فن الغرافيتي ذاكرة حروب لبنان
كانت بيروت سباقة عربيًّا في اكتشاف فن الغرافيتي. والسبب الأول يرجع إلى طبيعة لبنان الجيوسياسية والتركيبة الفسيفسائية الدينية والإثنية التي ينعم بها. فهو بلد مركب من نحو ثماني عشرة طائفة، تتعايش وتتحاور وتختلف، وهذا التعدد الثقافي نجم عنه تعدد سياسي وفكري تجلى في صعود الأحزاب والجماعات على اختلاف هوياتها وأيديولوجياتها ومراجعها. كانت ملامح أولى من الغرافيتي السياسي بدأت تغزو جدران بيروت، كل بيروت، الغربية والشرقية إضافة إلى ضواحيها، في السبعينيات، ولم تكن تلك الرسوم والشعارات إلا تعبيرًا عن الغليان السياسي الذي كانت تشهده العاصمة ومعظم المناطق اللبنانية قبل سنوات من اندلاع الحرب الأهلية، وهو الغليان الذي سرعان ما استحال حربًا مفتوحة فرضت خطوط تماس ومتاريس راحت شيئًا فشيئًا تقسم بيروت والمناطق إلى بقع طائفية وحزبية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد دخلت ميدان الحرب الأهلية داعمة للحركة الوطنية وأحزابها اليسارية مثل البعث والشيوعيين والقوميين السوريين، إضافة إلى الأحزاب الإسلامية. وكان واضحًا انخراط القوى الفلسطينية في الحرب ضد اليمين الذي طغت عليه أحزاب مسيحية.
كان لا بد من هذا المدخل الذي يوضح طبيعة فن الغرافيتي الذي غزا جدران العاصمة والمدن عشية الحرب وغداة اندلاعها. فالجدران أصبحت إحدى واجهات الصراع السياسي والطائفي الذي عمّ لبنان، بل يمكن وصفها بـ«الشاشات» التي ظهرت عليها الشعارات والرسوم التي تعبر عن أفكار «المعسكرين» الشرقي والغربي، أو اليميني- المسيحي واليساري والإسلامي والفلسطيني، وكانت تنحرف في أحيان كثيرة لتمسي هجائية وساخرة و«شاتمة» ولا أخلاقية، تنم عن البغضاء أو الكراهية الكامنة في النفوس.
الحقد الأهلي
ولعل هذا «الحقد» الأهلي هو ما ميز الغرافيتي في لبنان وجعله مختلفًا عن الغرافيتي الذي عرفته بعض العواصم العربية التي شهدت ربيعها أو ثوراتها. فالرسوم والشعارات لم تكن تخضع لأي رقابة سياسية أو أيديولوجية أو أخلاقية خصوصًا في الجبهات، على خلاف الرسوم أو الشعارات الأخرى التي كانت تحملها الجدران البعيدة نسبيًّا من خطوط التماس أي في الساحات والأحياء التي كانت على مرأى الجميع من مواطنين وعائلات. والطريف في تاريخ الشعارات والرسوم أنها كانت في بعض المناطق القريب بعضها من بعض، تتبدل من غير أن تمحى بل كان المسلحون الذين يتولون رسم الشعارات يمحون شعارات «أعدائهم» الأهليين ثم يرسمون فوقها أو إلى جانبها شعاراتهم المناقضة. فالمعارك كانت تشهد حالات كر وفر دائمين، فإذا احتلت ميليشيا منطقة ملأت جدرانها بشعاراتها المنتصرة، ثم ما أن تتراجع إلى الوراء تحت ضغط الهجومات حتى يأتي مسلحو الميليشيا «العدوة» فيرسموا شعاراتهم.
وكم من جدران تحولت إلى مسوّدات أو لوحات مسودة يمكن من خلالها الاطلاع على حركة القتال، هجومًا وانسحابًا، وهنا تكمن خصائص الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت تدور بين حي وحي أو حارة وحارة تبعًا للقرب الجغرافي الذي يجمع مناطق القتال المفصولة بخطوط تماسّ واهية أحيانًا.
