خوسيه مارتي رمزًا ثوريًّا «عبدالله» المسرحية التي تحولت إلى لقاح ضد كورونا
تفاجأ العالم أجمع بقدرة كوبا على ابتكار لقاحها الخاص ضد وباء كوفيد-19 الذي يحاصر الكرة الأرضية منذ عام 2019م حتى أيامنا هذه والذي حصد أرواح ملايين البشر، وما زال حتى اليوم يشكل خطرًا كبيرًا على مساحة شاسعة وبلدان كثيرة في القارات الأربع. وإذا كان التعجب يبطل إزاء القدرة الطبية الهائلة والمعروفة دوليًّا لدولة صغيرة محاصرة مثل كوبا، فالدهشة تنبعث مع التسمية التي أطلقها الكوبيون على لقاحهم الذي له قدرة تامة على الوقوف في وجه آفة كوفيد-19 وما تليها من مضاعفات.
التسمية المختارة للقاح الكوبي حملت اسم «عبدالله» العربي، وهو ما جعل العالم يستغرب ويتساءل ويبحث عن سبب هذه التسمية التي تخرج من معطف كوبا الثورية، وليست من نتاج أو تسميات أية دولة عربية أو إسلامية. الإجابة قد تكون أسهل لو عرفنا أن «عبدالله» هو عنوان لأحد الأعمال الأدبية المتميزة للشاعر المفكر خوسيه مارتي شاعر الجزيرة ورائدها والاسم الثوري الأول بامتياز، ورمز كوبا في نضالها منذ أيام التحرير الأولى ضد الغزو الإسباني نهايات القرن التاسع عشر حتى اليوم. القصيدة المسرحية استمدت أحداثها من تاريخ مصر القديم عبر رمز ثوري محرر يحمل اسم «عبدالله» المقاوم أعتى عتاة عصره.
عُرف عن خوسيه مارتي (هافانا 1853- 1895م)، كونه شاعرًا مدهشًا ورائدًا للحداثة الشعرية في أميركا اللاتينية وبلده كوبا، وهو مؤلف ديوان إسماعيل الصغير، وديوان أشعار بسيطة، وديوان أشعار حرة، إضافة إلى رواية واحدة لم تنشر في حياته ومجموعة من المقالات وعدد هائل من المراسلات، إضافة إلى نتاج صحفي ضخم موضوعه الدائم هو الرغبة في الاستقلال والدفاع عن كوبا. إلى جانب كونه أكاديميًّا وصاحب مبادرات ثقافية غزيرة، عُرف عنه مثاليته وآماله الكبرى بتحرير شعوب العالم قاطبة. لكنه في المقام الأول بطل وطني ورمز استقلال كوبا.
وإذا كانت أشعاره وكتبه الأدبية قد دُرِست بكثرة، فإن أحد هذه الجوانب هو البعد العالمي لفكره ومشاعره وعمله الثوري، لم يكتب عنها كثيرًا. إن تفانيه التام في النضال من أجل تحرير كوبا وبورتوريكو يتجاوز حدود الجزر الكاريبية ووطنها الكبير في أميركا اللاتينية، مع استقلال جزر الأنتيل، فهو في الواقع كان يسعى إلى التقدم وتحرر كل شعوب العالم المضطهدة. لقد قاتل في كوبا؛ لأنه ولد فيها، ولكنه في عدة مناسبات، أكد أن أهدافه الإنسانية بعيدة المدى: «علينا أن نسعى لإيجاد طريقة توازن عادلة في العالم أجمع، ليست الجزيرة هي التي نسعى لتحريرها فحسب».
لقد ولد وعاش في عصر هو القرن التاسع عشر، وفي أزمنة متأججة، وتاريخ سيعيد تشكيل خريطة العالم أجمع؛ لهذا كان يشعر بدوره كاتبًا ومفكرًا لا ينفصل عن دوره مقاتلًا ومناضلًا من أجل تحرير شعبه أولًا، والتضامن مع الشعوب الأخرى التي كانت تعيش في ظرف مشابه سواء في أوربا أو أميركا اللاتينية أو الشرق الأقصى.
