فرانك ويلتشيك حائز جائزة نوبل: الجمال هو السلاح السري للفيزياء
ما الطبيعة الحقيقية للفيزياء المعاصرة؟ هل هي شكلٌ من الفلسفة الأفلاطونية المحدّثة بعد أن ألبَسها الفيزيائيون ثيابًا جديدة؟ الفيزياء المعاصرة تتداخل مع المباحث الفلسفية بنيويًّا حتى لم يعُد ممكنًا تصوّر وجود فلاسفة أصلاء من دون أن يحوزوا تدريبًا معقولًا في الفيزياء والرياضيات، وربما كانت معضلة الأسئلة الكبرى الخاصة بالأصول الثلاثة: الكون والحياة والوعي، واحدة من أعقد فضاءات الاشتباكات المعرفية في العلم المعاصر.
نحن ندرك الجمال عندما نراه. أليس هذا صحيحًا؟ الأمثلة كثيرة، وتمثالُ ديفيد لمايكل أنجلو واحدٌ فحسب من هذه الأمثلة. هل يمكننا قول الشيء ذاته بشأن الكون؟ يرى فرانك ويلتشيك، بروفيسور الفيزياء في معهد ماساتشوستس التقني MIT، أنّ بمقدرونا فعل ذلك؛ بل يتوجب علينا أن نفعل. في كتابه «سؤال جميل: إيجاد التصميم العميق للطبيعة» يقدّم مقاربته الخاصة حول أناقة الرياضيات والاتساق المفاهيمي لقوانين الطبيعة.
ويلتشيك فاز بجائزة نوبل في الفيزياء بالمشاركة مع ديفيد غروس وهيو ديفيد بوليتزر، لاكتشافهم معادلات تحكم سلوك واحدة من القوى الأساسية في الفيزياء، التخصص الفيزيائي الدقيق لويلتشيك هو النظرية الكمومية؛ لكن تأثير أعماله بدا واضحًا للغاية في حقل الكوسمولوجيا (علم نشأة الكون وتطوّره) وبخاصة دراسة الثقوب السوداء، والمادة المظلمة، والأحجية القديمة الخاصة بكيفية انبثاق شيء من لا شيء.
سعى ويلتشيك منذ بداياته إلى فهم التصاميم الشائعة في الطبيعة، نما لديه الشغف منذ أن كان طالب رياضيات شابًّا، يقول: «أحببتُ دومًا اللعب مع الأنماط، والتفكير بشأن ذلك النوع من التجريد. كنتُ مولعًا دومًا بالمنطق الرياضياتي الذي أراه فرعًا من الفلسفة، كما تملّكني شغف لا حدود له بالنظرية الخاصة بكيفية عمل العقل. درست شيئًا من البيولوجيا العصبية وعلم الحاسوب وأنا في خضم محاولاتي الحثيثة للكشف عن كيفية تداخل الأنماط المجردة في عمل العقل».
ويلتشيك ليس فيزيائيًّا نظريًّا ذا ريادة في ميدانه فحسب، بل هو أيضًا دارس مولع بالفلسفة، وعاشق محبّ للشاعر الإنجليزي ويليام بليك، ومعماري عصر النهضة الإيطالي فيليبو برونيلليتشي. في هذا الحوار معه ظلّ ويلتشيك حاضر الفكاهة، لم تفارقه الضحكة، كان مغتبطًا بالقفز من فكرة إلى أخرى، ولم يختلف الأمر سواء أكان يتحدث عن نظرية الأوتار، أو فِلْم ماتريكس، أو الذكاء الفطري للحيوانات، أو التصورات الفلسفية المبتسرة لبعض العلماء على شاكلة نل ديغراسه تايسون.
