمرار في تعزيز هذا الحقل المعرفي وتوسيع نطاقه.
ثم إن استقبال الغرب للكتب العربية المحققة والمترجمة ينطوي على جوانب عديدة. من جهة، هناك اهتمام متزايد بالتراث العربي والإسلامي في الأوساط الأكاديمية الغربية، مما يعزز دراسة هذا التراث وفهمه بموضوعية. النسخة التي أعددتها من «نهج البلاغة» لقيت اهتمامًا كبيرًا بسبب محاولتها الجمع بين الدقة النصية والتحليل التاريخي، وهو ما يتيح للباحثين الغربيين الاطلاع على هذا النص بمنهجية علمية جديدة. ومع ذلك، يُلحظ محدودية الاهتمام من جانب الجمهور العام للتراث العربي والإسلامي.
من التحديات التي تواجه محققي التراث العربي ومترجميه: صعوبة النصوص وندرة المخطوطات، وتحقيق النصوص التراثية وترجمتها يُعد تحديًا كبيرًا؛ بسبب تعقيد اللغة والمصطلحات المستخدمة، فضلًا عن تباين النسخ المخطوطة واحتوائها على تصحيفات وأخطاء. ثانيًا، هناك تحدٍّ تأويليّ: يحتاج المحقق إلى فهم عميق للسياق التاريخي والثقافي للنصوص، وهو أمر قد يتطلب سنوات من الدراسة والتأمل. ثالثًا، غالبًا ما يواجه الباحثون نقصًا في التمويل والدعم المؤسسي اللازمين لتحقيق نصوص تراثية بشكل متقن، وهو ما يضعف إمكانية إخراج عمل شامل ودقيق. ورابعًا، حاجة المحقق والمترجم إلى تقديم النصوص بأسلوب يجمع بين الأمانة العلمية والقدرة على جذب اهتمام الباحثين.
أرى أن هناك حاجة ملحة لتعزيز التعاون بين الباحثين العرب والغربيين في تحقيق النصوص التراثية. كما أن التطورات التقنية يمكن أن تؤدي دورًا محوريًّا في تسهيل الوصول إلى المخطوطات وتحليلها. في الوقت نفسه، ينبغي توجيه جهودنا ليس فقط لتحقيق النصوص، بل أيضًا لتقديمها بأسلوب يبرز قيمتها الإنسانية العالمية، كما حاولتُ فعله في مشروعي الخاص بـ «نهج البلاغة».
إن تحقيق التراث العربي وترجمته ليس مجرد عمل أكاديمي، بل هو جهد يسهم في بناء جسور بين الثقافات وتعزيز الحوار العالمي. ومن خلال التغلب على التحديات، يمكننا أن نقدم صورة أكثر دقة وشمولية عن تراثنا الغني، مع ضمان استمرارية تأثيره في تشكيل الفكر الإنساني.
التراث العلمي العربي
ومجهودات تحقيقه

عبدالله يوسف الغنيم – أكاديمي وباحث كويتي
لا شك أن قاعدة المهتمين بالمخطوطات الإسلامية والأدبية وغيرها من العلوم النظرية أوسع بكثير من المهتمين بالجانب العلمي من التراث العربي المخطوط، ساعد على ذلك اعتماد معظم الجامعات العربية درجات علمية على تحقيق النصوص العربية ودراستها. وقد يكون هذا سهلًا ومقدورًا عليه في الكليات النظرية، لكن في الكليات العلمية والتطبيقية يحتاج الأمر إلى شخص مؤهل في مجال اللغة والأدب وأصول النظر في المخطوطات وتحقيقها، إلى جانب المعرفة العلمية بمادة المخطوط، وهذا يحتاج من المختصين بالطب أو الهندسة أو الجغرافيا جهدًا مضاعفًا لا يناله إلا مجتهد. ويضاف إلى ذلك اهتمام معظم المكتبات التجارية بنشر الكتاب الذي تضمن توزيعه توزيعًا واسعًا، وهو أمر لا يتحقق في مجال كتب التراث العلمي.
مؤسسات عنيت بالتراث العلمي
لكن ذلك لا يعني أنه لا توجد جهود في مجال نشر التراث العلمي العربي، فمن أبرز المؤسسات التي اهتمت بالتراث العلمي العربي معهد التراث العلمي بحلب، وهو إحدى المؤسسات التي نشأت عام 1976م، والمعهد يتبع جامعة حلب، ويهتم بإسهامات العلماء العرب ودورهم في بناء الحضارة الإنسانية، وقد عقد هذا المعهد ما يزيد على ثلاثين مؤتمرًا متعلقًا بتاريخ العلوم العربية، وتصدر عنه مجلة «تاريخ العلوم العربية» التي صدر عنها نحو 15 مجلدًا؛ ومن أبرز إصداراته «كتاب الحيل» تصنيف أبناء موسى بن شاكر وتحقيق أحمد يوسف الحسن وهو في مجال الهندسة الميكانيكية، وله مجموعة من الإصدارات في مجال الصيدلة والطب والنبات وغيرها من مجالات التراث العلمي العربي.
ومن هذه المؤسسات أيضًا مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، الذي صدرت عنه مجموعة من كتب التراث العربي العلمي؛ منها على سبيل المثال: «كشف الرين في أحوال العين» لابن الأكفاني (ت 749هـ)، و«نور العيون وجامع الفنون» لصلاح الدين الكحال (ت 696هـ). وفي مجال الكحالة أيضًا نشرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط «الكافي في الكحل» لخليفة بن أبي المحاسن الحلبي (ت 656هـ)، و«المهذب في الكحل المجرب» لابن النفيس (ت 687هـ)، ومن أبرز من اشتغل في تحقيق هذه الكتب ومثيلاتها من كتب الكحالة وطب العيون كان محمد ظافر وفائي ومحمد رواس قلعجي.
وفي عام 1978م، تشرفت بتأسيس قسم التراث العربي في المجلس الوطني، وكان التركيز في بداية عمل ذلك القسم على نشر التراث العلمي العربي، وكانت باكورة ذلك كتاب «المناظر» للحسن ابن الهيثم، وهو من تحقيق العالم الكبير عبدالحميد صبرة رحمه الله، و«تاريخ علم الجبر في العالم العربي»، دراسة وتحقيق أحمد سليم سعيدان، و«رسائل ابن سنان» وهي أيضًا من تحقيق أحمد سليم سعيدان، وأقام القسم ندوة بالتعاون مع معهد التراث العلمي في حلب في موضوع «إسهامات العرب في علوم النبات والري والفلاحة»؛ صدرت بحوثها في أربع مجلدات.
وفي الكويت أيضًا أصدرت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كتاب «البصائر في علم المناظر» لكمال الدين الفارسي، بتحقيق الدكتور مصطفى موالدي، وصدر عن المؤسسة أيضًا للدكتور جلال شوقي ثلاثة كتب من أهم كتب التراث العربي؛ هي: «العلوم العقلية في المنظومات العربية»، «منظومات ابن الياسمين في أعمال الجبر والمقابلة» و«أصول الحيل الهندسية في الترجمات العربية»، وكتاب التصريف لمن عجز عن التأليف» في الطب لأبي القاسم الزهراوي، وهو من تحقيق الدكتور صبحي محمود حمامي.
ولن ننسى في هذا المجال إصدارات معهد المخطوطات العربية في القاهرة؛ ومنها: كتاب «المنجح في التداوي من جميع الأمراض»، لابن أبي سعيد العلائي، من علماء القرن السادس الهجري، و»مصالح الأبدان والأنفس» للبلخي، و«إنباط المياه الخفية» للكرجي، وعدد آخر من الكتب لا مجال لإحصائها هنا.
هذه الأعمال وغيرها تشهد أن العلوم العقلية والتطبيقية لم تكن بعيدة من اهتمام الأفراد والمؤسسات العلمية، التي ذكرنا بعضها، وهناك عدد آخر من الإصدارات لا يتسنى لنا في هذا المجال تفصيل الكلام عنها؛ صدرت عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي (لندن)، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية (الرياض)، ودار الحكمة (تونس)، وغيرها من المؤسسات العلمية ودور النشر الخاصة.
فضل المستشرقين
ولا يمكن القول: إن المستشرقين تفوقوا على العرب في الاهتمام بالتراث العربي ونشره، فهذا القول لا ينطبق على جميع المستشرقين، كما أنه لا ينطبق على جميع العرب؛ فقد ظهر من علماء العربية من فاق المستشرقين بمراحل في تحقيقاتهم للتراث العربي، وتمثل ذلك في دقة التحقيق والمقابلة بين النسخ وفي تعليقاتهم القيمة، ونذكر منهم من الأساتذة الكبار محمود محمد شاكر وعبدالخالق عضيمة والسيد أحمد صقر، أما المتأخرون من المشتغلين بالتحقيق فيغلب على أعمالهم الاستعجال وطلب المال، وكان لغياب النقد أثره في تمادي بعضهم وجرأته على التحقيق.
أما المستشرقون فقد كانت لهم ريادة النشر لكثير من تراثنا المخطوط، ونتوقف عند أحد هؤلاء؛ هو الهولندي «دي خويه»، الذي حقق «معجم البلدان» لياقوت، و«معجم ما استعجم» للبكري، و»تاريخ الرسل والملوك» للطبري، وعددًا آخر من كتب التراث العربي التي كانت في بداية القرن العشرين المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه الباحثون. ولقد يسر لنا «دي خويه»، وهو عالم كبير من علماء الاستشراق، الحصول على هذه المصادر المهمة، لكننا لا بد من مراجعة أعماله مراجعة دقيقة؛ فمن تجربتي في مراجعة تحقيقه لـ «معجم ما استعجم» للبكري وجدت أن هناك بعض الأسطر التي لم ينتبه إليها في نسخة الأمبروزيانا، التي كانت إحدى النسخ التي استخدمها في التحقيق، كما فاته الاطلاع على عدد من النسخ المخطوطة المهمة من الكتاب المذكور، ومن أبرزها نسخة المكتبة الأزهرية التي تحفل حواشيها بتعليقات العلماء وملاحظاتهم.
ومع ذلك فإننا لا نريد أن نغمط حق عدد من المستشرقين الذين قدموا دراسات تحليلية ومستفيضة في مجالات التراث العربي المختلفة وجهودهم؛ وهي دراسات تستحق الرجوع إليها والإفادة منها بالاطلاع عليها وترجمتها؛ ففيها توثيق وتأصيل للفكر الإسلامي العربي. وقد أحسن الأستاذ فؤاد سِزكين، رحمه الله، عندما نشر -من خلال معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية بفرانكفورت- مئات الكتب التي جمع فيها النصوص والمقالات والدراسات المتعلقة بالعلوم العربية في مجالات الطب والجغرافيا، وغيرهما، المنشورة في أوربا بمختلف اللغات، وتضمنت مقالات وبحوثًا، يشكّل جمعها على هذه الصورة إضافة مهمة للمكتبة العربية وللمعنيين بالتراث العربي.

مخطوطات إفريقيا
ندين لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بجهودها الكبيرة في التعريف بالتراث الفكري والثقافي لعدد من الدول الإسلامية جنوب الصحراء الكبرى، ونخص بها السنغال وغانا ومالي ونيجيريا إضافة إلى موريتانيا، وذلك من خلال توثيق وفهرسة مخطوطات المكتبات الخاصة والعامة في تلك المناطق، وإصدار مجموعة من الفهارس التي اشتملت على ما يقرب من 18 ألف مخطوط، وقد قدمت تلك الفهارس صورة للحياة الفكرية في تلك المناطق في القرون الماضية، ووثقت تاريخ الإسلام وارتباط علماء تلك المنطقة بتعاليمه من خلال المخطوطات العلمية والتعليمية، ووثقت أيضًا تاريخ شعوب تلك المناطق ورجالها وعلمائها.
وقد يرى بعض المشتغلين بالتراث العربي أن مخطوطات هذه المناطق في أغلبها حديثة النسخ، أو يغلب عليه النهج التعليمي، وهذا لا يقدح في قيمة ذلك التراث وفي أهميته بالنسبة لظروف المناطق التي يوجد بها، بل يجب أن نقدم الشكر للعلماء الذين حافظوا على هذا التراث العربي، وكذلك لأبنائهم الذين تولوا الاهتمام به من بعدهم. مع هذا، فإن ذلك القدر من المخطوطات لا يخلو من نُسَخ نادرة، ترفع من قدره وتزيد في وزنه، ونذكر هنا، على سبيل المثال، كتاب «تصحيح الوجوه والنظائر» لأبي هلال العسكري، الذي نُسِخَ في قرطبة عام 480 من الهجرة، وكتاب «البيان والتحصيل» لابن رشد، وكتاب في الهندسة لثابت بن قرة وغيرها من المخطوطات. ولا شك أن الدراسة المتأنية لتلك المخطوطات التي تحتاج من المختصين إلى العناية والتدقيق ستؤدي إلى فوائد تضاف لميراث التراث العربي والإسلامي.
دور الجامعات
لا بد من تأكيد أن التراث العربي من المخطوطات هو الجذور الثقافية لهذه الأمة، وعنوان أصالتها وأساسها الفكري الذي ينبغي الاهتمام به والعناية بنشره وتحقيقه، وهذا ما تقوم به الأمم الأخرى، على الرغم من أن بعضها لا يملك معشار ما لدينا من مخزون علمي وثقافي؛ فعلى الجامعات والمؤسسات العلمية في عالمنا العربي تقديم مزيد من الدعم للعاملين في هذا المجال، وإتاحة الفرصة لهم لمراجعة دور المخطوطات في العالم، والاطلاع على ما تحويه خزائنها من الكنوز العربية. ونلفت الانتباه أيضًا إلى أن النظر في الفهارس لا يعد كافيًا لمعرفة تلك المخطوطات؛ فالاطلاع على الأصول -كما ثبت لي- يكشف عن مخطوطات مهمة أخطأ الذين أعدوا تلك الفهارس في نسبتها إلى أصحابها.
والأمر الثاني الذي ينبغي تأكيده هو الدعوة إلى تشجيع النقد في مجال تحقيق المخطوطات، وذلك للتخفيف من الجرأة على التراث العربي دون استكمال الأدوات اللازمة للعمل في مجاله. والعمل على كشف من لا يتورعون عن السطو على أعمال الآخرين ونشرها.
جهود العلماء المغاربة في تحقيق المخطوط الأندلسي
العلامة محمد بن شريفة أنموذجًا

