ناثانيل ماكي: أعالج الهشاشة في كتاباتي والضعف أنتج نظريةً للجمال في الثقافة الأفروأميركية
في عصر يتزايد فيه ضغط الشعر ليناسب شاشات الآيفون، كان ناثانيل ماكي يكتب قصيدتين طويلتين مذهلتين؛ «مو» و«أغنية أندومبولو»، من خلال كتب عدة خلال الخمسة والثلاثين عامًا الماضية. القصيدتان عبارة عن سلسلتين متواصلتين زينتا بأفكاره حول علم الكونيات والمعاناة والأصل والهجرة وحياة السود. يشير لفظ «مو» إلى «الفم» و«الأسطورة»، لكن أيضًا إلى «عروس الشعر»، في حين يعرّف ماكي «أندومبولو»، وهو لفظ استعير من أسطورة شعب الدوغون، بأنه «مشروع تقريبي للإنسان، عمل قيد الإنجاز نمثله نحن. أغنية أندومبولو أغنية كفاح، إجهاد، تعرية، أغنية طموحة إلا أنها مصابة بالربو».
يستلهم ماكي قصائده من موسيقا الجاز، وبخاصة أورنيت كولمان، ومايلز ديفيس، ودون شيري، وجون كولتران. جميعهم أخبروه بأن وجود الإنسان الأسود يجب ألّا يكون مرتبطًا بشهادات الآخر أو بالسرد، لكن يمكن الإحساس به من خلال ما يسميه ماكي «تواصل الاستنباط». لغة التواصل هذه لغة ارتجالية. يستلهم ماكي كتاباته أيضًا من سلالة طليعية من الشعراء تبدأ من وليام كارلوس ويليامز، وتمتد إلى روبرت دنكان، وتشمل بعض أصدقائه الشعراء أمثال فريد موتن، وإد روبرسن. قصائده عبارة عن مزيج من مدح منوم، وأغانٍ حزينة، وأغاني أحلام محمومة برحلة شتات مجهول، تطمح دائمًا إلى غاية ما لكنها لا تصل إليها أبدًا.
ولد ماكي في فلوريدا عام 1947م، ونشأ في أسرة من الطبقة العاملة في جنوب كاليفورنيا، التحق بجامعة برينستون لدراسة الرياضيات، وتحول بدلًا من ذلك إلى الشعر، ثم انتقل إلى جامعة ستانفورد حيث حصل على الدكتوراه في الأدب. صدر ديوانه «أربعة من أجل كولترين» عام 1978م، وفاز ديوانه الأكثر شهرة «نشيد موسع» بجائزة الكتاب الوطني عام 2006م. رُحب به في الأوساط الثقافية، ونال تقديرًا واعترافًا كبيرين من خلال جوائز مرموقة أخرى؛ جائزة بولينغن، وجائزة روث ليلي للشعر، وزمالة غوغنهايم. ونشر كتابين نقديين بعنوان: «ميثاق متناقض: التنافر والتعدد الثقافي والكتابة التجريبية» (1993م)، و«مفصلة شبه نقدية: مقالات، محادثات، ملاحظات ومقابلات» (2005م)، إضافة إلى خمسة كتب نثرية، آخرها رواية رسائلية بعنوان: «الممر المسقوف الأخير» (2017م). اشتغل ماكي أستاذًا بجامعة كاليفورنيا لعدة عقود وهو الآن يعمل بجامعة ديوك.
هنا حوار مع الشاعر الأميركي عن «أغنية أندومبولو» والثقافة الأفروأميركية وموضوعات أخرى:
أصول فكرة أندومبولو
● كيف بدأت كتابتك قصيدة أندومبولو؟
■ في أوائل السبعينيات، عندما كنت أعمل في محطة إذاعة KTAO في لوس غاتوس شمال كاليفورنيا، وجدت في مكتبة محطة الإذاعة ألبومًا لموسيقا شعب الدغون معنونًا بـ Les Dogon. كان يحتوي على أغانٍ جنائزية على جانب واحد، إحداها «أغنية أندومبولو». لقد أدهشتني جودة الصوت الغنائي، وجذبني كثيرًا الصوت الخشن. بعد ذلك أصبحت منشغلًا بظاهرة الميت الذي يولد من جديد في عالم آخر يعلن عليه بصخب النفير. تميزت الأغنية بنغمات نُسجت بدقة، واتسمت بنوع من التظفير الأجود. في الحقيقة، قبل أن أعرف المزيد عن «أغنية أندومبولو» -لم يكن يتوافر الكثير حولها سوى ملحوظات خطت بعجلة- بحثت في الأغنية والعنوان بالذات. كنت بدأت أنجذب نحو الكتابة المتسلسلة لذلك قررت أن أحافظ على تلك الممارسة في ديوان أو سلسلة من الدواوين أعنونها بـ«أغنية أندومبولو»، وستتناول القصائد موضوعات كالفناء والجنس وأنواع القواعد الرمزية المستخدمة للحديث عنها.
