خصائص الخطاب الشعري في «تُظِلُّني ضحكتك» لمحمد حبيبي
يمتلك الشاعر والأكاديمي السعودي محمد حبيبي تجربة شعرية لها سماتها الجمالية والأسلوبية التي تتسم بنوع من التطور والتنامي المستمر، كاشفة عن وعي عميق بتحري الخصوصية التعبيرية والبصمة الأسلوبية المميزة لخطابه الشعري. هذه الثوابت والمتغيرات الجمالية يمكن تأملها وملاحظتها في ديوانه «تُظِلُّني ضحكَتك» الصادر عن نادي الطائف الأدبي 2018م، ففي الديوان تتويج لخصائص الأداء الأسلوبي، ووعي جمالي بالبصمة الخاصة في تكوين النص، وهي السمات التي عمقها وحفر مجراها في أعماله الشعرية الأربعة السابقة: انكسرت وحيدًا (1996م)، عن دار الجديد- لبنان. أطفئ فانوس قلبي، (2003م)، عن نادي جازان الأدبي- السعودية. الموجدة المكية، (2007م) عن دار الانتشار العربي- لبنان. جالسًا مع وحدك (2011م)، عن دار مسعى- الكويت. أو في تجاربه الشعرية البصرية، فقد أنجز ثلاث تجارب شعرية مرئية: غواية المكان (2006م)، وحدقة تسرد (2007م)، وبصيرة الأمل (2018م).
تتمثل ركائز هذا الخطاب الشعري في عدد من الخصائص الأسلوبية المطردة على طول التجربة الشعرية وفي عمق متنها الجمالي؛ منها تحييد البنى الإيقاعية، وسحبها إلى مناطق الخفوت إعلاء للدلالة، وإصغاء للمعاني التي تغلبها السمة التأملية تارة، والبعد السردي في أخرى، ويتقاطع ذلك مع إحداثيات التوازن بين الإيحاء والكشف، والمجاز وقابلية التفسير والتواصل الدلالي.
ولعل من أهم الخصائص الدلالية التي ينبني عليها هذا الخطاب أيضًا، النزعة الغالبة لتسجيل اللحظات الفارقة الكثيفة بالمعنى، المرتبطة بالذكرى والاستعادة، وتمديدها سرديًّا واللعب على تفصيلاتها كلها، على نحو ما جسده في ديوانه «الموجدة المكية» الكاشف عن رحلة روحية تتقاطع مع التجربة الجمالية والعاطفية، وارتباطهما عبر التناص بالمورث الشعري العربي وقصصه وأخباره. وتأخذ تلك اللحظة وجهًا تأمليًّا ذاتيًّا في «جالسًا مع وحدك» ووجهًا تأمليًّا ممتلئًا بالشجن والأسى في «أطفئ فانوس قلبي». ولا شك أن تلك اللحظات المتشذرة أحيانًا تميل إلى شكل من أشكال التضاد الداخلي لتفجير التوتر الدلالي، أو الاعتماد على الصيغة المشهدية، أو العرض البصري في تكوين التخييل الشعري. ولأن اللحظة تمثل ومضةً سريعةً، يأتي القصّ ليركزَ على تلك الومضات؛ لذا ينحاز كثير من نصوصه إلى المزج بين الشِّعريِّ والسَّرديِّ، عبر تمثيل سردي وشعري قصير، يختزلُ العالم ومعانيه في لوحةٍ أو مشهد، عبر اختزاله وتكثيفه في لحظة درامية.
تتشكل الخاصية البنائية لخطاب محمد حبيبي الشعري في تلك السمة الظاهرة في تكوين نصوصه، فالغالب على خطابه الانحياز إلى القصائد القصيرة دون الطويلة، وتنوع خطابه ببعض القصائد متوسطة الطول التي تميل في جانب منها لبنية المقاطع. السمة الأخيرة، تبدو في حرصه الدائم على وسم مجموعاته الشعرية بأنها «نصوص شعرية» كأنه يتحرج من فكرة الديوان المغلق على فضاء محدد، ويفسح كتابه على التعدد بتسميته نصوصًا. والحق أن الخط الدلالي في أغلبه يخطه نسيج أسلوبي يتسم بالتناغم، وفضاء دلالي على الرغم من تنوع أعطافه يميل لبؤرة عامة تمسك بالمجموع. وبخاصة حين يلجأ إلى توزيع عدد من قصائده تحت عنوان جامع يعبر بشكل أو آخر عن مركز استقطاب دلالي. على نحو ما نلقاه في الديوان الأحدث «تُظِلُّني ضحكتك» من توزيعه على أربعة عناوين: خيبات جنة فاقدة (أربعة نصوص)، التماعات الوقت (خمسة عشر نصًّا)، أربعاءات الوحشة (خمسة نصوص)، فازات الدهشة (خمسة نصوص).
