أطلال الكتابة.. خرائب الذاكرة
هيلين سكسو، إحدى أبرز الوجوه الفلسفية والنقدية المعاصرة؛ صاحبة عشرات الكتب التي أثّرت في نظرية الأدب والتوجهات النسوية المعاصرة منذ ستينيات القرن الماضي. صدر لها مع نهاية السنة الماضية (2020م) مُصنفان تضيفهما إلى سيرتها الفكرية والأدبية الحافلة والـمثيرة؛ الأول «رسائل الفِرار» وهو مزيج من السرد والنقد، كتابة متحررة من قيود البحث الأكاديمي التي تكبل طاقات الكاتب وتكبح مخيلته، ويقع هذا المصنف الضخم في نحو 1200 صفحة، عبارة عن ندوات ألقيت في الكلية الدولية للفلسفة خلال نصف قرن من الزمن، تنشرها اليوم للمرة الأولى عبر صفحات الـمجلد، لتقدم عبرها قراءات غرائبية لجويس، وكافكا، وبروست، معالجة قضايا الفقد والحرمان والترجمة والتحليل النفسي ونقد التراث ومناقشة الكتاب الـمقدس.
كتابها الثاني الذي يهمنا عبر هذا المقام، هو «أطلال مصفوفة جيدًا» (غاليمار، باريس)؛ إذ يُعد استكشافًا أدبيًّا جليلًا للآثار المترتبة على فقدان الذاكرة. تحفر سكسو من خلال صفحات الكتاب في «عمل الذاكرة» وليس «كتاب الذكريات»! من خلال الولوج داخل تلسكوب الذكريات العائلية والجماعية، مبتكرةً شكلًا كتابيًّا نوستالجيًّا وشعريًّا مكلومًا. نص يُصارع تلك المشدات اللغوية التي تقتل الحياة. فهدفها المرسوم: «مقاومة ترقيم النقطة، أو قوة التثبيت، جمود النقطة، وطريقة انقسامها» (ص 109). هكذا تُهَيِّئُنا سكسو لاقتفاء خطاها وخطى أمها، وتتبع خطى النساء اللائي اضطررن مثلها إلى الفرار والـمنفى، مجندةً آلية اللغة وعمل الذاكرة وفسحة الخيال في حكيها، عبر مزيج من التسلسلات الزمنية التي تتراقص بين الحاضر والـماضي الغابر مرورًا بثلاثينيات القرن الـمنصرم. كتابة الخرائب هي كتاب يرفض أن يكون سردًا للأحياء فقط، بل تهيم حروفه كرًّا وفرًّا تطاردها أشباح الآلام، ورماد الحيوات التي تحاول الوجود على الرغم من وجودها العصي على التحديد. كتاب قلق ومحير يوضح كيفية «العيش/ الإقامة» (في) الحياة بشكل مختلف من دون مطاردة الأشباح أو «هانتولوجيا» (Hantologie) كما كانت تتصيد ذاكرة صديقها التفكيكي جاك دريدا.
طواف بالذاكرة التاريخية
«هذه ليست عودة. لم أرغب قط في العودة. في رأيي لا يوجد شيء ولا مكان. لن يعود أحد إلى أوسنابروك.. فماذا إذا لم تكن عودة؟ إلى أين نذهب؟» (05-07). تلك الجملة تفتتح بها سكسو الكتاب، ويتبعها وابل من الأسئلة التي لا يخرس صوتها ولا ينقطع صداها. سرعان ما نفهم أنها رحلة داخلية، تجربة باطنية ممتدة عبر حلقات ودوائر سردية تتكون من رحلات حقيقية عدة، تقوم بها الراوِية بمفردها أو مع أطفالها، أو عبر تقاسيم والدتها في مرحلة ما من التاريخ، وكذلك الرحلات التي حلمت بها، التي لا تقل إثارة للاهتمام من غيرها. نحن في حكاية تموج بالأزمنة المتداخلة والأفكار الـمتناسلة، كتبت هذه الخرائب للمضي بالذاكرة قُدمًا، من خلال عبور الحلقات في الفضاء والزمان مرورًا بالأماكن نفسها، لنرى ما لم نعد نراه. لرؤية «الأطلال الأنيقة» تلك الموجودة في الكنيس القديم الذي يشد نظر سكسو ويؤرق ذاكرتها الـمعطوبة، الأطلال هي «ما تبقى» من مبنى الكنيس الذي أحرقه الحشد النازي سنة 1938م. إنه نصب تذكاري غريب، شُيِّدَ كعلامة على الإصلاح والاعتراف وترميم الذاكرة، وهو ما يلهم هيلين سكسو في تأمل مرتبك ومقفر للمدينة التي تُلقب بمدينة السلام: «أوسنابروك».