● يقول السطر الأول في «أغنية أندومبولو»: «تقول الأغنية/ لن يعرج الميت/ بدون أغنية». عندما تتحدث عن الفناء، هل تعني به نوعًا من التذكر؟
■ نعم، إنه نوع من التذكر. الأغنية تحفظ ذكرى الميت وتساعده على الانتقال -على حد قول القصيدة- إلى الحياة الأخرى. كنت أريد أن أستعير ذلك وأطبقه على معاني الانتقال والعروج في الحياة. لم أكن أعلم أن الأغنية ستصبح من الناحية النظرية مسلسلًا مستمرًّا لا نهاية له.
● هل كنت تعتقد أن الديوان سوف يستمر أكثر من ثلاثين عامًا؟
■ لا، لم أتوقع ذلك. كنت صغيرًا لأواصل الكتابة بثبات. في تلك المرحلة لم أكن أُومِنُ أن «أغنية أندومبولو» ستكون سلسلة مفتوحة، لكن عندما أعود إلى الماضي، أعتقد أنه يمكن الشعور بالارتباك والاضطراب عندما يتعلق الأمر بالخاتمة حتى في كتابي الأول الشاهد المتآكل (1985م)، الذي ينتهي بمجموعة من ثماني قصائد تسمى «سباعي لنهاية الزمن». أعني هنا شيئًا يسمى «سباعي»، يوحي بسبعة لكنه يحتوي على ثماني قصائد ويتألف من ثمانية. كتابي الأول يتناول معاني القصور والفائض، ذاك الاختلال الذي يبقي الأمور في حركة مستمرة.
● لقد أشرت إلى أن أندومبولو -كشخصية شعرية- تعني أساسًا أن الجنس البشري مسودة تقريبية ومشروع مستمر. كتبت في ديوانك «فاسا زرقاء» بأن «المسودة تعني الانحراف والمخطط والتصميم».
■ لم أكتشف هذا الجانب حتى قرأت كتاب «الثعلب الشاحب» لمارسيل غريول وجرمين دييترلين عن شعب الدوغون، الذي يتحدث عن أندومبولو كشكل سابق من البشر، كنوع من النماذج التجريبية الفاشلة للبشر. في ذاك الوقت اكتشفت معنى أندومبولو كنوع من الاستعارة لنا ولحاضرنا، لوضعنا الفاشل؛ أندومبولو كشكل فاشل، كمشروع تقريبي للإنسانية. أما أنا فأصبحت أنظر إلى «أغنية أندومبولو» على أنها ليست مجرد أغنية جنازة لكن كشيء يمكنني إدخال أشياء أخرى فيه، فشلنا في الارتقاء إلى أكثر المعاني مثالية للإنسانية. الدوغون أيضًا يهتمون بالرسومات والعلامات والرموز المرئية. لذا فإن التركيز على البنية -النحت، التآكل، الإزالة بالحك كفعل سابق على النصية جنبًا إلى جنب مع تثمين الدوغون للعلامات الرسومية- دفعني إلى التفكير في أندومبولو كمسودات تقريبية للإنسانية. عندما نتحدث على غرار روبرت بيرنز عن «وحشية الإنسان تجاه الإنسان»، فإننا نتحدث عن استمرار الأندومبولية.
● أحب هذه الكلمة. أريد أن أرددها طوال الوقت.
■ أبدأ بها كل يوم أمام المرآة. أقول: أيتها الأندومبولية لم يسبق أن خذلتني يومًا. إنها فكرة تلخص أملنا في التطور والتحسن، وأن نكون مسودة أقرب إلى ما نعنيه عندما نشير إلى الإنسانية بالمعنى المثالي. ويبدو أن هذا يتناسب مع الشكل الشعري المتسلسل الذي هو بطريقة ما شاعرية الصياغة. راشيل بلاو دوبليسيس مثلًا تسمى قصيدتها المتسلسلة الطويلة مسودات. هذا التركيز على المرحلي أو الانتقالي -إضافة إلى السعي لتحقيق قدر من الكمال الممكن- أمر يعزز على مستوى الشكل والموضوع ما تصبو إليه الأندومبولية. عندما قرأت «الثعلب الشاحب» فطنت إلى أن قصيدتي لا تتناول أندومبولو فقط، ولكن أيضًا الأندومبولية، وإلى أنها لم تكن قط راضية عن أي من تكراراتها.
