الجدار العراقي.. من تمجيد الشخوص وتسويق الشعارات إلى الاحتجاج الغاضب
أوّل كتابة عرفها التاريخ، كانت المسماريّة، استُدل عليها من بقايا الألواح الطينيّة لدى السومريّين في وادي الرافدين، مثلما كانت «صحيفة الملك»، أوّل إشهار سومري، بهيئة أخبار وعلامات منقوشة على صحيفة من الحجر، بمعنى أنّ الكتابة في الفضاءات وعلى الأجسام الثابتة، قديمة بقدم وجود الإنسان على الأرض. هذه الكتابة التي كانت تدوّن على الألواح والموادّ، تحوّلت من توظيف الصورة إلى توظيف الإشارات والرموز المنحوتة بالمسامير. إنّ أي مُطالع لهذه الرموز، ينتبه إلى طابع إشغال المساحة الطينيّة كلّها، التي تتيح للمتابع أن يحسب كلّ لوح على أنّه جدار وحده، وإذا ما توقفنا عند محتواه، فهو مراسلات وتداول يخصّ أحوالا حياتيّة وما إلى ذلك. أليس قانون أورنمو وشريعة حمورابي، جداريات، ضمّ الأوّل من بين جملة ما تألف منه قوانين ولوائح لمسائل الأحوال الشخصيّة، في حين حدّدت قوانين الملك البابلي مسارات السلوك في إمبراطوريته.
جدار محكوم بالتقلّبات
في العراق الحديث، كان الجدار مرتبطًا بكلّ التقلّبات التي عرفتها الحياة العراقيّة، سياسيًّا واجتماعيًّا، ثمّة منشورات سريّة ولافتات معارضين احتضنتها جدران شوارع بغداد، لعلّ شارع الرشيد كان أبرز الشوارع التي شهدت هذا الاشتباك الشعاراتي، وثمّة لافتات كثيرة رفعها متحزّبون ومتنافسون في دوامة التأسيس للدولة العراقيّة أولًا، أو للاحتجاج على معاهدات أو اتفاقيات سالفة ثانيًا، وفيما بعد أيضًا في ظلّ الانتقال من الحكم الملكيّ إلى الجمهوري، في تعاقب دموي شغلت تفاصيله مئات الصفحات. نعم بفعل الانغلاق الطويل الذي قبعت فيه الساحة العراقيّة لعقود، فإنّ التداول والتناول الأوّل لفنّ الغرافيتي، لم يكن ليحدث إلا قبل سنوات قليلة، إذ لم يكن على الجدار العراقيّ غير ما هو حزبيّ أحاديّ مرتبط بتمجيد شخوص أو لتسويق شعارات.
بعد إبريل 2003م، ومع الاجتياح الأميركي للبلاد، كان هناك غرافيتي «سياسي» و«أيديولوجي» أيضًا، تلخّص في كتابات عبّرت غالبيتها عن مطالبات بمحاكمة رموز الحقبة السابقة في زمن البعث، واتّسم قسم منها بالتعبير عن توجّه عنفي، سواء تلك التي ابتهجت بسقوط صدّام، أم الكتابات القليلة التي أدرجت خفية وكتبها مناهضو تغيير النظام، وكتابات في السياق نفسه المرتبط بردّة الفعل، رفضت الوجود الأميركي ودعت لمواجهته على أرض العراق. ومن بين تلك النماذج عبارات: «يسقط البعث المقبور»، و«الموت للعملاء والخونة»، و«كلا كلا أميركا»، مع صور لجماجم وضعت إلى جوار هذه الكتابات.
عبّر أيضًا مناصرو الأحزاب المعارضة عن نمط من الإعلان عن عودتهم ومزاولة نشاطهم الجديد من داخل بغداد، بعد عقود من النفي والملاحقة، من خلال كتابات أرادت القول: إنّنا هنا، واشترك في ذلك الفعل أحزاب إسلاميّة وعلمانيّة أيضًا كانت محظورة في زمن البعث.
وفي ظلّ استثمار الأحزاب السياسيّة بعد عام 2003م، بكلّ تلاوينها سواء الدينيّة منها أم المدنيّة، للجدران وللأبنية العالية في بغداد، كانت هناك كتابات عفويّة على الجدران يقوم بها شباب وفنّانون موهوبون، رفضت في بعض ثيماتها الوضع العام واحتجّت عليه، حيث بدأت تجسيداتهم تتوزّع على جدران المدينة، في وسط بغداد وفي محال الملابس الشبابيّة ضمن أحياء المنصور والكرّادة، وفي الصالات الرياضيّة، ومحال الحلاقة، في مسعى واضح للالتحاق بالعالم الآخر البعيد، وإنْ كانت في أمكنة مغلقة قبل عام 2010م؛ لخشية الرسّام من بطش المتطرّفين الذين لا يروق لهم أي نهج خارج السياق الاجتماعي المعتاد.
