ضمور الدين وظهوره في الفضاء العمومي بتونس ظاهرة تؤثر في الجسم الاجتماعي، والسياسيُّ يستغلُّها لترسيخ الهيمنة
يلاحظ اكتساح مظاهر التديّن الفضاءَ العموميّ في أشكال مختلفة، خطابًا وسلوكًا، بعد ضمور شبه كليّ منذ تأسيس دولة الاستقلال في تونس مثلًا؛ لذا شكّل الضمور ثمّ الظهور للدين والتديّن في الفضاء العموميّ ظاهرة جديرة بالبحث. يقتضي البحث النظر في خلفيّات هذه الظاهرة وأبعادها القيميّة وفاعليّتها في الترقّي بمسلم اليوم، تجاوزًا لوضع الترهّل التاريخيّ والحضاري، ومساهمة في تنوير الفكر الديني، فضلًا عن روحنة السلوكيّات والقيم، وهو ما يستوجب النظر في مفهوم الفضاء العموميّ وعلاقته بالدولة، وتبيّن سماته وخصائصه في علاقته بالفضاءَيْن العربيّ والتونسيّ خاصّة، بغية تقويم تجربة الاشتغال بالدينيّ في الفضاء العموميّ دفعًا لها حتّى تتجاوز نقائصها.
فما الفضاء العموميّ؟ وما خصائص التواصل فيه؟ وما صلة الفضاء العموميّ علمانيّ النشأة ثقافيًّا، بالمسألة الدينيّة وبالمؤسّسة السياسيّة؟ وهل ساهم الفضاء العموميّ في تحديث الوعي الدينيّ وتنويره أم عمّق الاختلافات؟
الفضاء العموميّ: سياقات التشكّل وسمات المفهوم
أصبحت الدولة مند مُعاهدة «وستفاليا» سنة 1648م الفاعل الرئيس في تنظيم الجسم الاجتماعيّ، وترتيب شأنه العامّ، واستطاعت الدولة في صيغتها «النابوليّة» أن تصبح نموذجًا عالميًّا، نسجت على منوالها كلّ المجتمعات العربيّة بعد حروب التحرير، وتحكّمت في المشترك من القضايا والمصالح العامّة بما في ذلك «دولنة الدين». وفي المثال التونسي «لم يمضِ على توقيع وثيقة استقلال تونس في 20 مارس 1956م أكثر من خمسة أشهر حتّى اتّخذت الحكومة برئاسة الحبيب بورقيبة قراراتٍ جريئة متعلِّقة بالأحوال الشخصية ونظام الأسرة، وبعد سنة أُلغي نظام الأوقاف العامة والخاصة، وأُقرَّ توحيد القضاء والتعليم». لكن يلحظ الباحث المدقّق في المسلّمات أنّ هذا التفويض الجماعيّ «للدولة الحديثة»، لم يكن نهائيًّا ولا باتًّا، فقد عرفت الدولة العربيّة «الحديثة» مواجهات عنيفة مع جسمها الاجتماعيّ؛ إذ أعدمت بعضًا وزجّت بعضًا آخر في السجون.
إنّ تباحث مسائل الشأن العامّ خارج أفضية السلطة ونظمها أيّام الحرب كما أيّام السلم، وخارج أيضًا هياكل معارضيها ومؤسّساتهم، شكل ظاهرة اجتماعيّة إنسانيّة عرفتها جلّ المجتمعات في مختلف الثقافات واصطُلح في الزمن الحديث على تسمية المجالِ الذي يحتضنها المجالَ العامّ أو الفضاءَ العموميّ، وصار مبحثًا فلسفيًّا اهتمّ به كثيرٌ من المفكّرين والفلاسفة، مثل هابرماس وغيره، وهو ما يقتضي في مثل هذا المقام ضبط مفهومه.