محمد العمارتي – أكاديمي وباحث مغربي
الصلات بين الأندلس والمغرب قديمة جدًّا، متجذرة في تاريخهما المشترك، رسخها وعمق جذورها ديننا الإسلامي الحنيف بعد فتح هذه الربوع المباركة. وما زلنا في المغرب إلى يومنا هذا نلحظ مظاهر هذا التواصل على الرغم من مرور قرون على نهاية الأندلس، فلا يزال تراث الأندلس محفوظًا ومستمرًّا في المغرب.
يعد السلطان أحمد المنصور السعدي صاحب فضل كبير في إنقاذ تراث الأندلس وإحيائه، فقد أنشأ بمراكش خزانة ملوكية كانت تضم كل نفيس وغريب من هذا التراث، وفي خزائن الكتب المغربية اليوم بقية باقية منها، مع وجود عدد كبير من الأندلسيين الذين نقدر أنهم حملوا ما أمكن حمله من تراثهم(1). ولن ننسى الدور الذي كان لجامعة القرويين ومثيلاتها بالمغرب في حفظ تراث الأندلس الفقهي الديني والنحوي والصوفي وغيره، بعد أن جُلِبَت مخطوطاته من أصقاع متفرقة من جهات المغرب.
وبناء عليه، ومواءمة مع هذا التوجه العلمي النبيل في الاهتمام بكل ما هو أندلسي، اعتنى المغاربة باقتناء المخطوطات وتملكها وتحبيسها على الخزائن العامة ودور العلم، وتحقيقها وتخريجها ونشرها، فظهرت على إثر ذلك مدرسة متميزة في تحقيق المخطوط الأندلسي.
ومع ظهور الطباعة بالمغرب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي سارع المغاربة إلى طباعة المخطوط الأندلسي ونشره، وجعلوه على قائمة المطبوعات. كما كان لتأسيس الجامعات المغربية الأثر البالغ في إحيائه والتعريف به، مع إقبال طلابها بكل نهم على نفض الغبار عنه، ليمتد هذا الاهتمام إلى مختلف مراكز البحث المغربية التي ما زالت إلى يومنا هذا تعنى بتحقيق ذخائر المخطوط الأندلسي.
ولم يقتصر الرواد الأوائل للمدرسة المغربية في التحقيق على التنظير ورسم القواعد فقط، بل تعداه إلى التطبيق العملي، فحققوا مخطوطات أندلسية كثيرة، أعملوا فيها ما قعدوه من قواعد، من معارضة بين النسخ، وإصلاح التصحيفات والتحريفات اللاحقة بها، وغيرها من المباحث التي هي أهم ما يقوم عليه التحقيق العلمي للمخطوطات. وهذا يدل على أن علماء المغرب قد عرفوا قديمًا التحقيق علمًا وعملًا، ويشهد على ذلك مؤلفاتهم التي تشكل دروسًا تطبيقية لطلبة تحقيق المخطوط الأندلسي.
فلا عجب إذن أن يُوَرِّثوا ذلك لصفوة من الباحثين المعاصرين الذين انكبوا على تحقيق تلك الذخائر ونشرها، فبزغ أعلام يؤكدون نبوغ المدرسة المغربية في تحقيق هذا التراث أمثال عبدالهادي التازي، ومحمد الكتاني، وعبدالسلام الهراس، وسعيد أعراب وغيرهم، ونحن نجد في الواقع مظاهر هذه العناية في عموم العالم العربي والإسلامي.
هذه إشارات سريعة إلى بعض مظاهر العناية بالمخطوط الأندلسي من جانب العلماء المغاربة، وهو ما يستدعي الحديث عن أهم أعلام هذه المدرسة. وطلبًا للإيجاز سأقتصر هنا على ذكر واحد منهم ممن رسموا بجهودهم الملامح الكبرى لهذه المدرسة، وهو: العلامة الدكتور محمد بن شريفة، فقد تضمن مشروعه العلمي التوثيقي مباحث مؤسسة لتحقيق المخطوطات الأندلسية وتقديمها للقراء والدارسين العرب في صورها المضبوطة علميًّا؛ إذ لم يكتفِ بالتنظير لعلم التحقيق فحسب، بل مارسه وطبقه، ويشهد على ذلك كتبه وإنجازاته العلمية الرصينة في هذا الباب.
فإذا كانت الخطوة الأولى للمحقق قديمًا وحديثًا هي جمع النسخ المخطوطة للكتاب والمقابلة بينها، فإن عملية التحقيق ومراحله تقوم على أساس اختيار النسخة الأم، والإشارة إلى الاختلاف في الهوامش. والمتصفح لأعمال محمد بن شريفة المحققة يدرك مدى سعة إحاطته بشتى أنواع المصادر التي تعينه على النهوض بهذه المهمة العلمية الجليلة خدمة للتراث الإسلامي الأندلسي.
وبناء عليه فإن مشروعه العلمي يتميز بالشمول والعمق، والاستقصاء والغزارة والتنوع، كما يتسم بالمهارة والاطلاع الواسع على التراث الأندلسي، فقد أبدى عناية كبرى بتحقيق المخطوطات في مجال الثقافة الفصيحة الرسمية، كما أولى اهتمامًا علميًّا آخر بتحقيق الفنون الشعرية المستحدثة في الغرب الإسلامي، ولا سيما أمثال العوام الأندلسية، فحاول رد الاعتبار لهذه النصوص العامية من خلال تحقيق نصوصها والإشادة بما تزخر به من معطيات أدبية ولغوية وتاريخية مهمة قد يعجز المؤرخون وعلماء الاجتماع عن الإلمام بقضاياها ومعطياتها؛ لأنها استطاعت أن ترصد المجتمع الأندلسي بتفاصيله النابضة بالحياة.

نشأة محمد بن شريفة
ولد عام 1931م بإقليم الجديدة بالمغرب، وبها حفظ القرآن الكريم وتلقى العلوم الدينية والدنيوية. قرأ شروح المتون في النحو والتوحيد والفقه على بعض علماء مدينتي الجديدة وآسفي. واستطاع محمد بن شريفة أن يكون رائدًا من رواد الثقافة المغربية الحديثة، ومن أركان الجامعة المغربية التي منحها في مجال التراث الأندلسي، إشعاعًا واسعًا، حتى لا نكاد نعثر إلا نادرًا على أمثاله، في مجال تخصصه المرتبط بالتاريخ الأدبي والحضاري الأندلسي.
وابتداء من سنة 1959م سينتقل إلى مدينة الرباط ليزاول مهام التفتيش بالتعليم، حتى يكون قريبًا من كلية الآداب بالرباط التي سجل الدراسة الجامعية بها عند تأسيسها. فحصل على الإجازة منها، وكان في طليعة أول فوج تخرج من كلية الآداب بالرباط عام 1960م. وقضى السنة الدراسية 1962م بالمركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في الدول العربية ببيروت.
كان عصاميًّا في ثقافته، وتحصيله العلمي، وأصبح أستاذًا مساعدًا في كلية الآداب بالرباط ابتداء من السنة الجامعية 1962م بعد أن سجل موضوع رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا، فكان بذلك أول من حصل على هذا الاستحقاق العلمي في الأدب من الكلية نفسها سنة 1964م.
سافر إلى مصر لتحضير درجة الدكتوراه في الآداب العربية بجامعة القاهرة، سنة 1965م. وظل هناك إلى أن ناقش رسالته في سنة 1969م، فحصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، وكان أول مغربي يحصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة من جامعة القاهرة.
عاد إلى المغرب بعد ذلك، فعمل بالتدريس الجامعي أستاذًا للأدب الأندلسي منذ عام 1970م في كل من كليتي الآداب بالرباط وفاس، إلى حين تقاعده عام 1995م.
تقلد مهمة محافظ الخزانة الكبرى بالقرويين (1976- 1978م)، كما كان عميد كلية الآداب بجامعة محمد الأول بوجدة منذ تأسيسها سنة 1978م، ثم مسؤولا عنها إلى غاية سنة 1981م عندما التمس إعفاءه منها بعد أن قام نظامُها، وتم بناؤها. فرجع إلى الرباط ليتفرغ للأعمال العلمية في الكلية والأكاديمية، ثم تحمل مهام محافظ الخزانة العامة للوثائق والمخطوطات بالرباط في 1989م بظهير شريف، فظل قائمًا عليها إلى سنة 1995م(2).
مؤلفاته في مجال المخطوطات وتحقيقها
أغنى محمد بن شريفة المكتبة المغربية والعربية بالعديد من المؤلفات الأندلسية المحققة النادرة، نذكر منها: – «أمثال العوام في الأندلس»، (جزآن)، لمؤلفه الزجالي القرطبي، مستخرجة من كتابه: «رَيّ الأُوام ومرعى السَّوام في نُكت الخواص والعوام» حققها وشرحها وقارنها بغيرها، طبعة: 1975م، فاس- المغرب.
– «التعريف بالقاضي عياض» لولده أبي عبدالله محمد بن عياض اليحصبي، دراسة وتحقيق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، الطبعة الثانية 1982م.
– «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك»، للقاضي عياض. يقع هذا الكتاب في خمسة أجزاء، وقد حقق محمد بن شريفة الجزء الخامس من الكتاب، الرباط، الطبعة الثانية: 1983م.
– السفر الثامن من كتاب «الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة»، تأليف أبي عبدالله محمد الأوسي المراكشي، تقديم وتحقيق وتعليق.
– تحقيق رسالة «روضة الأديب في التفضيل بين المتنبي وحبيب» لابن لُبَّال الشريشي، ضمن كتاب «أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة» دار الغرب الإسلامي، لبنان، 1986م.
– «ملعبة الكفيف الزرهوني»، تقديم وتعليق وتحقيق، المطبعة الملكية، الرباط، 1987م.
– «التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات»، تأليف: ابن عميرة أبي المُطَرِّف، تقديم وتحقيق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى: 1991م.
– كتاب «الزمان والمكان» لأبي جعفر أحمد بن الزبير الجيَّاني، حققه وضبطه وقدم له وعلق عليه، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1993م.
– «ابن مغاور الشاطبي، حياته وآثاره»، دراسة وتحقيق، الدار البيضاء، طبعة: 1994م.
– «ابن حريق البلنسي، حياته وآثاره»، دراسة وتحقيق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996م.
– «مذاهب الحكام في نوازل الأحكام»، للقاضي عياض وولده محمد، تقديم وتحقيق وتعليق، منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1990م.
– «أديب الأندلس أبو بحر التجيبي: عمر قصير وعطاء غزير»، تحقيق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999م.
– «ابن رشيق المرسي، حياته وآثاره»، دراسة وتحقيق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، الطبعة الأولى، 2008م.
– «ابن رزين التجيبي حياته وآثاره»، دراسة وتحقيق، الدار البيضاء، 2009م.
– «فهرسة المِنتوري القيسي»، تصنيف أبي عبدالله القيسي المنتوري، دراسة وتحقيق، منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء، الرباط. الطبعة الأولى: 2011م.
– «زاد المسافر وغرة محيا الأدب السافر»، ويليه ذيل زاد المسافر، لأبي بحر صفوان بن إدريس التجيبي، تحقيق، الدار البيضاء: 2012م.
– «كتاب الذيل والتكملة» لابن عبدالملك المراكشي، ستة مجلدات (ثمانية أسفار) حققه وعلق عليه الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد بن شريفة والدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي تونس: 2012م.
– «تاريخ كائنة ميورقة» لأبي المطرف ابن عميرة، ضمن الأعمال الكاملة لأبي المطرف ابن عميرة، دراسة وتحقيق: 2018م، الجزء السادس(3).
وبهذا يعد محمد بن شريفة أحد بناة الدراسات الأندلسية وأعمدتها، ومنارتها في العالم الإسلامي، فهو عميدها؛ وأحد المدافعين البارزين عن فنونها الأدبية الفصيحة منها والعامية؛ المستحدثة بالأندلس دون منازع، وسمَها بعلامات بارزة في مختلف إنجازاته وتحقيقاته ومؤلفاته الكثيرة المتنوعة. كما يُعَدّ أحد كبار الدارسين في الثقافة العربية الذين حققوا التراث الأندلسي، وأخرجوا نفائسه وأعلاقه، فعملوا على تداول نصوصه الغنية التي كانت منسية ومغمورة ومدرجة في دائرة الإهمال، فَفَكَّ الحجب عنها وأماط اللثام عن ذخائرها، فعادت مشرقة بارزة للعيان، بعد أن كادت تخنقها رتابة السنين والإهمال والنسيان، فهو بحق واضع أسس وقواعد المدرسة المغربية في الدراسات الأندلسية أيضًا.
فقد عُرف منذ أزيد من خمسين سنة مهتمًّا بتراث الأندلس، جمعًا وتحقيقًا وتعليقًا وتأطيرًا. وهو اهتمام يندرج في سياق العناية بتأريخ أدب الغرب الإسلامي؛ عبر النبش في المصادر والأصول، منها المخطوطات والمظان والمصنفات وغيرها. فمنذ عمله الأول عن «أبي المُطرِّف بن عَمِيرَة المخزومي»، وهو يراكم من الدرر الأندلسية الفريدة؛ باحثًا متمرسًا يقتفي أثر المؤرخ الأديب، ويتخذ لنفسه مسارات دقيقة تراعي أهم الشروط التي تستدعيها عملية التأليف والتحقيق. يقول في مقدمة الكتاب: «ومع هذه الجهود الطيبة التي عززت الأعمال القيمة التي قام بها المشتغلون بالدراسات الأندلسية في بلادنا، فإننا نظن أن ميدان الأدب الأندلسي الفسيح ما يزال مفتقرًا إلى العناية؛ ذلك أن كثيرًا من جوانبه لم تدرس بعد، كما أن قسمًا كبيرًا من المكتبة الأندلسية لا يزال مخطوطًا، وما يزال كثير من أعلام الأدب الأندلسي في مختلف العصور ينتظرون من ينفض عنهم غبار الزمن، ويجلو عنهم صدأ القِدم؛ كي يَظهروا في صور ناصعة مشرقة»(4).

جوانب من جهوده
بالحديث عن التحقيق والنسخ المرتبطة بالنص المراد تحقيقه، وبالرغم من بعض الصعوبات التي قد تعترض الباحث في عملية تحقيق المخطوط ذي النسخة الواحدة والوحيدة؛ فإن محمد بن شريفة لا يألو جهدًا في القراءة والفحص والتدقيق من أجل إخراج نسخة سليمة تستجيب للمعايير العلمية والأدبية الصارمة. يقول في تقديمه لتحقيق كتاب «ملعبة الكفيف الزرهوني»: «يعرف المنشغلون بتحقيق النصوص محاذير إخراج النص الذي لا توجد منه إلا نسخة واحدة، ولربما أوصوا بالعدول عن إخراجه، وتزداد هذه المحاذير إذا كانت النسخة الوحيدة سقيمة النقل والضبط، سيئة الكتابة والخط، كما هي الحال في النسخة التي بين أيدينا من هذه الملعبة»(5).
وبناء على هذا التوصيف لم يقف محمد بن شريفة مكتوف اليدين حينما لا يجد أمامه سوى نسخة فريدة؛ بل اعتمد على مقروءاته وخبرته بالخطوط من أجل استكمال عملية التحقيق عبر استقصاء الأخبار والمعلومات من الكتب المناسبة.
كما لم تعد عنده مكانة التراث الأندلسي وجاذبيته منحصرة في تلك الأسماء الأندلسية المتداولة والمعروفة في الآداب العربية عامة التي فقدت بريقها وتوهجها الأدبيين والجماليين مع مرور السنين، ومع كثرة التداول والدراسة والبحث أمثال: ابن زيدون، ابن الخطيب، المعتمد بن عباد، ابن خفاجة، ابن زمرك، وابن عمار…، وإنما أعاد إحياء الهامشي أو العامي من هذا التراث المخطوط الغني المتنوع. وهذه مكرمة كبرى من مكرماته العلمية، أي الالتفات إلى أدب غني ومهمّ، لكنه هُمِّش لأسباب مختلفة ومتعددة أدبية واجتماعية وسياسية وفنية معروفة.
يقول ابن شريفة في هذا الصدد: «وقد دعاني تقيدي بهذا الشرط أن أمكث فترة غير قصيرة أستقرئ الأعمال التي أنجزت في الدراسات الأندلسية سواء في ذلك المنشورة وغيرها، وأفتش بين المخطوطات عن الموضوعات الجديدة، وهي كثيرة، وقد تنقلت بين موضوعات مختلفة، قبل أن يستقر اختياري على ابن عميرة موضوعًا لهذا العمل المتواضع»(6).
خاتمة
نخلص من كل ما سبقت الإشارة إليه أن محمد بن شريفة يبحث خلال مساره العلمي عن المخطوطات المغمورة؛ وينقب في المصادر التي لم تصلها بعدُ يد الباحث، بهدف نفض الغبار عنها وإخراجها للباحثين المهتمين في حلة شبيهة من الأصل أو قريبة منه. ولأن عملية التحقيق بأنواعها المختلفة، تستدعي ضرورة جهدًا مكثفًا وصبرًا مضاعفًا؛ فإن ابن شريفة لم يحد عن هذا الاختيار المنهجي الصارم؛ بل نجده يمضي فيه قدمًا بما توافر لديه من مؤهلات علمية ومعرفة بأنواع الخطوط وأصناف النصوص. فالتحقيق ليس إخراج نص ونشره كيفما اتفق؛ وإنما هو جهد جهيد، يجمع بين الفنّية والعلمية، بدءًا بجمع النسخ ومقابلتها، مرورًا بتحقيق العنوان واسم المؤلف ونسبة النص/ الكتاب، وانتهاءً بتحقيق المتن وإخراجه وصنع فهارسه المختلفة.
التحقيق والتوثيق الرقمي
للتراث المخطوط