المترجمة
● تقول دومًا: إن جمالًا يوجد في تصميم الطبيعة، يبدو الأمر مسألة يختص بها علم الجمال.. هل ترى في هذه الموضوعة مادة علمية؟
■ نعم إنها مادة علمية. السؤال الدقيق الذي أحاول مقاربته والحصول على جواب مناسب له: هل يضمُّ العالم أفكارًا جميلة في بنيته الأساسية؟ كما ترون فإن السؤال يختصُّ بالعالم من جانب وبالجمال من جانب آخر. الجمال موضوعة ذاتية كما نعرف جميعًا، يتمظهر في أشكال عدّة؛ لكنّ ثمة سجلًّا تاريخيًّا في الفن والفلسفة يمكن أن يستعين به المرء لمعرفة ما الذي يراه الناس «جميلًا» على أساس موضوعي. يمكن -مثلًا- أن نستشير العلم، ثم نقارن المعطيات الناتجة الخاصة بالسؤال الآتي: هل المفاهيم المنبثقة من القوانين الأساسية للطبيعة تحوز شيئًا مشتركًا بينها يتماثل مع ما يجده عامة الناس جميلًا؟
● هل يبدو أمرًا ذا شأن للعالِم فيما لو كان العالَمُ جميلًا؟
■ لا أظنُّ أنّ العلم شيء يمكنُ تسويره بجدران عازلة تبعده من الحياة؛ لذا أقول: نعم، إنه أمر في غاية الأهمية لي أن يكون العالَم جميلًا. ثمّ إنّ الأمر ينطوي على سؤال ذي أهمية عملية للفيزيائيين والمهندسين والمصمّمين: في الجبهات المتقدّمة للفيزياء نتعامل مع عوالم فائقة الصغر أو الكِبر أو الغرابة، والخبرة اليومية ليست بالدليل الجيّد لنا فضلًا عن أنّ التجارب المعملية يمكن أن تكون صعبة للغاية وباهظة التكلفة؛ لذا فإنّ مصدر الإلهام لنا في هذه الحالات ليس شيئًا مُستلًّا من الخبرة اليومية أو من التراكم الضخم للحقائق بقدر ما يتأتّى من مشاعرنا بشأن ما الذي يمكن أن يضفي على قوانين الطبيعة قدرًا أعلى من الاتساق والتناغم. لطالما استرشد عملي بموجّهات نابعة من محاولتي جعل قوانين الطبيعة أكثر جمالًا.
● ما القانون الجميل؟
■ خصيصتان اثنتان تتشاركهما القوانين والمعادلات التي يجدها الناس جميلة. الأولى ما أدعوه الحيوية والمقدرة المنتجة حيث يكون بالمستطاع الحصول على ناتج أوفر من الجهد المبذول في صياغة القوانين والمعادلات. تجدُ -مثلًا- معادلة ما أو قانونًا ما بوساطة تجميع بعض الملحوظات معًا أو من خلال تخمين ما، ثم يمكنك توضيح سبعة أشياء أخرى جديدة؛ عندها تعرفُ أنك تمضي على المسار الصحيح، وهذا هو المقصود بالقول: إنك تحصل من هذا القانون أو هذه المعادلة على أكثر ممّا بذلته فيه من معطيات. التناظر خصيصة ذات أهمية استثنائية في القوانين الأساسية للطبيعة، هو نوع من الغموض لكنه يشيرُ ضمنًا ولو بشكل من الأشكال إلى التناغم والجمال؛ أما الاستخدام العلمي له فهو أكثر دقّة من الانطباعات اليومية العابرة والعامة، وقد كان دومًا أمرًا مثمرًا لأبعد الحدود في النظريات الفيزيائية. إنه تغيير من غير تغيير! أنت تستطيع إجراء تغييرات محدّدة على الأجسام المادية أو على قوانين الطبيعة بُغية إحداث تغيير فيها؛ لكنك في النهاية لا تفعل! الدائرة -مثلًا- تُبدي صفة تناظرية، بمعنى أنك تستطيع إدارتها حول مركزها بأية زاوية تريد؛ ومع ذلك تبقى الدائرة على حالها من غير تغيير. معظم الأشكال الأخرى مثل المثلثات تبدو مختلفة عن الدائرة فيما لو أدرتها حول مركزها.
● إذن لو انطلقنا نحو أعمق الهياكل البنيوية للكون أي قوانين الفيزياء، هل تقولُ بوجود تناظر بنيوي عميق فيها؟
■ نعم. تفكّر في حقيقة أن قوانين الفيزياء أبدية. هذا أمرٌ لا يبدو مثل خاصية التناظر، صحيح؛ لكنه في النهاية أمرٌ ناجمٌ عن حقيقة أن هذه القوانين لا تتغيّرُ مع تقادم عمر الكون؛ إذن نحن نلمسُ في الحالة تغيرًا من غير تغيّر! وهذا جوهر التناظر.
