القصّة القصيرة جدًّا
يُؤلِّف لورون برتيوم، في هذا المقال، بين أسلوب المبدِع الذي يصبو إلى امتلاك ناصية الكتابة السّردية في فنّ القصّة القصيرة جدًّا، وأسلوب المنظِّر الذي يروم تأصيل هذا النوع السّردي؛ فقد جادت قريحة هذا الكاتب الكَنَدي، الذي يشتغِل باحثًا في علم الأحياء الدقيقة، بجملةٍ من القصص القصيرة جدًّا التي نشربعضَها في مُصنَّفٍ جماعيٍّ موسومٍ «مئة وإحدى عشرة قصّة قصيرة جدًّا»، وبعضَها الآخر في مجلتيْ «Brèves littéraires» و«Le passeur». ومن خلال هذه التجربة السردية والإشرافِ على ورشةٍ خاصّةٍ بالكتابة، اهتدى الكاتب إلى وضْع مصطلح (Micronouvelle) عام 2004م، وانصرف، عاميْن بعد ذلك (2006م)، إلى وصْفه في هذا المقال الذي نُقدِّمه بين يدي القارئ العربيّ.
ولقد آثرْنا، مُراعاةً لقاعدة الشّيوع التي تُسْعِف في ثبات المصطلح واستمراره، استعمال مصطلح القصّة القصيرة جدًّا بوصفه مُكافِئًا للمصطلح في اللّغة الفرنسيَّة، على الرّغم من ظهور مصطلحٍ آخر يحذو حذْوَ القصّة القصيرة جدًّا، وهو مصطلح (Nanonouvelle) الذي يختلف عن المصطلح الأوّل من حيث عددُ الكلمات؛ فإذا كانت القصّة القصيرة جدًّا تتألَّف من مئة كلمة أو أقلّ، فإنّ النوع المستحدَث، الذي لم يتخلَّف لورون برتيوم نفسُه عن الإسْهام فيه والتقعيد له، يقتصِر على جملتيْن اثنتيْن أو ثلاث. وهو ما قد يُفضي إلى الخلْط بين التصوُّريْنِ، من خلال مُقابَلة مصطلحيْن مُتمايِزيْن شكلًا ومفهومًا في اللّغة الفرنسيَّة، وهما (Micronouvelle) و(Nanonouvelle)، بمصطلحٍ واحدٍ في اللّغة العربيَّة، هو القصّة القصيرة جدًّا. ونزعُم أنّ سبَب هذا الخلْط المفترَض يعود إلى ترجمة مصطلح (Nouvelle) إلى قصّة تارةً أولى، وقصّة قصيرة تارةً ثانيةً، وأقصوصة تارةً ثالثةً؛ فلو اكتفى المترجِم العربيّ بالقصّة مُعادِلًا لهذا المصطلح، لأمْكَننا مُقابَلة (Micronouvelle) بقصّة قصيرة، و(Nanonouvelle) بقصّة قصيرة جدًّا، و(historiette) بأقصوصة.
المترجم
كتب العديد من المؤلِّفين قصصًا قصيرةً جدًّا، سواء في مُصنَّفات فرديَّة، أو مجموعات أو مجلّات أدبيَّة. وإذا كانت «القصّة القصيرة جدًّا» قد وُجِدَت قبل المصطلح المقترَح هنا، فإنّ هذا «الجنس الأدبيّ»، أو الجنس الفرعيّ، لا يزال غير دقيق، ولم يضطلع أحدٌ، فيما أعلم، بتحديده أو تمييزه.
لماذا مصطلح «قصّة قصيرة جدًّا»؟ لِمَ لا « قصّة صغيرة جدًّا»، أو قصّة مُوجَزة، وموجَزة جدًّا…؟ لقد استهواني، دائمًا، عمل عالِم الأحياء الدّقيقة الذي تعوَّد على رؤية ما لا يُرى بالعين المجرَّدة من الكائنات الدّقيقة عبْر المجهَر الإلكتروني. من هنا، لنتخيَّل قصّة قصيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة لفرْط قِصَرِها. تبدو لي الصّورة مُثيرةً للاهتمام. في الواقع، تلوح لي القصّة القصيرة جدًّا في حدود القصّة المرئيَّة. أكثر قِصَرًا، لا يوجد شيء. نحن أمام قصّة دنيا: بضْع كلمات، أقلّ من مئة، تمنح الحياة لشخصيَّة، في مكانٍ، من خلال حدثٍ، ونهايةٌ في الخِتام. مثالٌ:
تزجية الوقت
لقضاء الوقت، كان يمضي أيّامه مُتجوِّلًا في الرّيف، بندقيَّته مشدودة إلى حزام كتفه… كان يعود، دائمًا، خاليَ الوِفاض. (20 كلمة).