الخيال الطليق في الحب والشعر
في ديوان «تُظِلُّني ضحكتك» يتخذ الخطاب الشعري وضعًا جماليًّا يحافظ على مرتكزاته السابقة ومنجزاته الجمالية، وفي الوقت ذاته يعبر عن فضاء دلالي ومتخيل جمالي يعمق بعض ثيمات قصائده السابقة، ويشف الإهداء عن الثيمة المركزية للخطاب، يقول: «إلى فاطمة، وسام، حمود، يزن، ليلك.. نريدُ من الحُبِّ/ ما يعجزُ الحبُّ عنه/ وما لا يطيقُ الخيالُ/ نريدُ من الحبّ أن يرضعَ المستحيلا». الإهداء الأسري والعائلي بامتياز، ليس مجرد عابر في سياق الديوان الدلالي، ولا امتنان صادق لرفيقة الدرب والأبناء، بل يعبر عن ذلك الطموح الوجداني والجمالي في آن للقبض على الخيال طليقًا في الحب والشعر، وكأنه يشيّد بطريقته الشعرية الخاصة صورة «امرأة المستحيل» في الواقع ويجذرها في تجربة حياتية ممتدة، فنصوص فاطمة تبدو موزعة في دواوينه السابقة، وفي هذا الديوان تكريس لحضورها عبر تجسيد جمالي.
في «تُظِلُّني ضحكتك» ثمة خطاب مركزي يستصفي عصارة تجربة شعرية متجددة حول (فاطمة) يشتبك فيها الوعي الشعري مع رافدين أساسيين يتجليان بطرق متشابكة هما: الرغبة الواعية بالحفاظ على (الذكرى) في الحياة والحاضر، بعيدًا من فيض الزمن ومروره، كأن هناك خشية من مروقها وخفوتها ونسيانها، بل محاولة تأبيدها. والجانب الآخر؛ يتمثل في تأمل جذاذات الحوادث العابرة الصغيرة والمنفلتة، وتحويلها إلى كسرات ولقطات تشكل الرؤية الكلية للوعي الذاتي. وفي خضم هذا الوعي لا يصبح الحب روتينًا شعريًّا، بل محاولة اكتشاف للتفصيلات الدالة الموغلة في بساطتها ومركزتيها في آن. وهنا يتبدى نوع من البحث عن بصيرة الذكرى في اللحظات الهامسة، وهنا أيضًا لا تغدو الكتابة عنها تسجيلًا للمعنى الخارجي، بل انكشاف الجسد عن لغته وتماهيه مع الأنثى الحبيبة والذات بوصفهما صِنْوَيْنِ متماهييْنِ بعيدًا من أي ثنائية، ويفتتح نصوص ديوانه بهذا المعنى في نص «تماهي» قائلًا: «يتشابهُ المعنى/ لدى من يكتبون حبيبةً/ وإذا كتبتُ/ وجدتُ نفسي في الكتابةِ/ أشبهك/ تتناسخُ اللحظاتُ/ في أذهانِ مَن عشقوا/ وما من لحظةٍ/ بالقربِ منك، تمُرّ/ وهي تكرِّرُك» (ص7).