● لِنفترِضْ أن الكون لم يحتوِ أيًّا من الأفكار الجميلة أو البنى الرياضياتية الأنيقة؛ هل يمكننا والحالة هذه تخيّل الشكل الذي ستكون عليه قوانين الطبيعة فيما لو كانت ملأى باللاتناظرات؟
■ لطالما تصارعتُ فكريًّا مع هذا السؤال، وثمة تجربة فكرية أجدها ملهمة للغاية في هذا الشأن: مع التحسّن المطرد في عمل الحواسيب، ومع تحسّن قدرات الذكاء الاصطناعي، يمكن للمرء إجراء تجارب فكرية محسوسة مشابهة للنمط الذي خبرناه في فِلْم ماتريكس، حيث يمكن للذكاء أن يتجسّد بواسطة عمل حاسوب متطوّر، وما يظنه الحاسوب عالمًا خاصًّا به هو في الحقيقة شيء مُبَرْمَج مسبقًا لتقبّله عالمًا له.
● إذن نحنُ نعيشُ فعلًا في محاكاة حاسوبية؟
■ دعنا نتخيّل أنفسنا في عالم لعبة سوبر ماريو. قوانين الفيزياء في هذا العالم لا تبدو جميلة بأي شكل من الأشكال لأنها تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان؛ ومع أن القوانين الحاكمة لسوبر ماريو تسلك بصورة غريبة لنا لكنها تبدو متسقة منطقيًّا بالنسبة لشروط اللعبة وفي الوقت ذاته مختلفة كل الاختلاف عن الكيفية التي يعمل بها عالمنا، حيث قوانين الفيزياء لا تتغيّر بتغيّر الزمان أو المكان، كما أنها تمتاز بخاصية إمكانية الإعادة أي بمعنى متى ما فهمت كيفية عمل الأجزاء الصغيرة يمكنك بالاستنتاج فهم كيفية عمل الأجزاء الكبيرة؛ في حين في عالمٍ مبرمج بصورة مسبقة فإنّ الأمر كله يعتمد على المقاصد المسبقة لمبرمج اللعبة. إنّ قوانين العوالم مسبقة التصميم لا يتوجّبُ عليها أن تكون ذات معنى أو أن تكون جميلة؛ لذا لا أرى وجود ضرورة منطقية لهذه القوانين. بالطبع ربما كانت قوانين الفيزياء أكثر استعصاءً على الاكتشاف لو أنها لم تكن جميلة بالمعنى الذي بيّنته فيما سبق؛ لذا فإنّ إمكانية فهم هذه القوانين هي بالنسبة لي مسألة أكثر غموضًا من جمالها. ليس على القوانين الفيزيائية أن تكون جميلة؛ لكنها جميلة في حقيقة الأمر.
آينشتاين والجمال في الطبيعة
● هل كانت موضوعة الجمال ذات أهمية بالنسبة لآينشتاين وسواه من مؤسّسي صروح الفيزياء الحديثة؟
■ بالتأكيد على الرغم من أنهم لم يفكّروا بشأن موضوعة الجمال بصورة صريحة دومًا. كان لآينشتاين وجيمس كلارك ماكسويل نزولًا حتى نيوتن تلك الغريزة بتجزئة أية مشكلة إلى مجموعة من مشكلات ثانوية صغيرة، وهم إذ فعلوا هذا تملّكتهم قناعة بأن المشكلات الصغيرة قابلة للفهم، ثم يمكن فهم المشكلة الكبرى الأصلية. كان آينشتاين شخصية محورية في دفع ذلك الجانب من جوانب الجمال في الطبيعة، أعني خاصية التناظر، إلى آفاق جديدة. إنّ نظرية النسبية تنتمي كثيرًا إلى عالم التغيّر من غير تغيّر الذي حكيتُ عنه سابقًا: يمكنك بموجب نظرية النسبية أن تنظر للعالم من منصّة متحرّكة، وسترى أنّ كل الأشياء المختلفة التي تندفع نحوك أو بعيدًا منك ستبدو مختلفة لك؛ لكن قوانين الفيزياء ذاتها التي تنطبق على المنصات الثابتة ستنطبق على المنصّات المتحرّكة. هذا جوهر نظرية النسبية.
