الشاعر الإيراني المنفي محسن العمادي.. الهروب من شوارع لا تنبح فيها الكلاب
ينظر إلى بيته عبر الحدود التي لا يمكن عبورها أو تجاوزها، إنه ضحية من ضحايا النظام الإيراني الذي اضطر مواطنوه أن يغادروا وطنهم طوعًا أو كرهًا، غادر وطنه، حاملًا معه هَمَّ ذلك الوطن في صور وأسماء من قدَّموا أرواحهم قربانًا لحرية وطنهم، مثل عباس مفتاحيان الذي أُعدم بإطلاق النار عليه من جانب فرقة من فرق الموت، أو ندا أغا سلطان التي قُتلت عام 2009م في شارع أمير أباد في العاصمة طهران، متلفعًا بعباءة الشاعر الإسباني الكبير فيديريكو غارثيا لوركا، الذي قضى نَحْبَه على يد عصابات الدكتاتور الإسباني، الذي كان أول من تأثر به في بداية حياته الشعرية.
إنه الشاعر والمترجم والمسرحي والسينمائي الإيراني محسن عبادي، الذي اضطر إلى مغادرة البلاد عام 2009م احتجاجًا على السياسات الإيرانية، والكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سبَّبتْها الحروب التي خاضتها إيران منذ قيام الثورة الإسلامية؛ ليَهِيمَ في منفاه بين فنلندا وجمهورية التشيك وإسبانيا، قبل أن يستقر في المكسيك في آب – أغسطس عام 2012م، على أمل التسلل عبر حدودها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وُلد محسن عمادي في ساري، بمقاطعة مازندران في شمال إيران، في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول – أكتوبر عام 1976م، وقد بدأ بكتابة قصائده في مرحلة الطفولة، ونُشرت قصائده المبكرة في العديد من المجلات وهو لا يزال يافعًا. عام 1995م، انتقل لدراسة هندسة الحاسب الآلي في جامعة شريف للتقنية بالعاصمة طهران، وهناك شارك في تأسيس عدد من المجلات الطلابية، وتنظيم مؤتمرين للسينما والفلسفة، التي لم ترضَ عنها السلطات، وكان عضوًا نشطًا في الاحتجاجات على السياسات الإيرانية التي انفجرت في تموز – يوليو عام 1999م، وبعد عشر سنوات من تلك الأحداث، عاد ليكون عضوًا بارزًا في الاحتجاجات على الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009م، لِيُجبَرَ بعدها على مغادرة البلاد.
نشر مجموعته الشعرية الأولى «زهرة على السطور»، عام 2003م، ومجموعته الثانية «قوانين الجاذبية» عام 2011م، والثالثة «كما الموت – مرئيًّا في الهواء» عام 2012م. أما مجموعته الأخيرة فهي «الوقوف على الأرض» عام 2017م. تأثر هذا الشاعر بعدد من كبار الشعراء العالميين، مثل: لوركا الإسباني، ووايتمان الأميركي، وفاسكو بوبا الصربي، وخوان غيلمان الأرجنتيني، وسيزار فاييخو البيروفي، وغيرهم من كبار الشعراء في العالم، ولذلك قام بترجمة مجموعة كبيرة من الشعر العالمي إلى اللغة الفارسية، ومعظم هؤلاء الشعراء من أميركا اللاتينية وإسبانيا ودول أوربا الشرقية، ليحصل عام 2010م، على منحة تبادل الأدب الفنلندي وترجمة مختارات من الشعر الفنلندي، كما قام بترجمة بعض المجموعات الشعرية من فلسطين وكردستان وأرمينيا إلى اللغة الإسبانية.
ولم يتوقف نشاطه الشعري على قرض الشعر وترجمته، إنما تعدى ذلك إلى نقل التجارب الشعرية إلى السينما من خلال الأفلام الوثائقية التي تدور حول عدد من الشعراء، وحول موضوعه المحبّب في الشعر، وهو واقع المنفى في الشعر. وفي الأوساط الأكاديمية يعدّ عمادي باحثًا في مجال الشعر الرقمي منذ عام 2011م، فهو يدرِّس هذا الموضوع في العديد من المعاهد المكسيكية، إضافة إلى دورات في شعر الصوفية وشعر السينما. وهو مؤسس العديد من المواقع الفارسية ومحرِّرها، بما في ذلك بيت الشعر العالمي، وهو عبارة عن مختارات فارسية من الشعر العالمي، يتعاون فيه خمسون مترجمًا لإدخال الشعر العالمي إلى اللغة الفارسية. حصل على جائزة «بريميو دي بويسا دي ميدو» عام 2010م، و«جائزة أنطونيو ماتشادو» عام 2011م. تكمن أهمية تجربة محسن عمادي الشعرية، في أن قصائده عابرة للحدود، فعلى الرغم من أن هذه القصائد مكتوبة باللغة الفارسية، فإن صياغتها المثالية بصورها الواقعية والمتخيلة قادرة على العبور إلى أقاليم الأدب العالمي، وإلى عالم من القراء المتعددي الجنسيات.
