جماليات المعادلات الموضوعية في «قفزة أخيرة لسمكة ميتة»
ربما كان من الأمور المستقرة في النقد الأدبي الآن أن أدب نجيب محفوظ لم يصل إلى العالمية إلا بمقاربته للواقع المحلي، حين جعل من الحارة المصرية رمزًا لما يحدث في العالم كله من صراع بين الشر والخير والظلم والعدل، وهو الأمر الذي جعله -في أغلب الأحوال نموذجًا محتذى- من حيث التوجه العام سرديًّا وشعريًّا، الذي نلحظ طرفًا منه في ديوان «قفزة أخيرة لسمكة ميتة» لكمال أبو النور، الصادر عن دار العين، حيث يتحدث في «لمن تعطى السماء مقاودها» عن «ذواتنا التي تتشاجر من أجل قصيدة لا تشبه طقس بلادنا/ ولا تشبه وجوهنا في المرآة/ ولا تشبه الجروح في شوارعنا».
فالشاعر هنا لا يريد سوى القصيدة التي تشبه مكانها وزمانها، تشبه وجوهنا الحقيقية التي لا تتخفى خلف قناع، بل ترى جروح الواقع ومآسيه لأنه ليس هناك «سريالية أكثر غموضًا من عرقنا الذي يطعننا من الخلف كسيف مسموم/ عرقنا الذي ينز على حافة فؤوسنا/ من أجل لا شيء على الإطلاق». وهي حالة عبثية قائمة على المقابلة بين العرق السائل والغايات غير المحققة، وتظل هذه المقابلة حاكمة للواقع الذي يصوره الشاعر حين يقول في قصيدة «صرخة واحدة لا تكفي»: «لماذا أحزن والمدرسة التي تقع بجواري/ أصبحت مصنعًا كبيرًا للأسلحة». وهو تساؤل يقوم على ثيمة التحول من المدرسة بوصفها مجازًا مرسلًا علاقته المحلية للقائمين عليها، التي تنشئ كما يقول أحمد شوقي «أنفسًا وعقولًا» إلى مصنع كبير لأسلحة الدمار.
هكذا يتحول العالم إلى غابة تقذف برؤوس الأطفال الذين حاولوا اقتحام سياجها، حيث لا مكان للبراءة، يقول عن هذه الغابة: إنها أصبحت «تجلس على موائدنا/ تلتهم ألسنتنا/ نقف لها صاغرين». كما أنها تتوالد من نفسها وتجدد شبابها: «الغابة العجوز استقالت/ بعد أن نبتت من أظافرها/ غابة أشد قسوة». إن ما سبق يؤكد ما ذهب إليه رفعت سلام حين قال: «إن هذه الشعرية، وإن قامت على السردية والمفارقة وحضور بعض التفاصيل الدالة، فإنها لا تستسلم لتفاصيل الأنا اليومية التافهة وأشيائها العابرة، ولا تعلي منها إلى مقام مركزي على حساب حضور العالم بوطأته القاهرة»، وتتضح وطأة العالم في الأرض المزروعة بالزنازين، والنهر الذي سلبت رئتاه، والأقفال المحكمة الموضوعة على أبواب المنازل، الأمر الذي يدفع الشاعر إلى رصد التناقض المؤلم بقوله: «إن كانت ملامحي/ تدل على هذا الوطن/ فلماذا يتعامل معي كلقيط/ ويركلني كلما طلبت/ قبضة من ترابه». وإذا كانت هذه السطور قد اتسمت بالمباشرة فإن الشاعر يعتمد -بصورة تكاد تكون رئيسة- على المعادلات الموضوعية حين يتحدث عن «العصافير المطاردة بلا جريرة»، أو عدم الجدوى من «غرس شجرة تعجز أرواحنا المقهورة عن علاجها من الإدمان المتواصل/ لقبلات من البوم والخفافيش». بما لهما -البوم والخفافيش- من دلالة على الشؤم والعيش في الظلام.
المدينة خالية من الحب
في «وليمة سامة» يقدم سردية دالة عن العصفور الذي مات أبوه فاندفع إخوته تجاه صدره، وامتلأت حواصلهم بفتات قلبه، وعلى الرغم من ذلك ظل هذا العصفور قادرًا على التحليق بينما «العصافير الصغيرة التي أنجبها إخوته/ لا يكفيهم طعام العالم». هذه السردية هي -في الأساس- تعبير إليغوري عن العلاقات الآدمية، ما نراه أيضًا في توظيفه لما يشاع عن دموع التماسيح الكاذبة، وفي هذه الحالات المتقابلة يصبح الشعر عاجزًا لا يدري ماذا يفعل «بنوافذ تبصق على رؤوس المارة ملايين المرات».
