الغُرفة
على هامشِ نزعاتهِ المتواصلةِ التي أنهكت مخيلتَه جزعًا، كان لا بد له أن يتوقف عند نقطة معينة ليبدأ مشواره، فيما إذا أتحف غايتَه بجبٍّ من التكهنات المالحة أطلق تنهيدةً محشوةً بالضجر ليمضي وفورتُه المعتادة: لا سر في الكون، يضحك كثيرًا ليدخن أكثر ويسرح إلى حيث ما اقتاده هذيانُه، وكان إذا ما أصابتْه لوثةُ الشكِّ أحدَّ بصره الحالمَ نحو زاوية ما ليوقد في سره لحظة اليقين، لكنْ سرعانَ ما تتعرى حاجته لدفقٍ من الأسئلة الشقية ليخبو وتخبو معه ارتساماته المنغمسةُ بالذهول، ليكشِفَ عن هاجسه ويُفصحَ عن رؤيته بصراحة باذخة: «ما الداعي لأنْ أصفع وجه الغرفةِ بالبابِ إنْ كان العالمُ لا يتقي خفاياه» معيدًا لنفسه ثقةً لا بأس بها متيقنًا من خلالها قدرتَه على أن يكشف ذاتَه بذاتهِ.
اعتاد (رؤوف) وهو الولدُ المثابرُ المهتمُّ بالرسم وطيفِ الألوانِ جاعلًا منها ملاذَه الوحيدَ وانشغاله الدائمَ للفرار من كمّ الزعيقِ الذي يُمارَسُ خارجًا منصهرًا في ملكوته اليوميِّ لينفُثَ ما في ظنّه علّه يتقي ماهيةَ العدمِ المدخرة لديه، غرفته الصغيرة المحشورةُ في خاصرة البيت أشبه بوطن كبيرٍ يحوي بَعْثرتَه وأفكارَه الكثيرةَ، كذلك لوحاته المرصوفةُ الواحدة تلو الأخرى على الجانب المحاذي لمكتبة عجوز، تتسع لأغلب الكتب التي تعنى بالتشكيل وبعضٍ من الكتب الثقافية، بقع هنا وخربشات هناك، ومِصطبة تنتصف المكانَ يقابلُها كرسيٌّ متحركٌ بلا رقبةٍ هو الآخر أخذ مأخذَه من التماهي اللوني، رائحةُ الألوانِ المحشوة بها أركان الغرفةِ تُعطي تبريرًا وافيًا لِكمّ اللوحات التي انهمك في رسمها، ليرزُمَها جانبًا مدخرًا هوايتَه ليومٍ آخرَ فيما إذا انحبس فضاؤه عن الرسم أشعل في خاطره احتجاجًا منافيًا للمحو الذي تقمَّصه ليلحق بهذه الدوامةِ المستعرةِ بالتخمينات ساعيًا من خلالها إيجادَ منفذٍ للصراع الدائرِ بين الإنسان وثباتِه على الوجود، خروجُه من غرفتِه/عالمه كان بمثابةِ طرحٍ لا يختلف عن رؤاه هامًّا بأنْ يقتنص مادتَه الدسمةَ من هذا الفجاجِ الفسيحِ، يُمعن النظرَ كثيرًا بمن حوله، النخلةُ مثلًا، نعم النخلةُ التي اعتزمتِ الأرضَ للوقوف باستقامة لا مثيل لها، العصافيرُ التي توزعتْ بصورةٍ مبعثرةٍ وهي المنطلقةُ للريحِ بلا هوادةٍ لكنَّها وعلى الرغمِ من كلِّ هذه المساحةِ السخيّةِ من الحرية احتفظت لنفسِها قلقًا مهولًا، وجوهُ الناسِ المسكونةُ بالهلعِ والذين اغتمّوا به بسبب أو من دونه، يتخللُ تلك الطرقاتِ على هوادةٍ من أمره محفوفًا بكمِّ التقلبات التي تمرَّغَ بها ليرتكنَ وعلاماتُ الحَيرةِ التي اختصتْه مليًّا وهو الشاردُ بسؤاله الدائمِ «هلِ الإنسانُ موجودٌ بمآثره أم بكيانه، وإنْ كان كذلك، إذن ما الفرق بين (سلفادور دالي) والشجرة التي اقتلعها منظفو البلدية؟» ما الجدوى من كل هذا الغثيانِ المستمرِّ؟ وأيّةُ رهينةٍ نحن؟ بيد أنَّ ما يجعلُه ينعمُ بالحياة هي تلك السكينةُ التي يجدُها في مشغله، ليبدأَ عندها فصلًا من التعب اللذيذِ الذي لطالما أدمنَ عليه منذُ سنين، من الغريب أنَّ (رؤوف) عندما يباشرُ ببثِّ التفاصيل لرسوماتِه المتكررةِ، كان يصابُ بحالةٍ من العجزِ بأدواتِه عند تجسيدِ ملامحِ الوجهِ، لينحسرَ وبصيرتُه للنفاذِ من هذه المحنةِ، مستعيرًا بدلَها ملامحَ وجهِه ليبذُرَها، وكما الحالُ عند كلِّ لوحةٍ ارتحلتْ أناملُه إليها، غيرَ أنَّه لا يأبه كثيرًا بمثلِ هذه المسألةِ قصدًا أو من دونه، ساعيًا إلى أنْ يلتزمَ الحذرَ من هذه العَقبةِ في المرات القادمة.