النفس الشعري كمقاومة ضد القمع والهشاشة
● يبدو أن ممارستك الشعرية تتمحور حول طريقة في الكتابة تميل إلى الإجراء أو العملية. تقول في مقدمة ديوانك «نشيد موسع»: «إن أغنية «أندومبولو» أغنية كفاح وكدّ وتَأكُّل؛ كل شيء باستثناء أغنية طموح مَرْبُوّ». هناك معانٍ مزدوجة للطموح عندما تربطه بالربو فقد يصبح قادرًا على التنفس.
■ مع مرور الوقت، أصبح تركيز مدرسة الجبل الأسود على النّفَس لا يعني لي في الحقيقة برنامجًا أو تدريبًا عمليًّا للسطر الشعري أكثر مما هو استعارة أو مجازًا يتعلق بالإجهاد والتوتر والقلق. ارتبط استعمال مفهوم النفس على نطاق واسع بين هؤلاء الشعراء الأميركيين بالحرب الباردة والعصر النووي، وقد نتج أيضًا من تأثير الموسيقا الأفروأميركية. كانت هناك حرب عرقية مستمرة منذ قرون سجلها موسيقيون من المجموعة المتضررة. عندما أستمع إلى كولمان هوكينز يعزف على الساكسفون، أو بن ويبستر، أو أي مجموعة من عازفي الساكسفون، أسمع شيئًا عن تنفسهم. أسمع أنفاسًا أصبحت واضحة ومحسوسة تقريبًا. أسمع أنفاسًا لا تُتجاوَز بل تتلكأ وتُبرَز بطريقة تجعلنا نفكر فيها وفي عبورها المؤقت والهشاشة التي تهددها. كل هذا يرتبط ويتجاوب مع شعار «لا أستطيع التنفس»، كلمات إيريك غارنر الأخيرة، وأشكال أخرى من الضعف الذي تذكرنا به، الذي بنى عليها الفن والثقافة الأفروأميركية نظرية الجمال. إن استيطان الضعف والهشاشة للنفس هو أحد الموضوعات التي أعتقد أن كتاباتي تستمر في معالجتها، أو على الأقل تلفت الانتباه إلى الأفكار والسياق الذي يأتي منها.
● هل يمكنك مناقشة فكرتك عن الشعر والنفس في علاقة بحركة «حياة السود مهمة»؟ ألقيت محاضرة بعنوان: «النفس والهشاشة» تحدثت فيها عن أهمية النفس في كل من الشعر والجاز، وعن فكرة تشارلز أولسون التي تقول: إن السطر الشعري مقياس التنفس، وكيف أن النفس هو جوهر موسيقا الجاز. بالطبع، عندما نستطيع أن نتنفس فإننا نرتاح ونشعر أننا أحياء، غير أنك تناقش أيضًا هشاشة وضعف التنفس في عبارة «لا أستطيع التنفس».
■ نشأت فكرة «النفس والهشاشة» من قصيدة كتبتها عقب مقتل إريك غارنر، وهي قصيدة في ديوان «مو» بعنوان: «الأداء الموالي لأوركسترا خيال الخيال»، حدثت تغييرات في السطر الشعري أو في الفكرة التي تقول: إنه «بغض النظر عن عدم قدرتنا على التنفس فإننا ننفخ»، أو يمكن أن أقول: إنني استحضرتها عندما فكرت في مقاربة التنفس والنفس كما يستعمله موسيقيو الجاز السود. فكرت في الأمر في ارتباط بحبس النفس، تحديدًا نفس الإنسان الأسود، الذي كان مقتل غارنر مثالًا مروعًا آخر عليه. لديَّ وعي بالكيفية التي تعامل بها عازفو الآلات الهوائية مع النفس كإشارة غيرية فنية للخناق المفروض على السود، وهي غيرية تتماهى فيها قَصْدِيّة وسلاسة النفس كاسترجاع لغيريتهم الاجتماعية.