كان بطلنا وأديبنا الكوبي مغرمًا بتاريخ وثقافات الشعوب، ودروسها مبثوثة ومعبر عنها في أغلب كتبه الفكرية والأدبية. ولذلك فمن المنطقي أن نجد في كتاباته وخطاباته وفي مشاعره حبًّا غير نهائي للبشر أجمع، بغض النظر عن اللون أو المعتقد أو الجنسية أو العِرْق، وتضامنه مع كل أولئك الذين يقاتلون ضد التبعية والاحتلال والظلم في أي ركن من أركان الأرض. شجع وكتب عن المقاتلين، من الشعوب الهندية في كل أميركا اللاتينية التي أهلكها الاستغلال والإذلال والإبادة، وصولًا إلى القبائل الإفريقية ضحايا المستعمرين وتجار العبيد والإمبريالية، وفي بورتوريكو المقهورة، وعن الفيتناميين والكمبوديين والهنود، الذين كانوا يقاتلون بشجاعة ضد الظالم الأجنبي. وأيضًا عن المكسيكيين، بل حتى عن الأيرلنديين الذين كانوا يكافحون للتخلص من نير الظلم الإنجليزي، وعن البولنديين بوقوفهم ضد القمع القيصري. لكن يبقى تذكره ودفاعه وكتابته عن العرب من أهم وأوسع ما تطرق له مارتي في كتاباته سواء تلك الصحفية والسياسية والفكرية أو الأدبية. كان العرب من بين الشعوب التي حظيت بأنشط تعاطفه ودفاعه عن تاريخها الماضي والمعاصر.
قراءاته لتاريخ العرب
عندما لم يكن مارتي قد بلغ من العمر 16 عامًا، كتب أول دراما مسرحية شعرية له بعنوان «عبدالله» التي رمز فيها إلى كوبا المناضلة ضد الاستعمار الإسباني عبر الإشارة لأرض عربية، وهي النوبة في مقاومتها للغازي. شخصيات المسرحية الشعرية، وبخاصة بطل العمل والأحداث كلها من نَسْج خيال مارتي. لكنها أحداث قد أثرت فيها قراءاته الأولى للحضارة الفرعونية وتاريخ العرب الأوائل. وهو هنا وإن كان يستخدم كثيرًا من الإشارات المطروقة في أعمال تلك الحقبة عن التضحية والدفاع عن الأرض والشهادة وقيمتها والمجد المستمد من الدفاع عن المبادئ الإنسانية، فإن المسرحية تبقى عملًا فريدًا لشاب في مطلع حياته الأدبية، علاوة على سماتها وملامحها الشعرية الأولى التي ستنمو وتنضج في كتبه التالية كما عليه في ديوانيه المهمين: إسماعيل الصغير، وأشعار بسيطة.
في مسرحية «عبدالله» إضافة للبطل هناك الأم (إسبارطا) والشقيقة (ألميرا)، وعبر هاتين الشخصيتين النسويتين يتجسد التكريم الأكبر للمرأة، الأخت المرافقة المتضامنة والأم المضحية. والدة عبدالله لها دور أكبر في العمل المسرحي وهي تحث ابنها على الاستمرار بالقتال حتى النصر، ولا تسمح له بمفهوم مجزأ للواقع، ولا تريد للحال أن يستمر، بل تحثه على أن الحياة عُرْضة لتغييرات عدة عندما نرغب ونشاء بفضل الإصرار، وهي تقبل بالحقيقة عندما تشهد موت ولدها بعد انتصاره على الطاغية وسقوطه شهيدًا متأثرًا بجراحه القاتلة. ولعله هنا بشكل مباشر أو عبر تأثير العديد من القراءات والنماذج العربية المعروفة، أراد للحدث أن يكون رمزيًّا من خلال نتف واقعية. كأن حكاية المسرحية استرجاع لتاريخ عربي، كما عليه حكاية الخنساء المعروفة بوصول خبر استشهاد أبنائها الأربعة في معركة القادسية واستقبالها لهم بالمزيد من الفخر؛ لأنهم دافعوا عن مبادئهم وما يعتقدونه.
مع ذلك فهي كأم تبكي ابنها المضحي بحياته، وتتساءل فيما لو أن الأرض جديرة بإرجاعه لها. وعبدالله وهو يلاقي الموت بعد أن يحمله صحبه من أرض المعركة ليكون في حضن أمه، يقول لها كلماته الأخيرة: عبدالله: «جئت لأشهق بين ذراعيك، يا أمي،/ أنفاسي الأخيرة وروحي!/ أن تموت!/ أن تموت عندما تحارب النوبة؛/ عندما يراق دم إخوتي النبيل،/ عندما أنتظر أن تنفع/ جهودنا لتحرير الوطن!/ لا تبكي يا أمي!/ الأم: تقول لي ألا أبكي!؟/ ومن سيعيد لي حياتك يا بني؟/ عبدالله: الحياة النبيلة يا أمي/ أن تقاتل وتموت من أجلها».
والحال أن أم عبدالله في مسرحية خوسيه مارتي تجسد الواقعة تمامًا. تعكس هذه المسرحية العديد من الأفكار التي كان يعتقد بها مارتي وكذلك عن أحلامه ومثله العليا، والتي ستدخله في فكرة قراره القتالي حتى الموت ضد الهيمنة الإسبانية وتحرير بلاده كوبا. لدى مارتي الأسباب كافية لاستحضار وتكريم العِرْق العربي ومعاناته الإنسانية في عموم الكرة الأرضية. في إحدى جُمَله الشهيرة عن العرب يقول: «إنهم أولئك الذين يتسمون بالرشاقة، مخلوقات ساحرة، ومن أكثر الناس نبلًا وأناقة على وجه الأرض».