يحدث أنَّ في ساعة متأخرة من الليل، وبينما كان سكونُ اليومِ يعلنُ عن نفسه بسمائه الصافية التزمَ (رؤوف) مِصطبتَه وراح يحلِّق بعيدًا ليمارسَ طقسَه الكونيَّ. حاول أنْ يرسمَ شخصًا ببذلته الجميلةِ وقوامهِ الرشيقِ غيرَ أنَّ فرشاتِه توقفتْ عندَ ملامحِ ذلك الشخصِ، تأمّلَ قليلًا علّه يلتمسُ قدرتَه على الرسم مسترجعًا أغلبَ البورتريهات التي رسمها، لكنَّه تفاجأ من أنَّها بلا ملامحَ أيضًا، غيّر وجهتَه نحْوَ ما اقتربَ من بصرهِ، وجد الأشياءَ جميعَها غارقةً في التيه، ماذا يعني أنْ تحيا في الفراغ وتمارسَ نفسَك في الظلِّ، صرخ بصوتٍ أشبهَ بالزعيق «نحنُ المنغرسون بالعدمِ متى تتضحُ هُويّتُنا»، تمادى من مكانِه محاولًا فتح البابِ غيرَ أنَّها اختفتْ واختفى معها هاجسُه للخروج، أين البابُ؟ قالها وهو يمتثل لخُطُواتِه المتريثةِ، والماحول اختصتْه العتمةُ وبدا كأنَّه الفناءُ، أعانَ نفسَه على الوقوف محاولًا الفتكَ من حدود المكان، لكنْ كيف، يا لهذه الألواحِ الغريبةِ التي أنهكتْ قواه! التزم كرسيَّه ليدنوَ من هيكلِ النافذةِ الذي بانَ هو الطريقُ الأوفرُ حظًّا للفوز من هذا الرعبِ، ليطمْئِنَ نفسَه بُرهةً، أو مدعيًا كذلك، ملتفتًا إلى حيث مكان البابِ، ليبتهجَ في سرّه وراح يحملقُ بما وصلته عيناهُ الذاويتان.
أمال بعودهِ حين رأى قدحًا من الشاي، موضوعًا على الرفِّ المواتي لمكانِ جلوسهِ، أتضعه على عجالة من أمره بصورة لا يعرف كُنهَها بالضبط، تفحصَه جيدًا بمحتواه الباردِ تذكّر اكتراثَه في عمله ليلةَ البارحةِ مما جعله يتركُ قدحَه للنسيانِ، استعاد ذاكرتَه ليومِ أمسِ وما حصل له في أثناء وجوده في أحد الأماكنِ العامةِ التي كان يقطنُها كثيرُ من الناس، ارتاب من رؤيتِه لهم بملامحَ باهتةٍ ومشوشة، هكذا بدا له المشهدُ للوهلةِ الأولى، حتى الأمكنةُ والدرابينُ، واجهاتُ البيوتِ، الطرقُ التي تَكادُ مسافاتُها حانيةً، الشيءُ المحيّرُ من كلِّ هذا اللامبالاةُ التي أودعتْ له من قبلهم، انجابتْ قدماه إلى حيث ما اعتزم مسارُه للمشي محاولًا أنْ يعرفَ اللغز الذي تقصّدَهُ، أصرّ على أنْ يتابعَ خُطُواتِه غير أنَّه تثاقل في سيره، تبادرَ إلى ذهنه وكأنَّه في غرفة صغيرة محكمة الإغلاق، ما من فسحة إلا وضاقت به وقوبلت بالرفض، ماذا بعدَ هذا الكون المغلقِ؟ وكيف نصل إلى عتبة النهاية؟ وأين بابُ الخروجِ؟ لملم ارتباكَه للرجوع إلى بيته حيث العزلةُ التي اتخذها، لكنَّه أيقن أنَّ خطًّا ما قد التهمه، فكّر أنْ يراجعَ نفسَه في أغلب اللوحات التي رسمها لكنه كان تعبًا جدًّا، في اليوم التالي وعندما أمعنَ النظرَ فيما رسمه من قبل سنوات عدةٍ وجدها بنفس الضبابيةِ التي أحاطته، استنفر في سرّه كثيرًا ليلتفتَ والجنونُ الذي أكلَه إلى النافذة مصحوبًا بصوتِه الحافزِ «أين ملامحُك أيُّها الكونُ المعدمُ» مبادرًا بتفحّصِ ملامحه بكفيْهِ المرتعشتين.