كنت أفكر في النفخ من دون نفس، وهو أمر يتكرر استخدامه عند هوكينز وويبستر في استعماله النغمات الفرعية والتلعثم المخيف والمَرْبُوّ عند جون تشيكاي، أو سوني رولينز، والتنفس الدائري عند رولاند كيرك، أو روسكو ميتشل. بجعلهم النفس شيئًا بارزًا وماديًّا حول هؤلاء الموسيقيين نفس الإنسان الأسود إلى قضية مهمة. إنهم يصرون ضمنيًّا على أن حياة السود مهمة. تشكل عبارة «نظرًا لعدم قدرتنا على التنفس رغم أنه كان باستطاعتنا، فقد نفخنا» إحدى الطرائق التي يُوظَّف بها النفس في القصيدة، وهو اتجاه في التفكير انتهى بي الأمر بالتعامل معه بطريقة واضحة في محاضرتي المعنونة بـ«النفس والهشاشة». تضمن ذلك مراجعة لشعرية أولسون وكريلي وبركا وغينسبرج القائمة على النفس، وجميعهم تأثروا بالموسيقا الأفروأميركية وأثروا فيَّ. اكتشفت أن الشعرية تصبح أقل حرفية وأقل عضوية، وأنها ليست مسألة إيجاد واتباع أنماط تنفس طبيعية أو عادية كما فعلت عندما صادفتها لأول مرة. توصلت إلى أنها تتعلق بالقدرة على تغيير إيقاع تنفس المرء لبناء أنماط تنفس بديلة. يصبح التنفس أداة لمعاني الإكراه في علاقة بالحياة. هذا لا ينطبق فقط على المجتمع العنصري حيث لا تهم حياة السود بشكل واضح، لكن ينطبق على عصر لا يبدو أنه متأكد من أن الحياة ككل مهمة.
عن أي «نحن» أدافع؟
● تظهر كلمة «نحن» مرارًا وتكرارًا في دواوينك «نشيد موسع»، و«منزل الإيماءة»، و«فاسا زرقاء» ومجموعاتك القديمة. هل يمكنك أن تتحدث عن المتكلم بصيغة الجمع؟ يبدو أن «نحن» هي «نحن» الآخر في ديوان «نشيد موسع»، ضمير «نحن» يتعارض مع مفهوم الأمة والدولة؛ لكن في أحيان أخرى تكون «نحن» تخصيصية كما لو أن «نحن» هي «أنا» يظللها الأجداد.
■ في كتاباتي الأولى التي تعود إلى الوقت الذي بدأت فيه محاولتي الجدية، كان لدي هذا الدافع لاستخدام هذا الضمير. لم أمنح الاهتمام نفسه لضمير «أنا» حيث نبدأ جميعًا، ولم أكن أفكر في ضمير «نحن» معين. لقد كان مجرد طموح يميل نحو ضمير «نحن» بدا على المستوى الغريزي مرتبطًا بدوافعي تجاه الكتابة. لقد أزعجني وأربكني لمدة طويلة؛ لأنني لم أكن أعلم إن كنت أستحقه. أتذكر سطرًا شعريًّا لروبرت دنكان يقول فيه: «هل سأكون مطبب قبيلة لا أعرفها؟» وجدت نفسي في هذا الموقف نوعًا ما. عن أي «نحن» أدافع؟ بالطبع، كان من المتوقع أن يكتب المرء قصة بضمير المتكلم المفرد، ضمير الاعتراف. شخصيًّا، لم أكن مهتمًّا بفعل ذلك، ولهذا سبَّبَ لي ذلك نوعًا من الذعر، فأنا لم أكن أريد أن تكون «أنا» هي «أنا» خاصة بي. كنت أريدها أن تكون «أنا» من شأنها أن تتخذ شكل وسيط بين العديد من الشخصيات والأشياء.