● هل ترى أنّ البشر يزيحون النقاب حقًّا عن البنية العميقة للكون؟ أم إنّ ما يفعله البشر هو الكشف عن نسختنا البشرية بشأن ما ندعوه الواقع، واضعين في الحُسبان الكيفية التي تعمل بها أدمغتنا، فضلًا عن الكيفية التي نرى بها العالم؟
■ الفيزياء تعمل بصورة حسنة. ليس في مقدورنا تصميم أجهزة الآيفون أو مصادم الهادرون الكبير LHC أو ترتيب رحلات فضائية إلى كوكب بلوتو من غير وصف دقيق للعالم يتناول كل التفصيلات الدقيقة. هذا الأمر ليس فانتازيًّا؛ لكن على الرغم من ذلك يمكن أن توجد طرائق مختلفة في تنظيم أفكار كل فرد فينا.
الكائنات البشرية حيوانات بصرية
● لديك تجربة فكرية مثيرة بشأن الكلاب أو الطيور، لو كان لهذه الحيوانات مقدرة على التفكير التجريدي؛ هل كانت ستُبدي مقدرة جيدة في الفيزياء؟
■ أعتقد أنّ الطيور ستكون جيدة للغاية في الفيزياء على خلاف الكلاب التي لن تكون بمستوى الطيور. يقوم عالم الكلاب بصورة جوهرية على حاسة الشم، وبالطبع يمكن للإحساسات الكيميائية أن تدعم حياة غنية بالتواصل وبتذوق الطعام. يمكن للكلاب حين تشمّ رائحة قطعة من كعكة المادلين أن تتذكر الماضي؛ لكنها حتى لو كانت ذكية للغاية ومستمتعة بحياة اجتماعية ثرية فسيكون أمرًا صعبًا أن تساعدها إحساسات الشم على فهم قوانين نيوتن في الحركة والميكانيكا. الكائنات البشرية حيوانات بصرية في الأساس؛ لذا فهي تحوز طائفة واسعة من الطرائق القوية القادرة على فهم الكيفية التي تتحرك بها الأشياء المختلفة في الفضاء.
● إذن ما الشيء المميز في الطيور؟
■ تمتلك الطيور طائفة واسعة من القدرات المماثلة للقدرات البشرية، بل حتى أكثر منها. إن تجربتنا البشرية محكومة باحتكاكنا مع أشياء كثيرة إلى جانب قوة الجاذبية الأرضية؛ أما الطيور فهي تنشر أجنحتها وتصفقها لبرهة ثم تتوقف بعد مدة وتمضي لتتزحلق في الفضاء كطائرة شراعية. هذا الأمر يؤكد أن الطيور تعرف الكثير بشأن خاصية القصور الذاتي. لدى الطيور أيضًا إحساسٌ حدسيّ بالنسبية، أي بأنّ قوانين الفيزياء لا تتغير بتغيّر الإحداثيات المرجعية للحركة متى ما كان الجسم يتحرك ضمن هذه الإحداثيات بسرعة ثابتة، وهي تختبر هذا كل يوم؛ لذا لو أنّ الطيور غدت ذكية فأظنّ حينها أنها ستحرزُ تقدّمًا سريعًا في الفيزياء يفوق بأشواط ما حققه البشر.
● أحد المخاطر المحدقة بالفيزيائي النظري هي إمكانية أن يقع مأسورًا في الفخ الناجم عن جمال معادلاته، ومن ثم اندفاعه المستميت في محاولة جعل كل شيء ينحشر حشرًا في مخططه النظري بحيث يصبح بعيدًا من العالم المادي الذي يعيشه. أنت كفيزيائي نظري تحتاج إلى اختبارات تجريبية للبرهنة على صحة الحقيقة المخبوءة في البنية الرياضية للمعادلات الفيزيائية؛ هل يشكّل الأمر معضلة مهنية لك؟
■ نعم بالتأكيد. أحبّ الفيزيائي العظيم ريتشارد فاينمان تكرار القول بأنّ الفيزيائي لديه الخيال؛ لكنه خيال محشور في سترة المجانين. أما أنا فيَعني هذا مستوى مختلفًا من الولع عندما يكون بمقدور أفكار المرء أن تقترح نتائج تجريبية مسبقة يمكن اختبارها بالتجربة لاحقًا.