محمود عبدالباسط – باحث مصري
يمثل الإرثُ العلمي الهائل، من المخطوطات التي تركها أسلافُ الأمة العربية والإسلامية مُسجِّلين فيها نتاجهم الفكري والثقافي من فقه وعلوم وآداب وغيرها، مصدرًا أوليًّا للمعلومات التي يعتمد عليها، كليًّا أو جزئيًّا، عددٌ من الباحثين لدراسةِ موضوعات متعددة. تبقى هذه المعلومات شاهدةً على ما حققه هؤلاء في ميادين عدة عبر مختلف العصور، وتظل همزةَ وصلٍ وجسرًا للتواصل العلمي بين الحاضر والماضي، والأصلَ الثابت والجذرَ القوي الذي يُمكن أن يُبنى عليه مستقبل باهر.
تقف أمامَ عمليةِ تحقيق النصوص التراثية المخطوطة مشكلات وصعوبات عدة، يتعلق بعضُها بالمخطوطة نفسها أو بأماكن حفظها أو بمحققها الذي قد يكون محصولُه اللغوي والمعرفي قليلًا، فلا يُمكِّنه من فهمِ النص دلالة وتركيبًا؛ فكثيرٌ من المكتبات والمخازن وأماكن وجود ذاك التراث العلمي قد تعرض للنهب والسلب والحرق نتيجة الفتن الداخلية المتكررة أو الغزوات والاحتلال الخارجي (فاجعة بغداد وسقوط غرناطة على سبيل المثال لا الحصر)(7)، وقد يُغلق بعضُ أرباب خزائن المخطوطات أبوابهم في وجه الباحثين، مع امتلاكهم أحيانًا نسخًا لمخطوطات فريدة من نوعها، التي لها أهمية بالغة في عملية التحقيق. علاوة على ما يصيب العديد من المخطوطات من تلف وتآكل جراء الإهمال وعدم العناية بها بعكس ما كانت عليه في عهود الأسلاف، أو نقص كبير في أجزائها أو سوء تصويرها، وبالتالي قلة وضوح نسخها ووجود تشوهات بها، ولا ننسى كذلك ما قد تتعرض له أثناء حدوث أية كوارث طبيعية.
تبدأ المشاكل التي تواجه المحقق في بعض الأحايين قبل شروعه في التحقيق؛ إذ قد يحصل على مخطوطة فريدة أو نسخة وحيدة منها، أو على النقيض قد تكون النسخ الكثيرة للمخطوط هي المشكلة(8)، ثم قد تنتقل تلك المعوقات والصعوبات إلى العنوان؛ فبعض المخطوطات تكون خالية منه، إما لتعرضه للطمس أو لفقد الورقة التي تحمله أو تغييره بأيدي ناسخي المخطوط أو بداعٍ من دواعي التزييف. ليس هذا فحسب؛ بل اسم المؤلف نفسه ثم التحقق من نسبة تلك المخطوطة لذلك المؤلف(9).
تأتي بعد ذلك مرحلة محاولة تنقية متن المخطوط مما أصابه من التلف أو الفساد على أيدي النُّسَّاخ عبر الأزمان، وتقديمه للأجيال كما أراده صاحبه أو أقرب إلى ما أراده؛ إذ تتعدد الأخطاء والتصحيفات والتحريفات بالنقص والزيادة في النسخ المختلفة للمخطوط الواحد؛ لعدم مراعاة التدقيق والتحقيق أثناء قيام النُّسَّاخ بكتابة تلك النسخ. يُضاف إلى ذلك صعوبة الوقوف أو الوصول إلى بعض المصادر التي يعتمد عليها أو يستقي منها مؤلف المخطوطة معلوماته أو شرحه.
ولمعالجة مثل هذه المشكلات والخروج بأفضل النتائج المرجوة يجب أنْ يؤمن مَنْ يقوم بمهمة تحقيق المخطوطات بأنَّه يخوض ميدانًا صعبًا، وعليه أنْ يتحلَّى بالصدق والدقة والأمانة العلمية، إلى جانب الصبر في مواجهة المشاكل والصعوبات والأناة في فهم النص، وبذل قصارى الجهد في مقابلة ومقارنة نسخ المخطوطة، ومراجعة المصادر التي اعتمد عليها صاحبها(10)، فالتحقيق كما يقول عبدالسلام هارون: «هو نتاج خلقي، لا يقوى عليه إلا من وهب خلَّتين شديدتين: الأمانة والصبر، وهما ما هما؟!»(11)، كما عليه ألا يسعى إلى إحلال كلمة بدل أخرى بدعوى أنها أصح منها، ولا يصحح خطأً نحويًّا، ولا يحاول تحسين صياغة وأسلوب المؤلف(12).
وجدير بالذكر أنَّ توسع بعض الجامعات في قبول رسائل علمية (ماجستير ودكتوراه) لموضوعات تحقيق المخطوطات مع كونه خطوة موفقة وإسهام جاد في نشر تراث الأمة، إلا إنَّه لا بدَّ من وجود قيود شديدة لقبول مَنْ يتصدى لمثل هذا العمل من الطلاب ذوي القدرة والكفاية في التحقيق.
التراث المخطوط بين إيجابيات الرقمنة وسلبياتها
شهدت ميادين ومناحي الحياة المختلفة في العقود الماضية طفرة كبيرة في التطور التكنولوجي، وهو الأمر الذي انسحب على علم المكتبات والمخطوطات في محاولة لتنظيمها وتصنيفها وضبطها في أُطر وأنظمة آلية، ولا سيما أنَّ هذا التراث ذو طبيعة هشَّة تجعله ضعيفًا غيرَ قادرٍ على مقاومة عوامل الطبيعة والزمن(13). وقد سعى القائمون على تلك المكتبات والأرشيفات سعيًا دؤوبًا لاستثمار التقنيات التكنولوجية الحديثة، وحرصوا على توظيفها في رقمنة تلك المخطوطات(14)؛ لإدراكهم أنَّها أصبحت وسيطًا لا غنى عنه، حتى وإنْ حدث هذا بعدما عاشت أمتنا العربية والإسلامية أزمة معرفية يمكن التعبير عنها بلغة اليوم بالفجوة الرقمية. وعلى أية حال فإنَّ حفظ الوثائق بهذه الطريقة يساعد على زيادة عمرها الافتراضي ويضمن استمرار وجودها وعدم اختفائها.
يُقصد بالرقمنة تحويل الحرف إلى الرقم، ومن ثمَّ تُصبح رقمنة التراث المخطوط هي تحويل ذلك التراث من شكله الورقي أو البردي وغيرهما من أنواع الحوامل، حتى المطبوع الورقي إلى الشكل الرقمي أو الإلكتروني، وتخزينه على وسائط متنوعة، وإتاحتها على أقراص أو عبر الشبكة العنكبوتية(15). وتتطلب هذه العملية شأنها شأن أية عمليات أخرى عوامل أساسية عدة من بينها الموارد البشرية ممثلة في الكوادر العاملة من المؤهلين في ميدان الرقمنة، إلى جانب الموارد المالية التي تختلف باختلاف تكلفة مشاريع الرقمنة، والتي من خلالها يتمّ توفير التجهيزات والآليات المطلوبة مثل أجهزة التصوير الضوئي أو الرقمي (الماسحات أحادية اللون والملونة…إلخ) والحواسيب والطابعات وأقراص التخزين والإنترنت وغيرها.

وقد بدأ استخدام هذا التطور التقني الذي ساعد في تخطي حواجز الزمن والمكان وحدود القدرة البشرية في البحث والاستقصاء مع ظهور الميكروفِلْم، تلك التقنية التي أتاحت تسجيل المخطوطات في صور مصغرة ودقيقة بشكل يسهل تداولها وحفظها واسترجاعها بطريقة مختصرة للوقت والجهد والتكلفة، وتوفير الحيز المكاني، وتمكين عدد كبير من الأفراد والجهات في الاطلاع عليها من أماكن متباعدة في الوقت ذاته، مع تجنب الأخطاء التي يمكن حدوثها عند نسخ الوثيقة يدويًّا، إلى جانب الأهمية الكبرى في الحفاظ على المخطوطات الأصلية والنادرة والقيّمة والفريدة في نوعها أو الهشّة والمهترئة من التمزق والتآكل الذي قد تتعرض لها جراء كثرة تداولها بين أيدي الباحثين والمطلعين عليها.
بمرور الوقت حدثت نقلة تقنية كبيرة في التصوير الرقمي وذلك باستخدام آلات تصوير عالية الدقة والجودة يسَّرت الاستفادة من المخطوطات، وسهَّلت قراءتها بشكل أكبر، فأصبح بالإمكان تصفّحها على الحواسيب الآلية والأجهزة الإلكترونية مع إمكانية تكبير الخط ومعاينة نوعيته(16)، بدلًا من بذل جهود مضنية (جسمانية ومادية) في سبيل تتبع الأماكن المختلفة لوجود النسخ المتعددة من المخطوط الواحد في الدولة ذاتها أو في بلدان عدة، إلى جانب ما وفرته على الباحثين من أثمان مرتفعة تفوق قدرتهم المادية إذا ما رغبوا في الحصول على نسخة المخطوط الورقية أو المصورة ضوئيًّا (الميكروفِلْم) الأكثر تكلفة.
أصبح بمقدور كل مستفيد أو أي شخص مهتم بتراثه المخطوط تجميع آلاف نسخ المخطوطات الإلكترونية في مصدر رقمي واحد من خلال أحد الأجهزة الإلكترونية (الحاسوب وغيره) المتصلة بالإنترنت بصورة مجانية ودون مقابل مادي؛ إذ أصبحت الشبكةُ العنكبوتية غنيةً بالمكتبات الرقمية غير النفعية (التجارية) الخاصة أو الحكومية، العربية منها أو الأجنبية. هذا إلى جانب أنَّ الرقمنة بإتاحتها للنص التراثي في صورة مسموعة (نص سمعي) إلى جانب صورته المنظورة قد لبَّت احتياجات ذوي الهمم، وقد ساهمت كل هذه الأسباب في الانتشار الواسع للتوثيق الرقمي للمخطوط. ويبقى بالتالي حضورُ المخطوطات في العالم الرقمي من أجل الخدمات التي قدَّمتها التكنولوجيا للمحققين أو لِمَنْ يستهويه التراثُ المخطوط بصورة عامة.
وتسمح مثل هذه التقنيات الحديثة بإثراء رصيد الخزائن العامة لتراث الأمة بصور ونسخ إلكترونية مما يملكه أصحابُ الخزائن الخاصة في حالة الفشل في اقتنائها عن طريق الشراء أو الإهداء أو الوقف، دون إجبارهم على التنازل عنها، وبالتالي جمع وإنقاذ المخطوطات عامة والنادرة خاصة من الضياع. علاوة على تسهيل نشر الثقافة بين أفراد المجتمع وتعريف أبناء الأمة العربية الإسلامية وغيرهم بتراث وإنجازات الأسلاف.
عائق التعرف إلى شكل المخطوط الأصلي
ومع كل هذه المميزات التي تتمحور حول وظيفتين رئيستين هما الحفظ (التوثيق) والإتاحة، فإنها تعوق التعرفَ إلى شكلِ المخطوط الأصلي ونوعيةِ أوراقه وأحبارِ تدوينه ونوعِ وطرقِ تجليده؛ وبمعنى آخر فإنَّ الرقمنةَ وإنْ أدّت دورًا عظيمًا في العنصر الأول للمخطوط (المتن/ المحتوى/ النص) وهو الجانب المعرفي، فإنَّها عجزت عن تأدية دورٍ مشابه في العنصر الثاني وهو الجسم أو الكيان المادي أو الحامل وما يرتبط به، وبالتالي فإنَّ العلاقةَ الروحية الخفية التي تربط المحققَ مع المخطوطِ الراغب في تحقيقه والتي تتأسس بدءًا من عملية اللمس وتصفح أوراقه سوف تنقطع في ظل الاعتماد الكلي على الرقمنة.
والرقمنة نوعان: صورية ونصّية، وفي الوقت الذي يحمي النوعُ الأول النص الأصلي من التلاعبِ والعبث به، فإنَّ الثاني مع مساعدته للباحث في توفيرِ الجهد والوقت بتسهيل مهمة المقارنة بين النسخ المتعددة للمخطوط الواحد إلا أنَّه يفتح البابَ للعبث بإدخال التعديلات (إضافة وحذفًا) على النص الأصلي بمساعدة برامج خاصة بالتعرف إلى الحروف، وهو الأمر الذي يُشكِّل خطرًا كبيرًا على سلامةِ نص المخطوط الأصلي(17). يُضاف إلى هذا أنَّ تزويرَ المخطوط نفسه يبدأ عادةً بصورته، التي ستكون متاحة بكل يُسرٍ وسهولة على الانترنت، ثمّ صبّ قالب من النحاس لتفاصيله ثم طباعته، ومن هنا تأتي أهميةُ تطبيق بصمة مشفرة أو توقيع إلكتروني لجعل عملية التزوير صعبة التنفيذ(18).
ومع أنَّ الأقراصَ المضغوطة والوسائطَ الرقمية بأشكالِها المختلفة للتخزين تُقدّم خدمةً كبيرة في حماية المخطوط الأصلي فإنَّها عرضةٌ للفيروسات أو التلف شأنها شأن أية آلة، أو أنَّها تصبح بمرور الزمن عتيقةً وغيرَ متوافقةٍ مع التطور المستمر الذي قد نشهده بظهور أجهزة حديثة (التقادم التكنولوجي). والأمر ذاته فيما قد يواجه خوادمَ التخزين الإلكتروني من تحدياتٍ رقمية (تهديدات الأمن السيبراني) مثل القرصنة والاختراق، أو ما قد يحدث من فقدانٍ جزئي أو كلي للبيانات نتيجة حدوث عطل للأجهزة أو البرمجيات المستخدمة أو نتيجة خطأ بشري أثناء عملية الرقمنة ذاتها أو عند النسخ والتخزين. ويمكن التغلب على مثل هذه التحديات أو الحدّ من خطورتها قدر المستطاع بعملِ نسخٍ احتياطية متعددة وتخزينها في أماكن مختلفة، علاوة على استخدام أنظمة أمنية قوية (برامج مكافحة الفيروسات وجدران الحماية)، وتحديثِ الأجهزة والبرمجيات المستخدمة بانتظام لضمان توافقها مع التقنيات الحديثة.