رغم ما يسود بين الباحثين من إجماع، سواء في عدِّ التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الأوربية في القرنيْن السابع عشر والثامن عشر، وبخاصّة في فرنسا وإنجلترا، مرجعًا تاريخيًّا للفضاء العموميّ، أو في عدِّ الأفق الفكريّ الذي ساهم فلاسفة الأنوار في خلقه، إطارًا عامًّا احتضن ظهور الفضاء العموميّ، فإنّ الفضاء العموميّ في اعتقادنا ليس فضاءً مستحدثًا ثقافيًّا، بل له في تجارب الأمم القديمة أشباه ونظائر وإن لم تحمل الاسم نفسه، ففي الحياة الإغريقيّة كانت نقاشات الفلاسفة في ساحات أثينا تدرس إضافة إلى المسائل العلميّة المعرفيّة، قضايا الشأن العام، و«يمكن الإشارة إلى النقاشات والحوارات التي كان يخوضها سقراط المتجول في الشوارع كتجسد للفضاء العموميّ»، كما كانت للعرب مبادرات مختلفة نذكر منها تمثيلًا لا حصرًا، ما عرفته الثقافة العربيّة الإسلاميّة في مقالة خلق القرآن زمن الخليفة المأمون ( 170- 218هـ) من نقاشات ومحاورات فكريّة خارج أفضية السلطة وفي غير توجّهها الفكريّ والسياسيّ.
ليس الفضاء العموميّ في الدراسات الفلسفيّة موضعًا مكانيًّا محدّدًا يجتمع فيه الجمهور، بل هو كما بيّن هابرماس فضاء ينشأ بين الناس كلّما انخرطوا في نقاش أو تواصلوا بشأن قضايا تعنيهم جميعا وتؤرّقهم، يلتقي فيه أفراد المجتمع عبر جملة من الوسائط لمناقشة مسائل ذات اهتمام مشترك. وقد أفاد الفضاء العموميّ من التطوّرات التكنولوجيّة، فتوضّحت معالم فضاء عموميّ رقميّ تخلّق بواسطة شبكات التواصل الاجتماعيّ وتقنياتها، وأمسى فضاءً أثيريّا بديلًا للفعل الاجتماعيّ، واستطاع أن يكون فاعلًا في أحداث الربيع العربيّ مثلًا؛ إذ أجّجت الصور المنشورة على مختلف المحرّكات الإلكترونيّة في تونس كما في مصر وليبيا والجزائر القطاعات الشبابيّة وعموم الجماهير، وساهمت في إسقاط النظُم الحاكمة.
الدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ
نلحظ حضورًا أكثر كثافة للدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ منذ ثورات الربيع العربيّ، ويرصد توظيفًا محكمًا للرّمز الدينيّ فيه، ففي تونس مثلًا أقام بعض المصلّين صلاة العصر يوم 17 يناير 2011م أمام مبنى وزارة الداخليّة في شارع الحبيب بورقيبة، وأصرّ بعض المتديّنين خلال السنوات الأولى للثورة على إقامة صلاة العيديْن في الساحات العامّة، فضلًا عن تزويق مداخل المدن بلافتات من نحو «صلاتك قبل مماتك» وكتابات مماثلة على الجدران، توحيدًا وشهادة، إضافة إلى انتشار ما يعرف باللّباس الشرعي نقابًا وحجابًا للنساء وقميصًا وإطالة اللّحى للرجال وظهور الجمعيّات الدينيّة ذات الوظائف التوجيهيّة للرأي العامّ.
ونلاحظ تمدّد حضور الدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ الواقعيّ منه والافتراضيّ، سواء في الأوقات القريبة من الثورات العربيّة أو بعدها، تمدّدًا نرصده في تعدّد القنوات الإذاعيّة والتلفزيونيّة الدينيّة، وتدعّم حضور الدينيّ في الفضاء العموميّ من خلال شبكات التواصل الاجتماعيّ في أشكال مختلفة، لعلّ أكثرها تواترًا مقولات دينيّة ودعائيّة مبادئ وقيمًا روحيّة ورؤى فكريّة اجتهاديّة مطالبة المتلقّي بإعادة نشرها وتوزيعها ترهيبًا أو ترغيبًا.
