الكتابة الروائية وكسر الحدود، تمثل هوية الآخر في روايات غربية
دأب النقد الأدبي العربي المعاصر على تناول أشكال نظر (الأنا العربية) إلى الآخر وتمثل هويته، منذ أوقات مبكرة، وتطوّر البحث في هذا المجال خاصة مع النقد الثقافي، وما بلوره من رؤى تتعلق بقضايا تمثل الأدب لثقافة الآخر في تجلياتها المختلفة، غير أن النقاد العرب نادرًا ما وقفوا عند تمثل (الأنا الغربي) لثقافة الشعوب الأخرى ومعالجة قضاياها إبداعيًّا، منذ محاولات إدوارد سعيد في «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية»، أو في مقالات متفرقة لنقاد اتخذوا من الدراسات الثقافية منطلقًا لتناول الموضوع احتضنتها بعض المجلات العربية وبعض الكتب الجماعية. ومن هنا ستعمل هذه الورقة على الكشف -من خلال بعض النصوص الروائية المنتمية إلى ثقافات غير عربية- عن رؤية الآخر إلى العربي، أو الإفريقي، في إطار الوعي بأهمية كسر الحدود والانفتاح على ثقافات الآخر -غير الغربي- ومعاناته.
وتتخذ هذه الورقة من بعض الروايات الصادرة حديثًا منطلقًا لبلورة قراءتها الخاصة لإشكال كسر الحدود وتواصل الإبداع مع ما يقع الآن، وهنا في عوالم الكتابة ومجال البصريات معًا، وبخاصة ما طرأ من تغير على مفهومي الآخر والهوية في ظل ثقافة عصر العولمة.. والنصوص التي وقع الاختيار عليها ثلاثة، وهي: «شارع اللصوص» لماتياس إينار، و«راوي مراكش» لجويديب روي باتاجاريا، و«لا تقولي إنك خائفة» لجوزبه كاتوتسيلا. فكيف تمثل الروائيون الثلاثة «الآخر» (المغربي والإفريقي)؟ وهل استطاعت كتاباتهم تمثل ثقافة الآخر والإيمان باختلافه؟ وهل تمكنت الروايات الثلاث من تجاوز الصور النمطية المكرسة ثقافيًّا وإعلاميًّا عن العربي والإفريقي؟
انطلاقًا من هذه الأسئلة سنعمل على مقاربة موضوعنا. تتخذ رواية «شارع اللصوص» للروائي الفرنسي ماتياس إينار مدينة طنجة، فضاء أولًا لأحداثها، ثم تعبر الحدود نحو برشلونة. وبطل الرواية أو شخصيتها المحورية هو شاب مغربي/ طنجاوي يحيا ظروفًا مختلة. فهو طالب، يمضي أيامه في مركز «جماعة نشر الفكر القرآني»، وهي إحدى الجماعات التي تتبنى الفكر الجهادي، وتُكوِّن الشباب لممارسة «التطرف والإرهاب»، كما سيكتشف البطل لاحقًا، ونكتشف معه، لكنه كان يجد في صديقه بسام والشيخ نور الدين عونًا على صعوبات الحياة، على الرغم من أنهما يحملان الفكر الإرهابي.
إن من يقرأ الرواية يجد فيها مادة خصبة لتجلية نظرة الغربي إلى المغربي وثقافته وطبيعته التكوينية المتناقضة. تقف الرواية طويلًا عند هوس الشباب بالجنس والعنف. كما تبين توزعهم بين الواجب الديني ودواعي الجسد ورغباته. كما لم يغب عنها انشغال الشباب المغربي بإشكال الهوية ومآزقه في زمن اختلطت فيه الأشياء، وصارت الحدود منفتحة لا تقبل الانغلاق الثقافي، وصارت فيه حقيقة الإنسان المسلم/ المغربي وغير المغربي غير واضحة المعالم. لكن، يبقى السؤال الذي يلحّ علينا ونحن نقرأ هذه الرواية هو: هل سلم طرحها من شرك الصور النمطية التي تصنعها وسائل الإعلام، وكرستها النظرة الاستشراقية/ الاستعمارية منذ بداياتها؟
إدانة السارد
مما لا شك فيه أن الرواية تقدم صورة فيها الكثير من رواسب نظرة الغربي -التي تشكلت منذ القدم- إلى المغربي/ العربي بوصفه مثالًا لحب الشهوة والملذات الجسدية، وأنه مشروع قاتل/ أو إرهابي (بالمصطلح الحديث). ومن هنا كانت الشخصية المحورية في الرواية على الرغم من تكوينها الثقافي المتوازن، ووداعتها، وانغماسها في علاقات حب رومانسية، لا تسلم من إدانة السارد ونظرته النمطية للإنسان المغربي/ المسلم. وعلى الرغم من أن الروائي استعمل ضمير المتكلم ليجعل بطله هو السارد، وليوحي بأن الرؤية التي تجسدها الرواية هي رؤية الشاب المغربي، غير أن قارئ الرواية يدرك، وبيسر، أن الرؤية إلى الواقع المغربي، وإلى انتشار التطرف والإرهاب، تستند إلى خلفية المؤلف ونظرته، وأنها تنبثق من حمولته الثقافية والفكرية لا حمولة الشباب المغربي. ومن ثم لم تسلم -كما أشرنا- من النظرة الاستشراقية المكرسة، ومن الدعاية الإعلامية الموجهة. وبهذه الكيفية لم تتمكن «ثقافة كسر الحدود» والانفتاح التي بشّر بها عصر العولمة وما بعد الحداثة من تأدية دورها لدى الكاتب، فكانت روايته، على الرغم، من سعيها إلى الإمساك بطبيعة الشباب المغربي الحديث، ومعاناته ومآزقه وتوزعه بين ملذات الحياة والوازع الديني، خاضعة لمنظور المؤلف ووجهة نظره الفرنسية الجذور.