لقد قرأ مارتي العديد من الكتب والنصوص عن العرب، وكان يخطر بباله زيارة البلدان العربية (وبخاصة مصر والمشرق) وهذا ما عبر عنه في كلمة أرادها تذكارًا لصغيره وهي رغبته فيما لو كبر الابن أن يقوما بأول زيارة لأرض العرب في مصر. وهذه الزيارة وإن لم تتم، فقد جسّدها فكريًّا من خلال خياله بالكتابة، والمرور على تراث العرب وحضاراتهم القديمة في مصر ووادي الرافدين. ولعل التذكير وحسب بديوانه المجدد (إسماعيليو أو إسماعيل الصغير) من فكرة تخليد مؤكدة لأثر كبير يخص العرب عبر استرجاع سيرة النبي إبراهيم وولده إسماعيل اللذين جاء منهما العرب كما ذكرتْ تواريخ الأديان والكتابات القديمة، التي يعيدها مارتي بأسلوبه الشعري المرهف كعلامة مميزة لتعاشق الفكرة الإنسانية وتمجيدها.
الوجه المشرق للعرب
لعل أول تقارب حقيقي ملموس مع العرب وحضاراتهم وآثارهم كان في إقامته في إسبانيا عندما نُفِيَ عام 1871م، حيث درس القانون في الجامعة المركزية في مدريد، ثم زياراته لمدن إسبانيا الأخرى مثل سرقسطة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة، قبل أن يعود مجددًا إلى كوبا وينضم لصفوف المقاومة الكوبية ضد الاحتلال الإسباني ويقتل برصاص أحد الجنود الإسبان عن عمر يناهز الـ42 عامًا. على الرغم من شعوره بالغبن بسبب نفيه من بلده كوبا إلى بلد المستعمِر إسبانيا، إلا أنه يستغل مدة وجوده هناك في البحث والدراسة ومعرفة الآخر وثقافته وخصوصيته. من مدريد مقر إقامته كان ينطلق برحلات في عموم إسبانيا، ومنها تعرفه إلى الفن الاستشراقي في المتاحف والمعمار القوطي والمدجن الجديد، لكن اهتمامه الأكبر في تمعُّنه وزياراته المتكررة للآثار العربية الإسلامية في غرناطة وقرطبة وإشبيلية وما يجاورها. طوال أربع السنوات مدة وجوده في إسبانيا، تعرَّف إلى الوجه المشرق للعرب وما تركوه بعدهم من فنون وآداب ومعمار وثقافة رُوحية ونفسية متداخلة مع الشخصية الإسبانية نفسها. كل ذلك الإرث يطلق عليه مارتي تسمية «قصائد» جمالية شاخصة. التراث الأندلسي في إسبانيا أثار إعجابه بقدرة العرب على صنع كل هذه الأمجاد، وهو وإن كان متأكدًا من ثقل الإرث العربي وحضارات المنطقة، إلا أنه تهلل وازداد إعجابه وتقديره مع مروره بما تبقى من آثارهم في إسبانيا.
الحقيقة أن كل أعمال مارتي يميزها هذا التقارب مع الثقافة العربية. لعل مجرد بحث متكامل عن أثر «ألف ليلة وليلة» في أعماله وتأثيرها في جُلّ كتاباته، لَجدير بكتاب كامل لا نستطيع تلخيصه في هذا المقال القصير. من الناحية الشعرية، أثرت الأحاسيس والمشاعر العربية بشدة في حياة مارتي وكتاباته. ما لا يقل عن خمس من قصائده مكرسة بالكامل لهذا الموضوع، وفي خمس عشرة أخرى منها أكثر من إشارة فرعية. وإذا ما ذُكِرَ «عبدالله» بسبب من موضوعاتها الكاملة عن البيئة العربية، لكننا نذكر هناك قصيدة جميلة أخرى بعنوان «عربي» يتوق فيها إلى حياة العرب في البادية وإلى إرادتهم الحرة وعاداتهم المتأصلة:
«لا أبهة زائفة، أيها العربي،/ لهذا أحيي حريتك وخيمتك وجوادك./ كما ألمح قمم الأرض من البحر،/ أنظر إلى لحظاتي السعيدة في الذاكرة:/ لقد كانت فقط تلك التي أكون فيها بمفردي/ على صهوة الجواد متأملًا الفجر،/ مخاطرًا، أصعد الجبل،/ وعندما أعود مثلك عنيدًا وسعيدًا،/ أفك اللجام وأسارع لإطفاء ظمئي».