ذكرى التفاصيل العابرة
تحملنا فرادة اللحظة مقابل تناسخ اللحظات إلى لون من ألوان المفارقة والتضاد البنائي بين نوعين من الحب: قابل للتكرار، ومتوقع ومعتاد، ينبئ ذاكرة كل العشاق عن الحبيبة المثال/ النموذج، ونوع آخر من الحب، يسعى إلى الفريد والبكر وغير القابل للتكرار، كأننا إزاء ثنائية المعاودة والابتكار التي تحكم كل أنماط وجودنا الإنساني، فتجدد الحب مساوق لفرادته في كل لحظة، وكل لحظة بالقرب منها هي علامة تجدد، وكأن الحب يجد ملاذه في التعبير عن نفسه في الكتابة، التي تبحث عن جدتها، في الحب ذاته الذى صار شكلًا للكتابة، أو نحتًا جماليًّا للمثال الشعري: «بصمت الخجولين/ ينحت/ تمثال حبك» (ص14). ولهذا تبدو تلك الحبيبة ميدانًا لصراع الوجود والاحتجاب، القرب والابتعاد، بمعنى آخر، إنه يجسد وجودها بأنه ديمومة واقعية تارة ومتخيلة تارة، أو هي الانتظار في لحظة تأمل في غرفة فندق نائية كل شيء فيها مزدوج، وعلى الرغم من وجود الذات وغياب المحبوب/ الشريكة، تظل بنية الانتظار حاكمة: «كلُّ شيء هنا/ أُهْبَةَ الانتظار/ السريرُ لشخصين، كأسان فارغتان لصَبِّ العصيرِ/ الوسائدُ لاثنين، لا شيءَ يبدو هنا غير مزدوجٍ/ ليس مِن مفردٍ ووحيد/ بهذا المكان؛ سواي أنا؛ وانتظاركِ/ نجلسُ للطاولة!» (ص17).
ولا تخطئ عين فاحصة لنصوص حبيبي الشعرية اعتماده الواسع على متصور الزمن، واستقطار لحظاته الحياتية الخاصة وتضفيرها بالمجاز الشعري واستنطاق صوتها الخفي الدال على مفارقة عميقة بين الماضي والحاضر، لتعميق الذكرى واستعادتها في إطار سردي يموج بالتفصيلات العابرة التي تصنع في بساطتها الأفكار الجوهرية عن العلاقات الإنسانية والتوتر بين الذاكرة والنسيان. وتجسد نصوص «التماعات الوقت» تلك الخاصية الدلالية والرؤيوية في أسلوبه الشعري؛ إذ تحمل نصوصه توسعًا شجيًّا لقلق الزمن، لتوترات الذكرى، لحواريات ضمنية مع المحبوبة، لمناجاة لها أيضًا، فتتذكر البداية الأولى وتنتقل إلى مرور عشرين عامًا من الزواج، تلك اللحظة الأولى دونما مسؤولية، حيث أنا وأنت نملك العالم وحدنا ونملك حلمنا: «في مثل هذا الوقت/ كنت إلى جوارك/ في الطريق لنحونا؛ ما ثم أطفالٌ/ ولا شغبٌ يحيل الحبَّ روتينًا/ بمنضدة الكلام/ هناك حيث/ توقفت بي فكرةٌ مجنونةٌ؛ مترجلين بغابة خضراء».
العشاق على الشاطئ
يلعب النص على التبئير الزمني للحدث، أو ما قبل الإنجاب، والانشغال بالآخرين، بشغبهم الذي يجعل الحب عادة، وليس تعبدًا في محراب الجمال والروح؛ لذا يمارس سردًا لتفصيلات يتقاطع فيها الواقعي مع الحلم، حيث تبادل أطراف الحديث العذبة، مع فكرة مجنونة للهيام هناك في جنات الحب وغاباته الخضراء المتجددة النضرة، ويواصل سرد هذا الحلم ليهمّ بربط أرجوحتين وكأنه يريد استعادة طفولتهما وبكارة حبهما، لكن النص ما يلبث أن ينعطف بحدة من الحب نحو الرعب، فتظهر مخاوفها لتذكره بعزلة هذا المكان الواقعي أو المتخيل. وينعطف النص مرة أخرى، ليخبرنا أن هذه إحدى الذكريات العذبة التي تؤرخ لعشرين عامًا من الذكرى والخوف في آن، أو جنونه الحالم ورعبها من وحشة الانفراد في عزلة الغابات الخضراء: «وقفنا هنا:/ أنا لا أرى غير النوارسِ/ لا ترين سوى القوارصِ/ لم تزلْ فيك المخاوفُ ذاتها/ وأنا على ذاتِ الجنون» (ص14).