ولعل الأمر نفسه نلقاه في رواية «راوي مراكش» للروائي الهندي جويديب روي باتاجاريا الذي جعل من فضاء جامع الفناء بمراكش مدار أحداث روايته، وجعل بطل الرواية، أو شخصيتها المحورية، هو الراوي حسن الذي يتخذ من حكي القصص وسيلة لإعالة نفسه وأسرته. وفي الساحة الشهيرة وما يحيط بها من فضاءات تجري وقائع الرواية وأحداثُها البارزة. وكان الحدث المميز الذي استأثر بحديث الراوي وغيره من رواة حلقة حسن، وشخصيات الرواية، هو حدث اختفاء زوجين أجنبيين: امرأة بيضاء فاتنة بهرت كل من رآها، أو تواصل معها. ورجل أسمر، كاتب، من أصل هندي، لفت الأنظار، بدوره، بشكله وهيئته، وبتعامله الإنساني الراقي
مع المرأة، ومع كل من تعامل معهم في فضاء ساحة جامع الفناء.
بهذه الشاكلة يجعل السارد من الإنسان الغربي نموذجًا لسلوك راقٍ، وتعاملٍ إنساني قويم، وثقافة تؤمن بالحرية والاختلاف، في التصرف مع من يتفاعل معهم. لكن في المقابل نجده يقدم صورة نمطية للإنسان المغربي، لا تختلف كليًّا، عن نظرة الإنسان الأوربي، على الرغم من أن الكاتب من أصل هندي، ومن بيئة أكثر تخلفًا عن المغرب. وهكذا كان المغربي في الرواية مثالًا للرذائل والجريمة والاحتيال والسرقة والكذب والخديعة… وغيرها من المثالب التي أُلصقت بالمسلم والعربي عبر تاريخ الصراع العربي/ الأوربي. وهكذا لم تفد ثقافة عصر العولمة وفكر ما بعد الحداثة وتمثلات الدراسات الثقافية الجديدة الروائي في شيء، فكانت روايته كاسرة لمفهوم الاختلاف، وضاربة عرض الحائط قيم التعدد والتنوع.
الصوت الأحادي للكاتب
وبهذه الشاكلة غلبت على الروائي نظرة الغرب إلى الآخر، ولم يتمكن من التحرر من هيمنة الرؤية الأوربية/ الأميركية إلى الآخر، وهو هنا المغربي/ المسلم. وعلى الرغم من أن الرواية توهم قارئها بديمقراطية كاتبها؛ لأنه أسند الحكي إلى راوٍ مغربي أساس هو حسن، يسعفه على سرد الأحداث رواة مغاربة آخرون، وبذلك تعددت وجهات النظر حول اختفاء الأجنبيين؛ فإن هذه اللعبة الفنية تخفي الصوت الأحادي للكاتب الذي ينطق من خلال شخصياته، ويقدم صورة مثالية تذكر بآلهة الأولِمب للمرأة والرجل الأجنبيين، بينما تبدو صورة المغربي كالحة المعالم، تشوبها النقائص والمثالب.
أما الكاتب الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا فقد ذهب إلى صقع آخر من إفريقيا هو الصومال، واتخذ من مدينة مقديشو فضاءً لأحداث روايته، حيث ركز على تصوير معاناة الشعب الصومالي في ظل الصراع الطائفي والديني، من خلال رصد تحركات بطلته الطفلة الصغيرة سامية وصديقها علي ابن الجيران الذي يشاركها براءة الطفولة وشقاوتها. ومن خلال منظور بطلته يصور الكاتب مدى مظاهر بؤس الصومال وتدهور حالة الإنسان في هذا البلد المسلم، كما يقف عند الجذور القبلية للصراع الطائفي والديني فيه. غير أن قارئ الرواية يدرك أن ما يتحدث عنه الكاتب، وما يبلوره من آراء حول واقع الصومال، يتجلى من خلال رؤية بطلته سامية، وأن آراءها هي آراء الكاتب، إلا أن هذه النظرة تبقى نظرة الشخصية المحورية في الرواية، عكس ما ألفينا في العملين السابقين.