مظاهر تؤكّد خروج الدينيّ إلى الفضاء العموميّ من خلال الربط المدهش بين الفعل السياسيّ والاجتماعيّ من جهة أولى، والمسجد والصلاة من جهة ثانية، في مسعى لتوظيف رمزيّة المكان وقدسيّة الشعائر الدينيّة خروجًا بالدينيّ من المجال التعبديّ الخاصّ إلى المجال العام الاحتجاجيّ ضدّ السلطة، من أجل تديين الفضاء العموميّ منذ أحداث الربيع العربيّ، أمر يطرح أسئلة حول الأسباب والفاعليّة؟
في الأسباب
إنّ النسق المتسارع للحداثة وانعكاسات مخرجاتها على العلاقات الإنسانيّة ولّد ظمأ أنطولوجيًّا للدين، غذّته فشل المشاريع النهضويّة العربيّة، وزكّته العولمة بما أفرزته من إشكاليّات من نحو صراع الثقافات، وصدام الحضارات، والنزاعات الدائرة حول بسط الهيمنة، وفرض السيطرة على منابع الثروة وتسويقها « فلا غرابة أن تكون الجدالات عن موقع الدين في المجال العامّ مربكة».
تعيش المجتمعات العربيّة تحوّلات كبرى في نسق متسارع لا مستقرّ له، من دون أن تتّضح بعدُ سمات العالم الجديد ولا ملامحه، وتلك من علامات المأزق، فلا يندثر القديم ولا يولد الجديد وتتمدّ لحظات التمفصل التاريخيّ وفيها تتهاوى الحدود بين العامّ والخاصّ، ويبقى الدينيّ الملجأ الأساسيّ للفرد كما للجماعات في زمن الأزمات يستند إليه، آملًا أن يستعيد به بعضًا من توازنه المفقود، نظرًا إلى ما يوفّره الدينيّ من شحنة روحيّة تمكّنه من تجاوز مضايق الراهن، لذلك تواترت مثلًا زمن الثورات العربيّة شعارات من نحو «الإسلام هو الحلّ» و«ننتخب من يخشى الله»، وتكاثُف حضور الدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ ولا سيما في سياق الثورات العربيّة التي استطاعت أن توسّع هامش الحريّة وتنوّع مجالاتها.
لكن لم يكن تديين الفضاء العموميّ وليد شعور ديني ناشئ، فما كان القوم قبل ذلك من الكافرين، بل يعود في تقديرنا إلى عوامل موضوعيّة، أبرزها ارتباكات سياسة دولة الاستقلال سواء في إحكام قبضتها الحديديّة على المسألة الدينيّة، حتّى صيّرت الدين همسًا في الوجدان، أو في عجزها عن بعث فكر دينيّ حديث يحلّ محلّ الموروثات الدينيّة ورؤاها. فلم تعالج «الدولة العربيّة الحديثة» المسألة الدينيّة بالآليّة نفسها التي عالجت بها مسألة التعليم أو الأسرة ونجحت في إخراجهما من الانحطاط، بل سارت دولة الاستقلال في سياسة تجفيف منابع الدين والتدين بدل تجديدهما، هدمت ما كان موجودًا من مؤسّسات ورموز دينيّة ولم تبنِ ما يحلّ محلّها لينهض بالوظيفة الدينيّة من أجل الدين والتديّن، لا من أجل «دولنة الدين» وإضفاء الشرعيّة على سياسة الحاكم، لذلك لما فلّ سيفه السلطان باندلاع ثورات الربيع العربيّ اكتسح الدين الفضاء العموميّ.
ما نلحظه أنّ حضور الدينيّ في المجال العامّ العربيّ لم يكن مآلًا طبيعيًّا لمسار تاريخيّ متوافق داخليًّا، ولا هو وليد تنامٍ طبيعيّ معقلن للظاهرة الدينيّة داخل الجسم الاجتماعيّ العربيّ، فازدياد مساحات الدينيّ بعد ثورات الربيع العربيّ كانت في جانب منها في اعتقادنا ردّ فعل انفعاليًّا على كيفيّة معالجة النظم السياسيّة العربيّة بعد الاستقلال المسألة الدينيّة. فقد ظلّ الدينيّ المقصيّ من الفضاء العموميّ يتحيّن إمكانيّة العودة من جديد كلّما أُتيحت له الفرصة، ومن شأن أيّ قوّة اجتماعيّة عانت القمع والإقصاء «أن توسّع نفوذها ودورها في الفضاء العامّ كلّما حدث نوع من الانفتاح والمرونة في المناخ السياسيّ بما يتيح لها حريّة الحركة»، وخلال مرحلة الانفتاح تروّج تلك القوى الاجتماعيّة أفكارها وأيديولوجيّتها وتعبّئ أنصارها ومؤيّديها من أجل القبول بها كلاعب جديد في الفضاء العموميّ، وهو ما يفسّر غزو الدينيّ الفضاء العموميّ العربيّ بعد الثورة محمّلًا بمشاريعه الثقافيّة والسياسيّة سواء كانت استجابة لحاجيّات داخليّة أو ضمن سياقات إقليمية ودوليّة.