استغرق الأمر بعض الوقت لأشعر بالراحة أو مجرد قبول أن هذا هو ما أردت القيام به، لكنني بدأت في فعل ذلك، غالبًا بإحساس متردد ومتغير تجاه ما تعنيه «نحن». ربما خلاصة الأمر هو أنها تشير إلى نوع من الدعوة – وُجّهت إليّ على مستوى الغريزة، ثم امتدت إلى القارئ. لكنها «نحن» -كما تقولين- تعني أيضًا الآخر؛ لأنها مرت من تجربة كونها آخر، وهي حذرة من اقتراح بناء «نحن» لأن «نحن» يجب أن يكون لديها «هم» وهذه الـ«نحن» تتمتع بخبرة كبيرة في كونها «هم». إذًا، هناك كثير من الانفعال على مستوى الضمير هنا خاصةً عندما تتفاعل «نحن» مع «هم» وضمير المتكلم المفرد «أنا». إنها تحاول أن تتحدث عن نوع من الأوضاع الجماعية، أو على الأقل أن تشير إلى حالة مشتركة ربما لم تصبح بعد انشغالًا جماعيًّا، أو تتطلع إلى تحقيق هذا الإنجاز. نعم، في أغلب الأحيان تكون قريبة جدًّا مني أيضًا. إنها «نحن» متغيرة، أحيانًا تكون ضخمة، وأحيانًا تكون حميمية مثل شخصين، وأحيانًا أخرى تشكل مجموعة صغيرة تتسكع في الغابة أو في ركن ما.
● كيف أثر الاستماع إلى دون شيري أو أورنيت كولمان، على سبيل المثال، في شعرك؟
■ ربما بطرائق لا يمكنني التحدث عنها بشكل جيد. أعتقد أن ذلك يدخل في حساسيتي الشخصية. إنه تأثير ينفذ إلى الجسد بطريقة ما. أتذكر قراءة مقابلة مع غاري سنايدر ذات يوم. كان أحد الكتب التي نشرها معنونًا بـ«دكة حجارة». كان سنايدر يجمع الحجارة معًا ويستخدم مطرقة لتثبيتها في مكانها. قال إنه لاحظ أنه أثناء قيامه ببناء دكة الحجارة تسلل إيقاع العمل إلى قصائده. نفذ الإيقاع إلى جسده ثم خرج منه إلى القصائد. كان ذلك أمرًا منطقيًّا لي. إذا كان هناك شيء من هذا القبيل يمكن أن ينفذ إليك بشكل إيقاعي ويكون له تأثير في كتابتك، فإن شيئًا مثل الموسيقا سيكون له تأثير أكبر. أعني، إنه شيء ممتع. إن الموسيقا تمثل كثيرًا من الأشياء التي لا يمثلها بناء دكة من الحجارة.
عبارات ممتعة بطريقة ما
● هل يمكنك أن تتحدث أكثر عن عملية الكتابة لديك؟
■ الكثير منها عبارة عن عبارات تبدأ بعبارات أجدها ممتعة بطريقة ما. قد تكون العبارة مهمة بسبب تركيبها أو إيقاعها أو الحقيقة التي تخبرنا بها، وقد تكون مثيرة للاهتمام بسبب صورها وصوتها وعلاقاتها الصوتية أو بسبب جملة من الأشياء.
● إذن لديك عبارات عائمة؟
■ نعم. أكتبها وأبني عليها. تلك الطريقة التي أكتب بها. تأتي العبارات إلي، بعضها قصير وبعضها طويل. أحيانًا تأتي إلي على شكل جمل صغيرة، وأحيانًا طويلة جدًّا، أو على شكل جمل لا يربط بينها منطق. في بعض الأحيان، أقع على كلمة تصبح هي الحافز والمثير خاصة عندما أتعامل مع مصطلح جديد أو صياغة جديدة. الأمر يتعلق بالعبارات وصياغة العبارات وهو المحور الأساسي الذي تتمركز حوله موسيقا الجاز. تأتي إليَّ عبارة من ثلاث كلمات أو أربع كلمات وتكون مثيرة للاهتمام لسبب ما. إما أن يكون بناء الجملة ممتعًا أو تكون هناك علاقات سجعية في العبارة تثير الاهتمام أو تكون الصورة التي تنقلها مثيرة للاهتمام. يمكن أن يكون الأمر مزيجًا من هذه الأشياء، أو ربما يكون مجرد استخدام كلمات ليست شائعة جدًّا ولكن أجدها جذابة بطريقة أو بأخرى.