إلغاء مبدأ حقوق الملكية الفكرية
من أبرز عيوب الرقمنة ما يمكن تسميته بالفجوة الرقمية الناتجة عن عدم قدرة بعض الأفراد أو المجتمعات على مواكبة مثل هذا التطور التقني لعدم امتلاكهم القدرات المطلوبة لاستخدامه. ولعل العيبَ الأبرزَ الذي أختمُ به تلك التحديات والعيوب هو: إلغاء مبدأ حقوق الملكية الفكرية الذي يختفي بمجرد أنَّ تصبح نسخُ المخطوطات متاحةً للنشر والتوزيع دون إذنٍ من صاحبها.
ولأنَّ الأممَ التراثية وفي مقدمتِها أمتُنا العربية الإسلامية لا ينبغي أنْ تتخلَّى عن تراثِها أو تنقطع عنه، أصبح من الواجب الآن إنشاءُ مراكز خاصة لحفظ المخطوطات أو أنْ تتضمن كل مكتبة عامة قسمًا خاصًّا للتصوير الرقمي وقسمًا آخر لصناعة علب التخزين، من أجل إنجاز مشروعات متكاملة لتصوير ما بها من مخطوطات وفهرستها وحفظها، إلى جانب عقد اتفاقيات مع أصحاب خزائن المخطوطات الخاصة لتسليمها للحفظ بخزينة في المركز يحمل هو نفسه مفتاحها.
وكل هذه الأمور قد تحمل معها عودة «نحن» الماضية التي كانت حاضرةً حضورًا طاغيًا بإنجازاتها التي يحتوي بعضها ذلك التراث المخطوط، عوضًا عن «نحن» اليوم مقطوعة الصلة أو تكاد بتحقيق إنجازات، لا في حقل ثورة المعلومات والرقمنة ولا في غيرها(19). ومع أنَّها قد تبدو كلمات قاسية، فإنَّنا محتاجون للتفكير كثيرًا في واقعنا المعاصر وإعادة تقييمه حتى نتمكن من تغييره والخروج من تحت ما اصطُلِح علينا بـ«شعوب العالم الثالث»، ونتوجه نحو آفاق جديدة مُشرقة، كما أنَّ إيمانَنا بقانونِ التداول الإلهي الذي يعني قيام أمة بعد أمة بحمل راية التقدم والحضارة، يجعلنا على يقين أنَّنا قادرون على حمل المشعل من جديد؛ إذا ما اتخذنا من مجد أسلافِنا المحفوظ في تراثنا الخالد نقطةَ الانطلاقِ أو الأرضَ الصلبة واللبنةَ الرئيسة لنكون امتدادًا لهم.
وختامًا تجدر الإشارة إلى أنَّ الرقمنةَ، مع أهميتها الكبيرة في عملية إحياء تراثنا ونشره في بقاع العالم، لا تعني الاستغناءَ كليًّا عن المخطوط ذاته؛ إذ تبقى قيمتُه كما هي، محتفظًا بعبقِ التاريخ بوصفه أثرًا، والنسخُ المُقلدة لأي أثرٍ لا تحلّ محلَّه مهما بلغت درجة النسخ أو التقليد.
وإني أتساءلُ في الأخير بدافعِ أنَّ التوثيقَ الرقمي والإلكتروني للتراثِ عامةً والمخطوطِ خاصةً بات حاجةً مُلحّة تستوجب توحدَ الجهود وتضافرها، وتوحيدَ الأهداف والغايات: هل سيأتي قريبًا، مع صعوبة تحقيقه، ذلك اليوم الذي نرى فيه موقعًا مفهرسًا شاملًا جامعًا لتراثنا العربي الإسلامي المخطوط على الشبكةِ العنكبوتية العالمية بتضافرِ جهودٍ مؤسساتية ومساندةٍ رسمية وبمشاركةٍ جماهيرية؟
المرأة السعودية وتحقيق التراث الإسلامي
توثيق البدايات

هند العيسى – باحثة سعودية
دراسات المرأة وتوثيق تاريخ المرأة السعودية:
إن إسهامات المرأة السعودية في تحقيق المخطوط الإسلامي ونشره ما هي إلا امتداد لعناية المرأة في الجزيرة العربية بالمخطوط العربي والإسلامي حفظًا وتملكًا ووقفًا عبر القرون. وتتجلى إسهامات المرأة السعودية واضحة عند النظر لعدد المخطوطات التي حققتها النساء السعوديات في مسيرة تربو على أربعة عقود. وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة في تاريخ المرأة السعودية، ما زلنا نجهل من هن أوائل النساء المحققات، وما زال يغيب عنا توثيقًا لمناهجهن التحقيقية أو الصعوبات والتحديات التي تجاوزنها.
وربما يعزى هذا الإغفال في توثيق إسهامات المرأة السعودية في تحقيق التراث الإسلامي إلى سببين: أولًا، أن مجال دراسات المرأة في المملكة العربية السعودية وتوثيق تاريخها ما زال في أوله، رغم البحوث والكتابات في هذا المجال. يعتري مجال دراسات المرأة بشكل عام الكثير من التشتت والقصور ويتأرجح ما بين محاولة تأريخ النساء السعوديات لتاريخهن -وهي شحيحة- وما بين بحوث ذات أطر ومناهج تخدم برامج بحثية معينة يعمل عليها باحثون وباحثات من خارج المملكة، وهي كثيرة.
ويمكن أن نعزو سبب هذا الإغفال إلى عامل آخر ألا وهو منهجية غير شمولية في تأريخ حركة تحقيق التراث ونشره؛ إذ إن التركيز على الكتاب المحقق المنشور دون سواه عند توثيق النتاج التحقيقي للنساء والرجال على حد سواء قد يطمس إسهامات المرأة السعودية ودورها الريادي في تحقيق التراث من خلال الرسائل الجامعية. أضف إلى ذلك أن التركيز على الغزارة في الإنتاج والسبق قد يهمش إنجاز المرأة السعودية، لو كانت قد حققت كتابًا واحدًا أو نشرت تحقيقًا في رسالة جامعية ثم توقفت.
وعليه، فإن توثيق تاريخ المرأة السعودية يتطلب منهجية تخرج من الأطر التقليدية في توثيق تاريخ التحقيق لتنظر للرسالة العلمية كنتاج معرفي وتاريخي هام وتركز على النتاج التحقيقي مهما كان ضئيلًا أو شحيحًا. ومن خلال تبني هذه المنهجية، سأتتبع بدايات إسهامات المرأة السعودية في مجال تحقيق التراث ونشره بالتركيز على «جيل الرائدات» وهن مجموعة من طالبات الدراسات العليا السعوديات في أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات واللاتي عكفن على تحقيق المخطوطات كجزء من رسائلهن لمرحلتي الماجستير والدكتوراه.
تتبع البدايات
تزامن انخراط المرأة السعودية في مجال تحقيق التراث ونشره مع فتح باب التعليم أمام الفتيات بشكل رسمي في المملكة العربية السعودية. كانت بداية التعليم النظامي العام للفتيات في عام 1960، ثم تمكنت الطالبات من الالتحاق ببرامج الدراسات العليا في آواخر السبعينيات. إن تزامن تعليم الفتيات والنساء بقدرتهن على الإنتاج المعرفي ليس حكرًا على المرأة السعودية فحسب، بل نرى أن تعليم الفتاة العام والجامعي كان عاملًا مهمًّا في انخراط المرأة العربية بشكل عام في مجال تحقيق التراث ونشره في مصر وسوريا والعراق ولبنان وغيرها من البلدان؛ فقد تزامن فتح باب التعليم الجامعي مع انخراط النساء في تحقيق التراث ونشره. وهنا نشير إلى أهم النصوص النسوية من حيث الأقدمية في توثيق إسهامات المرأة العربية في تحقيق التراث بشكل خاص وارتباطه الوثيق بالتعليم الجامعي. كتبت الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) في مجلة الفكر في عام 1961م مقالًا بعنوان: «الأدب النسوي المعاصر» جاء فيه:
«أن عاملًا جديدًا طرأ على حياة المرأة العربية، اتجه بها كذلك إلى شعبة ثالثة، وهي «الدراسات الأدبية» التي كان لا بد للأديبة العربية من المشاركة فيها لتثبت وجودها العلمي، بعد أن عبرت الطريق الطويل ما بين متاهة الأمية وأبهاء الجامعة: وهو مجال أعفيت منه أديبات الطليعة، ورائدات النهضة الأدبية، ولم تعف منه أديبات هذا الجيل، وفيهن من وصلت إلى منصب الأستاذية في جامعات القاهرة والإسكندرية وبغداد وبيروت.
ويندرج تحت الدراسات الأدبية بالنسبة للدكتورة عائشة عبدالرحمن تحقيق التراث العربي وهي ضليعة فيه ومن أوائل من سلكن هذا الباب بتحقيقها «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري كرسالة جامعية أولًا في الأربعينيات ثم نشرها في كتاب محقق. وهنا لا نرى المرأة السعودية تختلف عن نظيراتها في سوريا ومصر والعراق ولبنان، بالرغم من تأخرها نسبيًّا بعقود.
إن تتبع أول المخطوطات التي حققتها النساء في المملكة العربية السعودية ليس بالأمر السهل. فعلى الرغم من تمكن الطالبة السعودية من الالتحاق بالدراسة في المراحل التعليمية الأولى أو الجامعية في بلدان مثل الهند ولبنان قبل فتح باب التعليم بشكل رسمي أمام الفتيات في المملكة العربية السعودية- مثل نبيلة البسام التي أنهت تعليمها العام في الهند ثم أنهت درجة الماجستير في لبنان في عام 1967- فإنه من الصعوبة بمكان العثور على نص حققته امرأة سعودية قبل ظهور برامج الدراسات العليا في الكليات والجامعات السعودية.
ومن أهم الصعوبات التي واجهتها في بحثي هي الوقوف على الرسائل المحققة ومعرفة إذا ما كانت الطالبة سعودية أم لا. فسرعان ما نكتشف أن قدرتنا كباحثات في توثيق تاريخ النساء يعتمد بشكل كبير على جودة الفهارس والمعاجم في المكتبات، هذا بغض النظر عن قلة التمويل أو قدرتنا على زيارة المكتبات أو الحصول على نسخ من الرسائل. وعلى الرغم من أني في هذا المقال سأعتبر أن مرحلة الدراسات العليا في الجامعات السعودية هي البداية الفعلية لانخراط المرأة السعودية في تحقيق التراث، فإن المجال ما زال في أوله في استكشاف أسماء جديدة ونصوص محققة.
فمع فتح فرصة التعليم العالي أمام الطالبات السعوديات في أواخر السبعينيات في القرن العشرين، انكبت مجموعة على تحقيق المخطوطات في رسائلهن العلمية لمرحلتي الماجستير والدكتوراه. من أوائل الرسائل المحققة التي استطعت تتبعها كانت رسالة الدكتورة نورة التويجري لمرحلة الماجستير في عام 1981م في قسم التاريخ من جامعة الملك سعود وذلك عن تحقيقها للسفر الأول والثاني من مخطوط «الأعلام بنوازل الأحكام» لأبي الصبغ عيسى بن سهل بن عبدالله الأسدي (ت 486هـ/1093م). وقد أكملت التويجري تحقيقها للسفر الثالث في مرحلة الدكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في 1991م، ثم نشرته مطبوعًا في 1995م.
ثم نجد الدكتورة فوزية أبو عيش في جامعة أم القرى تنهي رسالتها لمرحلة الماجستير في عام 1983م بتحقيقها لمخطوط «كفاية النحو في علم الإعراب» للموفق بن أحمد المكي الخوارزمي تحت إشراف الدكتور المحقق العلامة محمود الطناحي، ثم تنهي درجة الدكتوراه في عام 2005م من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان: «المسائل النحوية والتصريفية في شرح الطيبي (ت 749هـ) على مشكاة المصابيح: جمعًا ودراسة». وقد توالت بعد ذلك أسماء الرائدات في مجال التحقيق مثل الدكتورة فتحية العطار، والدكتورة وفاء قزمار، والدكتورة فريدة معاجبيني، والدكتورة سعاد بابقي، والدكتورة سلوى محمد عمر عرب من جامعة أم القرى، والدكتورة عزة الراشد، والدكتورة نوال الحلوة من كلية التربية والآداب التابعة لرئاسة تعليم البنات آنذاك، والدكتورة حصة القنيعير من جامعة الملك سعود.
وأبرز ما يلاحظ من هذا التتبع السريع لبدايات المرأة السعودية في مجال التحقيق هو ثلاث أمور: أولًا، انتماء عدد من المحققات الرائدات لأسر علمية عريقة يمكن أن يعزى لها الدور في سبق تلك الطالبات آنذاك في مجال التحقيق والتعليم. ثانيًا، نجد أن المرأة السعودية كانت جزءًا مهمًّا من إسهامات النساء بشكل عام في تحقيق التراث العربي في القرن العشرين. فنراها تعكف على تحقيق المخطوطات في ثمانينيات القرن المنصرم في وقت لم يتجاوز عدد المحققات النساء للمخطوط العربي من لبنان وسوريا ومصر والعراق والهند وباكستان وأوربا أكثر من مئة محققة. وثالثًا، نلاحظ أن الطالبة السعودية في ذلك الوقت قد تتلمذت في ثمانينيات القرن المنصرم على أيدي عدد من جهابذة اللغة وكبار المحققين في البلدان العربية وبالأخص في مصر التي كان لها السبق في تحقيق التراث ونشره. ومن الجدير بالذكر أن الدكتورة نوال الحلوة تشير بالفضل للدكتورة عائشة عبدالرحمن حينما وجهت وأبدت بعض الملاحظات على أطروحتها أثناء عملها آنذاك في كلية التربية.

حضور المرأة في حركة إحياء التراث في السعودية
إن توثيق هذه المرحلة باعتبارها البداية الفعلية لإسهامات النساء السعوديات في تحقيق التراث في المملكة العربية السعودية يتطلب النظر لها في سياق حركة إحياء التراث في القرن العشرين في المملكة العربية السعودية بشكل عام وهنا سنرى قلة عدد المحققات مع شح النتاج المعرفي في مجال التحقيق.
ومن أبرز المؤرخين لحركة تحقيق التراث ونشره في المملكة العربية السعودية هو الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب، الأستاذ بكلية الآداب في جامعة الملك سعود (سابقًا)، حيث كانت له الريادة في نشر سلسلة من المقالات في مجلتي العرب ودارة الملك عبدالعزيز في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم مؤرخًا لحركة نشر التراث وإحيائه، وقد كللت مجهوداته بنشره معجمًا لمطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية من تسعة أجزاء في عام 2015م. وقد قسم الدكتور الضبيب تاريخ حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية إلى مراحل عدة في سلسلة من المقالات نشرها في مجلة العرب عام 1999م. تشمل المرحلة الأولى مرحلة ما قبل توحيد المملكة، ثم تليها مرحلة ما بعد التوحيد أو ما سماها مرحلة الريادة التي بدأت بأول النصوص التراثية المنشورة واستمرت حتى نهاية القرن العشرين متمثلة في أعمال الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، بشكل خاص. أما المرحلة الثانية فكانت تتركز على مرحلة النشر عن طريق الجامعات والرسائل الجامعية ومراكز النشر المختصة بالتراث وهو ما سماها بالمرحلة المنهجية ابتداءً من عام 1970م.
ومن أبرز ما يلاحظ على تاريخ حركة إحياء التراث ونشره في السعودية هو غياب المرأة في مرحلة الريادة وارتباط ظهورها بالمرحلة المنهجية أو تحقيق التراث من خلال الرسائل الجامعية في أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في الجامعات والكليات في المملكة العربية السعودية.
وهذا الغياب عن تحقيق التراث ونشره لا يعني بالضرورة غياب المرأة ودورها المهم في حفظ المخطوط العربي وقفًا وتملكًا وإهداءً. بل نجد توثيق لدورها الفعال من خلال الدراسات المنشورة عن وقف المخطوطات في نجد وحائل والأحساء والحجاز. ويمكن الإشارة هنا لتأريخ الدكتورة دلال الحربي لوقف النساء في نجد حيث تشير إلى دور فاطمة الزبيرية في وقف الكتب من طلبة العلم الحنبلي في مكة المكرمة، وإلى أم الشيخ علي بن عشري في وقف كتب ابنها الشيخ علي بن عبدالله بن عشري بعد وفاته في نجد في القرن التاسع عشر. وانخراط المرأة السعودية في تحقيق التراث العربي ما هو إلا استكمال لدورها في حفظ المخطوط العربي والعناية به في الجزيرة العربية قبل توحيد المملكة وبعده.
لكن عند تقصي الأسماء النسائية في المعاجم والفهارس من النصوص المحققة، يلاحظ قلة نتاج الطالبات من التحقيقات في مرحلة الجيل الأول. حيث حصر الدكتور زيد آل حسين رسائل طالبات الدراسات العليا اللاتي نوقشن في الجامعات السعودية منذ بدء التعليم الجامعي للطالبات لمرحلتي الماجستير والدكتوراه في عام 1977 حتى عام 1992م. وكان إجمالي الرسائل المحققة واحدًا وخمسين تحقيقًا فقط مقابل 1502 رسالة بحثية أعدتها الطالبات في المدة نفسها. وقد نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية هذا الفهرس بعنوان: «دليل الرسائل الجامعية في المملكة العربية السعودية».
بل نجد أن عدد نتاج الطالبات من التحقيقات لا يقارن بنتاج الطلاب في المدة نفسها؛ إذ يظهر لنا التباين الحاد حينما نرى أن إجمالي التحقيقات من الرسائل عامة كان 933 تحقيقًا منها 51 تحقيقًا فقط أنجزته الطالبات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه مقابل 882 تحقيقًا أنجزه الطلاب. وربما لا يمكن التعويل على هذا التباين كمقارنة موضوعية إذا أخذنا في الحسبان أن الفهرس يبدأ من أول أطروحة نوقشت في معهد القضاء للطلاب في عام 1969م (1389هـ) في حين أن تعليم النساء الجامعي لمرحلة الماجستير لم يبدأ إلا في عام 1977م، أي بعد ما يقارب من تسع سنوات.
ويعد الفهرس الذي أعده الدكتور الحسين من أهم مراجع الباحثين في الرسائل الجامعية في المملكة العربية السعودية في المدة التي يغطيها الفهرس، بل إنه مصدر مهم لي في بحثي عن تاريخ المرأة في تحقيق التراث، لكن يجب الأخذ في الحسبان سقوط بعض الأسماء مثل رسالة الدكتورة فتحية العطار لمرحلة الدكتوراه حيث سُجِّلَت رسالتها في مرحلة الماجستير فقط. ولهذا يمكن الاعتماد على «دليل الرسائل جامعة أم القرى إلى نهاية عام 1415هـ» وهو من إعداد عمادة شؤون المكتبات في جامعة أم القرى (الطبعة الثانية 1996م). وهذا النقص أيضًا يوضح لنا أن منهجية البحث عن تاريخ المرأة السعودية تتطلب مساءلة المصادر واستكمال النقص بالمقارنة والتمحيص.