يقع شارع الكنيس القديم في وسط مدينة أوسنابروك، إحدى التقطيعات الإدارية في ولاية سكسونيا السفلى (نيدرزاكسن بالألمانية)، ويسمى الشارع «مسار الساحرات». من خلال هذا الأزقة والدروب اقتدْنَ إلى الـمحرقة، هي الأزقة ذاتها التي شهدت مصاير اليهود نحو حتفهم الأخير. خلف السياج، مجموعة مرتفعة من الأنقاض والحجارة الكبيرة. هذه هي عظام الكنيس القديم (كانت بالفعل شابة وجميلة، في عامها الثلاثين) التي بقيت مجرد عظام مرتبة بعد حرق الجثمان.
في أجمل وأغنى منطقة في أوسنابروك، مدينة ريمارك ونوسباوم، في وسط المدينة، حيث شارع الكنيس القديم، ترقد الخرائب بجلال وسلامٍ في مساحة مستوية بين مسكنين أنيقين داخل المدينة. «الأطلال؛ إنها هنا» (ص: 17). مخزن الذاكرة والنسيان الذي استقر خلف الأسوار. على الشبكة السلكية على مستوى العين، تعكس أربع لوحات من النحاس المصقول تقويمًا مؤرخًا ليوم 9 نوفمبر 1938م، وهي ألواح متلألئة من ليلة الرعب التي حولت مسار أجداد سكسو وتحولت أوسنابروك من مدينة الوئام والسلام إلى مدينة للخراب وسفك الدماء، «هنا نحتفظ بالرماد» كما تقول سكسو. هنا وقّعت كل ممالك أوربا على معاهدة ويستفاليا عام 1648م، نهاية هذه الحرب التي استمرت ثلاثين عامًا مُخلّفة وراءها ملايين الأشباح المقتولة ملقاة في الشوارع، هنا في خريف 1938م فقدت المدينة الجميلة حُلّتها البيضاء لِتُلَوَّنَ سماؤُها بالسواد والرماد. حيث أشعلت النازية النار في يهودها، كما أشعلت النار في ساحراتها بالأمس، وهنا استيقظ طائر الفينيق من فوره بعد الكراهية المكرسة للسلام والضيافة إلى الأبد. أطلال أنيقة ومرمـمة ومصفوفة (ص: 45) هل أنتم بالداخل، هل أنتم بالخارج، هل أنتم أحرار؟
تُعد أوسنابروك، في البداية على الأقل، مركز الكتاب. إذْ تلخص هيلين سكسو في الغلاف الخلفي للكتاب كل ما يمكن معرفته عن المدينة الصغيرة في ولاية سكسونيا السفلى التي أسسها شارلمان سنة 783م، حيث وقعت جميع ممالك أوربا سنة 1648م على معاهدة ويستفاليا الشهيرة التي أنهت حرب الثلاثين عامًا. قبل أن أكمل: «هنا في سنة 1928م دون أن نفقد لحظة، مدينتنا الجميلة أصبحت نازية» (ص 11). الباقي، عبارة عن عمق للقصص الحية، تلاشى الجسد إلى الأبد، ما لا يمكننا العودة إليه، نكتشفه من خلال الصفحات والشوارع واللقاءات، عبر لغة حالمة ودقيقة. في لحظات مختلفة من الكتاب، ذُكِرَ بعض النساء المتهمات بالسِّحر، كنقطة مقابلة لأهوال أحدث. كانت أوسنابروك مدينة عائلة هيلين سكسو من جهة الأم، حيث تتجلى الحكايات والصور. نرى صورة قديمة لمنزلهم الكبير، في المساحة المدمرة الآن حيث بُنِيَ مقهى جديد، «كل شيء في مكان كل شيء داخل هذه المدينة الصغيرة». عاشت والدتها طفولتها ومراهقتها هناك، لكنها هربت قبل أن يحل الأسوأ باليهود. عادت إلى حياتها الجديدة، في فرنسا ثم في وهران بالجزائر، حيث عملت قابلةً لمدة طويلة، وخبرت السجن سنة 1962م، ثم الطرد عام 1971م، وهو مصير لا يُصدق، وأصبح موضوعًا رئيسًا في نهاية الكتاب.