إنّ هذا النّص قصيرٌ جدًّا إلى درجة أنّنا نُواجِه صعوبةً في عدِّه قصّةً مهما كانت مُوجَزةً. ثمّ ماذا لو قرّرنا أن تبدأ القصّة القصيرة جدًّا حيث يبدو أنّ القصّة تختفي بإيجازها الشّديد؟ من أجل اتّخاذ قرارٍ أفضَل، أقترح جعْلَ القصّة القصيرة جدًّا جنسًا مُستقلًّا، لتلافي إغراء الكاتب بتطوير نصِّه دون مُبرِّر والاقتراب من القصّة الكلاسيكيَّة. إنّ القصّة القصيرة جدًّا تلوح لي مختلفةً عن القصّة أكثر من اختلاف القصّة عن الرّواية. لغيرالمقُول، في القصّة القصيرة جدًّا، أولويَّة على المقُول. نحن لا نقرأ الحبكة السّردية الغائبة تقريبًا، ولكنْ نتخيَّلها حسب ذوْقنا الشّخصي، ومن خلال خيالنا الخاصّ. وسيكون من التماثل مُقارَنة الرواية بالفلم الطويل، والقصّة بالفلم القصير، والقصّة القصيرة جدًّا بمُجرَّد لَقْطَةٍ، بل بصورةٍ أو اثنتيْن على صفحة أَلْبوم.
نُصادِف، بالنّسبة للمحكيّات الأكثر طولًا، والرّواية القصيرة، والرّواية، والقصّة الملحميَّة…من حيث الطّول، تزداد هذه المحكيّات تعقيدًا: مزيدٌ من الشخصيات، والأماكن، والأزمنة، والأحداث، والتّطوُّرات. يعرف المحكيّ، حينها، استمراريَّةً لا حدَّ طوليًّا لها. وفي المقابِل، نعثرعلى قصصٍ من بضْع صفحات، ومن صفحةٍ أو أقلّ، ثمّ من بضْع جُمَلٍ… وحين نأتي لِعَدِّ الكلمات، نُدرِك أنّ للقصص القصيرة، خلافًا للمحكيّات الطّويلة، حدًّا نظريًّا: يُمكِن عَدُّ كلمةٍ قصّةً، ولِمَ لا تكون صفحة بيضاء! يُعيدنا العبث إلى الواقع، ويُمكِن أن يقودَنا إلى مُحاوَلةِ تعريفٍ على أساس الحدّ الأدنى لعدد الكلمات. لقد اقترحنا، آنفًا، شخصيَّة، ومكانًا، وحدثًا، ونهايةً… وذلك كلّه في شكلٍ أدبيٍّ، كيْ لا يؤول بنا الأمر إلى الأقصوصة أو المزحة. يُمكِننا اقتراح أقلّ من مئة كلمة. حينها، يصبح التّحدي هو كتابة أحسَن قصّة مُمكِنة وأقصرها.
ما الفائدة العمليَّة للقصّة القصيرة جدًّا؟ مسألة ذوْق، وضيْق الوقت المخصَّص للقراءة؟ هل عالِم الأحياء الدّقيقة يسكنني؟ أنا أحب المحكيّات القصيرة جدًّا، حيث يتقدَّم المجهولُ الصّريحَ، وحيث يُمثِّل البحث جزءًا من فعل القراءة.
في ورشةٍ لإعادة الكتابة، قبل سنوات عدة، شعرت أنّ نصوص المشارِكين تتنوَّع طولًا وجوْدَةً، وغالبًا ما تدخل في علاقة تناسُبٍ عكسيٍّ. لقد ألفيْت صعوبةً في أن أكون عادلًا تجاه الجميع؛ فبعضهم كان يستفهِم أكثر من غيره. غيَّرت رأيي وعرَضت، بدلًا من إعادة الكتابة، ورشةً حول القصّة القصيرة جدًّا. كان على كلّ واحدٍ، كتعليمةٍ، أن يكتب محكيًّا في أقلّ من صفحة ذات مسافة مضاعَفة بين السطور. وأقْنَعْت مجموعتي بأن يقصروا كتاباتهم على أقلّ من مئة كلمةٍ.