لذلك عادت رؤى التديّن في صيغ أخرى عنيفة ومتخلّفة عن زمنها من نحو الجمعيّات الخيريّة المخترقة داخليًّا وخارجيًّا والخيم الدعويّة والمؤسّسات التعليميّة الدينية في شكل مدارس قرآنيّة خارجة عن نظم التربية والتعليم. فقد تحوّل الدين الإسلاميّ في مناسبات مختلفة من عقيدة وثقافة إلى أيديولوجيّا جماهيريّة، وهو ما «أنتج عقلًا ديماغوجيًّا مغلقًا متحجّرًا يبثّ وعودًا وأحلامًا رومانسيّة خلاصيّة منقطعة الصلة بالواقع، ويعمل على إنشاء فضاء أيديولوجي مسيّج بأسوار مغلقة». لا يغيب عنا أنّ للدين الإسلاميّ خصوصيّته في المجال العامّ العربيّ بوصفه المكوّن الرئيس في مركّب الهويّة، فلا هويّة للعربيّ المسلم من دون دينه؛ لذلك سعى -متى تيسّر له- إلى تثبيته هويّة في الفضاء العموميّ من خلال الحرص المبالغ فيه أحيانًا على إظهاره والإعلاء من تجلّياته في استقطاب هويّاتي مع النموذج الحداثيّ المهيمن على الفضاء العموميّ، استردادًا لحقّ كان في تصوّره مهدورًا في ظلّ انعدام الحوار الفكريّ والثقافيّ والمجتمعيّ زمن أنظمة ما قبل الثورة، وهو ما ولّد تدافعًا فكريًّا وشططًا أحيانًا في مواقف لا تتعلّق بالحياتيّ اليوميّ، بل تجاوزت في أحايين كثيرة إلى مسائل نخبويّة.
أيّ مآلات للدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ؟
ظلّت قضايا الدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ دائرة حول مألوف الإشكاليّات من نحو علمانيّة الدولة وعلاقة الدينيّ بالسياسيّ، وقضايا المرأة مثل السفور والحجاب وتعدّد الزوجات، في تعالٍ عن هموم المتديّن ومشاغله، فلا تثار مثلًا مسألة آيات السيف في سورة التوبة الموظّفة لدى «الجهاديّين» والمتبنّين الفكر الداعشيّ في التقتيل وهدم الحضارات والاعتداء على الممتلكات الخاصّة والعامّة، ولا يُنظَر في تاريخيّة التشريعات الإسلاميّة وعقلنة مقولة إطلاقيّاتها الزمانيّة…، مسائل نوردها تمثيلًا لا حصرًا لم تجد سبيلها بعد إلى الفضاء العموميّ الذي ما زال في المجتمعات العربيّة غير قادر على التخلّص من حرارة الإيمان والدفق الوجداني المرافق، لطرح مسائل الدين وقضاياه بوصفه عقيدة وسلوكًا ورؤية للعالم.
فلم يستطع الخطاب الدينيّ في الفضاء العموميّ العربيّ أن يتضمّن لغة مستساغة لدى جميع الفرقاء تحتكم إلى العقل، ليكون قبول الرأي أو رفضه بالجدل العقلانيّ المرتكز على المنطق والإقناع.