الكتابة في مواجهة الكراهية
وافقت إيف كلاين، والدة هيلين، بدافع التأدب، على حد قولها؛ لأنها دعيت للذهاب إلى أوسنابروك سنة 1985م لحضور حفل رسمي. اجتمعت فيه مع صديقاتها اللاتي نَجَوْنَ من المدرسة الثانوية، وتشهد صورة في منتصف الكتاب على هذا الاجتماع. تتخيل ابنتها هيلين حواراتهن، وتؤكد كيف تبدو والدتها الوحيدة التي ترتدي البنطال مختلفة عن الأخريات «السيدات الـمسنات»، وحذاءها المتين على قدميها، كأنها جاهزة دائمًا للانطلاق والـمضي قدمًا.
عليك أن تدخل في الحكي، وتتبع تحريفاتها، وأن تجمع ما تحمله من التاريخ الجمعي، وهو حدث معين لكنه رمزي للغاية، للمذبحة العظيمة التي تعرض لها يهود أوربا. شيئًا فشيئًا، في أثناء كتابة الكتاب، تتسلل قصة أخرى، أو كشف لقراءة أخرى. آف/ حواء، الأم التي اختفت سنة 2013م، وها هي ابنتها هيلين تحاول ترميم القصة وإعادة بناء حياتها بشكل متخيل، عبر أنسجة اللغة، من خلال مقتطفات من الكلمات المحفوظة، والأوراق الغامضة التي عثر عليها عند إفراغ المنزل، تجد نفسها في مركز البحث، «في مركز العالم» لاستئناف العنوان الجميل للجزء الأول. أوسنابروك «رتبت جيدًا» أنقاض الكنيس، لكن ما عسانا أن نقدم عليه؟ غير محاولة ترتيب ذكريات موتانا على طريقتنا الخاصة، لمواصلة الحوارات الخيالية معهم.
في هوسها بالزمن، تدعو الكاتبة إلى الحياة بشكل مرجأ ومختلف، حيث يحضر موتاها في اللحظة التي تقاس فيها كتابتها في الزمن الحاضر عبر كرونولوجيا زمانية متعددة: فالكتابة تتحدث عن قرون عدة لإظهار النقاط العمياء في العالم. الغارقة والـمحترقة والمُبادَة التي لا تزال تعوي في مِحَنها. يرتكز الكتاب على الخرائب والأحجار المتبقية التي ظلت شاهدة على الكراهية المستشرية ضد الإنسان، احتضنت سكسو البقايا والأشلاء التي تعود مآسيها إلى قرون عدة وخلّدَتها في هذا الأثر الأدبي. عبر الخلق الفني تنخرط فنون الكتابة لفتح أبواب الماضي لعيش الـحاضر عبرها.
تعلمنا سكسو عبر صفحات العمل أن الكراهية نيران حرب ورفض لخلق الآخر، إنها تثبت أن الكراهية نرجسية: فهي تهاجم كل ما في الحياة؛ لأنها تعتقد أنها محرومة منها. وهذا دليل على أنها ظلت، منذ فجر التاريخ، مستهلكًا غيورًا. في مواجهة القرابين، ابتكرت هيلين سكسو -من خلال البُعد الشِّعري لكلماتها خطابًا ضد الموت الذي كان يُمنح بوفرة وقسوة وعنف- تأريخًا شاملًا للعائلة، مخلفة وراء الأطلال بريقًا جينيالوجيًّا للمكان عبر اللغة في مزج جمالي مليء بالحساسية، وخصوصية المدينة، والكوابيس، والخوف، وبرودة المنافي، ورائحة الـموت النتنة، وسموم الـعالم التي كانت تبيد كل صورة من صُورِ الاختلاف.