إنجازات رغم الصعوبات
إن قلة نتاج النساء السعوديات من التحقيقات في هذه المرحلة يدعونا إلى أن نتساءل عن التحديات التي واجهها هذا الجيل بداية من اختيار المخطوط إلى العثور على النسخ المطلوبة إلى وجود الإشراف اللازم والمتابعة والقدرة على دخول المكتبات للبحث والدراسة والاطلاع. ويدعونا أيضًا للتساؤل: ماذا كانت إسهاماتهن؟ وما هي المناهج التحقيقية التي اتبعنها؟
ويمكن استقراء أهم صعوبات جيل الرائدات من خلال قراءة مقدمات رسائلهن المحققة. ويظهر جليًّا أن رحلة البحث عن المخطوط والعثور على نسخته أو نسخه المتفرقة أحد أهم التحديات التي واجهنها. مثلًا الدكتورة فتحية العطار تذكر في مقدمة تحقيقها لمخطوط «شرح نجم الدين القمولي على الكافية»- لمرحلة الدكتوراه في عام 1987م من جامعة أم القرى وتحت إشراف الدكتور علي أبو المكارم- أن أخاها وليدًا جلب لها أجزاء المخطوط من المملكة المتحدة، وأن زوجها كان سندًا وأحضر لها مخطوط المدينة المنورة. وتذكر الدكتورة نوال الحلوة في تحقيقها لمخطوط «القراءات وعلل النحويين فيها، المسمى علل القراءات»، لأبي منصور الأزهري (ت270هـ) عام 1987م أنها رغبت في الحصول على المخطوط من تركيا فجلبه لها الدكتور عبدالرحمن العثيمين على نسخة مايكروفيش.
وتذكر الدكتورة فريدة معاجبيني- في تحقيقها لمخطوط «شرح التسهيل» أحمد بن محمد بن عطا الله التنسي التي أنهتها من جامعة أم القرى في عام 1993م- أنها سافرت إلى سوريا للحصول على نسخ من المخطوط وزارت مكتبات عدة واشترت عددًا من الكتب وكونت مكتبتها الخاصة التي تغنيها عناء التنقل. أما الدكتورة سلوى محمد عمر عرب تذكر في تحقيقها لمخطوط «شرح جمل الزجاجي» لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن خروف الإشبيلي من جامعة أم القرى في عام 1996م أن قيّض لها الله السفر للمغرب للوقوف على النسخة الأصلية من المخطوط رغم صعوبة الأمر.
ورغم الصعوبات، نجد أن قدرة جيل الرائدات على الحصول على نسخ من المخطوط وتحقيقه كرسالة جامعية ثم نشره في كتاب يعد إنجازًا عظيمًا إذا ما أخذنا في الحسبان أن بعض تلك النسخ المحققة ما زال يعول عليها حتى الآن. وحتى وقت قريب، كانت أغلبية المكتبات تخصص قاعات خاصة للنساء وأحيانًا أيامًا معينة في الأسبوع مما يحصر وصول النساء لأوعية المعلومات والقيام بمهامهن في البحث والاطلاع. ونجد توثيقًا لمدى توفر المكتبات لطالبات الدراسات العليا في المملكة العربية السعودية في فترة جيل الرائدات في أطروحة الدكتوراه للدكتورة هند الخثيلة عن واقع التعليم في المملكة التي أنهتها من جامعة ساركوزي 1981م. فهي تذكر أن المكتبات كانت شحيحة آنذاك وأن طالبات كلية التربية هن الوحيدات اللاتي لديهن مكتبة تضم 29 ألف كتاب في حين الطالبات من الجامعات الأخرى كن محددات بأيام محددة للدخول إلى المكتبة في يوم النساء.
وعلى الرغم من تلك العقبات التي نتعرف إليها من خلال مقدمات المخطوطات اللاتي حققنها، نجد أيضًا أنه قد تبلورت ملامح فلسفة تحقيقية خاصة في جيل الرائدات يمكن استقراؤها من خلال دراسة نتاجهن التحقيقي. ومن أبرز تلك الفلسفات التحقيقية هو أهمية تحقيق المُحقّق إن استدعت الحاجة لإعادة التحقيق وأن تعدد النسخ المحققة يثري المعرفة ويتيح للقارئ المقارنة بين النسخ المتوافرة، بل إنه فرصة لردم النقص في النسخ المتوافرة. وتظهر هذه الفلسفة واضحة جلية في رسالة كل من الدكتورة نوال الحلوة والدكتورة سعاد بابقي. حيث نجد إصرار الدكتورة نوال الحلوة على نشر رسالتها محققة على الرغم من وجود نسخة محققة من المخطوط نفسه إيمانًا منها بأن كل نسخة ستثبت جدارتها عند عرضها على القراء والباحثين. وبالفعل، فما زال يعول على تحقيق الدكتورة نوال الحلوة لمخطوط «القراءات وعلل النحويين فيها، المسمى علل القراءات»، لأبي منصور الأزهري (ت270هـ) حتى اليوم.
أما الدكتورة سعاد بابقي فتذكر في مقدمة تحقيقها لمخطوط «باهر القرآن في معاني مشكلات القرآن»- للعلامة محمود بن أبي الحسن النيسابوري الغزنوي في 1997م من جامعة أم القرى- معرفتها بوجود نسخة أخرى منشورة من المخطوط نفسه حيث رأت أن نسختها ستردم القصور في التحقيق الذي ظهر في النسخة المنشورة.
إنجازات الجيل الأول لا تقتصر على نتاجهن التحقيقي المميز أو فلسفاتهن التحقيقية التي تبلورت من خلال منهجهن في التحقيق، بل نرى أنها تعدت ذلك لتخدم مجال تحقيق التراث ونشره بشكل أوسع. فنجد أن المرأة السعودية قد ضلعت في تدريس مقررات تحقيق التراث ونشره في مرحلة الدراسات العليا في الجامعات السعودية وهي بذلك تلعب دورًا هامًا في نقل المعرفة للطالبات جيلًا تلو جيل. نذكر على سبيل المثال لا الحصر دور الدكتورة حصة القنيعير في جامعة الملك سعود في تدريس مقرر تحقيق التراث لطالبات الدراسات العليا في قسم الطالبات والدكتورة سلوى محمد عمر عرب في تدريس مناهج البحث العلمي وتحقيق التراث بجامعة الملك عبدالعزيز.
بل نجد أن جيل الرائدات كان له إسهام حقيقي في خدمة اللغة العربية. فنرى الدكتورة سلوى محمد عمر عرب في قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبدالعزيز قد تقدمت بمقترح في عام 2004م لتأسيس مركز يخدم اللغة العربية يضم أقسامًا عدة منها قسم تحقيق المخطوطات والتراث العربي والإسلامي. ومع أن مقترحها في تأسيس مركز لتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها قد نُفِّذَ إلا أن مقترحها بتأسيس قسم خاص بتحقيق المخطوطات والتراث لم يرَ النور بعد.

تقدير وشكر:
ومع دخول الألفية الجديدة وقد سلكت العديد من النساء السعوديات مضمار التحقيق في الجامعات السعودية وخارجها، ومع السهولة النسبية في الحصول على المخطوط والعثور عليه، وتعدد فرص النشر وطرقه، ومع ظهور تقنية التعرف البصري على الحروف لقراءة المخطوط رقميًّا؛ نجد أن تلك الطالبات الجامعيات كن الجيل الأول من النساء السعوديات اللاتي انخرطن في تحقيق التراث العربي ونشره، ومن الأوائل اللاتي وضعن اللبنات الأولى في هذا المجال رغم العوائق والتحديات. فنرى في تلك الأطاريح بداية لمسيرة المرأة السعودية في مجال تحقيق التراث العربي ونشره.
إن عودتنا إلى التاريخ لتتبع إنجازات هذا الجيل الأول من النساء السعوديات في تحقيق التراث العربي إنما هو خطوة نحو توثيق إسهامات النساء السعوديات، وهو اعتراف منا بدورهن الريادي، فقد مهدن الطريق لنا كسعوديات للاشتغال في التراث الإسلامي والعناية به. إن مشروعنا الثقافي الحالي يعتمد بشكل كبير على العودة إلى تلك البدايات، فإسهامات الرائدات في تحقيق التراث ونشره تعد إرثًا معرفيًّا يجب علينا أن نتدارسه، ونبني عليه، ونستكمل مسيرته.
والآن بعد مرور أكثر من أربعين سنة، نرى أن هذا الجيل الأول من المحققات السعوديات قد تبوأن مناصب مختلفة في مجال التدريس والإشراف التربوي وغيره. وعند الحديث مع مجموعة من جيل الرائدات السعوديات في التحقيق وسبب عزوفهن عن التحقيق حاليًّا أجمعن على أهمية الدعم المؤسساتي والعمل الجماعي ضمن فريق عمل في مراكز متخصصة بتحقيق التراث ونشره، فتحقيق المخطوط الواحد يتطلب الجهد الكبير الذي يمتد لسنوات. ومن هنا نقدم دعوة للمسؤولين إلى الاستفادة من خبرات الرائدات من المحققات النساء في السعودية وتذليل العقبات لهن نحو استكمالهن لمسيرة العطاء والإنجاز.
وفي الأخير أوجه الشكر والتقدير لكل الأستاذات الفاضلات من المحققات من الجيل الأول اللاتي تكرمن عَلَيّ بوقتهن للحديث معي لإثراء هذا البحث، وإليهن أهدي هذا المقال. وكل الشكر لقسم التاريخ في جامعة الملك سعود على تزويدي بفهرس رسائل القسم في مرحلة الدراسات العليا منذ تأسيسه.
في المخطوطات المجاورة
للمخطوط العربي

الهواري غزالي – باحث جزائري، محاضر بجامعة باريس
تمثِّل المخطوطات أهم الأبواب التي تسمح للباحثين بالدُّخول عبرها إلى الماضي الإنساني لتستنطقه وتستقصيه، وتقرأ عنه وتبحث فيه، وهي تمثِّل بذلك المعرفة الأساسيَّة التي ينبغي الحفاظ عليها وعدّها في الأساس قيمةً لما فوقَ الدَّولة كالدِّين واللُّغة والأعراف.
وفي ظل التطور الهائل للتقنية ودخول الذكاء الاصطناعي حلبة الصراع الفكري، فإنه قد صار من الجيد إعادة النظر في مقوِّمات التعامل مع المخطوط تعاملًا لا ينبغي أن يكون إلا علميًّا وأكاديميًّا يقتضي الانضباطَ في التعاطي معه كمادَّة، والصرامةَ في الخروج به من خلال التحقيق، والتفسيرَ والشرحَ خلال طبعه ونشره. وإنَّه من الجيِّد إعادة النظر في التخطيط العملي للسياسات الثقافية العربية، التي يمكنها الدفع بالتراث لتفعيله ليكون رافدًا معرفيًّا للحاضر والمستقبل.
ففي ظل التطور التقني دائمًا الذي يسمح برقمنة المخطوطات وتصويرها بشكل جيد، بدأت تظهر في أوربا حركات علمية جامعية تسعى في محاولة منها لتصوير المخطوط العربي ودراسته علميًّا من خلال الولوج إلى عالم الصحراء الكبرى، فلقد قامت فرقة بحث ألمانية من جامعة فرايبورغ برقمنة بعض المخطوطات الموريتانية مثلًا، انظر: http://omar.ub.uni-freiburg.de/index.php?id=omardatabank، ناهيك عن مخطوطات تمبكتو التي انصبَّت عليها منذ عشرات السنين اهتمامات الأوربيين، (انظر مثلًا: vecmas-tombouctou.ens-lyon.fr).
ويغيب عن العالم العربي مخطوطاتُ الصحراء الكبرى التي تعدُّ بحقٍّ رافدا أساسيًّا من حيث إن لهذه المنطقة تقليدًا قديمًا، فقد عرفت هذه المنطقة تجارب في جمع الوثائق، ولعل أحد أهمِّها بيت الحكمة في القيروان، الذي تأسَّس بتأسيس الدولة الأغلبية زمن الأمير الأغلبي إبراهيم الأول (757 – 812م) الذي كان كلما أوفد إلى العباسيين رسولًا لتجديد البيعة لهم، يستقطب من عاصمتهم نفائس الكتب، حتى عُدَّت القيروان بعد تطوُّرها وكثرة علومها ندًّا لبغداد. (الهواري غزالي، مخطوطات صحراء الأطلس الإفريقي في خطر: هل من مشاريع لإنقاذها؟ القدس العربي، 2 فبراير 2023م). ونجد في هذا الفضاء أيضًا مخطوطات بلغات إفريقيَّة أخرى كاللغة الأمازيغيّة، وهي مخطوطات لا يعيرُ لها العالم العربي اهتمامًا واسعًا بوصفها لغاتٍ محليَّةً.
وعلى هذا، فإنَّ دراستي ههنا ستقف على مساءلةٍ للتُّراث أبعد قليلًا عمَّا هو سائدٌ حاليًّا، معتمدًا على الإشكال الآتي: هل ينبغي أن يقع المخطوط المكتوب بالخطِّ العربي بدائرة اهتمام مراكز التراث العربي أيضًا؟ نطرح السُّؤال بطريقةٍ أخرى: هل الخطّ كفيلٌ بأن يجعل من المخطوط مصنَّفًا ضمن التُّراث العربي ولو كان مُؤَلَّفًا بلغةٍ أخرى؟
من المؤسف جدًّا أن يجيب بعضٌ بالرَّفض، فكتابة الخطّ العربي التي تطوَّرت بشكلٍ سريع مع مجيء الإسلام قد عرفت انتشارًا واسعًا بشبه الجزيرة العربية في أنماطٍ مختلفة وغير منظَّمة، وتشهد الصحف القرآنيَّة والرَّسائل المتبادلة بين الأمصار بما في ذلك رسائل نبيِّ الإسلام صلَّى الله عليه وسلَّم عن رغبةٍ في اعتماد هذا الخطِّ رسميًّا أسلوبًا كتابيًّا للعالم الإسلامي وهو في بداية مراحله الأولى، قبل أن يتَّخذ شكله النَّهائي والمقنَّن بالتَّنقيط والتَّشكيل. ولقد انتقل هذا الخطُّ العربي بسهولةٍ ليعطي للغات الشَّفهيَّة المختلفة الدَّاخلة إلى الإسلام وجودها الكتابي، بوصفه خطًّا روحيًّا ونبويًّا لدين سماويٍّ، وذلك بعد انتشار هذا الدِّين في آسيا وإفريقيا وأوربا.
في صناعة أطلسٍ جغرافيٍّ للمخطوط المكتوب بالخط العربي
واستُخدمَ الخط العربي فيما بعد بصفته تعبيرًا عن انتماء الفضاء إلى العالم الإسلامي رابطًا بين مختلف الأمصار، وظهر في ذلك وسيلة للزَّخرفة المعماريَّة كعلامات تزيينية على الجدران، والمآذن، والبوابات وكنقوش جنائزيَّة. وتُعرفُ إيران بأحسن الخطَّاطين من مثل مير عماد حسيني وعماد الكتاب، وعبدالمجيد طالقاني، الذين تخرَّجوا من قزوين. وتضمُّ هذه المدينة التي تُعَدّ عاصمة للخطِّ العربي الإيراني معاهد تعليم مثل: معهد ملك محمَّد للخط، ومعهد نيرومند للخط، كما تقوم على إنجاز مؤتمرات كل عامين حول هذا الفن، واحتفالية الخط بالآيات القرآنية، ومهرجان الغدير للخط أيضًا. (انظر فاطمة صفا، «الخط في إيران.. فن وطني ولغة ثقافية مشتركة»، الفيصل، مارس 2023م).
ويساعد الخطُّ العربي في فهم التَّطور التَّاريخي للمجتمعات الإسلاميَّة، فقد لحظ الرَّحالة الشَّهير ابن بطوطة نقشًا تذكاريًّا على محراب أول مسجد جامع في دلهي، فَكَّ رموزَه. ساعده هذا النقش في العثور على التاريخ الدقيق للغزو الإسلامي لدلهي. (انظر الدكتور عطاء الله، دراسة فن الخط العربي وأثراته الحضارية والثقافية في شمال الهند، مجلة أقلام الهند س6، ع4، أكتوبر-ديسمبر 2021م).
وإذا أحصينا الأقاليم التي عرفت كتابة لغاتها بالخط العربي، فإنَّنا سنجد فضلًا عن الإقليم العربي نفسه، خمسة أقاليم أخرى كتبت لغاتها وتكتبها أيضًا بالخطِّ نفسه، كالإقليم التُّركي والهندي والفارسي والإفريقي والأوربي. وتضمُّ هذه الأقاليم اللغات الخمس التي تكاد تكون كاللَّهجات. فعلى سبيل المثال، نجد في الإقليم التُّركي العثمانية والقازانية التَّترية والقرمية والكاراسية والداغستانية والجركسية والأنبورغية والجغتائية والأوزبكية والكشغرية، ونستثني، بشكل محدَّد، الكتابة الألخميادية في أوربا، التي ابتدعها سكان الأندلس بعد سقوط غرناطة، لغرض الحفاظ على ثقافتهم الروحية.
ولعله من الجيد توفير أطلس للخطِّ العربي على شكل خريطةٍ تُوَضَّح من خلالها مواقعه الجغرافيَّة في العالم قديمًا وحاضرًا. وسيفيد هذا الأطلس في الواقع النَّظر في كيفيَّة انتشاره تاريخيًّا، وفي تفاعله الثقافي والعلمي مع مناطق مختلفة من العالم.