يبدو أنّ الهدف من تدْيِين المجال العامّ العربيّ لم يكن تحقيق تقدّم معرفيّ أو حضاريّ ولا تجديد الدين ولا تطويره، إنّما مردّ المسألة في اعتقادنا إثبات ذات جماعيّة مناهضة لما كانت رسّخته نظم الدولة وأجهزتها السابقتيْن متمسّكة بهويّة دينيّة تمسّكًا شكليًّا، في معنى أنّ أغلب ما هيمن من الدينيّ على المجال العامّ هو الجانب الشكليّ، مظاهر لا تتجاوز البعد الخارجيّ للذّات الفرديّة أو الجماعيّة يضمر فيها البعد الروحيّ القيميّ الباطنيّ؛ لذلك لم يُغيّر الحضورُ المكثّف للدينيّ في المجال العامّ نمطَ السلوك السائد، ولا غيَّرَ الوعيَ الجمعيَّ، ولا قرّب الجمع من الفضيلة، بل ازدادت الجريمة وغلب العنفُ وعمّ الفساد.
وبدا الكثير من أصحاب القمصان الطويلة واللّحى المضخّمة في الفضاء العموميّ -كما قدّمتهم وسائل الإعلام المحليّة والعالميّة- سفّاكي دماء، قاطعي رقاب المسلمين وغيرهم، ملحقين الأذى بالإنسانيّة عبر التفجيرات والأجساد الملغومة في ضمور كليّ لأيّ بذرة إنسانيّة فيما يرتكبونه من أفعال.
قد لا يكون تديين الفضاء العموميّ مسؤولًا عن تهاوي القيم الروحيّة وتفشّي الإجرام الذي تتنوّع منابته في الدراسات المختصّة، لكن كان من المنتظر أن يساهم حضور الدين في الفضاء العموميّ في عقلنة المسألة الدينيّة عبر الحوارات والمناقشات وتفاعل الأفكار وتطويرها «ليفتح الفضاء العموميّ سبيلًا جديدًا يتجاوز به (الدين) حالة الجمود والتخندق والانغلاق التي سادت خلال عقود طويلة»، وهو ما يكون صداه في السلوكيّات العامّة تلطّفًا وتليّنًا بدل القسوة والعنف، ويقضي نهائيًّا على مظاهر العنف الديني والممارسات الإرهابيّة، كما نجحت ثقافات أخرى اشتغل فيها الفضاء العموميّ على المسألة الدينيّة.
لا يختلف الفضاء العموميّ الواقعيّ عن الفضاء الافتراضيّ ولا الإعلاميّ، فجُلُّ المحاورات الدينيّة ّ تنتهي بالصراعات وتبادل تهم التكفير أي القتل الرمزي، وليس بعيدًا منّا ما تعرّض له الأستاذ محمد الطالبي (1921- 2017م) من حملة تشويهيّة وتكفيريّة لمّا حاول إدخال الدين العقلانيّ إلى الفضاء العموميّ من خلال الصدع بمواقفه الفكريّة عبر حوارات تلفزيونيّة. يقول مثلًا المفتي الأسبق للديار التونسيّة محمّد مختار السلامي في ردّه على بعض آراء الأستاذ محمّد الطالبي في مسائل دينيّة: «رجل متصلّب في شكّه يمثّل حلقة من سلسلة الشكّاك في تاريخ الفكر الإنسانيّ التي سار عليها السفسطائيون اليونانيون فأوقفوا تطوّر المعرفة بشكّهم العدميّ… إنّي أذكّره ألَّا تأخذه العزّة بالإثم وأن يعلن توبته».
إنّ قدرة المجتمعات العربيّة «الحديثة» على ضمان مبادئ احترام الآخر وحرية الفرد، في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والشخصية، وضمان احترام القانون في الفضاء العموميّ، ما زالت ضامرة الحضور راهنًا، ولم تتخلّ المؤسّسة السياسيّة عن سياستها القديمة في «دولنة» الفضاء العموميّ وتوجيهه لرؤاها، فالكثير من المتداول اليوم في الفضاء العموميّ من المسائل الدينيّة لا يعدو أن يكون، كما كان سابقًا، من مشاغل النخب السياسيّة في ارتباط مشاريعها بمصالح القوى الخارجيّة الداعمة لها، أمّا صلته بالهموم المشتركة وبالمصالح العامّة للمتعايشين اجتماعيًّا فضامرة، مثل اقتراحات الرئيس التونسي الأسبق الباجد قايد السبسي يوم 13 أغسطس 2017م مساواة المرأة والرجل في الميراث والسماح للمسلمة أن تتزوّج غير المسلم.