الهجمات على الفلسفة فقر في الخيال
● ماذا لو لم يكن ثمة «نظرية كل شيء» بمقدورها توحيد كل قوانين الفيزياء؟ ما الذي سيتركه الأمر على رؤيتك للطبيعة بكونها عملًا جميلًا ينقاد لقوانين جميلة؟
■ ستبقى مقاربتي حينذاك جميلة أيضًا. نعرف اليوم وجود قوانين فيزيائية جميلة بمقدورها توضيح معظم الطريقة التي تعمل بها المادة في الطبيعة. الأمر في نهاية المطاف ليس سوى أننا لم نكتشف بعدُ كلّ تفصيلات هذه الطريقة؛ إذ من الصعوبة البالغة أن نكشف كم أنّ قوانين الطبيعة متناظرة، وكم هي ذات فائدة لا حدود لها، وكم هي مبدعة في دراسة الطبيعة والكشف عن خفاياها. هذه القوانين هِبةٌ عظمى لنا؛ لكننا -البشر- نظلّ غير قادرين على اجتناء السعادة الكبرى المنتظرة من هذه القوانين؛ لأنها -كما نظن- تنطوي على مثالب صغيرة شبيهة بالمثالب الواردة في قصة (علامة الميلاد) حيث ذلك الشعور الممضّ بعدم الاكتمال الذي يسكن روح فتاة بشأن خطيبها المُنتظر الذي يقضُّ مضجعها؛ لذا يسعى البشر بأقصى ما يستطيعون إلى إيجاد ظواهر جديدة يمكنها حيازة المزيد من التناظر، ومن ثم يمكنها جعل المعادلات الفيزيائية أكثر جمالًا؛ لكن يبقى المعيار النهائي الحاسم في قبول النتائج الجديدة هو المعيار التجريبي.
● تبدو مثالًا غير معهود بالمقارنة مع المثال القياسي لعالم فيزياء. واضحٌ أنك تحبّ استكشاف الأفكار الكبيرة. هل فكّرتَ يومًا أن تكون فيلسوفًا عوضًا عن الفيزيائي الذي نعرف؟
■ بالتأكيد، فكّرت في هذا. عندما كنتُ مراهقًا شابًّا كان أبطالي المثاليون آينشتاين من جانب، وبرتراند راسل من جانب آخر. أحببتُ كثيرًا القراءة عن الفلسفة والتفكير بشأن مثل هذا النوع من الأسئلة الكبيرة التي نتحدث عنها في حوارنا هذا.
● قدّم بعض الفيزيائيين ذوي المقامات الرفيعة في السنوات القليلة الماضية من أمثال ستيفن هوكنغ، ولورنس كراوس، ونل ديغراسه تايسون، تعليقاتٍ تحمل رُوح الاستخفاف بالفلاسفة، وقد ادّعى هؤلاء الفيزيائيون أن ليس للفلاسفة سوى أقلّ القليل من الفائدة التي يمكن أن تخدم العالَمَ الحقيقي للعلم. ما الذي تراه بشأن الهجمات على الفلسفة من جانب بعض زملائك الفيزيائيين؟
■ أرى أنّ هذه الهجمات تكشف عن فقر في الخيال ونقص في المعرفة بشأن الموضوعات التي تتمحور عليها الفلسفة. ثمة الكثير في العالم إلى جانب قوانين الفيزياء والظواهر الفيزيائية، ولدينا نتاج خبرة صراعية امتدّت قرونًا مع المعضلات الفكرية الكبرى في محاولة حثيثة لتحسين المفاهيم؛ لذا لن يكون من الحكمة أن نمحو كل التراث الفكري الحافل. تحصّلتُ على الكثير من الإلهام المشرق، كما فعل آينشتاين قبلي، عبر التفكّر في الحصيلة المتراكمة من الأدبيات الفلسفية التي شحذت عقلي ووسائلي الفكرية بعدما قرأتُ أعمالًا فلسفية رائعة سواءٌ كتبها ديفيد هيوم، أو إرنست ماخ، أو برتراند راسل.