فن احتجاجي
عرفنا في المشهد العراقي بعد إبريل 2003م، غرافيتي بالضدّ من الخطاب المهشّم للبنية الاجتماعيّة العراقيّة، ممثّلًا في رسومات عن شواخص عراقيّة من معالم وأيقونات لها مكانتها لدى عموم العراقيّين، ومعها عبارات عن «العراق بوصفه وطنًا للجميع»، وغرافيتي احتجاجي آخر عرفناه عبر مشروع للمخرج الشاب سجاد عبّاس بكتابة عبارة: «أگدر أشوفك» (أستطيع رؤيتك) أعلى مبنى المطعم التركي وسط بغداد، قبالة مقر الحكومة والبرلمان في المنطقة الخضراء، التي مسحت حروفها بعد مدة من كتابتها. حتّى عام 2016م، بقيت تجارب الغرافيتي تسير بالتوازي مع الحراك المدني ومسعاه لإعلاء شأن الهويّة الوطنيّة، ومن ذلك المحاولات الشبابيّة التي احتضنتها بعض المهرجانات التي أقيمت في يوم السلام العالمي على حدائق شارع أبي نواس. ومع هذا التوجّه التعبيري بواسطة هذا الفنّ، طالعنا كتابات محليّة أنتجتها الأحداث، بعضها احتجّ على فيضانات بغداد أيّام الأمطار، وبالتحديد في عام 2013م، بكتابة عبارات تنتقد الواقع الخدمي بنحو ساخر، مثل العبارة التي وضعت شمال شرق بغداد ويقول نصّها: «هنا معبر رفح»؛ لصعوبة العبور من الجانب الأيسر للشارع إلى الأيمن فيه بفعل الفيضانات. أيضًا استثمر بعض الشباب هذا الفنّ برسم غرافيتي وعبارات عن حبيباتهم، وعن ذكريات لهم تتعلّق بقصص حبّ انقضت وصارت ذكرى على حائط ليس إلا.
بعد عام 2016م، وبإطلاق كلّ من بيت الشعر العراقي لفعاليّة «الجدران ليست لثارات العشائر»، و«مجموعة السياسات الثقافيّة في العراق» في فعالياتها المعنية بوضع السؤال الثقافي بين الناس، كنا أمام تجربة من «الغرافيتي الثقافي» الموجّه، حيث احتجّت الفعاليّة الأولى على الثارات العشائريّة وعبارات التهديد التي صارت تكتب على الجدران، بأعمال فنيّة وظّفت مقاطع شعريّة، ودعت الفعاليّة الثانية المتلقي العراقي للتوقّف عند سؤال: هل تعرف؟ رافع الناصري، وحسب الشيخ جعفر، وعوني كرومي، وغيرهم من مبدعي العراق الذين ربّما لا تعرفهم الأجيال الجديدة والناس المشغولون بيومياتهم..
شهدت البصرة في فبراير 2017م أيضًا، غرافيتيًّا احتجاجيًّا انتقد قرارات ترمب التي قضت بمنع منح تأشيرات الدخول لعدد من الدول، من بينها العراق الذي جرى استثناؤه فيما بعد. في هذا العمل جعل الفنّان أركان البهادلي نصب الحريّة مرتعبًا من قدوم ترمب. إنّ الجدران الكونكريتية التي طوّقت المدن، واستُخدمت لعزل بعض الأحياء عن بعض، أو لإبعاد خطر السيارات الملغمة عن المدنيّين، ولضبط حركة الدخول والخروج من وإلى الأحياء والأزقّة، هذه الكتل الصماء جميعها التي تبعث على الكآبة، أفادت في أن تكون ميدانًا التقت فيه كلّ هذه المحاولات الفنيّة، في مراحل شتّى، سواء في مرحلة الرسومات البسيطة أم في المرحلة التي قدّمت فيها هذه الأعمال بطريقة أكثر احترافية. وبدلًا من أن تظلّ هذه الكتل مطلّة بسوداويتها وقيودها، راح بعض الفنّانين يتحدّون الواقع من على سطوحها؛ لتكون وسيلة من وسائل الرفض والدعوة إلى التغيير أو نشدان طموح ما بطابع جمالي استمد قوّته من طاقة الألوان. أمّا هويّات رسّامي هذا الفنّ، لم تكن مخفيّة دائمًا، وبخاصّة بعد عام 2011م؛ إذ حرص كثير منهم على التعريف بنفسه ووضع اسمه أو ما يرمز إليه، على عكس التجارب العالميّة التي يكون فيها مبدع الغرافيتي غير معروف للمارّة أو مجهولًا في الغالب.