في سؤال الخطِّ بعد منع استخدام العربيَّة
بعد سقوط غرناطة بعشر سنوات، وتحت طائل التَّهديد بنَفْيِهِم خارج الأندلس، وجدت محاكم التفتيش طريقًا سريعًا في إسبانيا لإجبار المسلمين على اعتناق المسيحية والتحدث باللغة القشتالية التي كانت لغة إسبانيا آنذاك مكان العربية. ففي عام 1567م، أصدر ملك إسبانيا فيليب الثاني أمرًا ملكيًّا يجبر المسلمين على التخلي النهائي عن العربية، لغة تواصلٍ وخطّ كتابة، وعَدَّ المرسومُ استخدامَ العربية جريمةً تصل إلى حدِّ الإعدام، كما أمهل الموريسكيِّين سنوات قليلة لتعلُّم اللغة القشتالية مجبرًا إيَّاهم على التَّخلُّص من كل المخطوطات المكتوبة لديهم باللغة العربية.
في مثل هذه الظُّروف القاسية، سيستعين المسلمون بأسلوب لغويٍّ جديد يسمح لهم بالحفاظ على انتمائهم الدِّيني وثقافتهم الأصيلة، فابتدعوا ما اتُّفق على تسميته باللغة الألخميادية وهي مفردة قد تشير بمدلولها القديم (Aljama) إلى مفهوم المكان الذي تجلس به الجماعة لإقرار مسائل أو للفصل في الشؤون الخاصَّة بالأقليَّات غير المسيحيَّة، وهو ما يعادل المجلس البلدي حاليًّا. ولقد حافظ سكان الأندلس على هذا النظام الاجتماعي منذ مجيئهم الأندلس، وهو ما يؤكِّد في الواقع على الصِّيغة التَّقليديَّة لهذه الظاهرة عند المجتمعات العربيَّة القديمة. كما يمكن أن تشير المفردة نفسُها إلى الجامع، وهي مفردة استخدمتها اللغة القشتاليَّة للإشارة إلى المساجد الرئيسة، مثل مسجد قرطبة.
والألخمياديَّة لغة قشتاليَّة ذات أصلٍ لاتينيٍّ مكتوبة بخطٍّ عربيٍّ، وهي تعتمد إحلال الحرف العربي كتابةً محلَّ الصوت القشتاليِّ نطقًا. وقد استُخدمت هذه الكتابة لأكثر من أربعة قرون دُوِّن من خلالها الأدب الموريسكي بطريقةٍ سريَّةٍ تامَّة، قبل أن تندثر نهائيًّا في غضون القرن الثامن عشر.
وإذا كانت هذه اللُّغة قد قاومت كلَّ محاولات طمس الهوية الإسلامية الأندلسية، فإنَّنا سنتساءل عن الدوافع الحقيقية للموريسكيِّين في تبنِّي الخط العربي، فلم يكن استخدامهم اللغة القشتاليَّة خيارًا بل واقعًا مفروضًا، وهو في الواقع أمرٌ قضى على وجود العربيَّة نهائيًّا، وأبقى على خطِّها استثناءً.
وقد يبدو لأوَّل وهلة أنَّ إبقاء الخطِّ العربي كتمثيل للغتهم القشتاليَّة فرصة تسمح لهم بالاحتفاظ بهذا الإرث العربي كجزء من هويَّة ضائعة، إلَّا أنَّ مدار الأمر سوف يتَّضح عند تبيُّنِنا تلك الرَّغبة المستمرَّة في قراءة القرآن بحروفه الأصليَّة ولو لم تفهم معانيه من جهة، كما سمحت لهم بخلق هامش تفسيري له من خلال تواصلهم بالقشتاليَّة. ولعلَّ هذا الجانب الروحي هو ما دفع فيما بعد إلى إنتاج أدب كاملٍ بلغة يفهمُها الإسبان ولكن لا يستطيع أن يطَّلع عليها إلا الأندلسيُّون.
وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، ونظرنا إلى ذلك الصِّراع القائم بشمال إفريقيا في موضوع تبنِّي الخطِّ العربي للغة الأمازيغية كلغة أصليَّة تُدرَس بالأطوار الثلاثة للتعليم، فإنَّنا نجد في الجزائر مثلًا، ثلاثة توجُّهات أساسيَّة متعارضة في هذا الموضوع، فبينما تطالب جهة بأن يكون الخطُّ لاتينيًّا، وأخرى بأن يكون الخطُّ تيفيناغيًّا قديمًا وهو الخط الأقدم والأصلي للأمازيغيَّة، طالبت جهة ثالثة بتبنِّي الخطِّ العربي، وحجَّة هذه الجهة أنَّ العربيَّة من شأنها تسهيل تعلُّم الأمازيغيَّة بالخطِّ العربي نظرًا لكون هذا الأخير خطًّا سهلًا يمكن تعلُّم نطق حروفه لدى الناشئة مثلًا، ممَّا يخفِّف عنهم وطأةَ تعلُّمِ الأمازيغية بخطِّ لاتيني أو تيفينّاغي هما في الأصل خطَّان يضيفان أتعابًا جديدة على عاتق الطِّفل. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الخطَّ العربي قد نقل اللغة الأمازيغيَّة لقرون عدَّة إلى الجيل الحالي، وتوجد في شمال إفريقيا خزائن مخطوطات عدَّة في هذا الصَّدد.
فهل من المقنع جدًّا أن تدفع بنا سواء كانت ظاهرة اللغة الألخمياديَّة التي تتشابه مع ظواهر أخرى لأقاليم مختلفة كالأرديَّة والأمازيغيَّة، أو ظاهرة اعتماد الخطِّ العربي لغير العربيَّة، لنعدّ في آخر المطاف، أنَّ الخطَّ العربي -لا بدَّ هو الآخر- أن يقع ضمن دائرة الاهتمام بالمخطوط العربي نفسه؟
من المخطوط العربي إلى المخطوط المكتوب بالخط العربي
إنَّ توسيع مجال الاهتمام بالمخطوط العربي إلى المخطوط المكتوب بالخط العربي، وتأسيس مكتبة خاصَّة به، ومركز دراسات يجمع بين باحثين من مختلف مناطق هذه اللغات قد بات أمرًا ضروريًّا وملحًّا. فإذا كنتُ من الداعين إلى إنشاء معهد للُّغات الشرقية بعاصمةٍ عربيَّة على الأقل يضمُّ أيضًا تلك اللُّغات التي تفاعلت مع العالم الإسلامي خلال أربعة عشر قرنًا، فإنَّ ذلك يكون أيضًا من مدعاة اهتمام العالم العربي وحاجته لتوسيع المجال الجغرافي للثقافة العربيَّة ومخطوطاتها خارج إطارها المعتاد. ويحتاج العالم العربي في الواقع إلى إحصاء لعدد كلِّ المخطوطات العربيَّة أوَّلًا، ثم المخطوطات ذات الخط العربي ثانيًا بالأقاليم المختلفة من العالم بعد تحديد أطلس للمخطوطات رقميًّا، وذلك في خطوة لتعزيز منهج العمل التوثيقي مستقبلًا.
وقد يدفعني هذا التأمل إلى رفع مستوى النظر والتماسِ تأسيس منظَّمة عالميَّة للمخطوط المكتوب بالخطِّ العربي تتفرَّع منها معاهد بالهند وتركيا وإيران وشمال إفريقيا وآسيا، مع تكوين لأعوان قادرين على نسخ المخطوطات في شكل أوعية رقمية، وتوفير المنح لهم والظُّروف الملائمة للعمل.
وفي زيارة قادتني إلى سلطنة عمان منذ أقلّ من عام بدعوةٍ من وزارة الإعلام، شرعت في التواصل مع كبريات المؤسسات الراعية للمخطوط، بهدف الاطِّلاع على منجزاتها، فحظيت بالتعرُّف إلى مؤسسة هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومؤسَّسة ذاكرة عمان. ولقد نال عملُ هذه الأخيرة مني إعجابًا كبيرًا، فهي مؤسسة علمية ثقافية تقوم بجمع المخطوطات من خلال عمليات الاستقصاء عبر ربوع السلطنة، ثم الترميم والصيانة والحفظ، ثم الرقمنة باستخدام أجهزة عالية الكفاءة تُخرِج المادة الرقمية بصيغ متعددة عالية الجودة، وتُحفَظ في أوعية ذات سعات عالية، ولقد جلبت معي إلى باريس كلَّ فهارسها المضبوطة ضبطًا وافيًا ودقيقًا.
وإذا كان لا يزال في السَّلطنة حتَّى الآن آلافُ المخطوطات العربية غير المحصاة، فإنَّها بهذا المنهج العملي، قد يُضبَط ما هو موجود في الخزائن العائليَّة، وهو ما يتيح للثقافة العربية فرصة النَّجاح في إنقاذ جزءٍ منها. وعلى هذا، فإنَّ المنهج الذي يشبه منهج مؤسَّسة جمعة الماجد في دولة الإمارات في إحصاء المخطوطات ورقمنتها، يدفعنا إلى اقتراح إستراتيجيَّةٍ تسمح بفتح جسرٍ خليجيٍّ هنديٍّ مثلًا من شأنه أن يعمل على استدراك ما فات.

وحسب المعلومات المتوافرة لدينا، فإنَّ الهند تضمُّ بمكتباتها نحو مئة وخمسين ألف مخطوط (150,000)، خمسون ألفًا منها عربي، يرجع بعضها إلى القرن الأوَّل الهجري، أمَّا الباقي فأغلبه فارسيٌّ وأرديٌّ، وهو جديرٌ بالتَّرميم والرَّقمنة والاحتفاظ به أيضًا، ولا سيما ونحن ندرك أنَّه يوجد ما بين ثمانية آلاف إلى اثني عشر ألف مخطوط عربي يحتاج إلى ذلك، فضلًا عن وجود فهارس لا تزال مكتوبة بخط اليد، وقد يكون بين طيَّاتها عناوين لمؤلّفاتٍ نادرةٍ وثمينة.
وبناء على هذه المعطيات، فمن الجيِّد -اقتراحًا- لو اتَّفق هيئات عربيَّة كمجلس التَّعاون لدول الخليج العربيَّة مثلًا على استحداث مركز للمخطوطات ودراسته يكون سندًا وداعمًا لاستقصاء التُّراث العربي خارج منطقة العالم العربي يسمح بفتح الدِّراسات على اللُّغات المجاورة للعربيَّة وهي لغات الأقاليم التي تطرَّقنا إليها بداية هذا المقال.
وفضلًا عن وجود معهد للمخطوطات العربيَّة الذي تأسَّس تحت رعاية جامعة الدُّول العربيَّة سنة 1946م، فإنَّ هذا المعهد لا يستطيع بمفرده أن يكون مركزًا عالميًّا في الحفاظ على المخطوط، على الرَّغم من تقديمه عملًا كبيرًا يسعى من خلاله إلى صيانة المخطوطات وترميمها وتصويرها ورقمنتها وفهرستها ناهيك عن النشاطات الأخرى التي تتمثَّل في إنشاء قواعد بيانات وعقد دورات تدريبيَّة والتنسيق بين المؤسَّسات المختصَّة والتَّكوين.
ومن الجيِّد أن أشير في هذا المقال ذاته -على سبيل تقديم مثالٍ دعمًا لهذا الاقتراح- إلى معهد البحث وتاريخ النُّصوص الموجود حاليًّا بباريس (https://www.irht.cnrs.fr). وهو مثالٌ يتضح من خلاله وعن طريق المقارنة أهميَّة الاقتراح. فلقد تأسَّس هذا المعهد عام 1937م بمبادرة من فيليكس غرات (1898- (1940 وبدعم من جان بيرين (1870 – 1942م)، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1926م. ارتبط هذا المعهد، في البداية، بصندوق البحث العلمي الوطني الذي أنشئ عام 1935م، ثم سرعان ما أُدمج بالمركز الوطني للبحث العلمي عند تأسيسه في أكتوبر 1939م.
ويتناول المعهد تاريخ النُّصوص المكتوبة باللُّغات الثقافية الرئيسة لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، مثل اللاتينية، واللغات الرومانية، والعربية والعبرية، واليونانية، والقبطية، والسريانية، ويشمل ذلك كلَّ الجوانب المتعلِّقة بها كالمواد المستخدمة للكتابة، وكالخطّ والزَّخرفة، والمحتوى النَّصي، والأيقونات.
ويُعَدّ المعهد حاليًّا مركزًا عالميًّا مرموقًا جدًّا، حيث يضمُّ خبراء متخصِّصين في مختلف المجالات العلمية للمخطوط، كدراسة تاريخ الكتابات المخطوطة، والكتب، والمكتبات، والنُّصوص، وفنِّ التزيين. ويركِّز الباحثون في دراساتهم الفيلولوجيَّة والمعجميَّة والتاريخيَّة والكوديكولوجيَّة على تحديد أماكن تأليف المخطوطات وتأريخها، وعلى إعادة بناء تاريخ إنتاجها، وطريقة تداولها، وعملية الانتشار الواسع لها وكيفيَّة استقبالها، وفهم طبيعة جمهورها وحيثيَّة استخداماتها من العصور القديمة إلى بدايات عصر النهضة الذي عرف ظهور أوَّل كتاب مطبوع حلَّ محلَّ المخطوط، ثمَّ على إعداد الإصدارات النقدية عن شكلها ومحتوياتها.
إنَّ توسيع هذا المعهد لمجال دراسة المخطوط المتوسِّطي بلغاته المختلفة يدفعنا أيضًا لتأكيد أنه من الممكن جدًّا تأسيسُ مركز عربيٍّ يتَّسع مجاله لدراسة المخطوط الشَّرقي بلغاته المتعدِّدة أيضًا، وهو بابٌ سيفتح العالم العربي ثقافيًّا على العالم الشرقي من السِّنغال عبر تركيا إلى الهند.
الحاجة إلى إيمان كامل بقيمة التراث

