المسألة الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة
الأخلاق هي معايير الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، اللذة والألم، الشقاء والسعادة، وربما أيضًا المعرفة والجهل (سقراط) وفي الفكر الفلسفي حديثٌ قديم عن أصول تلك المعايير كمفاهيم غير قابلة للتجاوز والضبط إضافة إلى إشكالية إطلاقها مقابل نسبيتها التي تُعَدّ من أهم نقاط الخلاف بين الفلاسفة حول المسألة الأخلاقية.
المسألة الأخلاقية هي ذاتها مسألة الإنسان، وعليه فإن مدار الأخلاق وما كان مختلفًا حوله قديمًا هو ذاته مدارها اليوم مع زيادة تُعبِّر عن حقيقة العالم الجديد، فقد انضافت للمسألة الأخلاقية حمولة جديدة هي خلاصة التطورات والتحولات التي عرفها العالم في صورة الحضارة البشرية برمتها. ولكي نشخص المسألة الأخلاقية في مجتمعاتنا المعاصرة لا بد أن نُحدِّد التحولات التي طرأت، والجديد الذي أضحى سِمَةً لنا ولعصرنا، ومن أهم تلك التحولات:
أولًا- الحداثة أو الأزمنة الحديثة التي بشرت بالذات كمحدد أول للوجود الذي أضحى موضوعًا لها سواءٌ بآلهته أو بطبيعته، وهذا ما يطلق عليه هايدغر سِمَةَ «الأنسنة»، أي (عصر انبثاق تصورات الإنسان للعالم).
ثانيًا- العلم ومنجزاته، فبعد أن أعلن الإنسان عن نفسه كان الهدف التالي السيطرة على الطبيعة وترويضها (ديكارت)، وقد تحقق الهدف لدرجة أصبح فيها الحديث عن الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية وثقافة الاستهلاك كرذائل أخلاقية أو أكثر أمرًا عاديًّا.
ثالثًا: النزعة الفردية، فمع ميثاق حقوق الإنسان وانفتاح المجتمعات وتراجع القيم الدينية أمام النزعات التقدمية العلمانية لم يَعُدِ الإنسان ابنَ مجتمعِه ولا ابنَ بيئتِه (ابن خلدون) وهذا الحال المعبر عنه بالجدل المحتدم والحبل المشدود بين الهوية والعولمة.
رابعًا: النظام الاقتصادي العالمي، في العالم القديم كانت المجتمعات المحلية تنتج كفافها الضروري، والقطاع التجاري قديمًا كان قطرة مقابل بحر القطاع التجاري اليوم الذي تحوَّلَت معه مجتمعات برمتها إلى مستهلكة وأخرى منتجة، وغيرها يُفرض عليها البقاء في حيز المادة الأولية من دون التطلع إلى رحابة القيمة المضافة. هذا عن المجتمعات أما عن الأفراد فداخل المجتمع الواحد توجد طبقية اقتصادية لا تقلّ سوءًا عن طبقيات المجتمعات القديمة، فإن كانت هذه الأخيرة تتحدد بتراتبية من قبيل: أسياد/عبيد، ملاك أراضٍ/مزارعين… فإن تراتبية المجتمع الحديث هي: أغنياء شديدو الغنى، وفقراء شديدو الفقر…
هذه المحددات الأربعة الجامعة بداخلها لعدد لا يُحصى من الخصائص والسمات المميزة لعالمنا المعاصر، هي أهم التحولات التي جعلت تاريخ البشرية قابلًا للقسمة إلى مرحلتين فاصلتين: قديم وحديث.
ولأن هذه التحولات ضربت بجذورها في عمق الوجود البشري وقلبته رأسًا على عقب، كان عاديًّا ألا تنجو المسألة الأخلاقية من هذا الانقلاب لتنفجر بذلك مفاهيم الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، السعادة والشقاء… وتتشظى معانيها ودلالاتها ليجد الباحث والمفكر في المسألة الأخلاقية موضوعات جديدة تطلب أن تقاس بمقاييس الخير والشر فكانت: الأخلاق البيئية، والأخلاق التوزيعية، وأخلاق المساواة، وأخلاق الكثافة السكانية، وأخلاق المستقبل، وأخلاق الطب… وأنواع أخرى كثيرة لم تكن معروفة في خير القدماء وشرهم.
ومن نتائج هذه التطورات أن ذهبت أغلب المذاهب الأخلاقية المعاصرة إلى الإعلاء من قيمة الأخلاق التطبيقية في نوع من القطيعة مع الأخلاق النظرية، إضافة إلى المماهاة بين ما هو أخلاقي وما هو اجتماعي، كأن تردّ المدرسة الاجتماعية الفرنسية (دوركايم) القاعدة الخلقية إلى القاعدة الاجتماعية باعتبار أن مصدر الإلزام الخلقي ليس ذاتيًّا بل هو اجتماعي، كمثال القتل أيام السلم حيث يعد أمرًا غير مشروع ويعاقب عليه القانون في حين يكون أيام الحرب أمرًا مشروعًا بل بطولة، إنه تحديد اجتماعي وليس أخلاقيًّا، إنه المجتمع يقرر إن كان هذا القاتل مجرمًا أم بطلًا مع أنه قاتل في كلتا الحالتين. وفي ذات الإطار العملي نجد مذهب المنفعة أو البراغماتي ينطلق من واقع الحياة العملية ليؤسس المفاهيم الأخلاقية تأسيسًا قائمًا على مفهوم المنفعة ومبدأ حساب اللذة.
بهذه الخلاصة العلموية المادية التي تُظهر عالمنا المعاصر بثوب براغماتي وبنزعة فردية صارخة يبدو وكأن جماعة السفسطائيين اليونانيين الذين حاولت الفلسفة التخلص منهم ما زالوا على قيد الحياة، وهم الآباء المؤسسون لأهمّ المذاهب الأخلاقية الرائجة اليوم. فهل يعني ذلك أن الأخلاق النظرية قد أَخلَتْ مكانها للأخلاق التطبيقية في تاريخنا المعاصر؟ أم إن الإنسان ككائن ميتافيزيقي (شوبنهاور) لا يمكن الفصل بينه وبين المطلق الذي يطارده في العقل والدين؟