هذه ليست إلّا نماذج استدعاها سياق البحث للتمثيل لا الحصر، القصد منها البرهنة على أنّ حضور الدين في الفضاء العموميّ العربيّ الإسلاميّ لم يكن وليد تحوّلات بنيويّة ولّدتها صيرورات وديناميّات داخليّة مسّت شخصيّة الفرد والمجتمع أو اقتضاه تفكيك بنى ثقافيّة وفكريّة أو استبدالها بغيرها، فمّما يلاحظه الباحث أنّ المسائل الدينيّة المطروحة في الفضاء العموميّ يفرضها السياسيّ، وتضمر فيها فاعليّة الجسم الاجتماعيّ؛ لذا لم يستقل الفضاء العموميّ بعدُ عن هيمنة السياسيّ كما يفترض في مفهومه النظريّ، ولم يهتمّ بالقضايا المشتركة للجسم الاجتماعيّ إلّا لِمَامًا.
ممّا يمكّننا من القول: إنّ الفضاء العموميّ العربيّ ما زال جنينيَّ النشأة، ظهر في سياق استزراع الديمقراطيّات إثر موجات ثورات الربيع العربيّ، فغدا متوتّر السمات، عنيفًا خطابًا وممارسةً، يميل إلى إقصاء المختلف وفرض الرأي نتيجة تلبّسه بالسياسيّ، يبحث عن استقلاليّته ولم يظفر بها بعد، ويهفو إلى العقلانيّة ولم يتخلّص بعدُ من وهج حرارة الإيمان.
كان من المفترض أن يكون حضور الدين في الفضاء العموميّ لحظة تاريخيّة مميّزة في راهن الثقافة العربيّة الإسلاميّة، بغية كسر الأسيجة المضروبة حول مسلّمات الوعي الدينيّ وبديهيّاته المتوارثة عبر الأجيال، ومساءلة أصول الفكر الدينيّ في ضوء أسئلة الحاضر لإعادة ترتيب علائق ثقافتنا العربيّة ووعينا الجمعيّ بالمسألة الدينيّة، وليفكّر المتديّنون الأحياء في دينهم في انفتاح على الآخر في معنى أنّه لا بدّ من الإقرار بأهميّة الدين في الفضاء العموميّ وضرورته لكن من دون تديينه.
الاستنتاج
تراجع المفهوم التقليديّ للدولة القائمة على الشأن العامّ تدبّرًا وتنفيذًا، بل لا تعدو أن تكون الدولة في الديمقراطيّات الحديثة فاعلةً من جملة فواعل آخرين مؤثّرين في معالجة قضايا الشأن العامّ، ومن الفواعل المحدثين في المجتمعات العربيّة بعد ثورات الربيع العربيّ، الفضاء العموميّ.
يبقى الفضاء العموميّ فضاء ضروريّا في راهن المجتمعات العربيّة، حلًّا لإشكاليّات التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة في مستوى التفاعلات الاجتماعيّة بين المواطنين، وتجاوزًا للمنازعات السائدة والمحتملة. إنّ احتواء الدينيّ في الفضاء العموميّ لحظة فارقة في تاريخ التفكير الدينيّ، بما يتيحه من إمكانيّة إعادة قراءة الأفكار الدينيّة الشائعة والأحكام الجاهزة المتوارثة والمتعالية عن لحظتنا التاريخيّة، تلك التي حكمت على المجتمعات العربيّة بالسكون وأدّت إلى تصلّب الفكر الدينيّ وتخشّبه لأنّنا في حاجة إلى عقلنة التديّن، وعيًا وتخاطبًا وإن تدرّجًا، على أن تمتنع الدولة ومؤسّساتها عن كلّ ممارسة سياسيّة تدعّم فيها الدين أو تمنعه، وتترك للمتديّنين مجال النقاش والتحاور القائميْن على استعمال العقل العموميّ في احترام متبادل للمعتقدات والطقوس والآراء، بغية تحقيق قطائع إبستمولوجيّة في الفكر الدينيّ قادرة على خلق ذهنيّة دينيّة حديثة غير أن الفضاء العمومي العربيّ ما زال جنينيَّ النشأة، متوتّرَ الخطاب، انفعاليَّ المجادلات، إيمانيَّ المقاربات، يهفو إلى الاستقلاليّة ولم يصل إليها بعد.