أحمد عبدالباسط – باحث مصري
تحقيقُ النصوص علمٌ وصنعةٌ معًا، ينبغي لمَنْ يريدُ الاشتغالَ به أنْ يكونَ مُلِمًّا بمهاراتٍ عدة وسماتٍ أخلاقيَّةٍ؛ إذ لا يكفي فيه العلمُ بخطوات التحقيقِ وإجراءاته فقط. ولعلَّ مِن أهمِّ تلك السِّمات التي ينبغي أنْ يتَّصف بها مُحقِّقُ النصِّ -مع العلم بالعربيَّة والتمرُّس بأسلوب القدماء، والإلمام بقواعد تحقيق النُّصوص، والعلم الذي يُعالجه النصُّ المُحقَّق- الإيمانَ الكاملَ بقيمةِ التُّراث وما يُمثِّلُه مِن رصيدٍ معرفيٍّ كبيرٍ تركَه لنا السَّلَفُ ينبغي الانطلاقُ منه والبناءُ عليه؛ بوصفِه ركنًا رئيسًا مِن أركان هُويَّة الأُمم وثوابتها، والصَّبْرَ على ما يُواجهه المُحقِّقُ مِن مشكلاتٍ قد تواجهه، وتستغرقُ منه لياليَ وأيَّامًا للكشفِ عنها، والأمانةَ الكاملةَ في التعامُل مع النصِّ المخطوط في جميع إجراءاته.
معهد المخطوطات
منذ نشأة معهد المخطوطات العربية بقرار الجامعة العربية رقم (39)، في الرابع من إبريل عام 1946م، أخذَ على عاتقِه مساراتٍ عدَّة، منها مسارُ التعريف والنَّشْر، الذي انطلقَ مِن إيمانِ المسؤولين بأنَّ التراثَ العربيَّ المخطوطَ ركامٌ بعضُه فوقَ بعضٍ، وأنَّ الإفادةَ المرجوَّةَ منه تكادُ تكونُ معدومةً إذا لم يُعَرَّفْ به: إحصاءً وفهرسةً ونشرًا علميًّا؛ لذا انطلقَ المعهدُ في مرحلةٍ مبكِّرةٍ مِن إصدارِ قوائم مفصَّلةٍ وفهارسَ وصفيَّة لرصيدِه الميكروفيلمي الذي تحصَّلَ عليه مِن بعثات التصوير، كان أوَّلُها فهرسَه العام المصنَّفَ على العلوم سنة 1954هـ، أتبعه فهارس خاصة لفنون: التاريخ، والطب، والعلوم، والكيمياء، والأدب، والفلسفة، والمنطق، والحديث، والفقه. إضافةً إلى ما تبنَّاه المعهد مِن فهرسة مخطوطاتِ مكتباتٍ عامةٍ وخاصةٍ في بلدانٍ عربيَّةٍ وغربيَّةٍ، ونَشْرِها لديه.
ومِن هذه البابةِ -أيضًا- صدرَ العددُ الأوَّل من مجلَّة معهد المخطوطات العربية، وهي أولُ مجلَّةٍ عربيَّةٍ مُحكَّمة تُعْنى بالتراثِ العربيِّ المخطوط، في مايو 1955م، وهي مجلَّةٌ نصفُ سنوية، لا يزالُ نهرها يتدفقُ. وقد خرجَ عنها في الجزء الثاني من المجلد الأوَّل (قواعدُ تحقيق المخطوطاتِ) وهي أوَّلُ دستورٍ يُنظِّمُ خطوات النشر النقدي للنصوص وإجراءاته.
كما تبنَّى المعهدُ إبَّان وجوده في الكويت مشروعًا علميًّا رفيعَ المُستوى؛ لرصد ما طُبِعَ مِن تراثٍ عربيٍّ، فكان (المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع) في مجلَّدَاتِه الخمسة، مع ما انضاف إليها مِن مُستدركات، استوعبت في مجملِها حركةَ النشر التراثي منذ بداية المطابع، حتى أوائل التسعينيات.
ونظَّم المعهدُ -أيضًا- عبر عقوده الثمانية عددًا كبيرًا مِن الدورات التدريبية داخلَ الوطن العربي وخارجه، ناهزت الثمانين دورة، انصبَّ جلُّها في تحقيق التراثِ، فأخرجَ بذلك عدَّة أجيالٍ أثرت المكتبة العربيَّةَ فيما بعدُ بجملة وافرة من النصوص المحقَّقة.
تهجير المخطوطات العربية
تهجيرُ التراث كـ(تهجير الإنسان)، وإذا كانَ المصطلحُ قد عُرِفَ اليومَ مصطلحًا سياسيًّا وإعلاميًّا، في سياقات الحديث عن الحروب والصراعات، وما ينتجُ عنها مِن حركة “قسريَّةٍ” للشعوبِ والجماعات الإنسانية؛ فكذلك الحال بالنسبة إلى تراثنا المخطوط، بل هو أشدُّ قسوةً وعنفًا وخطورةً على صعيدِ الأُممِ؛ فالأُمَّة التي تُسْلَبُ وتتخلَّى عن تراثِها، فإنَّ مُستقبلَها لا شكَّ يتخلَّى عنها.
وأنا في هذا الصَّدَد مُتنازعٌ بين شعورين متناقضين: شعور الغيور على تراثِه، الذي يرى أنَّ عددًا كبيرًا قد هُجِّرَ منه إلى مكتبات الغرب من دون وجه حقٍّ، ومِن ثَمَّ أطالب بعودةِ أُصول المخطوطات إلى مكتباتِها التي خرجت منها.

وشعورٌ آخر هو شعورُ الحريصِ على استدامة هذا التراثِ، وخدمته والحفاظِ عليه، وهو ما سبقنا إليه الغربُ: حفظًا، وترميمًا، وفهرسة، ودرسًا، ونشرًا؛ ومِن ثَمَّ أجدني أتجه نحو بقائه بين يدي مَن يعتني به ويصونُه، مع ضرورة حصولنا نحن العرب على مُصوَّرات عالية الجودة من هذه الأصول، وهو ما تقومُ به جلُّ المكتبات الغربيَّةُ الآن.
لعلَّ هذا الشعور المتناقض ينتابُ كلّ مُشتغلٍ بهذا التراثِ المخطوط، وبخاصةٍ حينما يرى تعنُّتًا مِن بعض القائمين على مكتبات المخطوطات في الوطنِ العربي، وهو ما أوضحه قبلي محمد كُرد علي حينما قال: “وإنَّ بعيدًا يُحْسِنُ القيامَ على هذا التراثِ الوافرِ لأَحْرى به مِن قريبٍ يُبدِّده جزافًا. وإنَّ أُممًا عَرَفَتْنا أكثرَ ممَّا عَرَفْنا أنفسنا -حتى قال أحدُ علمائهم: إنَّ العربَ وضعوا مِن المصنَّفات ما لا يستطيعُ أحدنا أنْ يقرأه طول عمرِه- إن هؤلاء لجديرون بإرث الشرقِ في مادياتِه ومعنوياتِه.. نعم، إنَّ كُتبًا تُترك للأرضةِ تعبثُ فيها، والعفنِ يعبثُ بجمالِ جسمها ورسمها، وتُحرم النور، ويغطي أكثرَها الغُبَارُ والأوساخُ، ويُحرم النظرَ فيها على مَنْ يُحسن الاستفادةَ منها، أو تُفضَّل عليها دُريهمات معدودةٌ؛ حريةٌ بأنْ تكونَ في مِلْكِ مَن يستفيدُ منها ويُفيد”.
التحقيق الرقمي
وفي السنوات الأخيرة ساد مفهوم التحقيق الرقمي، وهو إذا كانَ مقصودًا به إخراجُ نسخة إلكترونية مِن النصِّ المحقَّق عوضًا عن النُّسخ الورقية؛ مما يُوفِّرُ الوقتَ والمادَّةَ، فهو أمرٌ مقبولٌ في الأعمال الموسوعيَّة الكبيرةِ التي تضيقُ كثيرٌ مِن دُور النشر عن طباعتِها، وإن كنتُ أرى في ذلك إجحافًا لحقوقِ المُحقِّقِ الماديَّة والمعنويَّة، ولا يغني عن النُّسخة الورقية.
أمَّا إنْ كانَ المقصودُ هو أنْ تحلَّ الآلةُ محلَّ الإنسانِ والعقلِ البشريِّ في عمليَّةِ التحقيقِ برُمَّتِها، مِن خلالِ تلك الثورة التقنية، والاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتَعرُّف الحاسوب على الحرف المخطوط؛ فهذا أمرٌ غيرُ واردٍ. نعم يمكنُ الاستعانةُ بتقنيات الحاسوبِ في إجراءات محدودةٍ جدًّا في أثناء عملية التحقيق، كإخراج النصِّ وتنسيقه، وصناعة الكشَّافاتِ التحليلية، لكن ليس صحيحًا ولا واردًا أنْ تحلَّ الآلةُ محلَّ العقلِ البشري وما يكتنزه مِن معارفَ ومضامين وفهمٍ عالٍ للنصِّ القديم، يبثُّها جميعُها المحقِّقُ للقارئ في دراستِه التقديميَّةِ للنصِّ المحقَّق، وفي إضاءاته الهامشية أيضًا.
عضو معهد المخطوطات بالقاهرة
المراجع:
(1) محمد بن شريفة: العناية بتراث الأندلس في المغرب وإسبانيا، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، غرناطة 1412هـ/1992م [الصفحات:23- 36].
(2) الساوري عبدالعزيز، «محمد بن شريفة سيرة وببليوغرافيا»، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية رقم 11، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 4. جامعة محمد الأول، وجدة، المملكة المغربية. سنة: 1995م، ص: 7.
(3) نفسه. الصفحات:5 إلى 37.
(4) ابن شريفة محمد. «أبو المطرف حياته وآثاره». منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي. الرباط 1966م. ص5.
(5) ابن شريفة محمد. «ملعبة الكفيف الزرهوني». الطبعة الملكية. 1987م. ص7.
(6) ابن شريفة محمد. أبو المطرف. ص6.
(7) عمر بن عراج، «المخطوط العربي: آليات الحفظ الحديثة بين الواقع والآفاق»، دورية كان التاريخية، العدد الثلاثون، 2015م، ص150.
(8) رائد أمير عبدالله الراشد، «مشكلات في تحقيق المخطوطات: التصحيف والتحريف نموذجًا»، مجلة آفاق الثقافة والتراث، قسم الدراسات والنشر والشؤون الخارجية بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، السنة الثانية والعشرون، العدد الثامن والثمانون، 2014م، ص140- 142.
(9) أمحمد مولاي، «مناهج ومتطلبات تحقيق المخطوطات»، مجلة الحوار المتوسطي، المجلد التاسع، العدد الثالث، 2018م، ص14-15؛ الترابي، «مشكلات تحقيق المخطوطة الفريدة»، ص79 وما بعدها.
(10) يحيى إمام سليمان، «من مشكلات تحقيق المخطوطات العربية: النفحة العنبرية في حل ألفاظ العشرينيات تأليف محمد بن مَسَنِه نموذجًا»، مجلة رفوف، العدد الحادي عشر، 2017م، ص116- 125؛ الراشد، «مشكلات في تحقيق المخطوطات»، ص143- 144.
(11) عبدالسلام محمد هارون، تحقيق النصوص ونشرها أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1998م، ص48.
(12) مولاي، «مناهج ومتطلبات تحقيق المخطوطات»، ص13.
(13) المحجوب قدار، «واقع وآفاق حفظ وصيانة التراث المخطوط بالجنوب المغربي»، مجلة آفاق الثقافة والتراث، قسم الدراسات والنشر والشؤون الخارجية بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، السنة السادسة والعشرون، العدد مئة وأربعة، 2018م، ص102.
(14) هشام عبد ربو، «الرقمنة وأهميتها في حفظ التراث المخطوط بالجزائر»، مجلة أبوليوس، المجلد العاشر، العدد الأول، 2023م، ص274.
(15) خالد بن أحمد الصقلي، «المكتبات والتوثيق الرقمي للتراث العربي: المخطوط بين الأهمية والواقع والآفاق»، مجلة ليكسوس، العدد السابع والعشرون، 2018م، ص38.
(16) قدار، «واقع وآفاق حفظ وصيانة التراث المخطوط بالجنوب المغربي»، ص108، 109.
(17) فيصل الحفيان، «المخطوط العربي والرقمنة: الواقع والآفاق»، مجلة التفاهم، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مسقط، سلطنة عمان، السنة العاشرة، العدد السابع والثلاثون، 2012م، ص444.
(18) ابن عراج، «المخطوط العربي: آليات الحفظ الحديثة بين الواقع والآفاق»، ص153.
(19) فيصل الحفيان، «المخطوط العربي والرقمنة: الواقع والآفاق»، ص437.
الفيصل | يناير 12, 2025 | جوائز
قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب حجب الجائزة هذا العام 2025م، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت الهوية في الأدب العربي»؛ نظرًا لعدم وفاء الأعمال العلمية المرشحة بمتطلبات الجائزة. أما جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، فسيُعلَن عن الفائز في نهاية الشهر الجاري.
جاء ذلك في بيان تلاه الأمين العام لجائزة الملك فيصل الدكتور عبدالعزيز السبيل، في حفل الإعلان عن أسماء الفائزين في قاعة الأمير سلطان الكبرى، بحضور الأمير بندر بن سعود بن خالد الأمين العام لمؤسسة الملك فيصل الخيرية، وأعضاء لجان الاختيار وعدد كبير من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين.
في حين قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية، وموضوعها: «الدراسات التي تناولت آثار الجزيرة العربية» منح الجائزة مناصَفةً للسعودي البروفيسور سعد بن عبدالعزيز الراشد، لتميز أعماله العلمية، وهو ما جعلها أساسًا مهمًّا في دراسات الآثار والنقوش الإسلامية في الجزيرة العربية؛ إذ أرسى الأسس العلمية والمنهجية للباحثين. وقد أضافت دراساته الكثير إلى المعرفة العلمية لتاريخ الحضارة الإسلامية، وأسهمت في فهم أعمق لكثير من المواقع والنقوش الإسلامية في الجزيرة العربية. وأصبح إنتاجه العلمي من المصادر الأساسية غير المسبوقة لأجيال من الباحثين على المستويين العربي والعالمي.

سعد الراشد
ولد الدكتور سعد الراشد في عام 1946م، وحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ عام 1969م، من جامعة الملك سعود. وابتُعِثَ لجامعة ليدز البريطانية لدراسة الآثار الإسلامية وأجرى دراسات ميدانية في عدد من الدول العربية والإسلامية والأوربية، لجمع المعلومات المرتبطة باختصاصه، ورحلات مطولة على امتداد طريق الحج التاريخي (درب زبيدة) من العراق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقدم بحثًا مطولًا عن: «درب زبيدة: طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة: دراسة تاريخية وحضارية أثرية» نال به درجة الدكتوراه من جامعة ليدز البريطانية في الآثار الإسلامية عام 1977م.
عمل أستاذًا مساعدًا في قسم التاريخ في جامعة الملك سعود، وشارك في تأسيس أول قسم للآثار على مستوى المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية واليمن عام 1978م. جَرَتْ ترقيته لدرجة أستاذ مشارك عام 1982م، ثم درجة أستاذ عام 1992م. وتقلد عددًا من المناصب الإدارية في الجامعة؛ منها: وكيلًا لكلية الآداب، وعميدًا لشؤون المكتبات بجامعة الملك سعود. ورئاسة قسم علوم المكتبات والمعلومات، ورئاسة قسم الآثار والمتاحف. وتولى الإشراف على الحفائر الأثرية بموقع (مدينة الربذة الإسلامي) مدة خمسة وعشرين عامًا، وكشفت التنقيبات الأثرية عن معالم مدينة إسلامية مبكرة ارتبط تاريخها بعصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم)، وامتدادًا للعصر العباسي الأول، ومن المكتشفات المعمارية المسجد الجامع ومسجد المدينة السكنية، وبقايا القصور والدور، والمنشآت المائية، ولُقى أثرية متنوعة ساعدت في وضع تصور عن صفة المدن الإسلامية المبكرة في الجزيرة العربية، وتعلم فيها الرعيل الأول من طلاب الآثار، الذين استفادوا من تجربتهم الميدانية في العمل في إدارة الآثار السعودية.
ورأس الدكتور سعد الراشد رحلات علمية واستكشافية داخل المملكة وخارجها. وكُلِّفَ وكيلًا للآثار والمتاحف بوزارة التربية والتعليم في المدة من 1996م إلى 2005م، ثم مستشارًا لرئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. اختارته وزارة الثقافة أحد القيمين للبينالي الإسلامي.