الكتابة بالفأس
لقد تعلَّم المشارِكون استخدام الفأس في نصوصهم؛ لتنقيحها بحذف الإسهابات، والملفوظات المجانيَّة وغير الضرورية، والتركيز على الجوهر، من خلال الحرص على أن تكون كلّ كلمة مُناسِبة ومُبرَّرة. في هذه المرحلة، لم تعد علامات الوقْف اعتباطيَّةً، بل كان لا بدّ من مُراعاتها بالاهتمام نفسِه. إنّ المرور من نصٍّ مُجْمَلٍ إلى محكيٍّ مُقدَّمٍ بدقّة عملٌ يستحقّ العناء؛ فعَقِبَ اختيارات صعبة الإخفاء، أو مهارة وضْع الثّقة في القارئ لتخيُّلِ غير المكتوب، ليست موهبة طبيعيَّة استطاع كلّ واحدٍ تقدير نجاحه الأدبيّ ببذل الجهْد في التهذيب والتشذيب.
تستطيع الكتابة الروائية، من خلال فكرة جيِّدة وكلمة سَلِسَة، أن تأسِرَنا طويلًا. وفي المقابِل، تقتضي كتابةُ مُتواليَةٍ من القصص القصيرة جدًّا مواهِب أخرى؛ ففضلًا عن الاختصار، والإيجاز، يتطلَّب الأمر خيالًا خصبًا ومُتكامِلًا. لا يستدعي الأمر فكرةً واحدةً وتطوُّراتٍ عدةً، بل أفكارًا مُستقِلَّةً وكثيرةً لا تتطوَّر سوى مرّة واحدة. من نصٍّ إلى آخر، تستوْلي علينا الخشية من رؤية خيالنا ينْضَب، حيث تُستخدَم الحوافز والاستهلالات والطرائق الأخرى بشكلٍ مُبالَغٍ فيه، وسرعان ما نشعر بأنّنا نُكرِّر أنفسنا. قد يكمن الحدّ الرئيس للقصّة القصيرة جدًّا في ذهن المبدِع: قصورٌ في التّخيُّل وخوْفٌ من تبرُّم القارئ.
دعونا ننظر إلى المشْكِل بطريقةٍ أخرى. إنّ القصّة بالنّسبة للقصيدة بمنزلة القصّة القصيرة جدًّا بالنّسبة للهايكو. تبسيطٌ شديدٌ للكتابة، واقتصادٌ في الكلمات، وفرْزٌ، وتصفيَّةٌ…يمنحُنا ارتياحًا وسُمُوًّا وشعورًا صادقًا… نقرأ قصّةً قصيرةً جدًّا مثلما نتذوَّق مُقبِّلات. إنّنا نقرؤها بعيون مُغلَقة تقريبًا للاستمتاع بأريجها بشكلٍ أفضل.
أغات
ظلّت مُتردِّدةً، طوال حياتها. ذلك ما أوْجَد، في الغالب، وضعيَّات مُلتبِسة، بل تعيسة، ألْفَت نفسها مُحاصَرةً بها. مُتْعَبَةً بفعل الحيرة، ومُنْهَكَةً بسبَب أخطائها الكبيرة والمتكرِّرة، اتّخذت، في الأخير، قرارًا أن تنزعَ روحها. بخطوةٍ ثابتةٍ، ودون أن تُفكِّر في الخوف من الرجوع إلى الخلف، توجّهت إلى وسَط الجسر. لقد تخطّت الدرابزين فعلًا. رياح الليل باردةٌ، والمياه متجمِّدةٌ في الأسفل. ضعُفَت للحظةٍ، ولكنّها تمالَكَت نفسها من فورها. والآن، تهوي نحو مصيرها في سقوطٍ حرٍّ. في مُنتصَف المسافة، غيَّرت رأيها للمرّة الأخيرة… (100 كلمة).