تتواصل تلك التفصيلات المعتمدة على الذكريات في بقية نصوص هذا القسم، فنراها في توتر المسافة الزمنة بين ربع قرن من حياة الحب واللقاء الأول ورؤيتها حلمًا يلامسه لأول مرة، وتتعاقب الذكريات في سرد جمالي شعري حالم في القصائد بين ليلة الزفاف ودقات الدفوف والأغنيات الجازانية التراثية التي تنشدها أُمّا العروسين، وتلك المطاردات الغرامية عقب الزواج ومحاولة ضبط إيقاعها على المجتمع بين ما يباح إعلانه وما يندس بعيدًا من الأعين.
ولا يكاد القسم الثالث المعنون بـ«أربعاءات الوحشة» يخرج عن حركية الزمن، فالعنوان ذاته دال على تكرارية نمطية ليوم محدد ومعاودة الشعور ذاته، لكن هذا القسم يبدو تقاطعًا مع الذات إزاء العالم، إنه لون من التأمل في تكرارية الحوادث الآلية، التي تبدو عابرة وقتية لكنه يكشف دلالة شعرية أو وجودية فيها، مثل عاشق على الشاطئ بجوار أنيسه لكنه يعاني فوهة الفراغ الرتيب. ويتحول هذا الشعور لنوع من الفقد في قصيدة تحمل العنوان ذاته، لتحيل إلى رتابة الأيام، أو تلك المعاودة المستمرة بين الذنب وغفران الحبيبة. ويتحول نص «الحكاية» إلى نص وجودي بامتياز، يكتب هامشًا جماليًّا على حكاية الحكايات كلها، أو كما يطلق عليها «تابوت الحياة». ويصل في نص «أكسير» إلى خلاصة تأملية تنوس بين الذاتي والكوني، ليقول في أسى: «العمر مرَّ/ ونحن في قلق نراوح بالمتاهة ذاتها/ لا نحن طلنا ما نريد من الحياة/ ولا الحياة بسيطةً في صفوها، ابتسمت لنا/ العمر مرَّ/ ولم نعد في زهو عصفورين؛ من غصن لآخر خائفين/ بأن تهبَّ الريح تفزعنا/ وتفشي ما نخاف» (ص79).
وعلى حركة الزمن في لحظاته المباغتة المدهشة، تنسج بقية قصائد الديون في القسم الرابع «فازات الدهشة» لتكثف شعريًّا لحظات الدهشة الفارقة في علاقة الحب، ففي رومانسية حالمة تتواشج التوقعات والاستباقات عما هو موجود في صندوق الهدية المقدمة، لتبدو الدهشة في عذوبة التكوين الرومانسي لاسم الحبيب بالورد. ومن الطريف أن هذا القسم يولده عنوانه فازات الدهشة، فقصائده تنكتب قريبًا من تفصيلاته وبعض محتوياته، فالأولى عن الأزرار تحت عنوان «ثقب»، وفي القصيدة الثانية المعنونة بحرف (M) الدال على اسمه، لعب على صندوق الهدايا، والقصيدة الثالثة بعنوان «غطاء»، والرابعة «فواحة» والخامسة «مانيكانات».
تلعبُ الذكريات دورًا مهمًّا في تشكيل نصوص الديوان على صعيدي المحتوى والبناء الشعري، سرديًّا ودلاليًّا. ولا تبدو الذكرى أو الذكريات في الديوان مرهونةً بتثمين قيمي لها، أو بتحديدها بوصفها ذاكرةً لواقعٍ سعيدٍ أو شقيٍّ، وإنما تبدو في حيز الترهين، أشبهَ بصورٍ تعتمدُ على البُعدِ التسجيليِّ الذي يُشفّرُ أجزاءً من الحياة، والسيرة الشخصية ليعيدَ إنتاجها بوعي شِعْريٍّ مُركَّزٍ. ويقترب حبيبي في هذا الديوان من تجميع خارطة كاملة لنصوص «فاطمة»، الملهمة الشعرية، والحياتية في آن، فيقبض على جمرة الشعري في المعيش واليومي وتفصيلاته، من دون أن يغرقه في دوامات الغموض أو اللغة النثرية الساذجة بل بإيقاع شعري خافت يتوازى مع نبرة تأملية وروح محلقة في عوالم الحلم والذكرى.