وللدكتور الراشد مشاركات عدة في المؤتمرات والندوات والجمعيات العلمية داخل المملكة وخارجها. وله كثيرٌ من المؤلفات والبحوث العلمية المنشورة في مجلات علمية، وموسوعات عربية وأجنبية، ومن مؤلفاته: كتاب درب زبيدة: طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة، دراسة تاريخية وحضارية أثرية، والربذة: صورة للحضارة الإسلامية المبكرة في المملكة العربية السعودية، وكتابات إسلامية غير منشورة من «رواوة» المدينة المنورة، وكتابات إسلامية من مكة المكرمة «دراسة وتحقيق، وكتاب: دراسات في الآثار الإسلامية المبكرة بالمدينة المنورة، وكتاب: مدونات خطية على الحجر من منطقة عسير (دراسة تحليلية ومقارنة)، وكتاب: الصويدرة (الطرف قديمًا) آثارها ونقوشها الإسلامية. وصدر له باللغة الإنجليزية:
Medieval Routes to Mecca: A study of The Darb Zubaydah Pilgrim Trail, (Revised by Peter Webb), (Gilgamesh Publishing/King Abdulaziz Public Library),2020.
وأشرف الدكتور الراشد على عدد من الرسائل العلمية، واختير عضوًا في عدد من المجالس والجمعيات، واللجان الاستشارية والهيئات العلمية في حقل اختصاصه.
نال الدكتور الراشد عددًا من شهادات التقدير والجوائز والأوسمة؛ منها: وسام الملك خالد من الدرجة الثالثة. وجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التقديرية للمتميزين في دراسات وبحوث تاريخ الجزيرة العربية. وحصل على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. وجائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية، وجائزة الأستاذ عبدالله العلي النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وآثارها.
الفائز الثاني في جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية، السعودي البروفيسور سعيد بن فايز السعيد؛ لأصالة إنتاجه العلمي المستند إلى أدبيات غزيرة، والنشر بلغات متعددة، واعتماده منهجًا مقارنًا في دراسات نقوش الجزيرة العربية وكتاباتها القديمة، وهو ما كان له الأثر الأعمق في فهم تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وحضارتها. وغدا منهجه العلمي أساسًا في الدراسات الأكاديمية، وتأهيل كوادر بحثية. وأصبحت دراساته مرجعًا علميًّا مهمًّا لدارسي تاريخ الجزيرة العربية، والشرق الأدنى القديم.

سعيد السعيد
وُلد الدكتور سعيد السعيد عام 1960م. وحصل على شهادة الدكتوراه في الحضارات واللغات السامية من جامعة ماربورق في ألمانيا (1994م)، عمل رئيسًا لقسم الآثار، وعميدًا لكلية السياحة والآثار، وعميدًا لمعهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية. وهو الأمين العام لجائزة الملك عبدالله العالمية للترجمة، وعضو مجلس إدارة هيئة التراث، وأستاذ زائر بجامعة ماربورق/ ألمانيا (2001م)، وجامعة نانسي/ فرنسا (2007م)، ومعهد الآثار الألماني (2015م).
ألف وترجم (91) بحثًا علميًّا في آثار الجزيرة العربية، جميعها نُشِرَ في كتب (15 كتابًا) ومجلات علمية مُحَكَّمة محلية ودولية باللغة العربية والألمانية والإنجليزية والفرنسية. شارَك في عدد من أعمال التنقيب الأثري في مواقع متفرقة من المملكة العربية السعودية؛ منها: موقع الفاو، والمشرف الميداني لفريق جامعة الملك سعود للتنقيب في موقع دادان (2010- 2004م)، ورئيس مشارك للمشروع السعودي الألماني للتنقيب الأثري في تيماء (2004- 2010م). ورئيس مشارك للمشروع السعودي الفرنسي لتوثيق ودراسة النقوش الأثرية بمنطقة نجران (2007- 2014م)، وأجرى عددًا من المسوحات الأثرية في مواقع أثرية؛ من مثل: موقع البرك في جازان، وتيماء وتبوك ونجران والعلا ومدائن صالح وحائل وثاج والقويعية، وجميع نتائجها نُشِرَ في كتب ومجلات علمية محكمة.
شارك كذلك في الأعمال الميدانية لمسح وتحديد طريق الملك عبدالعزيز لاسترداد الرياض. وشارك في إعداد المحتوى الأثري للمتحف الوطني وقصر المربع، كما شارك في تأسيس وإعداد البرامج الأكاديمية في الآثار: رئيس اللجنة العلمية لتأسيس كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود. ورئيس اللجنة العلمية لوضع الخطط الدراسية لبرنامج الآثار، جامعة الملك سعود. ورئيس اللجنة العلمية لوضع الخطط الدراسية لبرنامج إدارة التراث، جامعة الملك سعود. ورئيس اللجنة العلمية للاعتماد الدولي لبرنامج الآثار، جامعة الملك سعود. ورئيس اللجنة العلمية لوضع وثيقة المعايير التخصصية ونواتج التعلم لبرنامج الآثار، ومشروع جاهزية، وهيئة تقويم التعليم والتدريب.
واختير منذ عام 2019م عضوًا في فريق خبراء المملكة المعتمدين في لجنة التراث العالمي (منظمة اليونسكو)، وأشرف على رسائل ماجستير ودكتوراه في مجال الآثار وإدارة تراث (16 طالبًا وطالبة). وهو أمين الجمعية السعودية للدراسات الأثرية (1998- 2008م)، ونائب الرئيس لجمعية الآثار السعودية 2021م، ومدير تحرير كتاب دراسات أثرية، الجمعية السعودية للدراسات الأثرية (2006- 1998م)، ورئيس تحرير الكتاب السنوي لقسم الآثار، دراسات في الآثار (2006- 2013م).
وهو حاصل على جائزة الملك عبدالعزيز للكتاب 2014م، وجائزة وكالة جامعة الملك سعود للدراسات العليا والبحث العلمي في النشر العلمي المتميز 2011م، وجائزة شومان للباحثين العرب لعام 2003م، ومنحة ألكسندر فون هومبلد الألمانية 2000م، وشهادة تقدير منتدى الجوائز العربية لعام 2021م، وعضو (بالمراسلة) في معهد الآثار الألماني منذ 2006م، وشهادة تقدير الرواد في الآثار من وزارة الإعلام 2012م.
جائزة الطب
قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للطب، وموضوعها «الطب الخلوي» منح الجائزة للكندي البروفيسور ميشيل سادلين، لعمله الرائد في مجال العلاج الخلوي، وبخاصة الهندسة الوراثية للخلايا المناعية التائية المعدلة جينيًّا(CAR-T) . قاد البروفيسور سادلين الفريق الذي صمَّمَ واختبر (CAR-T) ذات فاعلية سريرية لعلاج سرطانات الدم. حددت مجموعته البحثية CD19 كمستهدف للخلايا المناعية التائية المعدلة وأدرجوا بروتين CD28 في بنية هذه الخلايا وهو ما أدى إلى استجابات سريرية فعالة في علاج سرطانات الدم وأورام الغدد اللمفاوية. يواصل البروفيسور سادلين تحسين فاعلية خلايا (CAR-T) عبر ابتكار إستراتيجيات للتغلب على مقاومة الخلايا السرطانية للعلاج. وقد أظهر هذا النهج مؤخرًا نتائج واعدة في علاج أمراض المناعة الذاتية والأورام الصلبة. يُعد عمله مثالًا رائدًا في ترجمة العلوم الأساسية إلى علاجات ذات نقلة نوعية.
وُلِدَ ميشيل سادلين في باريس، فرنسا، في 21 إبريل 1960م. حصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات من فرنسا، وشهادة الطب من جامعة باريس عام 1984م، حيث تدرب مع البروفيسور غابرييل ريتشيت. واصَلَ تدريبه في علم المناعة بجامعة ألبرتا (إدمونتون، كندا) مع الدكتور توماس ويجمان، وأجرى أبحاث ما بعد الدكتوراه في معهد وايتهيد للأبحاث الطبية الحيوية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (كمبريدج، ماساتشوستس) تحت إشراف الدكتور ريتشارد موليجان (1989- 1994م). في عام 1994م، بدأ الدكتور سادلين عمله في مركز ميموريال سلون كيترينج للسرطان، حيث أسس مركزًا لهندسة الخلايا عام 2007م في ولاية نيويورك الأميركية.

ميشيل سادلين
تركزت أبحاث الدكتور سادلين على هندسة الخلايا الجذعية وخلايا (T)؛ بهدف تطوير علاجات آمنة وفعالة للأمراض الوراثية الخطيرة واضطرابات الدم والسرطان. ابتكر مختبره مستقبلات تستهدف المستضدات أطلق عليها اسم «مستقبلات المستضدات الخيميرية» (CARs)، وحدد CD19 كهدف علاجي مثالي؛ إذ قدَّم أول دليل تجريبي على أن خلايا (T) البشرية يمكن هندستها لاستهداف +CD19 الأورام اللمفاوية وسرطان الدم على نحو فعّال في الفئران (Brentjens et al, 2003). حصل مختبره على أول موافقة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) لتجربة العلاج باستخدام CD19 CAR في الولايات المتحدة الأميركية. وفي عام 2013م، كان فريقه أول مَنْ أبلَغَ عن استجابات فعّالة لعلاج CD19 CAR لدى البالغين الذين يعانون انتكاسًا ومقاومةً في ابيضاض الدم اللمفاوي الحاد (ALL)، وهو ما أدى إلى العيش لمدة أطول.
اعتمدت إدارة الغذاء والدواء الأميركية علاجاتCAR عام 2017م. وقد مهد علاج CD19 CAR الطريق لصناعة ناشئة للعلاج بالخلايا عالميًّا، وتطوير علاجات أخرى تعتمد على الخلايا والطب التجديدي.
أنجز الدكتور ميشيل سادلين أكثر من 280 بحثًا علميًّا. وقد أدت أبحاثه إلى ابتكار أكثر من 60 براءة اختراع. شغل مناصب عدة؛ منها: عضو لجنة استشارات الحمض النووي معاد التركيب التابعة للمعهد الوطني للصحة، ورئيس الجمعية الأميركية للعلاج الجيني والخلايا، وزميل منتخب في الجمعية الأميركية لأبحاث السرطان.
حصل على العديد من الجوائز المرموقة؛ منها جائزة كولي من معهد أبحاث السرطان للأبحاث المتميزة في علم مناعة الأورام، وجائزة سلطان بن خليفة العالمية للبحث الطبي المبتكر في الثلاسيميا، وجائزة مخترع العام من جمعية نيويورك لحماية الملكية الفكرية، وجائزة باسانو، وجائزة باستور-فايزمان، وجائزة غاباي، وجائزة INSERM العالمية، وجائزة مؤسسة ARC ليوبولد غريفويل، وجائزة الإنجاز المتميز من الجمعية الأميركية للعلاج الجيني والخلايا. وحصل على لقب Clarivate Citation Laureate في مجال الفسيولوجيا أو الطب؛ بفضل أبحاثه الرائدة التي طوّرت علاجات CAR لعلاج السرطان. وفي عام 2024م، حصل على جائزة Breakthrough في علوم الحياة، وجائزة كندا غايردنر.

جائزة العلوم
قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل للعلوم، وموضوعها «الفيزياء»، منح الجائزة للياباني البروفيسور سوميو إيجيما؛ لاكتشافه الرائد لأنابيب الكربون النانونية باستخدام المجهر الإلكتروني، وتأسيسه لحقلها العلمي الحديث. وقد أثرَت هذه الفئة الجديدة من المواد الكربونية أحادية البعد علوم فيزياء الحالة الصلبة الأساسية وعلوم المواد. وقد فتح عمله آفاقًا جديدة لتطوير تطبيقات عملية واسعة النطاق في تكنولوجيا النانو، بدءًا من الإلكترونيات إلى أنظمة تخزين الطاقة والطب الحيوي.
وُلِدَ سوميو إيجيما في سايتاما، اليابان، في 2 مايو 1939م. يشغل منصب أستاذ جامعي في جامعة ميجو (ناغويا) منذ عام 1999م، وزميل باحث في شركة NEC (طوكيو). كان مديرًا سابقًا لمركز أبحاث الأنابيب النانوية في المعهد الوطني للعلوم والتكنولوجيا الصناعية المتقدمة (AIST) في اليابان، وهو حاليًّا زميل فخري في المعهد ذاته.

سوميو إيجيما
بعد تخرجه من جامعة الاتصالات الكهربائية في طوكيو، واصل دراساته العليا في جامعة توهوكو (سينداي)، حيث حصل على الدكتوراه في الفيزياء عام 1968م في تخصص فيزياء المواد المكثفة والمجهر الإلكتروني. كانت أطروحته حول «تأثيرات الطباعة في بلورات AgBr». وفي عام 1970م، انتقل إلى جامعة ولاية أريزونا كباحث ما بعد الدكتوراه، حيث عمل مع البروفيسور كاولي على تطوير المجهر الإلكتروني النفاذ عالي الدقة (HRTEM) وأسس طريقة HRTEM سابقًا بها بقية الباحثين.
نشر أبحاثًا رائدة في التصوير الذري باستخدام HRTEM لمجموعة متنوعة من المواد، بما في ذلك الأكاسيد المعقدة والمعادن ومواد الكربون والذرات المعدنية. وفي عام 1979م، دُعي إلى جامعة كمبريدج، حيث عمل على التصوير باستخدام HRTEM للكربون غير المتبلور. بعد عودته إلى اليابان عام 1982م، انخرط في أبحاث حول «الجسيمات فائقة الصغر» لمدة خمسة أعوام كجزء من مشروع البحث الاستكشافي للتكنولوجيا المتقدمة (مشروع بحث وطني)، وانضم لاحقًا إلى مختبرات أبحاث NEC عام 1987م.
في عام 1991م، اكتشف الدكتور سوميو إيجيما الأنابيب النانوية الكربونية، وهو ما جعله رائدًا في علوم وتكنولوجيا النانو على مستوى العالم. وحصلت أول ورقة بحثية له عن الأنابيب النانوية الكربونية على أكثر من 58,000 اقتباس فيGoogle Scholar حتى الآن، ولا تزال في زيادة. هذا الاكتشاف منحه شهرة واسعة ودعوات عدة إلى مؤتمرات دولية مثل مؤتمر KAUST-NSF عام 2014م، إلى جانب العديد من الجوائز والأوسمة والدكتوراه الفخرية؛ منها وسام فرانكلين في الفيزياء عام 2001م، وجائزة Agilent Europhysics، وجائزة APS McGroddy، والجائزة الإمبراطورية، وجائزة الأكاديمية اليابانية، ووسام الاستحقاق الثقافي عام 2009م. وحصل على جائزة أمينوف في السويد، وجائزة بالزان في إيطاليا عام 2007م، وجائزة المخترع الأوربي عام 2015م. انتُخب عضوًا في الأكاديمية اليابانية، وعضوًا أجنبيًّا في الأكاديمية النرويجية للعلوم والآداب، وعضوًا أجنبيًّا في الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، وعضوًا أجنبيًّا في الأكاديمية الصينية للعلوم.
موضوعات الجائزة لعام 2026م
الدراسات الإسلامية: طرق التجارة في العالم الإسلامي.
اللغة العربية والأدب: الأدب العربي باللغة الفرنسية.
الطب: الاكتشافات المؤثرة في علاجات السمنة.
العلوم: الرياضيات.