في قلب الصورة الحية
في القصّة القصيرة جدًّا، يغوص بنا الكاتب في قلب الصورة الحيَّة. إنّه يفعل ذلك بكلّ ما يستطيعه من إبداع، وبكلّ ما يمتلكه من حساسيَّة… لكن، إذا لم يكن عبقريًّا، فهل سينجح في كل مرّة؟ القصّة القصيرة جدًّا: تمرينٌ على الكتابة للمبتدِئ أم صنعة الصائغ() الأدبيّ التي تتطلَّب استعْدادات فطريَّة، فضلًا عن تمرُّسٍ طويلٍ وصبورٍ؟
لحسن الحظّ، لا يتشارَك القرّاء الأذواق نفسَها؛ فمثلما هي الحال مع كلّ قصّة أو رواية، وبغضّ الطّرْف عن قيمتها، فإنّ بعضهم يُحِبُّها، وبعضهم الآخر لا يُحبُّها. ربّما، لأنّهم يتعرَّفون أو لا يتعرَّفون إلى أنفسهم في النص. مثل اللوحة أو الصورة تمامًا، فنحن نُحِبُّ أو لا نُحِبُّ هذه القصّة القصيرة جدًّا، وذلك دون تحفُّظ. وفضلًا عن هذا التقدير العاطفي، نستطيع استخلاص السمات الموضوعيَّة للعمل المبنيَّة على معايير جماليَّة مُثْبَتة؛ لذا، لا يهمّ مقدار الكلمات في القصة القصيرة جدًّا، بل تناغُم المعنى والعاطفة اللّذيْنِ تنقلهما تلك الكلمات.
نظرًا لمقتضَياتها التبسيطية، فإنّ القصّة القصيرة جدًّا مرآة، تُعيد الكاتب إلى مُواجَهة نفسه. هذا الكاتب الذي لا يستطيع الاختباء خلف فيْض الكلمات. قليلةٌ جدًّا، تكتسِب كلّ كلمةٍ منها أهميَّة كبيرة، وتُعرّي مَكامِن ضعفِ المؤلِّف… تكون القصة القصيرة جدًّا تامّة أو لا تكون. ألماسةٌ منحوتةٌ بشكلٍ سيّئٍ تظلّ حجَرًا. لا يُمكِن أن تكون القصة القصيرة جدًّا مُتوسِّطةً؛ إذْ محكومٌ عليها بالحصافة أو السخافة. ينبغي عدم الخلْط بين عَرض الصفحة البيضاء() وإبداع الصفحة شِبْهِ البيضاء…
هوامش:
(١) Laurent Berthiaume: «La micronouvelle», «Brèves littéraires», n° 74,2006,p 93–98.
(٢) Compte rendu de [collectif Les Oxymorons / Laurent Berthiaume, Marie-Ginette Dagenais, Monique Joachim, Jeannine Lalonde, Christiane Lavoie, Thérèse Tousignant: «Cent onze micronouvelles», collection «Petit-livre», éditions Le grand fleuve, 2007, 132 pages], «Brèves littéraires», n° 77,2008,p 110.
(٣) Passe-temps.وقد نشر الكاتب هذا النّص في المصنَّف الجماعيّ «مئة وإحدى عشرة قصّة قصيرة جدًّا»، بعنوان آخر، هو “Hubert”.
(٤) خمسٌ وعشرون كلمةً في ترجمتنا، إذا أحصيْنا، كما فعَل الكاتب في إحصاء عدد كلمات محكيِّه، أدوات التعريف وحروف الجرّ والضمائر المتَّصِلة.
(٥) Le non-dit.
(٦) Le dit.
(٧) La novella.
(٨) لمصطلح (Saga) تصوُّران اثنان؛ تصوُّر خاص يحيل إلى الحكايات التي ظهرت في أيسلندا في القرون الوسطى، وتصوُّر عامٌّ يشير إلى الحكايات ذات الصبغة الملحميَّة.
(٩) L’historiette.
(١٠) Le gag.
(١١) L’ellipse.
(١٢) Le non-écrit.
(١٣) Le Haïku.
(١٤) Agathe.
(١٥) لا شكّ، مرّةً أخرى، أنّ عدد كلمات المحكيّ المنقول إلى اللّغة –الهدف يفوق عدد كلمات المحكيّ القائم في اللّغة– المصدر.
(١٦) Le bijoutier.
(١٧)هو عَرَض يشير إلى عدم اهتداء الكاتب إلى الكتابة، بسبَب الخشية التي تكتنفه حيال عدم التوفيق في نصّه وتحقيق النجاح المأمول. ويُسمّى، في اللغة الفرنسيَّة، (Le syndrome de la page blanche).