● الفلاسفة لا يكتفون بإبداء الدهشة وحسب إزاء الكيفية التي يمكن بها لكل شيء أن يتناغم مع سواه؛ بل يسألون عما إذا كان للكون معنى؛ هل يمثل هذا التساؤل شيئًا ذا قيمة لك؟
■ نعم، بالطبع. أهتمُّ كثيرًا بشأن مثل هذه الموضوعات الفلسفية الإشكالية، وهذا الاهتمام يحفزني كثيرًا لفعل ما فعلته سابقًا وما أفعله اليوم. هل ينطوي العالَمُ على أفكار جميلة؟
● إذن ما الذي يعنيه التفكير الفلسفي؟
■ لا أعتقدُ أنّ هذا هو السؤال الصائب لأنني غير واثق من الكيفية التي يجب أن يبدو بها الجواب المناسب للسؤال. كنتُ سعيدًا للغاية عندما انتهيتُ إلى نسخة مختلفة من ذلك السؤال الذي يمكن صياغته بطريقة مثمرة للغاية على النحو الآتي: هل ينطوي العالَمُ على أفكار جميلة؟ يمكنك أن تتفكّر في السؤال بصيغته الجديدة وبطريقة تنويرية عبر مراجعة تأريخ أفكار البشر بشأن الجمال قبل أن يعرفوا قوانين الفيزياء، ثمّ قارن نتاجك التأريخي مع ما اكتشفناه حقًّا في حقل الفيزياء، حينها ستحوز منظورًا أكثر ثراءً بشأن كل من الفن والعلم.
● واحدٌ من أعمق الأسئلة بالنسبة لكلّ من العلم والدين هو السؤال الخاص بموضوعة البدايات: كيف بدأ الكون؟ أو هل للكون -أصلًا- بداية؟ كيف يمكن لشيء أن ينبثق من لا شيء؟ يدّعي لورِنس كراوس أنّ مثل هذه التساؤلات ليست بذلك الغموض الذي نظن، ويقول: إنّ الحالات الفراغية غير مستقرة في نظرية المجال الكمومي؛ لذا ليس غريبًا أن تظهر هذه الحالات بصورة مفاجئة إلى الوجود؟
■ في الحقيقة، إنّ صديقي لورنس كان يقتبسُ عملي عندما صرّح بهذه الأمور. أنا لا أفهمُ كلّ المترتّبات على هذه الآراء؛ لكن ما أعرفه بدقة أنّ المعادلات لا تسمحُ بحلول مستقرة يكون العدم واحدًا منها. الفراغ شيء يختلف جوهريًّا عن حلّ للقوانين الأساسية في الطبيعة؛ لذا إذا كان الفراغ غير مسموح به كَحَلٍّ للمعادلات فسيكون هذا الأمر توضيحًا كافيًا هو بمنزلة جواب عن التساؤل: لماذا يوجد شيء ما «الكون مثلًا» بدلًا من لا شيء؟ لكني أظنّ أن مثل هذه المقاربات الفكرية شيء يختلف جوهريًّا عن الأسئلة التي يسألها الفلاسفة.
● هم يسألون من أين جاءت قوانين الفيزياء؟
■ بالضبط. من أين جاءت قوانين الفيزياء؟ نعرفُ أنّ الفراغ ليس بالفكرة الصحيحة في هذا الشأن فضلًا عن عدم إمكان كونه احتمالًا واردًا إذا ما وضعنا في حسباننا قوانين الفيزياء التي نعرف.