يُصبح الحكي وسيلة للقتال من أجل الانفتاح على الغيريات. ويفضح ويزدري قهر البطريركية ليجعلها راعية «الكتابة الأنثوية» كما نعرف. فمعركتها ضد التمييز العنصري ومعاداة السامية وكراهية النساء لم تستثنِ معاركها الأخرى ضد التمركز القضيبي والعقلي لكن حيث ترسم بجمال ووضوح بارعين قصتها الرائعة المتمثلة في اتخاذ موقف ضد ذلك القهر المسلط على النساء. إن رائحة الإنساني موجودة عبر تفاصيل العمل، والكاتبة تدعو إلى نسخة جديدة من العالم عبر التنفس والتنفيس، ومن خلال الحبر والشعر والفن للتعبير عن الـمأساوية الحميمية والصامتة للعالم، تحاول هيلين سكسو عبر اصطياد الحروف رَتْق الجروح التي أحدثها التاريخ.
للنساء.. ضِد الكراهية
بدلًا من أغنية حزينة، أطلقت المؤلفة دعوة للانفتاح، تتحدث عبرها نيابة عن ساحرات العصور الغابرة، واليهود الذين صُفُّوا ببرودة الكراهية المتعطشة للإبادة. لكنها لا تتوقف عند هذا الحد: من نقطة التثبيت هذه حيث تعيش عائلتها، تدافع في سرد متعدد التزامنية عن النساء: ضحايا «تمركز العقل القضيبي». إنها تفكك التاريخ لإعادة بنائه من خلال إلقاء الضوء على النقاط العمياء فيه، عن طريق تحرير أرخبيلات غيريات أخرى.
منذ ذلك الحين، تنخرط الكاتبة في الحياة عبر الماضي لصالح مستقبل آخر يُفرغ من جوهر الأساس البشري الـمميت. إنها تعلم أن الكراهية ليست ممكنة، بل خميرة للحرب، ورفضًا لخلق الآخر، وادعاء القضاء على ابنة القدرة الذكورية المطلقة. باختصار، إنها تثبت أن الكراهية نرجسية، وأنها تهاجم كل جميل في الحياة؛ لأنها تعتقد أنها محرومة منها. تشرح هيلين سكسو كيف تنشأ الرغبة المرضية والأولية للاستيلاء على ما يفترض أن يمثله الآخر. وريثة مونتين وشكسبير وستاندال، تخلق سكسو شاعرية موجهة ضِد كل ما يدمر، وضد أولئك الذين يعملون باسم سيطرتهم ومعتقداتهم لجعل بقية الإنسانية تختفي.
تتشابك العصور، وتتجسد قسوة الإنسان أو البشرية باستمرار. لكن الأمور تتغير، ومع ذلك، ينشأ بشكل تدريجي نادٍ نسائي من جميع البلدان؛ نساء يسكن أجسادهن وذاكرتهن تاريخٌ معذب، وتعذيب مرير؛ النساء اللاتي تتخذ سكسو من جراحهن فضاءً غير محدود للكتابة، كرد «متشدد» على «رائحة بشرية مقززة في بعض الأحيان» (ص 85-89).
تقدم هذه الأطلال الـمصفوفة والـمرتبة جيدًا رحلة عبر التاريخ، قصة تتدلى فوقها سُحب أهوال الماضي داكنة، وتكتظ الحجارة والأنقاض بالهسهسات والهمسات والشكاوى والـمخاوف؛ لكنها تستعيد جموحها في فك عقدة اللسان لخرق العبور، بحثًا عن أنفاس عالم لا يعضد كراهية الإنسان أخاه الإنسان. تخترق لغة هيلين سكسو اللاوعي البشري لترى كيف يمكن لجذوره تحت الأرض أن تتحدث مع السماء، ومن ثم تقدم في هذا النص درسًا في المقاومة ومواجهة المعاناة والشكوك والوحشية البشرية.