● هل تستمد العبارات من البحث الذي تقوم به؟
■ يمكن أن تأتي من أي شيء، من أي مكان. يمكن أن تأتي من القراءة وأحيانًا من سوء القراءة. يمكن أن تلتقط في أثناء استراق السمع أو سماع شيء ما على التلفزيون أو الراديو. أول فعل أستحضره في طريقة كتابتي هو كتابة هذه الأشياء عند حدوثها. لقد تعلمت على مر السنين ألا أغفل أي شيء، وهذا لا يعني أن كل ما سجلته سيكون مفيدًا، لكن أي شيء يحدث لي وأعتقد أنني يمكن أن أستخدمه في قصيدة أسجله. كان لدي دائمًا دفتر ملاحظات حلزوني لسنوات. الآن لدي تطبيق مُذَكّرَة خاص على الهاتف مما يجعل الأمر أسهل. على أية حال، هذا ما أفعله، أسجل الأشياء في كراسة إلكترونية. في بعض الأحيان تدرك أن ما جاء إليك هو جزء من شيء أكبر وقد حان الوقت الآن للوصول إلى هذا الشيء الأكبر، وفي أحيان أخرى تدرك أن هذا ليس الوقت المناسب فتضع ذاك الشيء الآني جانبًا وكل ما يأتي لاحقًا، ثم في مرحلة ما -لا، ليس في مرحلة ما ولكن على أساس منتظم- تجلس وتحاول أن تكتشف ما تنتمي إليه هذه القطع.
أحب الأعمال التي لها حياة خاصة بها
● قد يقول بعضٌ: إن شعرك صعب. القصيدة صعبة بسبب مستويات النفوذ إليها، أليس كذلك؟ قد تكون هناك بعض الصعوبة في شعرك بسبب تلميحاتك وإشاراتك التي تستمدها من علم الكونيات الإفريقي وموسيقا الجاز. هل تشعر بأنك تضطر لشرح الأسباب؟
■ لا أعتقد أنه يمكن توضيح كل ذلك. أحب الأعمال التي يلفها قليل من الغموض. الآن، يفضل الناس التحدث عن الصعوبة بدلًا من الحديث عن الغموض في الأوساط الأكاديمية، وهذا على الأرجح سبب استمرار ظهور هذه الكلمة من حين لآخر. أحب الأعمال التي يبدو أن لها حياة خاصة بها. يعجبني خصوصًا العمل الذي يشعرني بأن هناك المزيد لأفهمه، وقد أتعلم شيئًا من طريق إجراء محادثة مع شخص يجلب معدات مختلفة يصعب حملها أو مع فنان. أحترم الآخر في العمل الأدبي. إن عدت إلى كتاب ما مرات عدة ولم أفهمه فسأقول: إنه ليس لي، ولا أعارض أن القارئ يمكن ألا يفهم كتابي.
● يراودني فضول أيضًا بشأن الغموض والصعوبة في الكيفية التي يفهم بها الآخرون شعرك. أعتقد أن مقالك «الآخر: من الاسم إلى الفعل» يوضح بشكل جميل الطريقتين المختلفتين: «الآخر» كاسم في مقابل «الآخر» كفعل، وكيف أن كاتبًا مثلك قد يصبح «آخر» لأسباب اجتماعية وسياسية أو اقتصادية، ومن هذا المنطلق يمكنك أن تجعل الشعر «آخر» من خلال الشكل واللغة.
■ حسنًا، آمل أن نجعل أيضًا من التقليد التجريبي الطلائعي «آخر». هناك فكرة تتعلق بهذا التقليد، بالطريقة التي نشأ بها في الفنون والآداب الغربية، وهي أنه كلما ازدادت طلائعية وتجريبية وتقدم الفن؛ اتجه نحو الشكل التجريدي المحض. يبدو أن ما كتبه أورتيغا يي غاسي عن الفن الحديث أنه ينزع الصفة الإنسانية عن الفن يشير إلى هذا الموضوع، ولذلك فإن تقدم الفن يقاس ببعده من تقديم الذوات البشرية. يتحدث كليمنت غرينبيرغ عن الوصول إلى نقطة الصفاء الفني حيث لا يتعلق الفن بأي شيء، حيث يكون مجردًا ويتعلق بتكوينه الخاص إذا كان يتعلق بأي شيء. إنه محض شكل. ما نفعله لهذا التقليد هو أننا نجعله «آخر»؛ لأننا نجلب إليه محتوى لم يكن موجودًا من قبل. وبالطبع يسود قلق كبير وامتعاض حيال ذلك. فجأة يتملكنا إحساس غريب بحرمان يأتي من المركز المشهور، مثلًا عندما نخاطب أنفسنا ونقول: إننا لا يمكننا أن نكون غرباء من ذاك النمط. لا يمكننا أن ندَّعي أو ننتحل ذلك النوع من التهميش. لم يكن العنصر البوهيمي في جوهره سوى انشقاق داخل برجوازية التقليد الأوربي وتقنع البوهيميين بقناع «الآخر» الحقيقي. هكذا اكتشفوا «الفن البدائي».
المصدر: مجلة باريس ريفيو.