● انصبّ حوارنا حتى الآن على الصعوبات التي تكتنفُ محاولة التوفيق بين العالم اللامادي والمادة، والأحجية الكبرى في كل هذا قد تكون «معضلة العقل/ الدماغ» التي تتجوهرُ في السؤال الآتي: كيف يمكن للعالم اللامادي الذي تخلقه عقولنا أن يكون نتاجًا لثلاثة باوندات من مادة لزجة في أدمغتنا؟ هل تمثل هذه الأحجية معضلة للفيزياء، أم يجب تركها للمختصين في العلوم العصبية؟
■ قوانين الفيزياء تنطبق على الدماغ البشري؛ لذا نحنُ في العادة لا نبحث عن كينونات غير مادية عندما نتناول دراسة الدماغ، بل نكتفي ببحث آلية عمله مستعينين بدراسة الجزيئات التي تدخل في تكوينه فحسب. إنّ فرضية أولية جيدة يمكن أن تبني قاعدة انطلاق للبحث في علوم الدماغ البشري هي أنّ الدماغ شيء يشبه الحاسوب، واللغز هنا يكمن في كيفية فهم الطريقة التي يمكن بها لجسم مادي محكوم بقوانين الفيزياء أن يقوم بحسابات معقدة فضلًا عن تكوين ما نسمّيه العقل، ثمّ تواجهنا أيضًا معضلة تقنية أكثر تعقيدًا ممّا سبق تكمن في السؤال الآتي: هل يجوز لنا أن نستخدم الفيزياء التي تصف أشياء في الكون المادي للكشف عن الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، أي بكلمات أخرى: هل يمكن لأفكار على شاكلة التناظر، والعالم المادي، والتوصيل الكهربائي أن تكون ذات أهمية لدراسة البيولوجيا العصبية؟ أرى ثمة إمكانية كبيرة في أن يكون الجواب نعم: أجزاء ليست بالقليلة من الدماغ تعمل بطريقة منتظمة وتناظرية. المخيخ تركيب شديد التنظيم على صعيد هيكليته البنيوية، والشبكات العصبية الدماغية هي تطوّر بيولوجي آخر أراه مذهلًا بدرجة كبرى.
الشبكات العصبية الاصطناعية ليست سوى تخليق بشري مثالي يحاكي طريقة عمل الشبكات العصبية البيولوجية في الدماغ مع فارق أنّ الشبكات العصبية الاصطناعية تستخدم قوانين الحوسبة التي يعرفها الفيزيائيون جيدًا. اخترع الفيزيائيون في واقع الحال كثيرًا من التقنيات الاحتسابية لأنها تبدو متماثلة مع المعادلات التي تحكم عمل الدوائر الكهربائية؛ لذا أرى أنّ الفيزياء يمكنها تقديم الكثير لحقل البيولوجيا العصبية.
● هل تظنّ أنّ العلم سيكون قادرًا يومًا ما على فتح مغاليق المعضلة الجوهرية الخاصة بقدرتنا على تشكيل عالم عقلي بوساطة كينونة مادية «الدماغ»؟
■ نعم، أظنّ ذلك. كيف ينبغي لي أن أوضح الأمر؟ أكتفي بالقول: إنّ 90% -ربما- من العمل اللازم لذلك في متناولنا اليوم.
● أنت متفائل حقيقي!
■ لا. أعتقد أنني أعتمد تأويلًا صحيحًا للأمور وليس أكثر من هذا. دعونا نتذكّر في ماضٍ ليس ببعيد بدا أمرًا غير معقول أن تتمكّن تشكيلات من الأصفار والواحدات (التقنية الرقمية) من تشفير كل الحسابات الخاصة بمختلف المهام التي يؤديها البشر، ومنها لعب الشطرنج على سبيل المثال؛ لكننا اليوم نستطيعُ تصميم منظومات تعمل بفكرة التقنية الرقمية نفسها، ويمكنها أداء مهمات خاصة تُماثِلُ عملية التفكير عند البشر. يجب ألّا ننسى أيضًا أنّ الأصفار والواحدات محتواة في أشياء مادية تعمل في العالم الواقعي الذي نعيشه، أعني الترانزستورات بالتحديد، وهذا يعني -تقريبًا- القول بأنّ العقل البشري مُحتوى في مصنّعات توجد فعليًّا في العالم المادي وليست تخليقات تهيم في عالم الخيال فحسب.
المصدر: http://nautil.us/issue/32/space/beauty-is-physics-secret-weapon