ولئن بدت شعارات ورسوم مغالية في عدائها وهجائيتها إلى حد اللاأخلاقية خصوصًا تلك التي كان يتولاها مقاتلون على الجبهات، فإن رسومًا غرافيتية شهدت بعضًا من الرقي السياسي ولا سيما تلك التي حملت بعدًا سياسيًّا دعائيًّا أو أيديولوجيًا، وكانت ترسم في داخل المناطق البعيدة من الجبهات. وبدا أن بعض الرسامين على الرغم من عدم احترافهم كانوا يقلدون شعارات الثورة الطلابية التي اندلعت في باريس عام 1968م، فهؤلاء الحزبيون، سواء كانوا يساريين أم يمينيين، كانوا على اطلاع على الحركة الطلابية الفرنسية وشعاراتها ورسومها الغرافيتية الرائدة، وحاولوا تقليدها لمصلحة أحزابهم وعقائدهم. هكذا ارتفعت شعارات ورسوم ذات طابع دعائي أو مناقبي في المعنى الحزبي تركز على أفكار الحزب وتبرر خوض الحروب، وبدت مختلفة بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. في مناطق اليمين المسيحي كانت الرموز والأفكار المعبَّر عنها غرافيتيًّا تدعو إلى وحدة لبنان والمسيحيين ورفض «الاحتلال» الفلسطيني والسوري لاحقًا والدفاع عن الأرض والأرز والقومية اللبنانية… أما في المناطق الإسلامية والعروبية واليسارية فكانت الشعارات تدعو إلى نبذ التطرف اليميني الرجعي وإلى مواجهة العمالة والإمبريالية والتقسيم، وكانت بعض الشعارات تتهم اليمين بخدمة المصالح الإسرائيلية… هذه الشعارات التي ارتفعت في السنوات الست الأولى للحرب تمثل فعلًا خلاصات الأيديولوجيتين المتواجهتين والأهداف التي وضعتها الأحزاب والجماعات نصب أعينها من أجل تحقيقها، إلا أن النهايات لم تأت إلا بخيبة كبيرة لكل الأحزاب والطوائف والجهات. كانت كلفة الحرب كبيرة جدًّا، بل باهظة في الأرواح والخراب والمأساة ولم يتمكن فريق من الانتصار على فريق.
لكن السنوات التي تلت مرحلة الثمانينيات وحملت حروبًا أو معارك جديدة ولا سيما بعد دخول الجيش السوري ساحات القتال ضد اليمين المسيحي عقب انسحاب الفلسطينيين من لبنان الذي سببه الاجتياح الإسرائيلي الوحشي والمدمر للبنان، حملت شعارات ورسومًا مختلفة شكلًا ومضمونًا. حل هنا السوري في موقع العدو وراحت الرسوم تتناول حزب البعث والرئيس حافظ الأسد. وتوزعت رسمة غرافيتي شهيرة في المناطق الشرقية تحت عنوان: «أسد في لبنان، وفأر في الجولان». لكن الجنود السوريين كانت لهم أيضًا شعاراتهم ورسومهم التي تمدح البعث والرئيس «حافظ الأسد» وتهجو اليمين المسيحي والجيش الذي كان في عهدة الجنرال ميشيل عون، الذي كان أعلن «حرب التحرير» ضد الجيش السوري.
تأريخ خاص بالغرافيتي
ومثلما يمكن لرسوم الغرافيتي والشعارات أن تؤرخ للحرب أو الحروب اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1975م، فمن الممكن كتابة تأريخ خاص بالغرافيتي والشعارات وهو تأريخ فريد من نوعه، تأريخ حي، بالوثائق والصور. فالغرافيتي يعد مرجعًا من المراجع الرئيسية لقراءة الحرب اللبنانية وأبعادها وخلفياتها، وهو مرجع يستحيل التشكيك فيه أو تكذيبه. وقد سعى بعض الصحافيين والمؤرخين إلى تأليف كتب في هذا الشأن لكنها لم تكن وافية؛ لأنها لم تستطع أن تكون شاملة، وأن ترافق كل مراحل الحرب والتحولات التي شهدتها مرحلة تلو مرحلة. ومعروف أن الحرب اللبنانية عرفت انقلابات عدة في المواقع: بعض أعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، وبعض أصدقاء الماضي انقلبوا أعداء. وهذا ما عرفته عن كثب أحزاب عدة يمينية ويسارية، إضافة إلى حزب البعث السوري الذي قاتل أعداءه وحلفاءه على السواء. وقد يكون الكتاب الذي وضعته بالفرنسية الصحافية اللبنانية الفرانكوفونية ماريا شختورة وعنوانه: «حرب الغرافيتي- لبنان 1975- 1977م» هو من أهم المراجع في ميدان التأريخ الغرافيتيّ. وفي تقديمها للكتاب تبدي المؤلفة نوعًا من الاعتذار للقراء عما تسميه «اختلاط الشعارات السياسية بالبشاعات الأخلاقية»، وأوضحت أنها كانت أمينة في نقلها للرسوم والشعارات كما هي بفجاجتها وانحرافاتها عبر الكاميرا التي كانت أداتها الوحيدة، عطفًا على مشاهداتها التي كانت دليلها إلى بناء الكتاب حسب مراحل الحرب والمناطق التي كانت تخاطر في التنقل بينها مجتازة الحواجز وخطوط التماسّ. وتفتتح الكتاب بصورة شهيرة التقطها المصور المعروف جورج سمرجيان الذي ما لبث أن وقع شهيد مهنته في إحدى المعارك وهي تمثل مقاتلًا قُتِل للتوّ متدلِّيًا على جدار كُتب عليه: «لبيك يا لبنان».