يقول:«أنا أقف هنا لتقديم لغتي/ كل شيء يصبح أخفَّ وزنًا عندما يعبر الحدود». بهذه اللغة العابرة للحدود، لا يقصر الشاعر مواضيعه على الأوضاع السياسية أو المادية للنفي، فحسب، إنما يتعدى ذلك إلى استكشاف العلاقة بين اللغة والخبرة والعلوم والجمال والميتافيزيقيا، وجميع التشعبات التي تتخيلها القصائد لترقى بالجيد منها، وتردم الفجوات بينها: «تمرُّ دموعك/ من كوابيس نيوتن/ إلى قصائدي/ الكلمات في نهر من الدموع/ يا كفن الورق البارد/ الخلود الأبيض/ الثلج المطلق».
في معظم قصائده ذات النزعة الغنائية، يدعونا إلى تجربة العالم كلغةٍ، لتخيل صمت الشعر على أنه بياض تساقط الثلوج، وبالرغم من أنه يرى أن أحواله المادية القاسية من الصعب أن تتحسن في المستقبل المنظور، فإنها تذكرنا بقدرتنا على تصور عوالم أخرى: «نحن نقف على الأرض/ ونتخيل جنة أخرى».
يرى محسن عمادي أن الصفات الثنائية لم تولد مصادفة، فهي متولدة في ثقافات المعارضة، وهي كالسوائل غير قابلة للتحديد: «هل من قبيل المصادفة أن تكون سلاسل السجن كالثعبان الذي يلتف حول الروح ليخنقها؟» إنه يتذكر حياة ما قبل الحياة، يعيش بين الأسلحة، ويستحم بأشعة الشمس، ويبشر بالليل الذي نخشاه جميعًا.
لقد تركت صور الحروب التي عايشها حمادي قبل أن يُجبَرَ على الهروب من وطنه، وبخاصة الحرب العراقية الإيرانية، والحياة البائسة التي يعيشها هؤلاء الجنود الذين عادوا من الحرب، ليعيشوا في مجتمع رافض لهم، يرى كل الحروب التي خاضوها مهزلة حقيقيةً، كان القصد من ورائها إلهاء العقول بعدوٍّ خارجيٍّ؛ كي لا يرى الفساد الذي ينخر الواقع الداخلي لوطنهم.
«كنتَ هناك/ طفلًا لم يولد بعد/ يلعب بين البنادق/ تشرق الشمس/ وتحمل موتك/ من رحم إلى رحم».
عن هذه الحرب يقول محسن عمادي: «لقد عشنا حربًا طويلة في القرن الماضي. ثماني سنوات من الحرب. الحرب بالنسبة لي، هي مدينة خالية من المدنيين وجوع الكلاب المتعطشة للدماء؛ لأنها اعتادت على أكل لحم بقايا البشر بعد القصف. الحرب بالنسبة لي هي أب لا يعود إلى البيت. مدرسة ابتدائية مدمرة. إنها يأس الأشخاص الذين يحاولون مساعدة أطفال «دُفنوا أحياء». الحرب هي عندما تترك بدون ساق أو يد أو عينين أو تكون معوقًا وتركتك زوجتك لرجل آخر. عندما تحتاج بعد الأسلحة الكيماوية إلى شرب الماء كل دقيقة لأنك تعطش وأنت تسعل باستمرار. هذه كلها أجزاء من ذاكرتي الخاصة. الحرب هي إنشاء مجرمين ودكتاتوريين عندما يقتلون كل أصوات الحرية وكل الأغاني والرقص في مدينتك؛ عندما يكون الابتسام والحب ممنوعين. إنها انتظار في طوابير الحليب. إنها ملابس رخيصة وقبيحة. أطفال بلا دمى. آباء غاضبون، وأمهات حزينات».
في هذه السطور القليلة يتعامل محسن عمادي مع الجمال والإرهاب، وانعكاس ذلك على الاستقرار المفترض، مع التشكيك فيما نعدُّه حرمة أساسية في أعماق قلوبنا. فحين ننتقل من قصيدة إلى أخرى نجد أن الشاعر قد أُجبر على مشاهدة مجموعة متنوعة من الحقائق التي لا يمكن فصل بعضها عن بعض؛ لذلك يطرح أسئلة لا يمكن أن تنبت إلا في عقول تدرك أن الوجود يمتد إلى ما وراء المعقول.
قصيدتان
(1) قوانين الجاذبية
على كوكبك، تسقط تفاحة من الشجرة
فيكتشف نيوتن قوانين الجاذبية.
على كوكبي، يرن الهاتف
يلتقط نيوتن جهاز الاستقبال
ويلقي به في الهواء
فيصطدم بأغصان الشجرة
أفضل الجلوس
على مبادئ الفلسفة الطبيعية
وأعض
تلك التفاحة العائمة
لأقول
أريد أن أبكي قليلًا
(2) شارع لا تنبح فيه الكلاب
شارع ميت
تدلي فيه الكلاب ألسنتها
لاهثةً
لتمسك بسروال شاعر عابر
يخلع الشاعر سرواله
وقميصه
ويركض عاريًا كيوم ولدته أمه
للهرب إلى عالم
تنبح فيه الكلاب
وتركض من شارع لآخر
الشاعر الذي نسي كل كلماته
لا وزن له
كقشة في مهب الريح
الريح التي تعوي ممتزجة بعواء الذئاب
الذئاب الهاربة في الثلوج
الثلوج التي تدفن الشوارع