ويحس الشاعر بالضآلة والانسحاق حين يراوده شعور دائم بأنه «نملة» تسحق كل يوم مئات المرات، وفي «لست لقيطًا ولا عابر سبيل» يعود إلى تقنية المعادل الموضوعي حين يتحدث عن انتزاعه لعصفورة خجولة من قفص تاركًا لها النوافذ مفتوحة، ولكن طول سجنها أنساها أن لها جناحين فتغلق النوافذ وتمتنع من التغريد، ولا تبارح المطبخ حتى تحولت إلى بقرة وصار المنزل قفصًا محكمًا، هذه القصة تعبير عن الجهل بقيمة الحرية وتكيف الإنسان مع السجن، وهو ما يؤدي إلى تحول خيال الشعراء إلى تهويمات فاقدة المصداقية، وفي ذلك يخاطب الشاعر ابنته قائلًا: «إن قلت لك بأن الدبابة/ ستتحول غدًا إلى سلحفاة/ عندما تحط عليها أسراب الحمام/ لا تصدقيني/ وأن المدافع التي تقتلع أراجيح الأطفال/ ستتحول إلى فؤوس في أيدي الفلاحين/ لا تصدقيني».
ومن الواضح أن الشاعر يدخل إلى قضاياه العامة من المداخل الهامشية الممثلة في التفاصيل اليومية والأشياء البسيطة، فحين يتحدث عن المشردين والجوعى يقول: «هذا المقعد/ أصابته الشيخوخة/ لا يستطيع أن يكون لصًّا لإطعام آلاف المشردين والجوعى/ الذين يزدادون حوله يومًا بعد يوم». فهو يعبر عن هذه القضية الكبيرة من خلال دالّ جزئي لكنه، في موضع آخر يتحدث عن اللصوص -كمقابل للمشردين والجوعى- بصورة مباشرة حين يقول «أعلم أنه كلما قتل لص/ ولد لص أكثر قسوة». ما يذكرنا بقول أمل دنقل: «لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد». هذا الإحباط الذي نراه عند الشاعرين يتجلى في مواضع كثيرة داخل الديوان كما يبدو في قوله: «من القسوة علينا/ انتزاع المصابيح من قلوبنا/ والمغادرة إلى ظلمة لا متناهية».
كما تبدو المدينة قاسية خالية من الحب «مدينة بلا تاريخ للعشاق المجانين والمجاذيب والمطاردين والرهبان»، وفي «الطفل الذي أحب الغزالة» يصنع المفارقة المعهودة بين القرية والمدينة، يقول: «لا أتذكر من قريتي إلا وجهين/ أبي وأمي/ أرسمهما كل صباح على وجه يماماتي/ كلما حاولت المدينة أن تهزمني». وهي مدينة «المسخ» التي تحول الغزالة إلى بومة وإلى كلب لا يكف عن النباح. وفي هذه الحالة يصبح الاغتراب عن الذات أمرًا متوقعًا، فحين ينظر الشاعر في المرآة يتعرف إليه كعابر سبيل، لكن تشبث الشاعر بقوة الأمل والحب يجعله يتساءل: «ماذا لو وضعنا هذا العالم داخل أفران/ ليتخلص من الوحل الملاصق لأقدامه؟».
إن ما يتمناه الشاعر ليس مستحيلًا، وإن جاء في صيغة الاستفهام غير الحاسمة؛ لأنه لا ينتظر معجزة ولا طوفانا ولا زلزالًا، بل ينتظر أن «تصرخ الشوارع/ صرخات متوالية/ وهذا يكفي لانتحار جماعي للحيتان والأسماك القاتلة». لكنه يظل مدركًا للصراع الوجودي، ويقدمه في صورة مركبة في قوله: «ثمة سيمفونية تراودني على قمة جبل شاهق/ أحاول كل يوم تسلقه وكلما اقتربت من نهايته تهاجمني العقارب بلدغاتها». وهكذا يمزج الشاعر بين التعبيرات المباشرة والمجازية ليقدم رؤيته العامة والفردية.