تعبير يتجاوز كل الحدود
وفي روايتها لتاريخ الغرافيتي تقول ماريا شختورة لـ«الفيصل»: «إن الكتابات لم تظهر على الجدران إلا عندما بدأ القتال بين الفرقاء وكانت تبدو أنها وليدة تصميم مدروس. إن تفجير سلطة الدولة كان سببًا في سقوط كل الحواجز، وهو ما سمح للتعبير بأن يتجاوز كل القيود. فكنّا نقرأ، مثلًا، على جدران المنطقة الشرقية: «لن يبقى فلسطيني على الأرض اللبنانية»، وفي المنطقة الغربية: «لا للعلمنة، لا للطائفية، نعم للإسلام». علينا ألّا ننسى أن الكتابات الجدرانية كانت لسان من لا يملكون وسيلة أخرى للتعبير. فيخطّون على الجدران ما يجول في الأذهان: المطالب- الحقد- الأحلام- المُثُل- الأهداف- التخيّلات. كانت التنظيمات الحزبية تتغاضى عن ذلك؛ إذ كان اتخاذ مثل هذه المواقف يثير الحماسة ويسهّل التعبئة». وتضيف شختورة: «ليست الكتابات الجدرانية التعبير المعيّن لمجموعة معيّنة في ظرف معيّن فحسب، إنما أصبحت في السياق العام للحرب اللبنانية «لعبة»، أي: شيء منسّق له أشكاله الخاصة، وهكذا غدا تعبيرًا منظّمًا لجماعة منظّمة. فلكل معسكر لواؤه: الصليب للمسيحيين، وللآخرين الهلال أو أي نجمة ثورية. وأيًّا كان الشعار، فالتعبير عنه كتابة على الجدران. وعلى الجبهات المتحركة، كالتي في الجبال، كان يتقابل سكان أصليّون كارهون للغريب ومحاربون مسيّسون. فكانوا كثيرًا ما يؤكدون وجودهم على الجدران باللون الأحمر، بلون الدم أو بالأحمر الثابت أو بالأحمر الشيوعي. إن الذين أُثبِتوا في سجل الاستشهاد كانوا سببًا في تفجير المجموعات كتلًا صغيرة لم تجد طريقة لتخليد الرفيق أفضل من جدار في حوزتها لتسجّل عليه مناقب المقاتل الراحل. الكتابات الجدرانية ليست لعبةً ورمزًا فحسب إنها أيضًا عملية احتلال. فالمقاتل الذي يحتل مساحة من الأرض، هو إذن يملك كل ما يقوم عليها. والجدار الذي انتزعه يجب أن يحمل طابعه وأثر مروره».
وتقول أيضًا: «إن أقرب الشعارات إلى الأذهان وأقواها انطباعًا في الذاكرة هي الكتابات على الجدران، التي تكشف عن الأفكار التي لم يكن متاحًا لها أن تظهر وتُذاع. فكما أن كل ما كان محظورًا عمله قد عُمل مثل النهب والسرقة والتقتيل، كذلك فإن كل ما كان ممنوعًا قوله، قد قيل. هذه الطريقة حرّرت التعبير من كل القيود. وفي الوقت الذي كانت تُمحى الشعارات البالية؛ لأنها شديدة التطرُّف كان أكبر عدد من الكتابات يُطبع على الجدران، بعشرات النُّسخ، بواسطة صفيحة من حديد، طُليت بالدّهان، بعدما أُفرغت فيها مواضع الحروف. ولما أخذ الفرقاء يمارسون مهام الشرطة في مناطقهم تحوّلت الجدران إلى نوع من المؤسسات حتى كادت تصبح لهم بمثابة ناطقة شبه رسمية».
لكن من يزور بيروت الآن يكتشف أن جدرانها باتت خالية من الغرافيتي والرسوم والشعارات السياسية أو الحزبية، ما خلا القليل من الشعارات التي تُرسم في ظروف أو مناسبات معينة. لكنّ من يقصد طريق المطار التي تجتاز الضاحية الجنوبية التي يرين عليها حزب الله سياسيًّا وأمنيًّا يبصر شعارات وأعلامًا حزبية ومجسمات لبعض الأئمة الإيرانيين والشهداء.