الذي ننتمي إليه
التقيته ذات مساءٍ صيفي حار، من غير سابق معرفة، وقد بدا لي وقتها أقرب إلى شيخ منه إلى رجل بلغ أشُدَّه. التقيته في مقهًى شعبي، جلس قُبالتي وأخذ يُبادلني أطراف الحديث. كان يشرب القهوة بطريقة مضحكة، يسكبُ الكوب دُفعةً واحدة إلى جوفه، ثم يُتبِعُ الكوب آخر، ثم آخر. الجدير بالذكر أن الرجل يعاني من ارتفاع ضغط الدم، وفيما بعد عرفتُ أنه ليس سوى بقايا رجل؛ ذلك أنه كان أقرب إلى الموت من الحياة. أغلب الظن أن بنكرياسه كان بلا جدوى، لدرجة أن رائحة الأسيتون تتصاعد بين كلماته كغاز طَيّار. اتضح أن للرجل أسرارًا جَمّة، عكس ما يوحي شكلُه. حين تراه يضحك تحسب أنه محضُ شخص عادي، يعمل ليعيش، ويعيش ليعمل، لكنه لم يكن عاديًّا أبدًا. يمشي بزهو على الرغم من مفاصله الملتهبة، التي نخر فيها الروماتيزم ما استطاع. ولقد كان يبذل قصارى جهده ليأتي بنَفَسٍ قصير، وفي كل لقاء كنتُ أرى قدميه المتورمتين يزداد حجمهما بتصاعد، وبطنه المنتفخة تزيد تكورًا، وتمتد كمقبرة. أقسم أن عروق عنقه كانت منتفخة كحبال رسن، ودقاتُ قلبه تُسْمَعُ من على بُعدِ مئة متر. لقد كان قلب الرجل يعاني فشلًا واضحًا، بل مُبَالَغًا فيه، ما يثيرُ الدهشة أن الرجل يمشي كأنه يقبض الصحة بين راحتي يديه مثل عصفور كسير!
منذ أول مرة رأيته فيها شعرتُ بأنني أعرفه منذ زمن، كما لو أن قَدَرًا يجمعني به قبل أن أولد حتى. تراءى لي مراتٍ عديدة، بل إنني أراه أكثر من أي شخصٍ آخر، يشاركني القهوة والتأمل وجلسات الندم على ما مضى، كما يشاركني لحظات حزني ويأسي من الحياة. الغريبُ في أمره أنني لا أستغرب وجوده أمامي في أغلب أيامي، لا أفهم وجوده، لكني لا أستغربه بتاتًا، كما لا يستغرب المرء من وجود ظله برفقته معظم أوقاته!
يُراقبني من خلف نظارته السميكة ذات العدسات السوداء، ويُطلق تنهيداتٍ لا نهائية، قبل أن يُحادثني لبعض الوقت. يأتي صوته المبحوح من خلف شاربه الغزير، والكلماتُ تتشظى عند فمه، بسبب صعوبة تنفسه.
-«تعرِف يا فتى، أنا أكره الحياة، لكنها تتمسكُ بي، لا أعرف لِمَ، لكنها لا تريد إطلاق سراحي».
كثيرًا ما يقول لي تلك الكلمات، فأرد عليه، فينسى، ثم يقولها مرة أخرى، وثالثة، ورابعة. حتى خمنتُ أنه مصابٌ بالزهايمر، وصرتُ أعيد على مسامعه ذات الردود كل مرة.
في كل لقاء جديد به، أكتشف أنه يعاني من مرضٍ جديد، ولو أن شخصًا أُصِيب بربع ما أُصِيب به ذلك الرجل لمات في لحظته. بدا حديث الرجل، عن أن الحياة تتمسك به: صحيحًا؛ فالرجل بناءً على حالته، ينبغي أن يكون في عداد الموتى منذ زمن. لكن وفي كل لقاء، أراه يمشي على قدميه، ويتحدث بصوتٍ عالٍ كما هي عادته، ويضحك من أعماق قلبه، ويشرب أكوابًا لا تُحصى من القهوة، ويظهر بهندامٍ نظيف وأنيق. يقول لي: «هل تعرف كم عمري يا فتى؟»، أجيبه بالنفي، فيخبرني أنني سأعرف قريبًا. ولم أكن أهتم للأمر كثيرًا، على الرغم من فضولي المُتّقد في العادة.
منذ مدة قصيرة، أصبح يظهر كثيرًا، وأجده أمامي بذات الهيئة، وفي مناسبات كثيرة. ما تغير، هو أنه أضحى يُصادفني في أحداث كئيبة ومُحزِنة، لكنه يجدها مضحكة، حيث كان يقول نكات سخيفة وينفجر ضاحكًا بطريقة خليعة. أصبحت رؤياه تصيبني بالضيق والغثيان، وأتبرمُ كلما رأيته، لكنه ما انفك يُفاجئُني في أماكن غير متوقعة، كأنْ أجده جواري بمقعد الحافلة، وأعلى إشارات المرور، وفوق رؤوس المارّة، وعند أسقف البنايات، حتى بين النوم واليقظة، وفيها جميعًا كان يبتسم لي، ويلوح.
في النهاية صرتُ أراه أمامي، يبتسم بخبث، تلمع عيناه الحمراوان على الرغم من سواد نظارته، ثم يضحك بخلاعة. اقترب مني، وهمس: «هل خمنت كم عمري؟»
لم أقوَ على النطق بحرف، فواصل: «هل أخبرتك أنني مبتئس، وأشعر بالملل من كل شيء؟»
لم أنبس ببنت شفة، بقيتُ أستمع إليه فقط، حتى أكمل حديثه.
ذلك الرجل منتفخ البطن، الذي يبدو وكأنه على شفير الموت، يتراءى لك فتشعر بالشفقة عليه، ثم تشعر بأنك انتظرته طوال حياتك، ينتابك إحساسٌ عميقٌ بأنك تنتمي إليه، ذلك الذي مَلَّ من كونه حيًّا منذ الأزل. إنني الآن أعرفه جيدًا، أراقبه بوهن، وأنتقل ببطء إلى مكان آخر، أراه وهو يضع ابتسامة صفراء، ويُحَرك شفتيه، ليخبرني بما عرفته سلفًا؛ إنه العصي على الموت، الذي ننتمي إليه حتى قبل أن نُولَد، إنه الموتُ بعينه.