وإذا كانت روايتا إينار وباتاجاريا قد كشفتا عن أمر طالما لوحظ في الرواية الغربية التي تُكتب عن الشرق، وبالأخص عن البلاد العربية الإسلامية، وهو الكتابة عن نماذج بشرية غريبة وغير مألوفة تكوينًا وشخصية، فإن رواية كاتوتسيلا قد وقفت عند نموذج إنساني واقعي الملامح بالغ الطموح تميزه الإيجابية في السلوك والفكر والمشاعر والأحاسيس، يتمثل في الصغيرة سامية وهي تحارب من أجل أن تصير بطلة أولِمبية في الجري لتمثل بلدها، وتكون أداة للدعوة إلى الحرية والسلام في بلدها. وبذلك تكون رواية «لا تقولي إنك خائفة» من النماذج الروائية الغربية القليلة التي نجحت في تقديم صورة صادقة غير مزيفة لسلوكيات المسلم وعقليته، وقدمته في صورة إيجابية إنسانية راقية، ونستحضر في هذا السياق، أيضًا، رواية «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» للروائي الفرنسي إيريك إيمانويل شميدت.
وإذا كان كل من ماتياس إينار وروي باتاجاريا لم يسلما من نظرة الاستعلاء الغربية في تعاملهما مع شخصياتهما، وتصويرهما لطبيعة ما يجري في الفضاء المغربي الذي اختاراه لجريان أحداث روايتيهما، فإن الروائي الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا، لم يسقط فيه حيث إن نظرته الغربية، وخلفيته الثقافية والفكرية، لم تتحكم في تحريكه لشخصياته، وتصويره لما جرى ويجري في الصومال. وقد جعل بطلته، العداءة الصومالية، تنقل معاناتها ومعاناة أسرتها، بعد مقتل والدها، نقلًا فيه الكثير من المصداقية والدقة. وكانتسامية قادرة، من خلال ما ترويه، على كشف طبيعة الصراع ومدى تجذر الفكر الإرهابي للقاعدة، والمحاكم الإسلامية، في المجتمع الصومالي، وفي جنوب البلاد خاصة.
المركزية في الإبداع الغربي
انطلاقًا من كل ما سبق نؤكد أن نظرة المركزية الأوربية متحكمة في جُلّ الإبداع الغربي أو المتأثر بالثقافة الغربية الذي يوهمنا بأن المثقف الغربي يتفاعل معنا فعلًا ويتعاطف مع قضايانا، بينما لا يتمكن حقيقة من تمثل قيم التسامح والتفاهم، ومعاني التعدد والاختلاف في كتابته أو إبداعه. وفي الغالب يتجه الروائي الغربي إلى استثمار وجهة نظر وسائل إعلام بلده أو ثقافته التي تجد جذورها في الإرث الاستعماري وأيديولوجيته من دون وعي منه، أو بوعي ماكر. وهكذا وجدنا الروايات الثلاث التي اشتغلنا بها تتفاوت في تقديم صورة موضوعية عن المغربي/ المسلم أو الصومالي، فبينما قدمت روايتا ماتياس إينار وروي باتاجاريا تمثلات ثقافية مهتزة ضحلة تكرس وجهة نظر الإعلام الغربي وثقافته الموروثة عن عقلية الهيمنة والاستعمار، استطاعت رواية جوزبه كاتوتسيلا أن تكون موضوعية في اقترابها من الآخر وكسر الحدود إبداعيًّا، ومن حيث تفاعلها الإنساني مع الآخر/ الصومالي المسلم.
بعد كل ما ذكرناه نختم هذه القراءة بإثارة بعض الأسئلة: هل يمكن فعلًا الحديث عن ثقافة للحدود؟ وعن وعي بإمكانية فهم ثقافة الآخر واختلافه؟ هل يستطيع الإبداع الروائي الغربي أن يرقى ليعبر عن تمثلات نزيهة للمبدعين تجاه الآخر؟ وفي المقابل: هل يتمكن الروائي العربي، بدوره، أن يقدم صورًا نزيهة للآخر الغربي ويمكن أن يتخلص من إرثه الثقافي؟ هل يمكن أن يتمثل ثقافة الآخر الغربي، ومن ثم يتمكن من فهم عمق الآخر وطبيعته وما يحدد هويته؟
هذه أسئلة ستبقى مطروحة ما دام المبدع لا يتمكن من تحقيق الحرية الفعلية والخلاص من مؤثرات ثقافته التي نشأ فيها وتغذى بها، ومن مؤثرات وسائل الإعلام الحديثة التي زادت الفجوة بين الشعوب أكثر مما قربتها.